تحليلات - قضايا عالمية

"تحت السيطرة": تحولات وتناقضات الإعلام الأمريكي في الحرب على أفغانستان

طباعة

لم يخلُ مشهد الخروج الأمريكي من أفغانستان من العديد من الدلالات الرمزية الجديرة بالتحليل والتوقف، فلم يقتصر الأمر على مشاهد الخروج المرتبك، والإخفاق الظاهر في إدارة عملية رحيل الجيش الأمريكي من البلاد التي قضى فيها عشرين عاما تحت مظلة "الحرب على الإرهاب"، بل كانت آخر عمليات الجيش الأمريكي في أفغانستان، والتي استهدفت ما قالت قيادات البنتاجون أنه "أحد عناصر "داعش"، كان يخطط لعملية انتحارية في مطار كابول" ذات رمزية واضحة. فالكشف عن العملية التي ثبت لاحقا خطؤها، وراح ضحيتها 10 أشخاص من عائلة واحدة، بينهم ستة أطفال أجبرت الجيش الأمريكي على فتح تحقيق بشأنها، ثم الاعتذار لاحقا، جاء من خلال إحدى وسائل الإعلام الأمريكية، وهي صحيفة النيويورك تايمز، التي نشرت تحقيقا استقصائيا تحدى الرواية الرسمية للجيش الأمريكي، وكشف خطأ ما حاول أن يقدمه للعالم.

هذا المشهد حول أداء الإعلام الأمريكي بكل تنوعاته ووسائطه، في تغطية الحرب في أفغانستان يثير الكثير من التساؤلات حول الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الأمريكية في تغطية الحرب الأطول في التاريخ الأمريكي على مدى عقدين، وتوجيه الرأي العام الداخلي بشأن مجرياتها وتداعياتها ونتائجها، وهل التزم الإعلام الأمريكي بمحددات الدور الذي صاغه لنفسه كمراقب ومحاسب Watch Dogللسياسات والإجراءات الحكومية، وذلك كجزء من الفلسفة الليبرالية التي تنتصر لنمط "الخصومة" في وصف العلاقة بين الإعلام والحكومات والإدارات التنفيذية، وهو ما يتيح للإعلام تحدي الرواية الرسمية، ومحاولة اختبارها لبيان صحتها، أو كشف مواطن الخطأ والخلل بها، أم أن متغيرات جوهرية طرأت على ذلك النمط من العلاقة، وهو ما فرض تحولات حقيقية في الدور والأداء الذي قدمته الميديا الأمريكية خلال الحرب على أفغانستان؟

مواقف متباينة:

الحقيقة التاريخية التي يكشفها تحليل العلاقة بين الميديا الأمريكية والقرارات الكبرى في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وفي المقدمة منها بالتأكيد قرارات خوض الحروب أو التدخلات العسكرية الكبرى، كانت تتعرض للكثير من مراحل الصعود والهبوط، فلا يمكن القول باطمئنان علمي واضح إن الإعلام الأمريكي مارس دور المعارضة الصريحة لتلك القرارات، كما أنه لا يمكن أيضا القول إنه كان إحدى أدوات الدعاية الصريحة لحروب الإدارات الأمريكية المختلفة، بل يمكن القول إن الأمر يتباين بين المراحل التاريخية، ومن حرب إلى أخرى.

وقد ساند الإعلام الأمريكي بوضوح الإدارات الأمريكية المتعاقبة في الكثير من المواجهات العسكرية الكبرى، سواء في خضم الحرب العالميتين الأولى والثانية، أو في إطار الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، لكن تلك المساندة لم تكن صكا دائما، ويكفي أن نشير هنا إلى الدور الذي لعبه الإعلام الأمريكي في فضح الإخفاقات العسكرية في حرب فيتنام، الأمر الذي عجل بإنهاء الحرب تحت ضغط الرأي العام، لا سيما بعد الدور الذي لعبته صحيفة "واشنطن بوست"عام 1971 بنشر وثائق تكشف أكاذيب الحكومة عن حرب فيتنام ومحاولة تغطية فشلها هناك، ورغم محاولة وزارة الدفاع الأمريكية منع نشر تلك الوثائق تحت زعم "حماية الأمن القومي"، إلا أن المحكمة الفيدرالية العليا انتصرت لحرية الصحافة وحق المواطن فى المعرفة.

