مقالات رأى

شبابنا وتجديد اللياقة النفسية

طباعة

 بكل انزعاج وأسى، كان رد الفعل المجتمعي إزاء عدد من الممارسات العنيفة ( بكل أشكال ونوعيات العنف)  في عدد من المحافظات (ضرب وقتل وانتحار وتنمر..) .. في حالة من فقدان ما يطلق عليه "اللياقة النفسية " بأسباب قد تعود في الأغلب الأعم منها لممارسات خطيرة، لإدمان المخدرات أو خلل اجتماعي لتفكك أسري، أو أمراض نفسية، أو محاكاة وتقليد لدراما العنف البشعة.
وعليه، كان اهتمام القيادة السياسية، عقب ثورة 30 يونيو، بتوصيف أن هذا العصر يحتاج إلى ما تم تعريفه بمسمى " اللياقة النفسية " في أزمنة الكوارث الطبيعية والإنسانية والأوبئة الصحية والمتغيرات المناخية، حيث تكثر الضغوط الناجمة عن غياب حالات الرضا النفسي والخلافات والخصام والبعد عن الآخر، وأمراض حياة العزلة والالتفات إلى المصالح الشخصية والممارسات الانتهازية وغيرها.
ومعلوم أن "اللياقة النفسية " تتطلب من الفرد التمتّع بقدرات وطاقات وخصال ذاتية متنوعة تساعده على مواجهة التحديات، وعلى الإنتاج والنجاح، ليساهم بدوره كمواطن صالح في المجتمع.

وبما أن القلق هو العدو الأول للاستقرار النفسي والذهني، فلابد من تجنبه قبل وقوعه ومعرفة كيفية التخلص منه إذا وقع. ويهدف تعلّم اكتساب "اللياقة النفسية" أن يمضي الإنسان في حياته نحو الأفضل، فالذي لا يعرف أهدافه في الحياة، يكون كمركبة لا يعرف قائدها إلى أين يسير، لذلك لابد من معرفة كيفية تحديد الأهداف ورسم الخطط التي تؤدي إلى تحقيقها، وهو ما تساعده فيها اللياقة النفسية.

وفي غياب " اللياقة النفسية " تقول "د.سوسن فايد "، أستاذ علم النفس بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر لبي بي سي، يصل الأمر بالناس إلى قرار التخلص من الحياة، حيث المنتحر ضحية لعوامل كثيرة متشابكة ومتفاعلة، تدفعه لذروة اليأس حتى يقدم على قرار الانتحار. ومن هذه العوامل ضعف النفس، والمرض، وغياب الثقافة، والإدمان، وهي عوامل قد تتشابك معا لتصيب المرء بحالة من اليأس، تجعله يقدم على الانتحار. وعلى رأس هذه العوامل تأتي الأمراض النفسية، كالاكتئاب العقلي والنفسي. وتؤكد فايد أن الاكتئاب العقلي هو الأخطر؛ لأنه يحتاج إلى عقاقير، بخلاف الاكتئاب النفسي الذي يكون مؤقتًا ومرتبطًا بظروف معينة يزول بزوالها.

ويؤكد علماء النفس أن المرونة النفسية عملية ديناميكية يبرز الفرد من خلالها السلوكيات الإيجابية التكيفية في أثناء مواجهته للمصاعب والمشكلات والصدمات. وهذا يعني" القدرة على الصمود والمقاومة أمام الصدمات، والمشكلات، والأحداث السلبية دون انكسار أو تشوه، أو النزوع إلى استعادة، أو استرداد العافية، أو التوافق بسهولة بعد التعرض للصدمات أو حدوث التغييرات" (136, 2012 Wending) وقد أشار بونانو (137, 2005  Bonanno) إلى مجموعة من الخصائص الأساسية للمرونة النفسية، وهي: نواتج ومخرجات جيدة على الرغم من التعرض للمخاطر والتهديدات التي يتوقع أن تأتي بنواتج سلبية، والمواجهة والكفاءة والملاءمة في مواجهة ضغوطات الحياة الحادة والمستمرة، والقدرة على الشفاء والتعافي من الصدمات.

