من المجلة - شخصية العدد

شخصية العدد/ فى حوار مع أ‮.‬د‮. ‬مفيد شهاب‮:‬ القانون الدولي كفيل بمنع الصراعات الدولية والإقليمية

طباعة

نشر فى مجلة السياسة الدولية فى العدد رقم (218)- أكتوبر 2019.

تعريف بالأستاذ الدكتور مفيد شهاب - أستاذ القانون الدولي بجامعة القاهرة

❊ولد الأستاذ الدكتور مفيد شهاب بمدينة الإسكندرية عام1936،وفيها تلقي تعلميه الابتدائي والثانوي بمدارس الليسيه الفرنسية، ثم حصل علي ليسانس الحقوق من جامعة الإسكندرية بتقدير ممتاز عام1956، وكان الأول علي دفعته، ثم حصل علي درجة الدكتوراه من جامعة باريس(جامعة السوربون) عام1963،بتقدير جيد جدا، ونالت رسالة الدكتوراه جائزة أفضل رسالة، وكانت بعنوان"دور محكمة العدل الدولية في تفسير وخلق القانون الدولي"، وذلك بعد بعثة حكومية للحصول علي الدكتوراه بايطاليا، ثم فرنسا لمدة6سنوات.

❊وأصبح الدكتور مفيد شهاب عضو الرابطة الطلابية للقانون الدولي بلاهاي عام1962،وعضو اللجنة القومية الخاصة بـ"طابا" 1985إلي1988،وعضو هيئة الدفاع المصرية أمام محكمة التحكيم الدولي بشأن قضية طابا أمام التحكيم الدولي بجنيف من عام1986إلي1988،والتي انتهت لمصلحة مصر.وبعد ذلك تم تعيينه قاضيا بالمحكمة الدائمة للتحكيم بلاهاي في عام1988،ثم مديرا لمعهد القانون الدولي بجامعة القاهرة من1988إلي1993.

كما كان عضوا باللجنة القانونية التابعة للمنظمة العربية لحقوق الإنسان بالقاهرة1985،وعضو ورئيس لجنة الشئون العربية والخارجية والأمن القومي التابعة لمجلس الشوري1989-1997،ثم رئيس جامعة القاهرة1993-1997،ثم تقلد منصب وزير التعليم العالي والبحث العلمي من1997حتي2004،كما تولي منصب وزير الدولة لشئون مجلس الشوري من2004حتي2005. ويعمل حاليا أستاذا متفرغا للقانون الدولي بجامعة القاهرة منذ عام2011حتي الآن.

❊يتسم الأستاذ الدكتور مفيد شهاب بالثراء العلمي الواسع، وهو ما تكشف عنه  مؤلفاته العلمية المهمة، التي تعد بمنزلة مراجع لكل المهتمين بالقانون الدولي والعلاقات الدولية، من أبرزها كتاب"قانون البحار الجديد والمصالح العربية" عام1977،وكتاب"جامعة الدول العربية: دراسة تحليلية لميثاقها وإنجازاتها1978"، وكذلك كتاب"الكويت وجودا وحدودا" 1991،إضافة إلي كتابه المهم"القانون الدولي الجديد للبحار" 1996.

❊تناول الدكتور مفيد العديد من القضايا الدولية المهمة، من خلال دراساته البارزة في القانون الدولي، عليغرار دراسته التي حملت عنوان"المشكلة القبرصية أمام الأمم المتحدة" بالأهرام الاقتصادي عام1965،ودراسة"حقوق الإنسان في عصر التنظيم الدولي ودور الجامعات العربية في التوعية بها"، التي قدمت للمؤتمر الخامس عشر لاتحاد المحامين العرب بتونس عام1984،وكذلك دراسته التي حملت عنوان"القانون الدولي والشريعة الإسلامية"، التي قدمت للمؤتمر العالمي للشئون الإسلامية عام1996،إضافة إلي دراسته التي حملت عنوان"الجوانب القانونية في قضية لوكيربي"،وقدمت لمؤتمر جمعية المحامين الدولية في لندن1996.

❊وقد أشرف الأستاذ الدكتور مفيد شهاب علي أكثر من40رسالة علمية في القانون الدولي في مصر،وتونس،والمغرب،وسوريا،وفرنسا،وبلجيكا، كما أن له أكثر من ثمانين دراسة وبحثا في القانون الدولي،والعلاقات الدولية،والقضايا العربية،منشورة في مجلات عملية باللغات العربية،والفرنسية،والإنجليزية.


-

يعد الأستاذ الدكتور مفيد شهاب، أستاذ القانون الدولي، بجامعة القاهرة، رئيس الجمعية المصرية للقانون الدولي، عضو اللجنة القومية للدفاع عن قضية طابا، أحد أبرز رجال الدولة المصرية، الذين تربوا في مدرستها الوطنية، وأخذوا علي عاتقهم الدفاع عن الوطن وقضاياه وحقوقه، خاصة أنه واحد من أهم أساتذة القانون الدولي في مصر والعالم، وفقيه قانوني من طراز فريد، وهو ما جعله يتمتع برؤية عميقة قائمة علي الموضوعية والحقائق العلمية تجاه العديد من القضايا الوطنية، لاسيما أنه عاصر الكثير من الأحداث والتطورات المهمة علي الساحتين الإقليمية والدولية. لذا،وقع عليه اختيار أسرة تحرير مجلة السياسة الدولية ليكون شخصية العدد، من خلال حوار يكشف فيه عن رؤيته تجاه عدد من القضايا المهمة علي الساحتين الدولية والإقليمية، خلال تلك الفترة المرحلة،التي تشهد فيها المنطقة الكثير من التطورات التحولات المهمة. من هنا، كان لنا مع سيادته هذا الحوار بتاريخ25 أغسطس2019.

أولا- محطات مهمة في مسيرة الدكتور مفيد شهاب:

خلال المسيرة العلمية الطويلة للأستاذ الدكتور مفيد شهاب، والحافلة بالتفوق والعطاء، بداية من تخرجه في الجامعة، مرورا بعمله في العديد من المنظمات الدولية، وانتهاء بتوليه عددا من المناصب العلمية والسياسية، من المؤكد أن هناك محطات رئيسية مهمة مررت بها خلال تلك المسيرة، هل لك أن توجزها لنا؟

من المؤكد أن هناك العديد من المحطات المهمة في حياتي، سواء علي المستوي المهني أو الشخصي، كان من أهمها تخرجي في كلية الحقوق، جامعة الإسكندرية، والتي لم تكن دراستي بها في البداية بإرادتي الشخصية، ولكن كانت بإرادة والدي.وكانت الأعوام الأربعة التي درست فيها القانون، بمنزلة الأساس الصلب في تكويني القانوني، ليس لأنني درست مختلف مواد القانون فحسب، ولكن لأنني تعلمت خلالها القيم والمثل،والمبادئ،وفلسفة القانون،وروحه،واحترام الحريات ومعني العدل،وكره الظلم.

وهذه المبادئ لم اتعلمها فقط من خلال الكتب، وإنما من خلال مجموعة من الأساتذة العظام، مثل الدكتور علي صادق أبو ليلة، الذي تأثرت كثيرا بشخصيته، وكذلك الدكتور إسماعيل صبري عبدالله، والدكتور حسن كيره، أستاذ القانون المدني.وهؤلاء الأساتذة كانت الدولة المصرية تستعين بخبراتهم نتيجة كفاءتهم العالية.ومن حسن حظي أنني تعلمت علي أيديهم القانون، حيث كان لهم الفضل في حبي له،وتفوقي فيه، بدليل أنني حصلت علي تقدير امتياز عند التخرج،وكان ترتيبي الأول علي دفعتي.

وتمثلت المحطة الثانية المهمة في حياتي في حصولي علي درجة الدكتوراه، بعد التحاقي بهيئة التدريس في جامعة الإسكندرية.حيث إنه بعد خمسة أشهر من التخرج،أعلنت كلية الحقوق عن حاجاتها  لمعيد في قسم القانون الدولي، حتي أعلنت جامعة القاهرة عن بعثة في القانون الدولي، وتقدمت بطلب،وتم اختياري للذهاب لبعثة للحصول علي درجة الدكتوراه من فرنسا.لكن نظرا لأن العلاقات المصرية- الفرنسية كانت مقطوعة حينها، ذهبت إلي إيطاليا، ومكثت هناك لمدة عام، التحقت خلاله بالمعهد القانوني الدولي بروما، وحصلت علي دبلوم في القانون، وتعلمت فيه اللغة الإيطالية في إحدي المدارس هناك.

ثم تمكنت من الحصول علي تأشيرة دخول لفرنسا، وهناك حصلت علي دبلومتين في القانون، وقيدت في جامعة السوربون، ثم بدأت في رسالة الدكتوراه، وتناولت موضوع"دور محكمة العدل في خلق وتفسير القانون"، وكان المشرف علي الرسالة شارل روسون،وهو الأستاذ الذي أشرف علي الأستاذ الدكتور بطرسغالي في الدكتوراه، وقد أبدي تحفظه في البداية علي عنوان الرسالة، حيث قال إنه موافق علي تعبير"تفسير القانون"،ولكنه كان متحفظا علي تعبير"خلق القانون".وكانت وجهة نظره أنه لا يوجد قاض يخلق قانونا،وإنما هو منفذ له، لأنه إذا خلق القانون فسيكون بذلك مشرعا، وهذا ليس بصحيح. وكنت قد استوحيت هذا الموضوع من عبد الحميد باشا بدوي، عندما قابلته مصادفة في الشانزليزيه، ونصحني بأن أتناول دور المحكمة في خلق القانون، وليس تفسيره فقط.

وتعد مشاركتي في اللجنة القومية للدفاع عن طابا أهم المحطات الفارقة في حياتي، حيث كنت مسئولا عن الجانب القانوني للوفد المصري في المفاوضات، حتي صدر الحكم يوم 29سبتمبر عام1988بإعلان طابا أرضا مصرية.ولا أزال أتذكر لحظة بكاء أعضاء اللجنة من الفرحة، وكانت تلك اللحظة علامة فارقة في حياتي. لذا،تعد سنوات عملي في هذه القضية من أهم وأسعد أيام حياتي العملية، وأعتز بها كثيرا،خاصة أنها توجت بانتصار عظيم، وكللت جهود اللجنة التي عملت بحس وطني عال،وبكل إخلاص.لذا فأحب صفة لدي هي مفيد شهاب،عضو هيئة الدفاع عن طابا المصرية.