ورغم أن ذلك الموقف تكرر وبفارق زمني يقترب من نصف قرن، إلا أن الاستجابة والتفاعل مع موقف الإعلام الأمريكي جاءت مختلفة وأقل تأثر بالمحتوى المقدم، فقد كشفت "واشنطن بوست"، من خلال نشر ما يسمى "الأوراق الأفغانية" عام 2019 مجموعة من الوثائق، صورة لجهد متواصل من قبل العديد من الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتضليل الرأي العام الأمريكي بشأن التورط في أفغانستان، واستعرض الصحفى المخضرم "كريج ويتلوك" في سلسلة مقالات له بالصحيفة النافذة في دوائر السياسة الأمريكية، مجموعة من الاعترافات التي قدمها قادة سابقون للجيش الأمريكي بأن سياسة الولايات المتحدة فى أفغانستان لم تتسم بالكفاءة وغير فعالة، إلا أن تجاوب الرأي العام واستجابته لم تكن على نفس النحو والدرجة التي شهدتها الساحة الأمريكية قبل خمسة عقود.. فما الذي تغير؟

تحولات جوهرية:

المتغيرات التي شهدها الإعلام الأمريكي على مدى العقود الماضية، ربما كانت هي العامل الحاسم في تحديد مساحة الدور وطبيعة الأداء الذي قدمه في تغطية الحروب الأمريكية عموما، والحرب في أفغانستان على وجه الخصوص، فبالإضافة إلى تحولات السياسة، عرفت البيئة الإعلامية الأمريكية العديد من المتغيرات البنيوية، سواء على المستوى الاقتصادي، أو العلاقة مع مؤسسات صنع القرار، أو حتى على المستوى التقني.

والواقع الذي عاشته الميديا الأمريكية خلال الحرب في فيتنام، وكانت الهيمنة فيه للصحف المطبوعة، اختلف جذريا مع مراحل تالية شهدت المزيد من التدخلات الخارجية الأمريكية في عدة دول بالعالم، كما هو الحال في حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت)، حيث فرضت التغطية التليفزيونية هيمنتها على مساحات التأثير المتاحة للإعلام الأمريكي، وقد بدا واضحا رغبة مؤسسات صنع القرار السياسي والعسكري الأمريكي في امتلاك أدوات للتأثير على اتجاهات التغطية الإعلامية للأحداث الكبرى التي تؤثر فى توجهات الرأي العام الداخلي، الأمر الذي دفع العديد من تلك المؤسسات إلى الدخول في شراكات مباشرة وغير مباشرة مع التكتلات الإعلامية الأمريكية الكبرى.

وقد ازداد وضوح أثر تلك التكتلات والتحالفات الإعلامية في السيطرة على مختلف وسائط الإعلام، فقبل أربعة عقود كانت تتحكم 50 شركة في مخرجات صناعة الإعلام الأمريكي بكل تنوعاتها، تقلص ذلك العدد إلى ستة كيانات كبرى حاليا باتت تمارس نفوذا شبه مطلق على أداء ومسارات الإعلام الأمريكي ووسائطه، ولم يعد الأمر يقتصر فقط على تلك الوسائط التقليدية (الصحافة – الإذاعة – التليفزيون)، لكن النمط ذاته امتد إلى عالم "الإعلام الجديد" ((New Media، التي تشهد ممارسات احتكارية واضحة من قبل ما بات يعرف بعمالقة التكنولوجيا (Tech Giants)، على غرار شركات، مثل جوجل، وأبل، ومايكروسوفت، وغيرها.

وظهر التأثير الواضح لتركيز ملكية وسائل الإعلام الأمريكية في جملة من الكيانات المحدودة، والتي باتت تمتلك طيفا واسعا من الصحف والقنوات ومحطات الإذاعة، فضلا عن امتلاك منصات رقمية نشطة، بل وشركات إنتاج سينمائية ومراكز للفكر والبحث (ThinkTanks)، وهو ما ضاعف من قدرة تلك الكيانات على التأثير، لكنه – وفي الوقت نفسه- أثار الكثير من علامات الاستفهام حول مدى التزام تلك الكيانات بالضوابط المهنية والأخلاقية للتغطية، مقابل الوفاء بمتطلبات ومصالح مالكيها.

