تحليلات - شئون اقتصادية

الهيدروجين الأخضر.. هل يكون منقذ العالم الجديد؟

طباعة

مستقبل الطاقة في جميع بلدان العالم هو أمر حيوي للغاية، يشغل جميع العاملين في مجال الطاقة العالمية، حيث تنضب سريعاً المصادر التقليدية والمعروفة بالطاقة غير المتجددة، ويسعى العالم بجدية بالغة فى البحث عن مصادر آمنة بديلة للطاقة. ففي غضون خمسين سنة قادمة على الأكثر ستنضب إلى غير رجعة كل المخزونات العالمية من النفط والغاز الطبيعي.

تمر صناعة الطاقة بمرحلة فريدة من نوعها خلال هذا القرن، ذات تحديات ثلاثة، الأول هو هيمنة الوقود البترولي على تغذية الصناعات ووسائل النقل؛ يقترب استهلاك النفط حالياً من ۱٠٠ مليون برميل يومياً، وفي ارتفاع مستمر، رغم جائحة كورونا، كما تدل على ذلك حركة الأسواق من عرض وطلب حالياً، والثاني جدية المحاولات العالمية للتعامل مع التغير المناخي بإحلال طاقات خضراء مستدامة بدلاً من الوقود الأحفوري الذي يعتبر مصدراً أساسياً للانبعاثات المؤدية للاحتباس الحراري، بينما التحدي الثالث والأخير هو بناءً على التجارب التاريخية لعمليات التحول من طاقة إلى أخرى، يتوقع ابتداءً من منتصف هذا القرن تقريباً، بروز مرحلة هجينة، حيث سيستمر استهلاك النفط خاصة بعد معالجته لسحب ثاني أكسيد الكربون منه؛ الأمر الذي سيؤدي إلى استمرار استهلاك النفط الأخضر، ولكن بانخفاض الطلب عليه، ومن ثم انخفاض سعره، كما يتوقع استمرار استهلاك الغاز الطبيعي، خاصة بعد سحب ثاني أكسيد الكربون منه أيضاً، لكن في الوقت نفسه، يبرز وقود جديد صديق لمرحلة صفر الانبعاثات.

وهناك أبحاث عديدة تجري حالياً للعثور على الوقود الأمثل، ومن المتوقع، بناءً على كثافة التجارب العلمية والأموال المخصصة للأبحاث، بالذات في هذه المرحلة العلمية مع الاهتمام بالذكاء الصناعي، التوصل إلى اكتشافات جديدة نحو ضعف ما هو متوافر حالياً، يتم التركيز الآن على الهيدروجين الأخضر كوقود للمستقبل، مما يعني أننا بصدد مرحلة هجين من وقود الطاقة المتوائم مع نظم وقوانين البيئة الجديدة، الهيدروجين الأخضر والنفط والغاز (من دون ثاني أكسيد الكربون) والطاقة الهيدروكهربائية.

لكن ماذا نعرف عن الهيدروجين الأخضر؟

من المتعارف عليه أن الماء هو الناتج الثانوي الوحيد لعملية احتراق الهيدروجين، ولهذا ظل الهيدروجين، على مدى عقود طويلة، مُغريًا للعلماء باعتباره مصدرًا للطاقة خاليًا من الكربون، إلا أن عمليات إنتاج الهيدروجين التقليدية، التي تعتمد على تعريض الوقود الأحفوري للبخار، أبعد ما تكون عن الخلو من الكربون، ويُطلق على الهيدروجين الناتج بهذه الطريقة الهيدروجين الرمادي، وفي حال عزل ثاني أكسيد الكربون عنه، يُعرف بالهيدروجين الأزرق.

أما الهيدروجين الأخضر، فأمره مختلف؛ إذ يجري إنتاجه عن طريق التحليل الكهربائي باستخدام آلاتٍ تعمل على تحليل الماء إلى عنصري الهيدروجين والأكسجين، دون أي نواتج ثانوية أخرى، وكان التحليل الكهربائي يتطلب، في المعتاد، استهلاك قدر كبير جداً من الطاقة الكهربائية، إلى الحد الذي جعل من غير المعقول إنتاج الهيدروجين بتلك الطريقة، ولكن قد شهد الوضع الآن تغيُّرًا يُعزى إلى سببين: أولهما توافر فائض من الكهرباء المتجددة بكميات كبيرة في شبكات توزيع الكهرباء؛ فعوضًا عن تخزين الكهرباء الفائضة في مجموعات كبيرة من البطاريات، يمكن الاستعانة بها في عملية التحليل الكهربائي اللازم للماء، ومن ثم تخزين الكهرباء في صورة هيدروجين، وأما السبب الآخر، فيرجع إلى ما تشهده آلات التحليل الكهربي من زيادة في كفاءتها.