كما أن تقلدي منصب رئيس جامعة القاهرة يعد من المحطات المهمة جدا في تاريخي الوظيفي، حيث إنه خلال تلك الفترة من عام1993إلي عام1997شهدت الجامعة العديد من المظاهرات العنيفة من الجماعات المتطرفة،عليغرار جماعة الإخوان الإرهابية، وغيرها من المجموعات المتطرفة، وكان يتوجب علي مواجهة هذه التظاهرات التي تعطل العملية التعليمية، ونجحت في ذلك عن طريق الحسم والحكمة، ونشر الوعي الثقافي والفني، حيث حرصت علي إعادة افتتاح قاعة المؤتمرات لعرض المسرحيات والفرق الموسيقية، والأمسيات الشعرية، كما أعطيت تعليمات لعمداء الكليات بتوزيع جدول برنامج الموسم الثقافي الفني علي جميع طلاب جامعة القاهرة، وقد استجاب معظم الطلاب، وحرصوا علي حضور هذه الأنشطة الثقافية والفنية.

ومن المحطات المهمة، أيضا، اختياري وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي، حيث كنت حريصا للغاية علي استقلالية كل جامعة،وتوفير الحصانة للأساتذة، وقمت بإجراء تعديلات مهمة علي قانون الجامعات، وصدر قانون بإقامة الجامعات الخاصة لأول مرة سنة1996،والتي انطلقت بالفعل،ولعبت دورا مهما في سد الثغرة في التعليم الجامعي. وهذه المرحلة أعتز بها، رغم ما واجهته خلالها من مشكلات وتحديات، حيث إن تحمل مسئولية الوزارة أمر صعب للغاية في مجتمعاتنا العربية.


-

من الناحية الشخصية، فإن ارتباطي بزوجتي من المحطات المهمة للغاية، حيث كانت خير معين لي في حياتي الشخصية والعملية، من خلال وقوفها الدائم بجواري، وتقديرها لظروف عملي، كما أنني سعيد للغاية بتفوق ابني، الذي يعمل حاليا أستاذا بكلية طب قصر العيني، فهو مجتهد للغاية، ولديه بعد إنساني كبير في تعامله مع الآخرين، حتي إنه كثيرا لا يتقاضي أجرا من المرضي الذين لا يقدرون علي دفع تكاليف العلاج.كما أنه من أجمل اللحظات السعيدة، حاليا في حياتي، عندما تجتمع الأسرة، وأجلس مع أحفادي، وأتحدث إليهم.

❊هل ثمة شخصيات تأثرت بها خلال مسيرة حياتك وتركت بصمة علي شخصيتك؟

بالطبع،هناك العديد من الشخصيات التي تأثرت بها في حياتي، يأتي علي رأسهم والدي المرحوم محمود شهاب، حيث يعد من أكثر الشخصيات التي كان لها تأثير إيجابي في شخصيتي، إذ كان قدوتي ومثلي الأعلي في الحياة، لأنه لم يكن فقط الوالد الذي يقوم بتربية أولاده، ويرجو لهم أفضل مستقبل، وإنما لامتداد دوره لأكثر من ذلك بكثير، من خلال مجموعة القيم والمثل التي كان حريصا عليغرسها بداخلي، وأسلوب تعامله الراقي مع الناس في مختلف مراحل حياته الوظيفية.

كان والدي رجلا محبا للعلم جدا، ويؤمن بأنه خير ميراث للإنسان.حتي إنه عندما كان يقول له البعض إنك لم تترك شيئا لأولادك سوي قطعة أرض صغيرة-كان قد حصل عليها من نادي هيئة التدريس بالإسكندرية - كان يقول لهم  يكيفني أنني علمتهم،ومنهم من حصل علي درجة الدكتوراه، وهذه أكبر ثروة، فكان يؤمن بالعلم، حتي إنه وهو ناظر مدرسة ثانوي،كان يعطي دروسا في تعليم اللغتين الألمانية والإيطالية مجانا، وكان يدعو المدرسين وزوجاتهم لتعلم هذه اللغات، كما سافر للحصول علي الماجستير من لندن في التربية وعلم النفس، وكذلك كانت والدتي.فرغم كبر سنها،كانت تذهب لتدرس الإيطالية والألمانية.

وقد تدرج والدي من مدرس في التعليم الابتدائي إلي ناظر ابتدائي،ثم ناظر ثانوي،ثم مدير منطقة تعليمية،ثم وكيل وزارة المعارف ومسئول عن التعليم الأجنبي مع طه حسين باشا، ومسئول عن التعليم في قطاع غزة.وفي كل هذه المراحل الطويلة، أصبح ليس معلما فقط، وإنما كان مربي أجيال بالمعني الحقيقي للكلمة، كما كانت أفكاره تقدمية، وشخصيته حاسمة، وله خبرة طويلة في الإدارة.فوالدي له فضل كبير ليس عليفحسب، وإنما علي كثير من أبناء الإسكندرية،وأبناء فلسطين،لأنه عمل- كما ذكرت- مديرا للتعليم المصري في غزة لمدة6 أعوام،وكان ذلك في عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.

❊ما هو البعد الفرانكوفوني في شخصية الدكتور مفيد شهاب؟

نعم أنا فرانكوفوني، وأعتز بذلك، وكان لي شرف تمثيل الرئيس مصر،نيابة عن الرئيس مبارك،في أكثر من قمة فرانكوفونية، بعد انضمامها للمنظمة الفرانكوفونية، وذلك بعد أن أقنع الأستاذ الدكتور بطرس غالي الرئيس بالانضمام إليها، لأنه كان يري أن الفرانكوفونية لا تعني فقط الدول التي تتحدث الفرنسية، ولكن التي أيضا لها ارتباط بالثقافة الفرنسية.

كما أن نشأتي وتعليمي في مدرسة الليسيه الفرنسية بالإسكندرية زادت من حبي للثقافة الفرنسية، حيث شجعتني علي قراءة الأدب الفرنسي، ومن خلاله عشقت اللغة الفرنسية وآدابها.وكان دخولي تلك المدرسة، عقب تكليف والدي من حكومة فرنسا إنشاء قسم عربي داخل مدرسة الليسيه، ودخلت هذا القسم،وكانت الدراسة باللغة العربية في التاريخ،والجغرافيا،وباقي المواد بالفرنسية.وقضيت في هذه المدرسة ما يقرب من10سنوات، وكان من يدرس لي خلالها عدد من المدرسين الفرنسيين، وقد تأثرت بهم كثيرا، من حيث دقتهم وانضباطهم،واحترامهم،وتشجيعهم للطلاب علي التعليم والتفوق، وهو ما انعكس علي شخصيتي.لذا،فأنا منضبط للغاية منذ كنت طالبا في تلك المدرسة، وزاد هذا الانضباط  بعدما ذهبت إلي فرنسا.

وخلال فترة دراستي في جامعة السوربون،لم أكن أكتفي بالمقررات الدراسية فحسب، وإنما كنت أذهب لمكتبة الجامعة والمكتبة الوطنية بفرنسا، لذا انفتحت علي الثقافة والحضارة الفرنسيتين، خاصة أنني كنت أقيم مع عائلة فرنسية، وذلك بناء علي نصيحة الأستاذ الفرنسي. وكانت الأسرة مكونة من سيدة أرملة، وابنها، وابنتها، حيث كان زوجها ضابطا، وتوفي خلال الحرب العالمية الثانية، وكنت أعيش معهم كأنني شخص منهم.حتي إنه يوم مناقشة رسالة الدكتوراه، كانت السيدة ربة المنزل تحضر لي أوراقي وحقيبتي كأنني فرد من العائلة، وكنت أذهب معهم للأوبرا في باريس، وكنت أحب مشاهدة موليير، وذهبت إلي اللوفر، واستمتعت بالحضارة الفرنسية، وتشبعت بها.

لذلك، فإن نصيحتي إلي كل المبعوثين الذين يرغبون في السفر إلي الخارج هي:لا تجعل مهمتك فقط الحصول علي الشهادة، ولكن احرص علي نقل الحضارة أيضا، من خلال الانفتاح علي الثقافات والحضارات المختلفة، وتقديم صورة جيدة لوطنك، لاسيما أن انفتاحك لا يتعارض مع تمسكك بالتراث والهوية. فرغم انفتاحي علي الثقافة الفرنسية،خلال سنوات البعثة، فإنني كنت دائم الاستماع لأم كلثوم وغيرها من المطربين المصريين، كما أن لغتي العربية الفصحي جيدة، برغم حالة التدهور التي أصابتها أخيرا.

لذا، فأنا أعتقد أن المطلوب من مصر حاليا استعادة ثراء انتمائها المتوسطي مع أوروبا والثقافة الغربية، والتقرب من أوروبا أكثر منغيرها، حيث إنني مؤمن بقوة بكل من فرنسا وإيطاليا، وإن كان ذلك لا يعني أن نتخلي عن موروثنا الثقافي والحضاري، وإنما توسيع نطاق التواصل مع الحضارات المتخلفة، لاسيما القريبة منا تاريخيا، حتي يمكننا أن ننشيء جيلا من الشباب قادرا علي التواصل مع العالم،وتقديم صورة حضارية مشرفة لمصر.

ثانيا- قدرة جامعة الدول العربية علي أداء رسالتها:

ما هي رؤية سيادتكم لحدود وقدرات جامعة الدول العربية علي البقاء وأداء رسالتها، في ظل التحديات التي تواجهها الجامعة خلال تلك المرحلة، مثل التمويل والأداء الحركي والهيكلي للجامعة؟

لا يمكن الحديث عن وضع الجامعة العربية وأزماتها دون الرجوع لتاريخ نشأة المنظمات الإقليمية، وهي تلك الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث كانت هناك أعمال تحضيرية لإنشاء ميثاق الأمم المتحدة، الذي كان عليه تلافي سلبيات عصبة الأمم.وكان من ضمن القضايا التي طرحت قضية إنشاء تنظيمات إقليمية تضم مجموعة من الدول موجودة في منطقة ماء، دون تعارضها مع كونها عضوا في تنظيم عالمي أوسع.وقد رفض البعض الفكرة معللا بأن ذلك سيؤدي إلي فشل التنظيم العالمي الجديد، لأنه سيسهم في انقسام الدول والشعوب، في الوقت الذي ينادي فيه النظام الدولي الجديد بأن يكون العالم قرية واحدة، وبالتالي من الأفضل عدم السماح بقيام أي تنظيمات إقليمية.

في المقابل، كان هناك رأي آخر، يقول إن إنشاء المنظمات الإقليمية لا يتنافي مع التنظيم العالمي الجديد.فالواقع يشير إلي أنه برغم وجود انتماء عالمي،  فإن الانتماء الأقوي والأساسيغالبا ما يكون للمنطقة الجغرافية التي تنتمي إليها مجموعة من الدول، لأن الأصل هو الوجود الجغرافي، دون الاهتمام بالبعد القومي الذي يتنافي مع عدم التفرقة بسبب الدين أو العنصر..إلخ. ومن ثم،فليس هناك مانع من قيام مجموعة من الدول المتجاورة جغرافيا بإنشاء  تنظيم إقليمي خاص بها،لاسيما أن هناك تقاربا وعوامل تجعلها متشابهة أكثر من الانتماء العالمي، خاصة أن الانتماء العالمي جيد ومثالي،لكنهغير واقعي. والأهم من ذلك أن هذا التنظيم الإقليمي المحدود بين مجموعة من الدول سوف يساعد التنظيم العالمي في تأدية رسالته في التعاون ونبذ العنف بطريقة أمثل، وهو ما يجعل هذه التنظيمات عوامل مساعدة في تنفيذ أهداف ومبادئ الأمم المتحدة.