والمعروف أن جماعات الضغط والمصالح تلعب دورا بالغ الأهمية في صنع وتوجيه السياسة الأمريكية، وإذا كان الإعلام الأمريكي نفسه يمثل في الكثير من المواقف جماعة ضغط بالغة التأثير على القرار السياسي، فإن الإعلام نفسه يمثل ساحة مهمة تمارس فيها جماعات ضغط ومصالح متنوعة أشكالا شتى من التأثير والتوجيه.

دور المجمع الصناعي العسكري:

ويدفعنا الطرح السابق إلى الإشارة إلى دور محوري، تتشابك فيه أدوات السياسة بالاقتصاد، كما تتشابك فيه كذلك الأهداف المرجوة، وهو الدول الذي لعبه المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، ليس فقط في توجيه السياسة الأمريكية منذ خمسينيات القرن الماضي، والتي بلغت ذروة تأثير ذلك المجمع هائل الإمكانيات، عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وإنما أيضا في توجيه السياسات الإعلامية لخدمة الأهداف الكبرى لذلك المجمع، أو على الأقل عدم وقوف الإعلام كعقبة في سبيل تحقيقها.

وتتألف بنية ما يشار إليه بـ "المجمع الصناعي العسكري" من طيف واسع من الهويات والمصالح التي تتقاسم شـراكة موضـوعية هدفها تحقيق المصالح الأساسية لكل منها، وتتمثل قدرة المجمع الصناعي العسكري في التأثير على مجريات الحياة السياسية والإعلامية، انطلاقا من قدرته على تقديم المساعدات المالية الضخمة لرجال السلطتين التشريعية والتنفيذية، أملا في وصول مرشحين يأخذون على عاتقهم حماية مصالح هذه الشركات وتعزيزها.

وقد كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر فرصة مواتية للمجمع الصناعي العسكري لتوسيع دوره ونفوذه السياسي والإعلامي، من خلال الترويج لنظرية العدو الخارجي، الأمر الذي تم معه حشد الطاقات الوطنية وراء دعم وتعزيز القدرات العسكرية والإجراءات والأمنية الأمريكية، في مقابل خفوت الأصوات التي تتحدى الرواية الرسمية، أو تناقش بصورة علنية ومتعمقة مدى صحة الإجراءات والسياسات التي تتبعها الإدارة التنفيذية للبلاد سياسيا وعسكريا.

ولا يقتصر النمو الهائل لبنية المجمع الصناعي العسكري الأمريكي في التأثير على الأدوار السياسية، إنما يتجاوزه لامتلاك أدوات تأثير بالغة القوة على الواقع الاقتصادي على صعيد الداخل الأمريكي، وكذلك على مستوى العلاقات الدولية، كما اتجه هذا المجمع إلى امتلاك أدوات تأثير فاعلة على مؤسسات صنع القرار الرسمية وغير الرسمية، فضلا عن التأثير فى مراكز الفكر والبحث ومؤسسات الإعلام المختلفة.

وقد استطاعت العديد من أدوات ذلك المجمع الصناعي العسكري التأثير بوضوح على اتجاهات التغطية الإعلامية للحرب على أفغانستان، والتي كانت أولى الحروب الأمريكية في حقبة ما بعد 11 سبتمبر، فقد كان من المهم للقائمين على المجمع الصناعي العسكري توفير الأجواء الملائمة – على الأقل في الداخل الأمريكي- لشن حرب واسعة النطاق، وجرى بالفعل حشد كافة الأدوات المتاحة وفي القلب منها، بطبيعة الحال، الأدوات الفكرية والإعلامية، وهو ما ينسجم مع تقارير متعددة تشير إلى أن ذلك المجمع الصناعي العسكري كان الموجه الأول للحرب على أفغانستان، والمستفيد الأول من استمرارها، بعائدات بلغت أكثر من تريليون دولار وفق تقديرات متحفظة.