لذا، استرعي اهتمامي الاطلاع علي دراسة استكشافية علي عينة من طلبة وطالبات جامعة القاهرة حول الفاقد في اللياقة النفسية بين الشباب .. وتأتى أهمية تلك الدراسة ( وهي دراسة نشرت منذ سنوات، ولكن أرى أهمية الاستفادة بمعطياتها لقلة ما يتم من أبحاث ودراسات شبيهة )  تعود إلي أسباب لعل أهمها استشعار مراكز بحوث الجامعات وأقسامها العلمية لأهمية التفاعل الإيجابي الواقعي والعلمي مع مشاكل شبابنا، وأيضا لأنها بإشراف عالم جليل هو الدكتور زين العابدين درويش، أستاذ علم النفس بكلية الآداب، وصاحب الإسهامات العلمية الرائدة في ذلك المجال، كما أن البحث يتلامس مع قضية مهمة شغلتنا جميعا في الفترة الأخيرة حول مدي جاهزية شبابنا لدخول عالم المستقبل .. وقد عاون الدكتور درويش في إجراء تلك الدراسة د.إبراهيم شوقي ووفاء عبد الفتاح .. وقد أجريت الدراسة علي عينة قوامها 800 من طلاب وطالبات الجامعة متنوعي التخصصات بهدف استخلاص مجموعة من المؤشرات السلوكية الكاشفة عن توجهات هؤلاء الشباب في الحياة، وحدود تفعيلهم لكفاياتهم الشخصية، ومدي استثمارهم لما يملكونه من مهارات متعددة الجوانب، ومنها مؤشرات اللياقة النفسية في حدود الوعي بالواقع المعيش، ومدي استشراف المستقبل، وحدود الوعي بصورة الذات، و أيضا مدي كفاءة الامتداد خارج حدود الذات. وقد تبين من نتائج الدراسة ما يؤكد فاقد التفعيل الواجب لعدد كبير من هذه الكفايات، والضعف الواضح في مختلف المهارات والخصال النفسية والاجتماعية المحققة للنجاح في الحياة.. وأشير في عجالة لبعض النتائج والأرقام  :
- هناك فاقد ملحوظ في إدراكهم لقيمة الوقت في حياتهم ( نسبته 54% بين المجيبين )، وإلي تبنٌي عادات تعبر عن قصور واضح في التخطيط الدقيق لهذا الوقت (63 % )، وإلي صور من العجز عن تحقيق أقصي استثمار له  ( 49% ) .. قرر86 % منهم (692 طالبا وطالبة، من أصل 800، حجم العينة ككل)، معاناتهم من مشكلات حالية فقد وفق 266 منهم فقط ( نسبتهم 38 % ) في ذكر مشكلات ذات معني تكشف عن وعي واضح بطبيعة المشكلات المهمة، كما توحي بدقة التمييز بين المشكلات التي تستحق بالفعل أن تكون مصدرا للمعاناة، والمشكلات الأقل أهمية، أو الأقل استحقاقا لاعتبارها مشكلات من الأساس !
هناك فاقد لدي هؤلاء الشباب في كفاءة التحديد الدقيق للمشكلات مقداره 62 %، مضافاً إليه قصور بالغ في مهارة حل المشكلات، بلغت نسبته 56 %، في أوساط الشباب الذين عبٌروا عن معاناتهم من مشكلات مؤرقة في واقعهم الراهن .
- تبين أن 70 % من الشباب عبروا عن تعرضهم لضغوط حياتية مختلفة (عددهم 562، من مجمل العينة) أما من كشفت إجاباتهم عن تحديد واضح وذي معني لطبيعة هذه الضغوط، فلم يتجاوز عددهم ( 135 فردًا) أي مانسبته 24 % من جملة القائلين بتعرضهم للضغوط )، مما يشير إلي فاقد في كفاءة تحديد طبيعة هذه الضغوط مقداره 76 %،  أما نسبة الفاقد في استخدام الأساليب الفعالة في مواجهة هذه الضغوط بين من حددوا الضغوط بكفاءة، فبلغت 55 %  مما يشير إلي قصور واضح في استخدام الأساليب الفعالة من جانب هؤلاء الشباب في مواجهتهم للضغوط التي يعانون من وطأتها. وكل ذلك يمثل مؤشرات بالغة الدلالة علي نقص المعرفة بعدد من المهارات السلوكية المهمة. المعينة علي التعامل الكفء مع مختلف ضغوط الحياة.

-71 % من الشباب عبروا عن استقلالهم في اتخاذ القرارات في مختلف أمور حياتهم ( 571 من مجمل العينة ) أما من لجأ منهم إلي طرق أو أساليب فعالة تدل علي امتلاكهم للمهارات، أو معرفتهم بالاستراتيجيات الملائمة في عملية اتخاذ القرار بالفعل، فلم يتجاوز عددهم 50 فردا (نسبتهم 9 % ) ممن قرروا نزوعهم الي الاستقلال في اتخاذ القرارات فيما يختص بمختلف أمور حياتهم: ومعني ذلك أن هناك فاقدا مقداره ( 91 % ) في كفاءة عملية اتخاذ القرار عموماً.
تحية لأصحاب ذلك الجهد العلمي الرائع، ونأمل أن تتناول وسائل الإعلام تلك الأبحاث بالعرض والدعم الإعلامي لمعاونة متخذ القرار والهيئات المعنية بقضايا تطوير العمل مع الشباب.
معلوم، وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن عدد الشباب المصري في الفئة العمرية (18 ـ 29) سنة، بلغ 20,6 مليون نسمة، طبقا لتقديرات السكان عام 2020. وعليه فقد حرص الرئيس عبد الفتاح السيسي على أهمية تمكين الشباب سياسيَا واقتصاديَا ورياضيَا. فعلى المستوى السياسي، تم النص في الدستور والقانون على عضوية فئة الشباب في المجالس النيابية، وهو ما ظهر جليَا في تشكيلة مجلس النواب الحالي، كما تم تطبيق عدة مراحل للبرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة وإنشاء الأكاديمية الوطنية لتأهيل وتدريب الشباب، وتعيين قيادات شابة نوابًا للمحافظين والوزراء، بالإضافة الى عقد سلسلة من المؤتمرات التي تجمع شباب القرى والمدن والمراكز بجميع محافظات مصر.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    مدحت بشاي

    مدحت بشاي

    كاتب صحفى