وتسعى الشركات سعيًا حثيثًا إلى تطوير آلات التحليل الكهربي التي بإمكانها إنتاج الهيدروجين الأخضر بالتكلفة ذاتها التي ينتج بها الهيدروجين الرمادي والأزرق، وهو الهدف الذي يتوقع المحللون أن تتمكن الشركات من تحقيقه خلال السنوات القليلة القادمة، وفي الوقت نفسه، شرعت شركات الطاقة في الاستعانة بآلات التحليل الكهربي مباشرة في مشروعات الطاقة المتجددة، ومن المتوقع أن يصل إلى تكلفة الهيدروجين الرمادي في غضون ١٠ سنوات، وأرخص بنسبة ٢٠ إلى ٤٠٪ بحلول عام ٢٠٥٠ بحسب مؤسسة بلومبيرج للخدمات الإخبارية والإعلامية والمعلومات المالية (BNEF).

الهيدروجين الأخضر منقذ العالم:

لماذا تلتفت الأنظار صوب الهيدروجين ويتم التعامل معه بوصفه منقذ العالم من الوقود الأحفوري؟، تسأل بلومبيرج، ويكمن السبب في أن احتراقه لا يتسبب إلا في انبعاث بخار ماء بدلا من الغازات الدفيئة الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري.

تخزين الهيدروجين:

وتقول بلومبيرج أن استخدام تقنية التحليل الكهربائي تعني أن الطاقة الكهربية الزائدة المولدة من مصادر الطاقة المتجددة سيتسنى تخزينها عبر تحويلها إلى الهيدروجين الأخضر. وعند الحاجة يمكن تحويل الأخير إلى الكهرباء، ويتم تنفيذ مشروع استخدام الهيدروجين الأخضر في تخزين الطاقة حاليا على يد شركة سنايبر الألمانية بالمشاركة مع شركة بي بي البريطانية، ويتم ضمن هذا المشروع استخدام الرياح في توليد طاقة تصل إلى١٠٠ ميجا وات، وتعادل هذه الكمية الطاقة المولدة بواسطة وحدة توليد صغيرة.

الهيدروجين الأخضر ومستقبل الطاقة النظيفة والدور المتوقع له:

تدرك الحكومات أهمية تطوير تقنية الهيدروجين الأخضر، وما يترتب عليه من التزامات تمويلية وسن اللوائح والسياسات. على سبيل المثال، تعهدت وزارة الطاقة الأمريكية في العام الماضي بتقديم ١٠٠ مليون دولار على مدار خمس سنوات لتعزيز أبحاث تطوير تقنية خلايا الهيدروجين وخلايا الوقود، كما أشارت الحكومة الأمريكية إلى أنه في غضون عقد من الزمن، يجب أن يكون الهيدروجين الأخضر متاحاً بنفس تكلفة الهيدروجين التقليدي، ويشكل الهيدروجين الأخضر أيضاً جزءًا مهمًا من أهداف الصفقة الأوروبية الخضراء، بإنشاء اقتصاد محايد للكربون بحلول عام ٢٠٥٠، وسيتطلب الأمر خطوات جريئة لإزالة الكربون من الكثير من الصناعات لتحقيق هدف الحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية في هذا القرن إلى ما دون الدرجتين مئوية، ويمكن أن يلعب الهيدروجين الأخضر دوراً رئيسياً في هذه المعادلة، الأمر الذى يؤكد على ضرورة التوجه الآن لجعله المصدر الأكثر أهمية في مزيج الطاقة النظيفة ومستقبل العالم.

وللهيدروجين استخدامات كثيرة في الصناعة، لكن إمكانات استخدامه لإنتاج الطاقة هو أكثر ما يثير اهتمام العلماء، وكذلك الحكومات حاليًا>

الهيدروجين كمصدر مباشر للطاقة: يمكن مزج الهيدروجين في شبكات الغاز الطبيعي القائمة، لاسيما في المدن ذات الكثافة السكانية العالية، وقد أثبتت العديد من الدراسات أنه يمكن استخدام الهيدروجين مباشرة ومزجه مع الغاز الطبيعي بنسبة تصل إلى ۲٠٪ دون تغيير في البنية التحتية وشبكات الغاز الحالية.