وبالفعل، وُضع نص عن المنظمات الإقليمية في صلب ميثاق الأمم المتحدة، ينص علي السماح بإنشاء منظمات إقليمية تضم مجموعة من الدول، تقع في منطقة جغرافية معينة، شريطة ألا تتعارض أهدافها مع أهداف الأمم المتحدة، وأن تعمل في إطار مبادئ الأمم المتحدة، وبالتنسيق والتعاون معها.

علي ضوء ذلك، قامت الجامعة العربية قبل الأمم المتحدة في مارس1945،ثم الأمم المتحدة في أكتوبر1945. وكانت الجامعة،عند نشأتها،تضم7دول مستقلة، وكان هناك ملحق خاص بلبنان،لأنه لم يكن تم تحديد وضعه بصفة نهائية.وكان هدف الجامعة،عند نشأتها، هو التعاون بين الدول العربية التي استقلت علي حل النزاعات وديا والتكامل فيما بينها، إضافة إلي مساعدة الدول التي لم تحصل علي الاستقلال في أن تنال حقها في الاستقلال، وكان هذا أقصي طموحات العرب في الوقت.وظلت الدول المستقلة تنال عضوية الجامعة العربية،  حتي أصبح عدد أعضائها حاليا 22 دولة عربية، وبالتالي،لم تكن الجامعة العربية تهدف إلي خلق اتحاد أو وحدة كاملة، وإنما ركزت علي تنسيق العمل المشترك لحل النزاعات،والتعاون فيما بينها.

وقد اتسم أداء الجامعة العربية عند نشأتها بالتواضع، خاصة أنه لم يكن علي رأسها أمناء عموم أقوياء، بل كانوا متواضعي القدرات،مقارنة بمهام منصبهم، حيث كان يقتصر دورهم علي الجانب الإداري، وتجاهل الدور السياسي. فعلي سبيل المثال، عرف عبد الرحمن عزام بأنه رجل تقليدي محافظ، اقتصر دوره علي تنظم الاجتماعات، والدعوة إلي اللقاءات.وعلي نهجه،سار عبد الخالق حسونة، في حين أن أول أمين عام قوي كان محمود رياض، حيث كان رجلا سياسيا وقادرا علي تفعيل دور الأمانة العامة، لكنه للأسف جاء في ظروف صعبة،تولي مهامه،عقب هزيمة1967،إذ كانت مصر،الدولة القوية التي تقود الجامعة وتحركها، مهزومة وغير قادرة علي القيادة.وبدأت تظهر قوي أخري،ونزاعات مختلفة، والحديث عن المشرق والمغرب، ودول اشتراكية ودول رأسمالية، وبدأت تظهر الانقسامات نتيجة الضعف الذي أصاب مصر إبان النكسة.

من ثم، يمكن القول إن وضع الجامعة العربية،في كل مرحلة من مراحلها، هو انعكاس لواقع المجتمع العربي.لذلك،يجب عدم الحديث عن تعديل ميثاق الجامعة العربية وإعطائها صلاحيات قوية، وأن تكون الجامعة العربية علي قلب واحد،أو دولة واحدة، فهذا لن يحدث، لأن الجامعة العربية تضم رؤساء عربا،كل منهم له نظام حكم معين(ملكي،جمهوري،ثوري)، ولا يرغب أي منهم في ترك السلطة، ومن ثم لا يمكن الحديث عن وحدة عربية.

فالمطلوب حاليا ليس تعديل ميثاق الجامعة، وإنما البدء بعمل عربي مشترك يتحول مع مرور الوقت إلي اتحاد دون الوقوفعلي المسمي.فأوروبا تقوي منذ1975،من خلال سوق أوروبية مشتركة، التي تحولت بعد ذلك إلي اتحاد أوروبي، وبالتالي نحن بحاجة إلي خطوات تنسيقية، ولتكن البداية،علي سبيل المثال، بالتنسيق في مجال الزراعة.وبعد نجاح تلك الخطوة، يتم التنسيق في مجال الصناعة، ثم الانتقال إلي عملة واحدة، وهكذا التدرج بإرادات واعية، حتي يمكن تحقيق نوع من التكامل والوحدة، بغض النظر عن المسمي.

ذلك أن مسألة القفز مرة واحدة إلي اتحاد ثم إلي دولة واحدة سيكون مصيره الفشل، عليغرار الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا، وهو المشروع الذي فشل بعد ثلاث سنوات، لأنه لم يقم علي أسس سليمة.وبالتالي،فالعبرة ليست بالقرارات التي تتخذها، وإنما بمدي استجابتها واتساقها مع الواقع، حيث لم يكن الشعب السوري مهيأ للتنازل عن طابعه الرأسمالي التجاري، في حين كان عبدالناصرغير مستعد للتنازل عن التوجهات الاشتراكية والتأميم، لذلك فهم مختلفون ولم يتفقوا،ففشلت الوحدة بين الدولتين.

علي ضوء ذلك، يمكن القول إن الجامعة العربية،شأنها شأن كل المنظمة الإقليمية، كانت وستظل انعكاسا لواقع مجتمع تمثله، وليست شيئا منفصلا عنه.ومن ثم،فإن تعديل الميثاق أو تطويره ليس هو الذي يقويها أو يضعفها، وإنما ما يقويها أو يضعفها مدي إيمان الحكام بالتنازل عن سيادتهم الداخلية لمصلحة العمل العربي المشترك، وهو ما يمكن أن يفسر أسباب ضعف جامعة الدول العربية في أداء رسالتها.

ورغم ذلك، فأنا متفائل بشأن تطور دور الجامعة العربية علي المدي البعيد، لأني أثق كثيرا في وعي الشعوب العربية.فالتاريخ يعلمنا التوجه نحو مزيد من التعاون العربي من أجل الحصول علي القوة الحقيقية.لذلك،تنهض الجامعة إذا ازداد وعي الشعوب العربية، وتلاقت إرادات الحكام، وشعرت بالخطر في المنطقة.فاليوم،نشهد تحكم إسرائيل في المنطقة بنفسها مباشرة، أو من خلال الدعم اللامحدود من أمريكا.كما أن إيران تريد التدخل في المنطقة، وبالفعل لها أذرعها في سوريا،وليبيا،واليمن.وفي ظل هذه التهديدات، لا أري صورة أفضل للجامعة العربية علي المدي القصير، ولكن علي المدي البعيد،لأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح.


-

ثالثا- حدود الاتفاقيات في قانون البحار الجديد:

صدر لسيادتكم عام1977كتاب "قانون البحار الجديد والمصالح العربية"، ثم أعدت عام1996طرح مزيد من الأفكار فيما يتعلق بالقانون الدولي الجديد للبحار، فما هي حدود الاتفاقيات التي تسير في هذا المجال، ليس فقط في مجال البحار، ولكن أيضا فيما يخص الأنهار؟

بعد نشأة الأمم المتحدة، وتحديدا بعد1945،برزت علي الساحة الدولية مجموعة من القضايا الجديدة.لذا،بدأت تدعو إلي مؤتمرات لكي تنظمها باتفاقيات محددة، وهذا ما يحسب للأمم المتحدة كثيرا، وتفوقت فيه عصبة الأمم، التي كانت تعبر عن عدد أقل من الدول.وكانت النظرة سياسية بالدرجة الأولي، ويحكمها بشكل كبير الخوف من الحرب، خاصة في ظل بروز الصراع مع الشيوعية التي بدأت تظهر،ويكون لها كيان.

كان من أبرز تلك القضايا ما يتعلق بالبحار واستغلال ثرواتها، لذا شرعت في إنشاء الاتفاقيات التي بني عليها قانون البحار المعمول به حتي الآن، عليغرار اتفاقية جنيف لقانون البحار لعام1958،ثم اتفاقية أخري عام1960،ثم عقد المؤتمر الثالث لقانون البحار بنيويورك عام1973.واستمرت المفاوضات تسع سنوات،حتي تم التوقيع في10ديسمبر1982تحت مسمي اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار،وذلك بعدما حدثت طفرة كبيرة جدا في استغلال البحار في أوائل السبعينيات، خاصة بعد استقلال دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية،وظهور كتلة عدم الانحياز،والطفرة التي أحدثتها بمطالبتها بوقف نهب ثروات البحر،واستغلالها من جانب الدول الكبري، التي تمتلك أساطيل بحرية ضخمة مثل اليابان، وإنجلترا، والولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي، وكندا، في حين أن باقي الدول لا تحصل علي شيء، مقارنة بهذه الدول، خاصة أن هذه الثروات ليست مقصورة علي الثروات الحية كالأسماك، فالأهم من ذلك هو البترول، والنفط، والغاز.

لذا،عندما بدأت قضية النفط والغاز واستغلاله، نظرا للتطور التكنولوجي والتقني، سعت الدول النامية لضمان حقوقها من الثروات الطبيعية الموجودة في البحار، وهو ما عرف بـ"المنطقة الاقتصادية الخالصة"، التي لا تتمتع فيها الدولة بسيادة كاملة، وإنما فقط استغلال الموارد الموجودة في باطن الأرض، وذلك من خلال دعوة الأمم المتحدة لمؤتمر لقانون البحار، عام1973، وكان لي شرف أن أكون عضوا في الوفد المصري، برئاسة السفير الشافعي عبد الحميد، مدير الإدارة القانونية بوزارة الخارجية.

يمكن القول إنه في الفترة من1973إلي1982،أبرمت أكبر اتفاقية في تاريخ الأمم المتحدة،"اتفاقية الأمم المتحدة لقانونالبحار الثالث" في المؤتمر الثالث لقانون البحار. ويصل عدد أوراق الاتفاقية إلي خمسمئة صفحة بملاحقها ومرفقاتها، وتنظم استغلال ثروات البحار.وتعد تلك الاتفاقية الأساس القانوني الذي تستند إليه الدول في الشئون المتعلقة بالحدود البحرية، والاستغلال الاقتصادي لها.وقد أبرمت هذه الاتفاقية بعد جهود دءوب استغرقت9سنوات مفاوضات في الأمم المتحدة،منذ عقد المؤتمر الثالث للأمم المتحدة لقانون البحار في نيويورك في ديسمبر عام1973، لتخرج اتفاقية من كبري الاتفاقيات في القانون الدولي.