ولعل التحليل الذي قدمه القائد العسكري الأمريكي الجنرال ديفيد بترايوس حول الحرب في أفغانستان، وكيفية التعامل مع ما يصدر بشأنها من تغطيات، من أوضح ما يلخص فكر الإدارات الأمريكية المتعاقبة في "تسويق" الحرب في أفغانستان. فيشير بترايوس إلى الحرب على أفغانستان كانت "حرب السيطرة على الوعي، تدار باستمرار بالاستعانة بوسائل الإعلام الإخبارية"، ويضيف: "ما يهم في الواقع ليس المعارك اليومية ضد طالبان، وإنما كيف بيعت المغامرة في أمريكا، حيث تؤثر وسائل الإعلام مباشرة فى رأي الجمهور المهم"[1].

تناقضات الأداء:

ويبدو أن عوامل التحول الجوهرية التي عرفتها البيئة الإعلامية الأمريكية قد ساهمت على نحو ملموس في تغير أداء الإعلام الأمريكي. صحيح أن العديد من وسائل الإعلام الأمريكية حاولت على فترات متباعدة، وفي مواقف مختلفة، ممارسة دور الرقابة والمحاسبة لقرارات وسياسات الإدارة الأمريكية فيما يتعلق بالحرب في أفغانستان، وقدم العديد من المفكرين والصحفيين الأمريكيين جهدا ملموسا في هذا الصدد، ومنهم - كما استعرضنا-  صحفيون بارزون في الصحف الأمريكية الكبرى كالواشنطن بوست ونيويورك تايمز، كما نشرت وسائل أخرى تحقيقات متعمقة تناولت انتهاكات وجرائم ضد الإنسانية، ارتكبها الجيش الأمريكي في أفغانستان[2].

 فضلا عن انتقادات قوية ليس فقط لمجريات الحرب، بل لمدى صحة أهدافها، والعوامل الداعية لها، ويمكن هنا الإشارة إلى العديد من المقالات التي نشرها المفكر الأمريكي ناعوم تشومسكي لنقد سياسات اليمين الأمريكي والمحافظين الجدد.

إلا أن كل ذلك لم يفلح في بناء جبهة متماسكة مناهضة للحرب، يقودها الإعلام الأمريكي كما جرى في حرب فيتنام، على سبيل المثال. فقد اتسمت المعارضة الإعلامية الأمريكية للحرب على أفغانستان بكونها "معارضة جزئية" لا تمتد إلى هدف وشرعية التدخل في تلك الدولة الممزقة سياسيا واجتماعيا، والفقيرة اقتصاديا، أو مدى صحة الاتهامات الاستخبارية لارتباط أفغانستان بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، بل انساقت معظم وسائل الإعلام الأمريكية وراء اتجاه كاسح لدعم الهيمنة الإمبراطورية الأمريكية، وتأييد رد الفعل الانتقامي على الهجمات الإرهابية التي نالت كثيرا من الصورة الأمريكية في العالم.

كما اتسمت التغطية الإعلامية الأمريكية للحرب على أفغانستان بمجموعة من السمات التي يبدو أنها باتت من المحددات الثابتة في التغطيات الأمريكية للقضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية، ولعل في مقدمة تلك السمات "الانتقائية والتوجيه"، فيتم التركيز في التغطية على جملة من الوقائع الجزئية التي تستقطب الأضواء، بعيدا عن المسار الرئيسي لمجريات الأحداث، وبما يسهم في إغفال وقائع ربما تكون أكثر أهمية، لكنها لا تخدم السياسة الأمريكية، أو لا تتناسب وأولويات المصلحة التي تتصورها الوسائل الإعلامية.

ويبرز في هذا السياق تركيز العديد من وسائل الإعلام الأمريكية على بعض العمليات التي كانت تشنها حركة طالبان ضد القوات الأمريكية، أو استعراض قصص التضحية وسقوط العديد من الجنود الأمريكيين خلال مجريات الحرب، دون تطرق حقيقي لحجم وطبيعة العمليات التي تقوم بها تلك القوات على الأراضي الأفغانية، وأكثرها يقع في المناطق الريفية التي يقطنها ما يزيد على ثلاثة أرباع الشعب الأفغاني، وباستخدام طائرات قاذفة ومقاتلات أو بالطائرات الموجهة بدون طيار (الدرون)، الأمر الذي يتسبب في سقوط أعداد متزايدة من الضحايا من المدنيين دون تمييز بين الأهداف المطلوبة، والمدنيين الأبرياء.