أهمية الهيدروجين في تخزين الطاقة: في المناطق الغنية بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والتي يعد توليد الكهرباء فيها أرخص كثيرًا من الكهرباء القائمة على الوقود الأحفوري وتقترب أسعار الهيدروجين الأخضر الناتج عن التحليل الكهربائي كثيرًا من أسعار الهيدروجين الرمادي؛ فيمكن تحقيق أقصى استفادة من المصادر المتجددة التي يعتمد إنتاجها على عوامل مناخية متغيرة، مثل سرعة الرياح أو سطوع الشمس، وزيادة تكلفة تخزينها بالطرق الأخرى، مثل البطاريات، في استخدام هذه الطاقة في توليد الهيدروجين واستخدامه لاحقًا كمصدر للطاقة. ويمكن للهيدروجين أيضًا أن يعمل كناقل للطاقة التي يتم إنتاجها من المصادر المتجددة، حيث يتم إسالة الهيدروجين وتخزينه في خزانات معينه ونقله أو تصديره إلى مسافات بعيدة.

الهيدروجين في النقل والمواصلات :يستخدم الهيدروجين كوقود للطائرات والسيارات والقطارات، تلك التي تعمل من خلال خلايا الوقود الهيدروجينية، والتي تعتمد فكرة عملها على تفاعل كهروكيميائي يتم داخل الخلية لإنتاج طاقة تستخدم في وسائل المواصلات تلك مع عدم وجود أي انبعاثات، وتبقى المنافسة بين شركات إنتاج خلايا الوقود بأنواعها في تقليل التكلفة وزيادة الكفاءة، وتقليل الحجم مع زيادة القدرة، وكذا سرعة الانتشار، كما يعد الهيدروجين كوقود أحد الخيارات الواعدة في نقل الشاحنات نظرًا لكثافته الضئيلة التي تجعل وزنه منخفضًا، والزمن القصير اللازم لتعبئته مقارنة بزمن شحن البطاريات المستخدمة في السيارات الكهربائية.

ويمكن أن يلعب الهيدروجين الأخضر دورًا مهمًا في استراتيجيات إزالة الكربون، خاصةً عندما تعانى الكهرباء المباشرة صعوبة في القطاعات كثيفة الاستهلاك، مثل الحديد والصلب والكيماويات، والنقل لمسافات طويلة، والشحن والطيران وغيرها، كما يمكن أن يساعدنا الهيدروجين الأخضر في بناء نظام طاقة مرن يقوم على التقنيات الحديثة، ويتبنى الحلول المبتكرة، ويعد المصدر الأقوى لتخزين الطاقة، خاصة تلك المنتجة من المصادر المتجددة، والتي يصعب تخزينها أو يتطلب تخزينها بطاريات بتكلفة عالية تعوق استخدامها.

هل يساهم الهيدروجين الأخضر في تحول الطاقة عالمياً:

تدور النقاشات العالمية فى الوقت الراهن حول تحديات لا تزال تواجه الطموح العالمي لزيادة تمثيل الهيدروجين الأخضر في مزيج الطاقة العالمي في المستقبل، ولعل أبرزها يتمثل في تكاليف إنتاجه المرتفعة التي تعتمد فى نهاية المطاف على أسعار توليد الكهرباء عن طريق مصادر الطاقة المتجددة، علاوةً على التكلفة الاستثمارية للمحلل الكهربائي، وهي حاليًا أعلى مرتين أو ثلاث من تكلفة الوقود الرمادي، مما يجعل الأخير أكثر جاذبية للمستخدمين حتى الآن.

تحدي خفض التكلفة:

تتبنى شركات أوروبية، مثل شركة جازبروم، واير ليكود، وسيسان كروب، ورويال دويتش شل، مشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر، وتثق هذه الشركات في نجاح تكنولوجيا إنتاج هذا الغاز، ويظل التحدي الأكبر هو تخفيض التكلفة التي تتراوح حالياً بين ٢ دولار و٧ دولارات لكل كيلو جرام، حسب تحليل بلومبيرج، والمطلوب تخفيض هذه الأسعار لتصل إلى ما دون ٢ دولار حتى يصبح الهيدروجين قادراً على منافسة الفحم وإلى ٦٠ سنتا حتى يمكنه منافسة الغاز الطبيعي كمصدر نظيف للطاقة، والتحدي الآخر الذي يواجه الاعتماد على الهيدروجين الأخضر هو الخطر المتوقع جراء زيادة الأحمال على شبكة الكهرباء التي تتحمل بالفعل عبء توفير الكهرباء لاستخدامه في تسيير أشياء أخرى، مثل السيارات الكهربائية.