وهنا مفارقة مهمة، هي أن مصر رغم أنها من أولي الدول الموقعة والمصدقة علي الاتفاقية، فإنها لم تشرع  في ترسيم الحدود البحرية حتي عام2013،وهو ما مثل تلكؤا ندفع ثمنه الآن، حيث إن ترسيم الحدود يترتب عليه منافع اقتصادية كثيرة من استغلال للثروات، حيث لا يحق لدولة ما أن تستغل ثرواتها الموجودة في البحر إلا بعد ترسيم حدودها مع الدولة المقابلة لها.

ومع التوسع في التنقيب عن الغاز والنفط في المنطقة الاقتصادية الخالصة، وتسابق الدول للاستفادة من تلك الثروات، ظهرت معضلة جديدة، تمثلت في كيفية اقتسام تلك الثروات،في ظل تداخل الحدود البحرية بين بعض الدول، حيث إن المنطقة الاقتصادية الخالصة-كما ذكر سابقا- يكون حدها الأقصي200ميل(لو أن دولتين متقابلتين المسافة بينهما400ميل،ويتم اقتسام المساحة بينهما،كل منهما200ميل).أما إذا كانت المسافة بين البلدين المتقابلتين أقل من400ميل، فهنا دائما ما تنشأ توترات في منطقة حدودهاغير مرسومة، حيث تسعي كل دولة للحصول علي أكبر قدر ممكن من المساحة لتقوم باستغلالها.لذا،يتم الاقتسام وفق القواعد التي حددتها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام1982،وفق عمليات فنية دقيقة جدا.

فعلي سبيل المثال، مصر لديها200ميل داخل البحر الأبيض المتوسط كمنطقة اقتصادية خالصة باتجاه كل من تركيا واليونان وقبرص،التي من حقها نفس المسافة،وهو مايتطلب أنيكون إتساع البحر الأبيض المتوسط400ميل في حين أن أقصي أتساع له340ميل لذا،أنشأت اتفاقية البحار ما يسمي نظام الدول المتجاورة أو المتقابلة، إذا لم تكن المساحات البحرية تسمح لها بتحديد حقوقها، حيث يتم بداية التفاوض بين الدول.وإذا لم تتوافق فيما بينها، فيتم الرجوع إلي خط المنتصف، حيثيتم أقتسام المساحة مناصفة بينهما. وإذا حدث نزاع بين الدول، فيتم اللجوء إلي محكمة قانون البحار في مدينة هامبورج، وهي مختصة بالنظر في المنازعات البحرية.

أما بالنسبة لمناطق أعالي البحار بعد الـ200ميل، فيعد تراثا مشتركا للإنسانية يذهب ريعها لشعوب العالم.  لذلك،أنشأت الأمم المتحدة السلطة الدولية للاستغلال في أعالي البحار، فأصبح التنقيب والاستكشاف للدولة في حدود الـ200ميلفقط.لذلك،تعترض الولايات المتحدة الأمريكية علي هذه الاتفاقية، حيث ترغب في الاستحواذعلي كل ما تستطيع أن تصل إليه من ثروات طبيعة.

أما فيما يخص الأنهار الدولية، التي تمر بأكثر من دولة،مثل أنهار الصين،والدانوب،والراين،والنيل، فقد رأت الأمم المتحدة ضرورة تنظيم قضية الأنهار الدولية، ودعت الدول إلي مؤتمر تناقشت به، ثم تم التوصل لمشروع اتفاقية، وقعته بعض الدول،والآخر لم يوقع.وتنص الاتفاقية علي أنه"لا تستطيع أي دولة إيقاف أي باخرة تمر في نهر دولي، إلا إذا هددت أمنها القومي، أو ألقت مخلفات في الجزء الخاص بالدولة.ماعدا ذلك،هناك حرية الملاحة".

رابعا- أزمة سد النهضة من وجهة نظر القانون الدولي:

ما هو تقييم سيادتكم للموقف المصري الراهن من قضية سد النهضة من منظور القانون الدولي؟ وهل ثمة أوراق في هذا القانون، يمكن لمصر أن تستخدمها في تعزيز موقفها التفاوضي تجاه إثيوبيا؟

لا تقتصر اتفاقية الأنهار الدولية علي شئون الملاحة فحسب، وإنما تعدتها لنقاط أخري، عليغرار احترام حقوق الدول الأخري في تلك الأنهار.فإثيوبيا تريد إنشاء سد، ولا أحد يستطيع أن يمنعها، وهو حق لها،شريطة أن تحترم قواعد الاتفاقيات الدولية.فهناك اتفاقية تنظم تلك الأمور، تنص علي أنه"عند إقامة مشروع في النهر الدولي في الجزء الواقع داخل الدولة، يجب ألا يضر بالدول الأخري، وإخطار الدول الأخري بهذا المشروع، والتعاون معها، وألا يكون هناك تعسف في استعمال هذا الحق".لذا،فإن هناك قيودا وضعتها هذه الاتفاقية.

وعندما عرضت إثيوبيا علي مصر مشروع سد النهضة عام2008،بمواصفات تتمثل في تخزين12مليار متر مكعب، وافقت مصر علي المشروع، لكن معايير ومواصفات السد تغيرت بعد عام2011،ومن هنا تولد الخلاف، حيث إن إثيوبيا لم تبلغمصر بالمعايير الجديدة للسد، التي تحولت من12إلي56مليار متر مكعب وتقليص سنوات الملء. لذا،أعتقد أن هناك دوافع سياسية وراء الموقف الإثيوبي، وأن هناك قوي خارجية تحرضها علي ذلك.وأزعم أن الولايات المتحدة تقف وراء ذلك، لأن لديها عقدة نتيجة بناء مصر السد العالي،وتريد الانتقام منها، لأن مصر وقتها رفضت مشروع البنك الدولي، وسحب البنك الدولي التمويل، وانتهزت الولايات المتحدة الفرصة لتنكل بمصر، لذا فإنها ساعدت إثيوبيا من خلال المنح والقروض لإنشاء سد النهضة بارتفاع174مترا وطول68مترا، والأخطر السعة التخزينية التي تريد تنفيذها خلال عامين أو ثلاثة.وهذه المواصفات ستضر بمصر، لأن لها حصة من المياه بنسبة55.5مليار متر مكعب، والسودان لديه18مليار متر مكعب، يتنازل لمصر عن جزء منها، لأنه ليس في حاجه إليها، لأن لديه مياه أمطارغزيرة. كما أن إثيوبيا لديها كمية كبيرة من الأمطار، لكنها لم تستغلها، وتريد إنشاء السد لإنتاج الكهرباء وبيعها، أي أنها عملية تجارية.

وقد دخلت إثيوبيا المفاوضات مع مصر منذ2012،ليس بهدف الحل، وإنما بهدف المماطلة لكسب الوقت، وفرض الأمر الواقع.ورغم أن مصر كانت حسنة النية مع الجانب الإثيوبي، ومقدرة لحقوقه ومتطلباته، فإن إثيوبيا لم تتفهم أن96٪من استهلاك مصر من المياه تعتمد فيه علي نهر النيل، وليس لدي مصر فرصة لعمل تحلية لمياه البحر، لأنها مكلفة للغاية، لذا فاعتماد مصر الأكبر علي النيل، وبالتالي سيؤثر بناء السد في مصر بشكل كبير.فمنذ عام1959كانت حصة مصر55.5مليار متر مكعب، وكان عدد سكانها23مليونا، لكن اليوم ازداد عدد السكان إلي أكثر من100مليون، وبالتالي سوف تنخفض حصة مصر.

وعندما تفاوضت مصر مع إثيوبيا، طالبت بخفض ارتفاع السد، خاصة أن المنطقة التي بني عليها السد تقع في نطاق الهزات الأرضية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلي انهيار السد، إضافة إلي ضرورة أن تكون سنوات الملء أطول.وقد بذلت مصر محاولات آخري مع الجانب الإثيوبي، تمثلت في الاقتراح بالاستعانة بلجنة دولية بها 4 خبراء سودانيين، و4 خبراء مصريين، و4 خبراء إثيوبيين، لتحديد مواصفات السد، ومدي ضررها علي مصر والسودان.ومن العوائق التي ظهرت أيضا تبدل موقف السودان،حيث يقف إلي جانب إثيوبيا، بعد أن كان إلي جانب مصر.

مهما يكن الأمر، فمصر حاولت الضغط علي الجانب الإثيوبي. ومن هذه المحاولات اتفاق عام2015وهو إعلان المبادئ، الذي اعترض عليه البعض بحجة أنه يعني موافقتنا علي إنشاء سد النهضة، لكنني كنت من أنصار عمل إعلان مبادئ، وشاركت في صياغته عام2015مع الحكومة المصرية.وكنت أري أنه يجب أن تتم كتابة تعهدات من إثيوبيا بدلا من الاكتفاء بها شفويا،حيث من خلاله تلتزم مصر،والسودان، وإثيوبيا باحترام قواعد قانون الأنهار الدولية، والاستعانة بخبير فني يقوم بالدراسات المطلوبة، وتمت صياغة الإعلان ووُقع في السودان2015، ووقعه الرئيس السيسي.وتعد اتفاقية إعلان المبادئ مكسبا، لأننا نستطيع الضغط عليهم من خلال الاستناد إليها، لاسيما أن اتفاقية الأنهار الدولية تعد اتفاقية دولية عامة، لكن إعلان المبادئ يقتصر علي مبدأين أو ثلاثة، والخاص له قيمة دائما عن العام، ويجبُّ العام، ما دام لا يخالف النظام العام. ولا تزال المفاوضات جارية، وقدمت مصر أخيرا مشروعا فنيا لإثيوبيا، وهو محل دراسة الآن من الجانب الإثيوبي.

❊أشار الكثير من الخبراء المصريين في ملف سد النهضة إلي ضرورة التوجه إلي محكمة العدل الدولية إذا تعثرت الأمور، فهل يمكن اللجوء الي التحكيم من أجل رفع الضرر عن مصر؟

لا نستطيع اللجوء إلي التحكيم إلا إذا وافق الطرف الأول، لأن التحكيم الدولي اختياري.  فنحن عندما عرضنا علي إسرائيل الذهاب لمحكمة العدل، لم تقبل إلا بعد أن تم الضغط سياسيا. وحتي بعد صدور الحكم، ماطلت في التنفيذ، ولم ينفذ الحكم إلا برضاها، لأنني لا أستطيع الرجوع لمجلس الأمن، وأطلب منه التنفيذ بالقوة العسكرية، إلا إذا شعر مجلس الأمن بأن عدم تنفيذ الحكم يؤدي إلي الإخلال بأمن المنطقة. هنا، من حق مجلس الأمن أن يتدخل.وبالتالي، فإن فاللجوء إلي التحكيم أو محكمة العدل الدولية اختياري، والتنفيذ أيضا اختياري. لكن إذا لم تنفذ، فيتم التعامل معها بالمثل، تقف ضدها، أو تقطع العلاقات الدبلوماسية معها، أي تتخذ ما تراه مناسبا.