زوايا متعمدة:

ويضاف إلى تلك الانتقائية والجزئية في التناول الإعلامي تغليب النظرة الثقافية الأمريكية في تحديد زوايا التغطية. فعلى سبيل المثال، يجري التركيز بوضوح على الزوايا التي تحظى باهتمام القطاعات الغالبة في المجتمع الأمريكي، حتى ولو لم تكن تلك الزاوية تحظى بالأولوية على أرض الواقع. فعلى سبيل المثال، نجد الغالبية العظمى من التغطيات تركز على واقع المرأة الأفغانية، وكيف ساهم "التدخل الأمريكي" في إنقاذها من وضع بائس كانت تعانيه في ظل حكم جماعة طالبان، بينما يجري تجاهل أن محنة تلك المرأة ليست سوى جزء من معاناة أكبر لمجتمع تقوده جماعة متشددة تطبق نسختها الذاتية من فهمها للدين.

وبينما تركز تغطيات لشبكات كبرى مثل CNNأو Fox Newsأو NBCعلى لقطات للجنود الأمريكيين وهم يقبلون ويحملون الأطفال الأفغان أو يوزعون الماء والحلوى على الأطفال الصغار، وهي مشاهد تخاطب النزعة العاطفية لدى الجمهور الأمريكي، لكنك لن تجد  في المقابل حضورا ذا بال لجرائم وانتهاكات إنسانية ترتكبها تلك القوات في العديد من الأقاليم الأفغانية. فبحسب أحدث تقرير للأمم المتحدة (نشر في 26 يوليو 2021)[3]حول الضحايا من المدنيين في أفغانستان، فإن نحو 5183 شخصا قد سقطوا جراء الحرب في الفترة من أول يناير من العام الجاري وحتى نهاية يونيو من نفس العام. اللافت أن غالبية هؤلاء الضحايا من المدنيين سقطوا بنيران القوات الأمريكية والدولية، أو على يد القوات الأفغانية التي يتولى الجيش الأمريكي الإشراف عليها وتدريبها، بينما كانت جماعة "طالبان" مسئولة عن سقوط  39% من هؤلاء الضحايا.

وبحسب التقرير الصادر مؤخرًا عن بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في أفغانستان (UNAMA) ، فقد سقط خلال السنوات الخمس الماضية ما يقرب من 4000 ضحية مدنية بنيران أمريكية أو بنيران القوات الأفغانية، حيث شكل الأطفال 40% من هؤلاء الضحايا، كما كشف تقرير صادر عن الأمم المتحدة لعام 2020 أن ما يقرب من نصف الأطفال الأفغان النازحين يعانون من سوء التغذية الحاد، ولديهم وصول محدود للغاية حتى إلى خدمات الرعاية الصحية الأساسية.

هذه الصورة وغيرها لا تحظى بالتركيز في التغطيات الإعلامية الأمريكية، خاصة الموجهة للداخل، لاسيما في ظل محدودية التغطية بشكل عام التي تمنحها تلك الوسائل للقضية الأفغانية، وهي وسيلة وأداة أخرى ربما تستخدم لصرف الانتباه عن القضايا التي يُراد لها أن تحتل أولوية متأخرة على أجندة اهتمامات المواطن الأمريكي، وربما يُرجع ذلك إلى طبيعة المواطن الأمريكي نفسه الذي يميل إلى التركيز على قضايا شديدة المحلية، ولا يعرف عنه ميل للاهتمام بالقضايا ذات الطابع الدولي، إلا إذا كان لها تماس واضح مع أولوياته الداخلية.

"أسطورة" الإعلام المستقل:

ولعل ذلك ما يفسر تراجع اهتمام الإعلام الأمريكي، خلال السنوات الأخيرة، بالوضع في أفغانستان، وهو ما رصدته العديد من التقارير البحثية، فقد أفاد مركز بيو للأبحاث أن تغطية عام 2010 لأفغانستان شكلت أقل من أربعة بالمائة من إجمالي التغطية الإخبارية، وربما تشهد مساحة التغطية ارتفاعا طفيفا خلال فترات الاهتمام الشديد بالأحداث المحيطة، مثل نشر موقع ويكيليكس للوثائق ذات الصلة، إلا أن السمة الغالبة، خلال السنوات الأخيرة، تشير إلى عدم تركيز وسائل الإعلام السائدة على الحرب في أفغانستان.