خطوات مصر الجادة نحو إنتاج الهيدروجين الأخضر:

بدأت العديد الدول العربية في الدخول إلى مجال طاقة الهيدروجين، خاصة الإمارات والمغرب، حيث اعتمدت دولة الإمارات مشروع الهيدروجين الأخضر في مجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية لإنتاج هيدروجين من حقل مركزات شمسي  CSPبقدرة 1.3 ميجاوات، وستصل القدرة الإجمالية إلى ٥۰۰۰ ميجاوات بحلول عام ۲۰٣٥ باستثمارات تصل إلى ۱٤ مليار دولار، كما يتم التعاون بين المغرب وألمانيا حاليًا، حيث تم توقيع اتفاقية إنتاج الهيدروجين الأخضر بهدف إجراء مشروعات بحثية واستثمارية، حيث إن الموقع المميز للمغرب يؤهلها للربط بين إفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط، من خلال توافر شبكات وأنابيب النقل والبنية التحتية اللازمة، حيث تم الإعلان عن مشروعين:

· مشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر للقطاع الصناعي.

· مشروع منصة أبحاث الهيدروجين الأخضر.

وليست مصر ببعيدة عن الموقف العالمي للطاقة، بل ينعكس فيها الموقف العالمي بواقعية شديدة، يتعمق فيها هذا المأزق عينه على نحو بالغ الخطورة. فمصر من أكبر بلدان المنطقة من حيث عدد السكان، وبالتالي فإنها تواجه زيادة كبيرة في الطلب على الطاقة نتيجة تسارع وتيرة النمو السكاني والتوسع الاقتصادي، ويفرض ذلك طموحات وتحديات كبيرة لضمان الحفاظ على إمدادات الطاقة بشكل آمن ومستقر، ويمكن لمصر الاستفادة من موارد الطاقة المتجددة ليس لتلبية حاجتها من الطاقة وحسب، وإنما لضمان نمو اقتصادي مستدام، وتوفير فرص عمل جديدة، والمساهمة في تحقيق الأهداف العالمية بخصوص المناخ والتنمية المستدامة. فالتنمية الاقتصادية في مصر تعتمد على قطاع الطاقة، والذى يمثل ۱٣٪ من الناتج المحلى الإجمالي، أدركت مصر الدور المهم الذي يمكن أن يلعبه الهيدروجين في قطاع الطاقة المصري، وكذلك دوره الفعال في تحقيق المكانة العالمية لمصر من خلال كونها مركزًا إقليميًا للطاقة بكل أشكالها، لذلك شكلت الحكومة المصرية لجنة خاصة بمشاركة الجهات المعنية والأطراف الفاعلة الوطنية والدولية لوضع استراتيجية وطنية كيفية الاستغلال الأمثل للهيدروجين، وبحث كافة أشكال التعاون لتحقيق الاستفادة القصوى من الإمكانيات المصرية في إنتاج وتخزين ونقل وتصدير الهيدروجين، خاصة مع أوروبا.

وأخيراً، يحظى الهيدروجين الأخضر باهتمام دولي متزايد في الفترة الحالية، بحسبان أنه وقود نظيف ويمكن أن تساند الجهود العالمية المبذولة حاليًا لتخفيف الانبعاثات الكربونية العالمية، وتوفر البنية التحتية المصرية الحالية، مثل شبكات الغاز الطبيعي، فرصًا كبيرة لإنشاء وتوسيع الطلب على الهيدروجين، خاصة الهيدروجين الأخضر، والذي من خلاله يتم الاستفادة من مصادر الطاقة المتجددة الأقل تكلفة وتقليل الانبعاثات، كما يمكن تطوير السياسات واللوائح التي تدعم مزج الهيدروجين في شبكات الغاز، مع مراعاة معايير حدود المزج في شبكات الغاز الطبيعي، وأمان استخدام التطبيقات الجديدة، خاصة في القطاعات المنزلية والصناعية. وفي شهر يناير الماضي، وقع الدكتور محمد شاكر، وزير الكهرباء والطاقة المتجددة، والسيد جو كيزر، الرئيس التنفيذي لشركة سيمنس، اتفاق نوايا للبدء في المناقشات والدراسات لتنفيذ مشروع تجريبي لإنتاج الهيدروجين الأخضر بقدرة ۱۰۰ ميجاوات في مصر كخطوة أولى نحو التوسع في هذا المجال، وصولًا إلى إمكانية التصدير.

ويمكن القول إن الرهان على تعزيز الجدوى الاقتصادية لاستخدام الهيدروجين الأخضر عالميًا يتوقف على مساندة منظومة الابتكار العالمية الداعمة لخفض التكلفة الاستثمارية والتشغيلية لإنتاج ذلك الوقود النظيف، على نحو يجعله مستقبلًا أكثر جاذبية بالنسبة للمستخدمين النهائيين في مختلف الأنشطة الاقتصادية.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د . أحمد سلطان

    د . أحمد سلطان

    مهندس استشارى- رئيس لجنة الطاقة بنقابة مهندسين القاهرة