خامسا- الجوانب القانونية للإشكالية القبرصية:

ما هي الإشكالية القبرصية؟ وما هي مستجداتها، في ظل التطورات التي يشهدها شرق المتوسط،والصراع علي الغاز، والتقارب(المصري- القبرصي- اليوناني) في مواجهة تهديدات ومخاطر محتملة من بعض دول الجوار؟

نشأت المشكلة القبرصية عندما حدثت صراعات وحروب بين القبارصة اليونان،والقبارصة الأتراك.فقبرصغالبيتها العظمي والساحقة من أصل يوناني، وكان يرغب جزء كبير منها في أن يكون جزءا من اليونان ولا يستقل.كما أن هناك جزءا قليلا في الشمال،قبارصة أتراك يمثلون ما يقرب من10٪من عدد السكان،  لديهم عقدة بأنهم لم يأخذوا حقهم، فضلا عن أن ولاءهم لتركيا أكبر من قبرص. في المقابل أيضا،فإن القبارصة اليونانيين ولاؤهم لليونان، لكنهم يفضلون أن تكون قبرص دولةمستقلة،لأنهم أغلبية.لذا،حاربت قبرص حتي لا ينفصل جزء منها،ويذهب إلي تركيا.لكن أنقرة فرضت الأمر الواقع، من خلال إعلان شمال قبرص دولة مستقلة، لا تعترف بها سوي تركيا فقط حتي الآن.لذا،فإن هذه الدولة من حيث القانون الدولي لا تعد كيانا قانونيا، لأن قيمة الدولة تكمن في الاعتراف بها من قبل المجتمع الدولي.

ويحسب للرئيس عبد الفتاح السيسي أنه استطاع تنشيط التعاون الثلاثي(المصري- القبرصي- اليوناني) أكبر مما كان عليه في الماضي، خاصة أن معظم الاهتمام والحديث في مصر كان منصبا علي جنوب البحر المتوسط،خاصة فرنسا، كما أننا منجذبون لإيطاليا ثقافيا وعلميا.حتي إن محمد علي عندما كان يرسل البعثات،كان يرسلها إلي فرنسا وإيطاليا، حتي عندما كنا نستعين بخبراء وعلماء وفنانين،نأتي بهم من فرنسا وإيطاليا، لذا فاليونان كانتغائبة عنا.

هذا التعاون الثلاثي يعد ناجحا وله آفاق جيدة، وهو ما يجعله يثير حفيظة تركيا، خاصة أنه يضم اليونان التي تعادي تركيا وتكرهها كراهية التحريم.كما أن مصر لديها توتر شديد مع تركيا لموقفها المعادي من الدولة المصرية، ودعمها لجماعة الإخوان الإرهابية.وسوف يستمر هذا التوتر،ما دام النظام التركي مستمرا في نهجه الاستعلائي، الذي ورثه منذ أيام الإمبراطورية العثمانية.حتي إنني أذكر أنه خلال حفلة في عام1953أقامها عبد الناصر، حضر السفير التركي،وتوجه بالسباب لمصر وجيشها، وقال أنتم أيها الضباط الهمج، فتركيا لديها نظرة استعلائية،وأردوغان لديه نزعة السيطرة.

وعندما أبرمت اتفاقية التعاون الثلاثي للتنقيب عن البترول، ومنحت قبرص الترخيص لإحدي الشركات، وأصدرت اليونان الترخيص، اعترضت تركيا علي الاتفاقية بين الدول الثلاث، بحجة تجاهل حق الدولة الرابعة في شمال قبرص. وكان الرد أنها ليست دولة وغير معترف بها من جانب الدول الثلاث والمجتمع الدولي. فبدأت تركيا تخالف قواعد القانون الدولي،وتستخدم القوة،وترسل ملاحين وبواخر لإيقاف عمليات التنقيب في الأراضي القبرصية أو اليونانية،وهو ما خلق توترا متصاعدا في هذه المنطقة.

فيما يخص ترسيم حدودها البحرية بين مصر وقبرص، قامت مصر عام1991بتحديد نقاط الأساس، وكذلك فعلت قبرص عام1996،وأودعتها كلتا الدولتين في الأمانة العامة للأمم المتحدة.وفي عام2003،تم الاتفاق المصري- القبرصي، والاتفاق التنفيذي  لعام2013، وتم إبرامه وفق أساس قانون فيينا للمعاهدات لعام1969،وقانون الأمم المتحدة للبحار لعام1982،وهما اتفاقيتان شارعتان واجبة النفاذ والتطبيق، سواء لمن صَّدق أو من لم يصدق.كما أن المعاهدتين(المصرية والقبرصية) مرتا بالمراحل القانونية لإبرام المعاهدات وتتوافر فيهما  شروط الصحة، خاصة أن قبرص دولة،مثلها مثل مصر،لها بحر إقليمي،ومنطقة اقتصادية خاصة بها.

وبالتالي إذا كانت تركيا محتجة ومعترضة علي الاتفاقية الثلاثية بين مصر،واليونان،وقبرص، ومتظلمة من عمليات التنقيب التي سمحت بها قبرص لشركة بريطانية لتقوم بها، فعليها أن تلجا إلي محكمة قانون البحار.وإذا كانت الحجة عدم توقيع الاتفاقية، فلماذا لم توقع وتستفد من إمكانيات الاتفاقية؟ بشكل عام،يمكن القول إن التعاون الثلاثي ترك تأثيرا سلبيا في تركيا، لكن الدول الثلاثغير مسئولة عنه، وإنما تركيا هي المسئولة، بسبب مخالفاتها للقانون الدولي.لذلك إذا لم تغير تركيا من سياستها العدائية، فعليها أن تتحمل المشكلات، خاصة أنها لن تستطيع حلها بالقوة.

من جهة أخري، فإن الإشكالية القبرصية تشير بشكل واضح إلي أن منطقة شرق البحر المتوسط،تحديدا، قد تشهد صراعا شديدا في السنوات القادمة علي قضية استغلال الغاز، حيث إن هناك مؤشرات قوية علي وجود الغاز بكثافة في تلك المنطقة.وفي ظل تداخل آبار الغاز والنفط بين حدود دولتين لم يتم ترسيم الحدود بينهما، فإن ذلك قديخلق مشكلات ونزاعات قوية بين بعض الدول، وهو ما يفرض عليها ضرورة اللجوء للتفاوض فيما بينهما للوصول إلي حلول توفيقية.وإذا لم يتم التوصل لحل، فيتم عرض النزاع علي المحكمة،والاستعانة بخبراء فنيين. وكل هذاوارد وموجود في اتفاقية قانون البحار، وتضم350مادة،و6أو7مرفقات، وهي من كبري اتفاقيات الأمم المتحدة.

سادسا- قضايا حقوق الإنسان وتهديد الدولة الوطنية:

إلي أين يسير ملف المنظمات والادعاءات بالنيات الحسنة لرعاية حقوق الإنسان، فيما يمكن أن يخالف أو يهدد الدولة الوطنية العربية والإفريقية؟

رغم أن قضية حقوق الإنسان كانت تعرف في الماضي بأنها من القضايا الداخلية، حتي إنني عندما كنت أدرس للطلبة،كنت أقول لهم إنها من المسائل الداخلية التي لا يحق للمجتمع الدولي التدخل فيها، مثل شكل النظام داخل الدولة،جمهوريا كان أو ملكيا، برلمانيا أو رئاسيا، فإنني أستطيع أن أقول ذلك الآن، لأنها لم تعد قضية داخلية، لتزايد الوعي بها من ناحية، ولأن الاتفاقيات الدولية كثرت بشأنها، عليغرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي كان مجرد إعلان مبادئ له قيمة أدبية، لكنهغير ملزم قانونا.لكن مع تزايد الوعي بحقوق الإنسان،تحول من التزام أدبي إلي التزام قانوني من خلال اتفاقيتين، هما العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية.

كما أن تزايد وعي الشعوب بقضية حقوق الإنسان حولها إلي قضية عالمية، عليغرار الميثاق العربي لحقوق الإنسان،الذي استمر مدة كبيرة جدا حتي تم توقيعه، والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب،وكان أسبق من الميثاق العربي، حيث لم يكتف بالحديث عن حقوق الإنسان الفرد،وإنما شمل الحديث عن حق الشعوب،وحق تقرير المصير،ووسائل فعالة للتنفيذ، وعن محكمة إفريقية لحقوق الإنسان. في ظل هذه التحولات الكبيرة في قضايا حقوق الإنسان، تحولت إلي قضية عالمية، ولم يعد يتابعها فقط المؤسسات العالمية الحكومية،كالأمم المتحدة،والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، ولكن الجمعيات العالمية، عليغرار منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومان رايتس ووتش.

من حيث المبدأ، فإن مراقبة قضايا حقوق الإنسان في مختلف الدول، من جانب منظمات عالمية حكومية،أو منظمات عالمية أهلية،هي أمر مقبول. لكن المشكلة في أن البعض منها تتحكم فيه مآرب سياسية، حيث يتم استغلالها بشكل سيئ، كما يحدث أحيانا تجاه مصر، عندما تحدث بها حالة انتهاك لحقوق للإنسان لمواطن في أحد السجون، حيث صدر تقرير المنظمة وبه ما يقرب من 40 ألف حالة تعذيب في السجون. ومن ثم،فإن المغالاة باستغلالقضايا حقوق الإنسان لتحقيق أغراض سياسية تعد أمرا سيئا للغاية.

يفرض ذلك الأمر علي مصر ضرورة توضيح موقفها، والخطوات الإيجابية التي تتخذها في هذا الإطار.فعندما كنت أمثل مصر في المفوضية العالمية لحقوق الإنسان في جنيف، لمدة ثلاث سنوات، كان يوجد ما يسمي تقرير المراجعة، وكنا نلاحظ وجود بعض النقاط المتعلقة بالأوضاع في مصر،  وكان يطلب مني التحدث حول النقاط التي يمكن تغييرها، فكانت هناك نقاط أرفض تغييرها، مثل النص الخاص بالتفريق بين المرأة والرجل، لأن ذلك يتنافي مع الشريعة الإسلامية.وهناك نصوص كنت أوافق علي تغييرها، مثل النص الخاص بالتمييز العنصري والأقباط.وخلال الاجتماع التالي كنت أوضح الخطوات الإيجابية التي اتخذتها مصر حيال ذلك النص، فكنت آخذ الأمور بكل جدية، وكنت أصطحب معي في الوفد الرسمي الحكومي ممثلين عن المنظمات الحقوقية الأهلية المصرية،مثل حافظ أبو سعدة.