وثمة محاولات عدة لتفسير تحولات الدور والأداء الإعلامي الأمريكي فيما يتعلق بالحرب في أفغانستان، فيشير تيموثي مكارثي، المحاضر المساعد في كلية هارفارد كينيدي، إلى أن وسائل الإعلام فشلت في التشكيك بشكل حاسم في مبررات الحرب وأساسها المنطقي، لأن أعضاء وسائل الإعلام الأمريكية كانوا مرتبطين عاطفياً بأحداث 11 سبتمبر، مما قد يفسر إحجامهم عن تحدي أخلاقيات الصراع[4].

بينما يرى تيم كيلي المعلق والمستشار السياسي لدى مؤسسة مستقبل الحرية الأهلية الأمريكية، وهي مؤسسة تدافع عن حرية التعبير، أن الحديث عن صحافة أمريكية مستقلة توجد كقوة موازنة لسلطة الحكومة ، بات  بمثابة "أسطورة"، خصوصاً فيما يتعلق بحروب الحكومة الأمريكية وغزواتها وتدخلاتها الخارجية، وبدلاً من أن يحرص الصحفيون والمراسلون على إبقاء الرأي العام حسن الاطلاع، فإنهم كثيراً ما يعملون كأقنية لدعاية الحكومة فى أثناء السير نحو الحرب[5].

ولا تقتصر المسألة فقط على مواقف شخصية أو توجهات ترتبط بمصالح وسيلة إعلامية هنا أو هناك، فالأمر يبدو عمديا وتتم ممارساته بشكل مؤسساتي. ففي عام 2008، تم الكشف عن برنامج سري للبنتاجون شمل استخدام ضباط عسكريين متقاعدين من أجل عرض وجهات نظر مؤيدة للحرب عبر وسائل الإعلام، وقد تلقى الضباط تعليمات بأن يقدموا أنفسهم إلى الجمهور خلال برامج إخبارية ومقابلات على أنهم محللون مستقلون علماً بأن مسئولي البنتاجون لقنوهم ما يجب أن يقولوا.

الأمر إذن يتجاوز خانة الأخطاء أو التقصير الإعلامي في تغطية حروب أمريكا في العالم، بل إن الأمر وبشكل حاسم، يشير إلى أن تلك النظرة القديمة لمنظومة عمل الإعلام الأمريكي، وربما في المنظومة الرأسمالية بشكل عام، باتت بحاجة إلى المزيد من المراجعة والتدقيق، في ظل متغيرات جوهرية وتحولات حقيقية، لم تعد تقتصر فقط على محددات الأداء وأدواته، ولكن تمتد أيضا إلى طبيعة الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام على اختلاف أنماطها ووسائطها في خدمة مؤسسات صنع القرار في تلك المجتمعات، وارتباطها الواضح بتوجهات جماعات الضغط والمصالح، التي بات تأثيرها يتجاوز السياسة، وصارت لاعبا مركزيا في ساحات الإعلام وبناء الأفكار.

الهوامش:

 

[1]أنظر: نيثان غردلز ومايك ميدفواي، "الإعلام الأمريكي بعد العراق: حروب القوة الناعمة"، ترجمة: بثينة الناصري، القاهرة، المركز القومي للترجمة، العدد 2065، ط 1، 2015، ص 14.

[2]راجع في هذا الشأن ما كشفته مجلة نيوزويك في 27/8/2002، حول قتل أكثر من 3 آلاف أسير أفغاني استسلموا لقوات التحالف الشمالي الموالية للولايات المتحدة، وكذلك التحقيقات التي نشرتها المجلة حول موت المئات من الأفغان خنقا في حاويات معدنية أثناء نقلهم إلى المعتقلات.

 

[4]لمزيد من التفاصيل أنظر: Afghanistan in the Media:

https://harvardpolitics.com/afghanistan-in-the-media/

 

[5]راجع مقال الإعلام الأمريكي والحرب: https://bit.ly/3o6pL4v

طباعة

    تعريف الكاتب

    د.أسامة السعيد

    د.أسامة السعيد

    كاتب ومحاضر إعلامي، نائب رئيس تحرير جريدة الأخبار