عموما، فإن قضية حقوق الإنسان ليست قضية دولة تحترمها أم لا، وإنما هي بالدرجة الأولي قضية تربية وثقافة، نعلمها لأولادنا وأطفالنا. لذا،يجب أن تأخذ قضية حقوق الإنسان اهتماما أكبر من جانب المفكرين،والمثقفين،وأساتذة الجامعات، بحيث يكون لهم دور فعال في نشر ثقافتها، كما يجب أن يدرس للطلاب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،وكذلك اتفاقيات حقوق الإنسان جميعها، لذا فالقضية تربوية تثقيفية.

سابعا- موقف القانون الدولي من قرار ترامب بشأن القدس:

نظرا لأن القدس ليست قضية فلسطينية ولا عربية فقط، وإنما هي قضية كل المسلمين والمسيحيين،وكذلك اليهود الشرفاء، خاصة أن لها وضعا خاصا بعيدا عن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وفق ما أعلنته الأمم المتحدة عام1947.. كيف يري الدكتور مفيد شهاب قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أن القدس عاصمة لإسرائيل؟ وكيف يمكن مواجهة مثل هذا القرار من الناحية القانونية؟

هناك مئات القرارات الصادرة من مجلس الأمن،ومن الجمعية العامة للأمم المتحدة، تقر بأن كل الأراضي التي استولت عليها إسرائيل بعد1967أراض محتلة، وبالتالي لا يمكن ضمها، ويبقي وضعها معلقا، ودولة الاحتلال تديرها،وتتحمل مسئولية الإدارة، دون أن تستطيع أن تضمها إليها. وهناك أيضا العديد من القرارات من مجلس الأمن، تري أن كل ما اتخذته إسرائيل بشأن القدس الشرقية باطلا وكأنه لم يكن. لم تعترض أمريكا علي أي قرار صادر من مجلس الأمن ينص علي أن القدس الشرقية أرض فلسطينية محتلة، ولم تغير موقفها إلا في الثمانينيات، عندما أعلنت إسرائيل أنها ضمت القدس الشرقية إلي القدس الغربية،وأصبحت عاصمة موحدة، وأيدت أمريكا إسرائيل.لكن لم يجرؤ أي رئيس أمريكي من قبل علي أن يعلن عن نقل السفارة للقدس، إلي أن جاء ترامب، وأصدر ذلك القرار، لكنه مخالف للشرعية الدولية، ويتنافي مع ما صدر من الجمعية العامة،ومجلس الأمن،ووافق عليه المجتمع الدولي بالإجماع،بما فيه مجلس الأمن والولايات المتحدة.

لذا، فإن قرار ترامب بشأن القدس يعد مجرد موقف سياسي داعم لإسرائيل بدون وجه حق، وليس له أي سند قانوني،  لذا لم يتعاطف مع هذا القرار إلا4 أو5 دول، بعضها تراجع عن نقل السفارات الخاصة بها، وهذا يؤكد أن الإدارة الأمريكية لا تحترم القانون الدولي،ولا الشرعية الدولية، في تأييدها لإسرائيل التي تعدّها ولاية أمريكية، وتدعمها عن حق وعن باطل، حتي فيما هو مخالف للقانون الدولي صراحة.

ونحن موقفنا في مصر واضح، أن القدس أرض محتلة،ولا بد من دولتين، وهذا ما تم الاتفاق عليه في اتفاقية أوسلو.كما أن المجتمع الدولي مع فكرة الدولتين، رغم أن بعض الأصوات نادت بفكرة الدولة الواحدة.لكن في تقديري أن هذه المسألة تحسمها إرادة الشعوب.وأثق أن الغالبية العظمي من الفلسطينيين لا يوافقون إلا علي دولة مستقلة تسمي فلسطين، عاصمتها القدس الشرقية، تضم الضفة وغزة، وغير ذلك يعد إنكارا لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وتجاهلا لتضحياته الكبيرة، فهو من أكثر الشعوب التي عانت وضحت، ويجب أن يستمر التعاطف معهم حتي تنشأ دولتهم.

وقد عشت تجربة دخول فلسطين الأمم المتحدة عام1974،ومكثت في مؤتمر البحار ما يقرب من شهر بأكمله لإجراء تصويت علي مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية كمراقب في الأمم المتحدة، ونجحنا بفضل مصر. ودخلت في مؤتمر الأمم المتحدة الذي مهد لأن تدخل عضوا مراقبا في الأمم المتحدة، وفرضت نفسها. وجاءت قضية الجدار العازل وأثبتت كيانها. عاشت القضية الفلسطينية عصرا ذهبيا برغم التعنت في مواقف بعض الدول،وفي مقدمتها أمريكا، وضعف تنفيذ قرارات الأمم المتحدة.لكن يبقي هناك عنصر مهم وداعم للقضية الفلسطينية،هو ضرورة الاعتماد علي أحكام القانون الدولي والمنظمات الدولية، لأن النضال الشعبي المستند للشرعية الدولية وللقانون أقوي من نضال شعب لا يستند إلي قانون، وهو ما يفرض علينا ضرورة الاعتماد علي القانون الدولي في الدفاع عن حقوقنا المشروعة.

رغم أن البعض يقول إن الولايات المتحدة الأمريكية تضرب بالقانون الدولي عرض الحائط، فإن ردي عليهم أن الحق المستند إلي القانون أفضل من الحق الذي يفرض بالقوة، وبالتالي يجب أن نطالب بحقوقنا،ونحن مستندون للشرعية الدولية. وحتي لو اضطررت إلي القوة لتنفيذ حقك، فسيكون لك سند شرعي بأنك تستند إلي قرار مجلس الأمن عام1967،الذي ينص علي أن "القدس أرض محتلة"، وإسرائيل لا تريد أن تخرج منذ1967،ومن ثم سوف أستخدم القوة،وهو النهج الذي اتبعته مصر في نزاعها مع إسرائيل حول طابا، حيث كان بإمكاننا أن نستخدم القوة،لأنها أرض مصرية، وإسرائيل لا تريد الخروج منها.ورغم ذلك،ذهبنا للتحكيم، رغم أن بعض الأعضاء في مجلس الشعب،وقتها، رأي أن الذهاب للتحكيم يعد خيانة، لأنه ليس مضمونا، ومن ثم سنترك أرضنا لإسرائيل، فكان ردي أنه إذا تخوف كل صاحب حق من أن يلجأ إلي القضاء أو القانون، لاحتمالية أن يخذله، فبذلك ستضيع كل الحقوق، لذلك أذهب ولا أنتظر، لكن أضمن قدر الإمكان أن القضاة محايدون.

فالانتظار هو ما جعل القضية الفلسطينية تخسر يوما عن يوم.فأيام اتفاق الخليج،وبدأنا نطالب بأشياء في إعلان المبادئ،لأنه نص علي جزء خاص بفلسطين بين السادات وبيجين، لكن إسرائيل رفضت أن يتحدث به الفلسطينيون.لذا،تعد القضية الفلسطينية قضية الفرص الضائعة، لكن تبقي ثوابت في هذه القضية، وهي حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وضرورة عودة كل الأراضي التي احتلت بعد1967،وفقا لقرارات الشرعية الدولية.كما أنه من حق الشعب الفلسطيني أن تكون له دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، خاصة أن الاتفاقيات التي أبرمت بين إسرائيلوالفلسطينيين(غزة- أريحا-وأوسلو) كلها تؤكد أن الفلسطينيين لهم من يمثلهم وهي منظمة التحرير، التي تعد الكيان الفلسطيني المعترف به.لذا،كثيرا ما أنادي بضرورة ألا نتخلي عن الاعتصام بحكم القانون.

كما أن القول إن القانون لا يحترم، هذا ليس معناه أن القانون ليست له قيمة، ولكن معناه بذل جهد لإجبار الذي لا يحترمه علي احترامه.لذلك،أنادي بأن تزداد ثقتنا في القانون،وإيماننا به وبدوره في علاقاتنا الدولية، أيا ما كانت المخالفات والتجاوزات،وسيطرة العوامل السياسية الآن، لاسيما في ظل الإدارة الأمريكية الحالية، لأنها أوضاع استثنائية لا تستمر.فالأمم المتحدة رغم ما مرت به من لحظات ضعف، فإنها لعبت دورا كبيرا في إنهاء العدوان العراقي علي الكويت. ولولا القرار الذي أصدرته القمة العربية الذي استندت إليه الأمم المتحدة ومجلس الأمن، عندما طالب بانسحاب القوات العراقية لإرسال قوات دولية لإجبار قوات صدام علي الانسحاب، لما تحررت الكويت.

ثامنا- إمكانية تعديل ميثاق الأمم المتحدة:

هل يمكن إجراء مزيد من الإصلاحات علي منظمة الأمم المتحدة المعنية بالسلم والأمن الدوليين وتعديل ميثاقها أم لا؟

تحرص المواثيق الدولية،بشكل عام، عند نشأتها،علي وضع مجموعة من المبادئ والأسس العامةغير المختلف عليها، خاصة عند إنشاء تنظيم عالمي جديد مفتوح لكل دول العالم، عليغرار الأمم المتحدة، يقوم علي المساواة بين الدول الكبيرة والصغيرة، والتعاون فيما بينها،ونبذ استخدام القوة في العلاقات الدولية، ومعاقبة من يفعل ذلك عقابا جماعيا، وليس من جانب واحد.وهي مجموعة من المبادئ اتفق عليها، وتحولت فيما بعد إلي ميثاق الأمم المتحدة، وذلك لتوحيد الصفوف،وتجنب الفرقة والاختلاف، لاسيما أنها كانت ترغب في أن ينضم إليها كل الدول،عقب الحرب العالمية الثانية، حيث إنها لو كانت دخلت في التفاصيل، لكان من الصعب إرضاء كل الدول، ومن ثم تفشل المنظمة.

وتم توقيع ميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو في ختام مؤتمر الأمم المتحدة الخاص بنظام الهيئة الدولية،وأصبح نافذا في24أكتوبر1945. ويعد النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية جزءا متمما للميثاق. وقد حرصت الدول الكبري علي تمييز نفسها داخل الأمم المتحدة، من خلال منح نفسها حق الفيتو، الذي  يقتصر استخدامه علي الدول الخمس دائمة العضوية فيالمجلس،وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وبريطانيا، وفرنسا، والصين،للاعتراض علي القرارات، دون بقية الأعضاء العشرة مؤقتي العضوية، وهو ما يشير إلي أنها لا يمكن أن يمرر قرار يتعلق بالميثاق،سواء من حيث التعديل أو التغيير، دون  موافقة تلك الدول مجتمعة، وهو ما يعني أنه من الصعب-إن لم يكن من المستحيل- تعديل الميثاق، حيث إن الدول الخمس الكبري لن تتخلي عن الامتيازات التي حصلت عليها، ومن ثم ستحرص علي أن تظل الأمم المتحدة وميثاقها دون أي تغيير أو تعديل، في ظل ما وضعته من ضمانات تمنع صدور أي قرار يحد من نفوذها.

وربما هذا ما يفسر لماذا كانت قضية حق النقض(الفيتو) للدول الخمس الكبري في مجلس الأمن هي أكثر ما أثار الجدل في المؤتمر إلي حد التهديد بإيقافه كليا. فالقوي الصغري خشيت من أن تهدد إحدي الدول الخمس الكبري السلام،ولا يستطيع مجلس الأمن فعل شيء حيالها، وعند نشوء صراع بين قوتينغير دائمتي العضوية في مجلس الأمن، مما يعني احتمال تصرف"الخمس الكبري" تصرفا عشوائيا. وعليه،تم الاتفاق علي تخفيف سلطة"حق النقض"، إلا أن القوي العظمي أصرت علي بقاء هذا الحكم بوصفه أمرا حيويا، مشيرة إلي أن المسئولية الرئيسية في صون السلم العالمي تقع علي عائقها. وفي نهاية المطاف، وافقت القوي الصغري علي ذلك لتيسير إنشاء المنظمة.

لذا، يكمن القول إن وضع الأمم المتحدة ما هو إلا انعكاس لوضع المجتمع الدولي، ومن ثم فليس المطلوب حاليا تعديل الميثاق، ولكن المطلوب أن تدرك الدول الكبري أنه يجب عليها أن تتنازل عن أنانيتها السياسية، القائمة علي الرغبة في السيطرة،وتوسيع النفوذ، وذلك لخلق نوع من العدالة الدوليةالتي تساعد علي تحقيق مزيد من الاستقرار علي الساحة الدولية.


-

تاسعا- معركة استرداد طابا.. ملحمة وطنية:

تعد قضية استرداد طابا، التي تمثل واحدا من أهم انتصارات الدبلوماسية المصرية، التي شارك فيها الدكتور مفيد شهاب، علي مدي6سنوات،حتي التحكيم الدولي،وصدور الحكم النهائي من هيئة التحكيم  لمصلحة مصر، ورفع العلم المصري علي طابا1989،معلنا السيادة علي طابا.. كيف تشكلت لجنة استرداد طابا؟ وماهي الحقائق التي ربما لم تتعرف عليها الأجيال الحالية؟

بداية، تعد المفاوضات الدولية علما وفنا، وهذا العنوان أخذته من الأستاذ الأمريكي باكستر، الذي ألف كتاب"المفاوضات الدولية علم وفن"، لذلك فقد استفدت كثيرا من مرحلة التفاوض علي طابا، حيث كنت بصحبة أساتذة ذوي كفاءة عالية في التفاوض،ومهارة رائعة في توزيع الأدوار، والقدرة علي معرفة أفكار من يتم التفاوض معهم، وما هو الحد الأدني الأقصي لما يمكن أن يقبل به،خاصة أن فن التفاوض يحتاج الي صبر شديد، وأن تضع عدة بدائل. والأهم في التفاوض الحس الوطني، والخبرة والتخصص.فمثلا، إذا كنت تريد التفاوض في قضية حدود، فيجب أن تأتي بأحد خبراء المساحة والجغرافيا،والقانون، فالتخصص مهم جدا.لكن الفهلوة لا تفيد  في مثل هذه الأزمات، خاصة عند التفاوض في أزمة قومية لها أبعاد ومشكلات، ولا بد من الاعتماد علي الأسلوب العلمي، والخبراء والمتخصصين، وروح الفريق الجماعي.

أما بالنسبة لكواليس انضمامي لفريق الدفاع عن طابا، فعندما شكلت اللجنة القومية لطابا، طلب الرئيس الأسبق مبارك من عصمت عبدالمجيد الاستعانة بأساتذة قانون، وأساتذة جغرافيا، وأساتذة تاريخ، وخبراء مساحة،وعسكريين وسفراء لدراسة الملف، وقيل له إن هناك أستاذا للقانون الدولي في الكويت،وهو الدكتور مفيد شهاب، وطلب منهم الاستعانة بي، وكلمني أسامة الباز، وقال لي إن الرئيس يريد مقابلتك، وقابلتالرئيس مبارك، وطلب مني أن أدرس الملف وقضية طابا، وقال لي إنها أرض بمصر، واليهود لا يريدون أن يتركوها.

وقال لي أمامك4 أو5 أيام،وتبلغني برأيك حول القضية، وأبلغت الرئيس بأن موقفنا قوي،وأن طابا ملك لنا، وذلك بعد قراءة كتب حافظ سلطان،وكتب حافظغانم، والخرائط والمستندات.ثم طلب مني الرئيس عدم الرجوع إلي الكويت، وبالفعل عدت إلي مصر،ودرست ملف طابا، وطلب الرئيس تشكيل لجنة قومية من خبراء التاريخ والجغرافيا لدراسته،وأبلغنا الرئيس بأن موقفنا قوي.

وبدأت المفاوضات، واستمرت فترة طويلة جدا، حيث إن خط الحدود من رفح المصرية شمالا إلي طابا علي خليج العقبة جنوبا240كيلو مترا، طبقا لاتفاقية السلام المبرمة بين مصر وإسرائيل عام1979.وكان يوجد إعلان مبادئ في البداية في كامب ديفيد1978،ونص علي مجموعة من الأسس، منها"انسحاب إسرائيل، واعتراف مصر بإسرائيل، وتبادل دبلوماسي... "إلخ، ثم تحولت إلي اتفاقية تفصيلية ملزمة في ملاحق1979،نصت علي الانسحاب من جميع الأراضي المصرية، علي عدة خطوات، جزء منها عام1980،وجزء عام1981، وجزء عام1982، وآخر جزء يتم الانسحاب منه25أبريل1982،ويرفع رئيس الجمهورية العلم المصري علي العريش،إيذانا بأن مصر استرجعت جميع أراضيها.

وتم تشكيل لجنة مشتركة تشرف علي الانسحاب، وتمت المراحل الأولي،والثانية،والثالثة من الانسحاب. وعندما اقتربيوم25أبريل1982،لم ينسحب الإسرائيليون من بعض المواقع، منها العلامة91الحدودية.وهي عبارة عن فلنك حديد وقاعدة خراسانية، حيث لا توجد حدود طبيعية، كالجبال، كما لا يوجد سكان،ولا زرع،ولا حياة.وماطلت إسرائيل في الانسحاب في25أبريل1982،واعتقدوا أن المصريين سيرضخون في النهاية، لأنهم يريدون إعلان تحرير أرضهم، لذا سوف نحتفظ بـ"طابا"،ومنطقة النقب،وعلامات أخري صغيرة،إلي جانب الاختلاف الذي حدث وقت الانسحاب عند العلامة رقم7،وبعض العلامات الأخري، عليغرار العلامات56،و51،و46،والفرق حول تلك العلامات بين ما يقوله المصريون والإسرائيليون ما بين20و30مترا.لكن الخلاف الحقيقي كان حول العلامات  87،و86،و85،و88،وهذه المنطقة تسمي رأس النقب.وفي حالة صحة قولهم،فإن ذلك يعني أن تكون هناك مساحة تصل إلي5.5كيلو متر تابعة لهم داخل الحدود المصرية، وهي منطقة استراتيجية وطابا بجانبها.

واستمر التفاوض حتي1985 .وفي تلك الفترة، حرص الإسرائيليون علي زيادة العلامات الصغيرة لتعقيد الأمور أمامنا، حتي نصاب بالملل،ونترك القضية، حيث إن اتفاقية السلام تنص علي أن أي نزاع ينشأ،بسبب تنفيذها، إذا لم يتم حله بالتفاوض، فإنه يحل بالتوفيق أو اللجوء إلي التحكيم.وقد طالب الإسرائيليون بالدخول في مرحلة التوفيق ورفضنا، لأن التوفيق يعني أن تستعين بطرف ثالث يقترح حلا وسطا تقبل أو لا تقبل بهإسرائيل، كونه يعد مجرد رأي استشاري. لكن التحكيم يختار محكمين متفقا عليهم، يطبقون القانون، ولا توجد حلول وسطية، ويصدر حكم ملزم بواسطة محكمين وقضاة، وكتبت وقتها مقالا بالأهرام تحت عنوان "نعم للتحكيم لا للتوفيق".

في ذلك التوقيت، حدث أن  شيمون بيريز كان يريد مقابلة الرئيس مبارك، فرفض مقابلته، حتي تعلن إسرائيل الموافقة علي التحكيم، وبالفعل وافق علي ذلك، وطلب من الوفد الإسرائيلي المنسحب من المفاوضات البقاء،حيث كان يقيم بمينا هاوس. وأعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية الموافقة علي التحكيم. وبدأت مفاوضات جديدة مع إسرائيل لإبرام اتفاقية التحكيم.

❊لماذا أصر الدكتور مفيد شهاب علي مبدأ التحكيم بدلا من التفاوض، رغم أن الممثل للقانون الإسرائيلي كان يصر علي التفاوض فيما يتعلق بقضية طابا؟

لأن التفاوض لا يأتي بنتيجة إلا إذا وافق الطرفان، وكل ما كنا نوافق عليه كان يرفضه الجانب الاسرائيلي، لذا لم نصل إلي نتيجة.فكان لا بد من اللجوء إلي طريقة إلزامية، طبقا القانون الدولي، ووفقا لميثاق الأمم المتحدة، في المادة33التي تنص علي أن أي نزاع ينشأ بين الدول يحل عن طريق التفاوض، أو لجان تقصي الحقائق،أو التوفيق،أو الوساطة،أو الالتجاء إلي التحكيم،أو القضاء الدولي"محكمة العدل الدولية".

فالتحكيم والقضاء الدولي وسيلتان قانونيتان ملزمتان، وما عداهما وسائل سياسيةغير ملزمة، لا تنتهي بحل برضا الطرفين.فالتفاوض وسيلة للحل برضا الطرفين. وقد استمرت المفاوضات5 أو6 سنوات ولا يوجد رضا. والتوفيق صورة من ثمار التفاوض،وتأتي بطرف آخر يساعدك.لكن التحكيم يقدم المرافعات،والشهود، والمذكرات القانونية، لذلك شكلت اللجنة القومية لطابا، بعد إبرام اتفاقية التحكيم، ووضعت بها الشروط.

واستمر الفريق المصري في التفاوض بكل دقة ما يقرب من  6أو8أشهر حول11مادة،وتم التوقيع في ميناهاوس في سبتمبر1986الساعة الثالثة صباحا، وتم عدد المحكمين، وتوقيت المرافعات، وتقديم المذكرات، إذ تم تحديد خمسة محكمين معروفين بالحياد، أحدهم مصري هو محمد سلطان، ومحكمة إسرائيلية، وسويسري، وفرنساوي، كان رئيس محكمة النقض، وآخر سويدي، كان رئيسا في محكمة، وكان رئيس التحكيم رول أوف كاتش في النزاع الحدودي بين باكستان والهند.

بدأ التحكيم واستمر ما يقرب من3 أو4 سنوات، وقدمنا المذكرات المكتوبة، إضافة إلي5مرافعين، لكل واحد ساعة،كنت من بينهم،وأحمد صادق، وجورج أبي صعب، مصري يعيش في جنيف،أستاذ في معهد الدراسات الدولية، وطلعت الغنيمي،أستاذ قانون دولي في جامعة الإسكندرية، وصلاح عامر،صديق لي في كلية الحقوق، وأستاذ تاريخ عظيم هو الدكتوريونان لبيب رزق، وأستاذ الجغرافيا يوسف أبو الحجاج،رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة عين شمس، بالإضافة إلي مساعدة القوات المسلحة لنا، حتي إن هناك ضابطا برتبة عقيدكان يتولي حمل وحماية خريطة منذ عام1906بين مصر والإمبراطورية العثمانية،عندما حصلت مصر علي الحكم الذاتي، وأصبحت ولاية مستقلة، توضح حدود مصر مع فلسطين تحت الانتداب.وقد سلم الرئيس مبارك الخريطة التي كانت في حقيبة بأرقام سرية.ورأت المحكمة أن موقف مصر قوي بالنسبة لطابا، وكان ذلك في29سبتمبر1988،وأصدرت منطوق الحكم بأن10علامات هي العلامات التي اختارتها مصر، منها طابا، و4علامات في رأس النقب،كلها مصرية، والعلامات الأخري عددها9علامات، 4 علامات منها قالت إسرائيل إنها صحيحة، والعلامتان49 و14الفرق بينهما أمتار قليلة.

وأقرت المحكمة بالإجماع أن موقع العلامة7هو الذي قدمته مصر، وهو ما يعني موافقة القاضية الإسرائيلية، وأن العلامة 14هي الموقع الذي قدمته إسرائيل، والقاضي المصري موافق بمعني أنها علامات ليست ذات قيمة. وصدر الحكم لمصر بطابا ورأس النقب، و4علامات أخري،وإسرائيل4أيضا. هنا،ثارت المحكّمة الإسرائيلية روزله بوتوس، أستاذ قانون دولي في جامعة تل أبيب بحيفا، وقالت إن الحكم باطل ولا أعترف به، ورد عليها رئيس المحكمة وقال لها: من حقك إرفاق وجهة نظرك مع الحكم الصادر بالأغلبية، وهو من حق القاضي في محكمة العدل، أو في محكمة التحكيم، بأن يعبر عن عدم موافقته علي الحكم لأسباب يتم توضيحها ويرفقها، لكن لا يؤثر وليست له قيمة، لأن حكم الأغلبية صدر في جلسة علنية.

وهنا، أتذكر أنه خلال جلسة شاي،عقب صدور الحكم،جاء المستشار القانوني للوفد الإسرائيلي، وقال: كنا نعلم أن طابا ملك لكم، لكن لم ندرك أنكم قادرون علي الدفاع عن القضية بهذا الشكل الرائع، والترافع بكل هدوء وبدون انفعال،وبتقديم وثائق وخرائط منظمة، ومذكرات مكتوبة بشكل صحيح، وشهود محترمين، مثل كمال حسن علي،رئيس وزراء مصر الأسبق، الذي جاء علي مقعد،ولا يستطيع التحرك ويدلي بشهادته، وإسماعيل شيرين،وزير الدفاع المصري، وكان متزوجا منالإمبراطورة فوزية، شقيقة الملك فاروق، ورافق الملك فاروق فيالمحروسة يوم26يوليو، وكان يعيش في جنيف وقدم صورا له في طابا كشاهد يقف بجانب شجرة الدوم، وقدم رسالة أرسلها لزوجته عن وقوفه مع الجنود المصريين بالطربوش،والزي العسكري المصري، وقدم ذلك كشهادة له بأنه كان موجودا في طابا عام1949في  أثناء الهدنة،وشخص آخر يوغوسلافي كان ضمن قوة الطوارئ الدولية،وموجود في طابا وقال إنه سلم الموقع لقائد مصري، وهذا معناه أنها أرض مصرية.

لذا، تعد معركة الدفاع عن طابا ملحمة كبيرة، ونتاج تعاون دبلوماسي وأمني وقومي.فعلي سبيل المثال،عندما اقترحنا ترشيح سايروس فانس،وزير خارجية أمريكا الأسبق، كمحكم تختاره مصر،رفضه الإسرائيليون، بحجة أنه متعاطف مع العرب. في المقابل،عندما كانوا يقومون بترشيح أحد الأشخاص،كنا نتحري عنه من خلال سفاراتنا في الخارج. وإذا عرفنا أنه متعاطف أو مؤيد للإسرائيليين، كنا نرفضه، لذا فهم استغلوا مخابراتهم وسفراءهم في كل خطوة، وكذلك فعلنا نحن، وهو ما جعلها قضية تعبر عن تلاحم كل مؤسسات الدولة للدفاع عن ترابها وأرضها.

عاشرا- كيفية مواجهة ظاهرة الإرهاب:

في ظل تصاعد ظاهرة التطرف والإرهاب،وانتشارها علي نطاق واسع، ربما بشكل غير مسبوق، ما هي رؤية سيادتكم حول تلك الظاهرة، وكيفية بناء استراتيجية عربية ودولية لمواجهتها والمدخل القانوني لهذه الاستراتيجية؟

يعد التطرف والإرهاب حاليا من أكبر وأخطر القضايا المطروحة علي الساحة الدولية، ومن أخطر التهديدات التي تواجه المجتمعات، خاصة في ظل التقدم الهائل لوسائل الإعلام، وظهور الإعلام الفضائي، ثم ظهور الإعلام الرقمي، المتمثل في شبكة الإنترنت، وهو ما جعل الإرهاب يدخل مرحلة جديدة، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001، حيث برزت التنظيمات الإرهابية ذات الصفة العالمية، والتي تمتلك منظمات، وتسعي لتحقيق أهداف وتنفيذ عمليات في أكثر من بلد، لذا يطلق عليها البعض التنظيمات العابرة للحدود.

بالنسبة لمصر، فإنها تخوض معركتين ضد التطرف والإرهاب، الأولي أمنية ضد التنظيمات والعناصر التي تنفذ الهجمات الإرهابية، والأخري فكرية وثقافية من أجل توعية الشباب وتحصينه ضد التطرف، وهو ما يحتاج إلي تبني منهجية علمية عند تغطيتها للظاهرة الإرهابية، بهدف بناء تيار مستمر من الوعي، والإحاطة، والفهم، وتحصين الجماهير ضد التأثر بالفكر الإرهابي، والتعاون مع الأجهزة المعنية بمكافحة الظاهرة الإرهابية.ورغم سعادتي بتراجع العمليات الإرهابية إلي حد كبير، ووعي المواطنين الذي أصبح يدعو إلي الأمل والتفاؤل، فإنني متخوف من انتشار الفكر المتطرف المدعوم من الخارج، في ظل وجود قوي خارجية كثيرة لها أهداف متعددة، ولا تريد لمصرأن يتحقق لها الأمن والاستقرار، ولا يزال حلمهم الأكبر الذي يسعون اليه باستمرار هو تخريب الدولة المصرية وتفتيتها وإضعافها، ولكنهم سيعجزون عن ذلك، ما دمنا متمسكين وعلي قلب رجل واحد، رغم الاختلاف فيما بيننا.

وبالنسبة لمواجهة الإرهاب من الناحية القانونية، فقد وضعنا تشريعات لمكافحة الإرهاب، عليغرار قانون مكافحة الإرهاب،فيما يقرب من عامين، وعاونني فيه المستشار سري صيام، رئيس محكمة النقض آنذاك، والنائب العام الأسبق عبد المجيد محمود. من جهة أخري، تشير العديد من الدراسات والبحوث إلي أن التغطية الإعلامية لظاهرة الإرهاب تخدم بطريقة موازية هدف الإرهابيين في تحقيق الإشهار الإعلامي لعملياتهم، وأن الحركات الإرهابية تعد مدي نجاح تغطية وسائل الإعلام لجرائمها مقياسا مهما لفعلها الإرهابي.

أما ما يتعلق بمسألة الخطاب الديني وتجديده، فأنا أعتقد أنه لا يوجد ما يسمي الخطاب الديني، في ظل وجود قانون ودستور ينظم العلاقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة. ومن جهة أخري، فإن كثرة الحديث عن الخطاب الديني وضرورة فرضه في مناحي الحياة المختلفة تخلق ضغطا كبيرا علي الثقافة، والفكر، والإبداع. فالدكتور نصر حامد أبو زيد تم التفريق بينه وبين زوجته، وسافر حتي مات في الخارج.ومن ثم، فإن التصدي للتطرف والإرهاب أصبح ضرورة في ضوء ما يمثله ذلك من أولوية، لأنه لا يمكن الحديث عن مجالات التعاون الأخري، مثل التعليم، والثقافة، والفن، دون إحلال الأمن والاستقرار بالقضاء علي هذه الآفة.

❊هناك بعض الدول ترعي وتدعم الإرهاب بقوة خلال المرحلة الراهنة، فما هي المسئولية القانونية الدولية تجاه الدول الداعمة للإرهاب؟

أي دولة تدعم الإرهاب في تخالف العديد من القرارات، فقد أصدر مجلس الأمن العديد من القرارات،بعد أحداث سبتمبر،ضد الإرهاب،وعدم التعاون معه، والتعاون بين الدول في الكشف عن الإرهاب. فأي دولة تدعم الإرهاب تخالف الاتفاقيات الثنائية والدولية العالمية المبرمة لمكافحة الإرهاب، لاسيما قرار مجلس الأمن1373لعام2001،سنة وقوع أحداث سبتمبر في الولايات المتحدة، والذي يعد من أقوي وأشمل القرارات التي صدرت للتعامل مع آفة الإرهاب.كما أن العبرة ليست في الاتفاقيات ومضمونها،بل في تنفيذها واحترامها. وهنا،تأتي أهمية الإرادة السياسية للدول وشعورها بخطورة أن الإرهاب يهدد السلام العالمي بأكمله، لذا يجب ضرورة أن تكون الشرعية الدولية محل احترام وتطبيق.

❊     ❊     ❊

أخيرا، يمكن القول إن حوار الأستاذ الدكتور مفيد شهاب عكس بشكل واضح مكانته العلمية، وخبرته الأكاديمية، وثقافته الواسعة، وإننا أمام رمز وطني كبير، ظل طيلة حياته مخلصا لوطنه،مهموما بقضاياه، ومدافعا عنه في المحافل الدولية، ولا يزال حتي الآن حريصا علي المشاركة في قضاياه، في ظل قدرته علي تحديد أبعادها بشكل دقيق، وتقديم الحلول المناسبة لها، بما يسهم في نهضته وتقدمه علي كل المستويات.

 

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    إعداد- علي بكر

    إعداد- علي بكر

    مساعد رئيس التحرير- السياسة الدولية