في ضوء التحديات التي يواجهها النفوذ الفرنسي التقليدي مؤخراً في إفريقيا عامة، ومنطقة الساحل خاصة، يأتي مؤتمر باريس لدعم المرحلة الانتقالية في السودان كمحاولة فرنسية لتعزيز النفوذ التقليدي في تلك المنطقة ذات الأهمية الجيوسياسية، حيث تواجه باريس تحديات متعددة الأوجه، خاصة على المستوى الأمني. فالمنطقة، التي تُشكل خط دفاع فرنسي في مواجهة التهديدات الأمنية للقارة الأوروبية، تشهد مؤخراً تنامياً ملحوظاً ومُكثفاً لنشاط التنظيمات الإرهابية، فضلاً عن حالة السيولة الأمنية والسياسية التي تشهدها عدة دول في تلك المنطقة الاستراتيجية، وما يترتب عليها من موجات نزوح  وهجرة غير شرعية إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، ثم جاءت جائحة كوفيد – 19، لتبطئ من وتيرة الخُطط الفرنسية لدعم دول منطقة الساحل، خاصة فيما يتعلق بدعم وتدريب قوى الأمن في دول المنطقة، مما يفرض تحدياً نوعياً لأمن أوروبا عامة وفرنسا خاصة.

مؤتمر باريس: هل يمثل إعادة تموضع للنفوذ الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء؟

يحظى السودان بأهمية خاصة لدى باريس بحكم موقعه الذي يمثل مركزاً حاكماً للتفاعلات الإقليمية، ونقطة تماس جغرافي تضعه في القلب بين مناطق الساحل والقرن الإفريقي والبحر الأحمر والشرق الأوسط، وهى كلها مناطق ذات أهمية جيو-ستراتيجية، تمتلك باريس فيها العديد من المصالح الحيوية الأمنية والسياسية والاقتصادية، ومن هنا رأت باريس في الخرطوم نقطة انطلاق غاية في الأهمية لتعزيز وجودها التقليدي في تلك المناطق، خاصة في الوقت الذي تشهد فيه باريس تحركات معادية تستهدف تقويض نفوذها التقليدي، خاصة الدور الروسي المتزايد والمنخرط بكثافة مؤخراً في منطقة الساحل الإفريقي، مما يشكل تهديداً للوجود والنفوذ الفرنسي المتوارث من الحقبة الاستعمارية، الأمر الذي دفع باريس للقيام بجهود حثيثة لحماية نفوذها فى المنطقة، حماية لمصالحها الحيوية، وذلك عبر تكثيف جولاتها الدبلوماسية، وزيادة انخراطها الأمني والعسكري في خطوات فرنسية مُمنهجة تهدف إلى إعادة هيكلة وانتشار النفوذ الفرنسي في تلك المناطق، خاصة في ضوء التطورات السلبية المتسارعة التي تشهدها الأوضاع الأمنية في منطقة الساحل، والتي كان آخرها مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي حليف باريس الرئيسي في المنطقة، مما شكل جرس إنذار وتهديدا حقيقيا للمصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية الفرنسية في تلك المنطقة، الأمر الذي خلق دافعاً لباريس للمُضي قُدماً فى خُطط للانخراط الحثيث  في الشأن السوداني، من خلال الوجود في المشهد السوداني كعنصر فاعل ومؤثر  عبر تقديم الدعم السياسي الكامل للمرحلة الانتقالية في السودان، وهو ما أعلنته باريس منذ بداية خُطوات تلك المرحلة، في محاولة فرنسية لإعادة ترتيب أوراقها بكسب أرضية جديدة على رقعة منطقة الساحل ذات الأهمية الجيوستراتيجية.

في سياق مختلف، تأتي استضافة باريس لمؤتمر دعم المرحلة الانتقالية في السودان كخطوة استباقية لخلق نفوذ اقتصادي فرنسي بالسودان، حيث يُمثل المؤتمر فرصة مواتية لوضع موطئ قدم اقتصادي لباريس في السودان الجديد، خاصة بعد رفعه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، حيث تسعى فرنسا للاستفادة من إعادة فتح السوق السوداني أمام المجتمع الدولي، من أجل ضخ المزيد من الاستثمارات الفرنسية في السوق السودانية الواعدة، وهو ما يُفسر الدعم الفرنسي الواضح للسودان في هذا الصدد، والذي ظهر خلال تصريح وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير بأن فرنسا ستُقرض السودان مبلغ قدره 1.5 مليار دولار كقرض تجسيري لسداد متأخراته من الديون لدى صندوق النقد الدولي، كما قامت باريس في السابق بسداد متأخرات السودان المُستحقة للبنك الدولي وبنك التنمية الإفريقي، وهو ما يُظهر باريس كداعم رئيسي للاقتصاد السوداني، الأمر الذي يمهد لخلق وجود فرنسي مستدام في السودان، يحقق أهدافاً استراتيجية طويلة المدى ومتعددة الأوجه والأبعاد لباريس، أملاً في أن يكون السودان المُستقر محطة دعم للنفوذ الفرنسي المُهدد في منطقة الساحل، خاصة في ظل انجراف تلك المنطقة نحو حالة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي بما يهدد المصالح الحيوية الفرنسية.

الفرص السياسية والاقتصادية للسودان من مؤتمر باريس:

على صعيد آخر، يمثل مؤتمر باريس خُطوة شديدة الأهمية للسودان في طريقه نحو إنهاء عزلته السياسية والاقتصادية في المجتمع الدولي، حيث يهدف السودان من المؤتمر إلى إعفائه من أكبر قدر من ديونه الخارجية، مما يجعله مؤهلاً للحصول على تمويلات دولية بتكلفة أقل لتجاوز تعثر الاقتصاد السوداني وتحسين مؤشراته، فضلاً عن أن مؤتمر باريس يمثل فرصة غاية في الأهمية لجذب شراكات استثمارية ضخمة في مجالات الطاقة والتعدين والبنية التحتية والزراعة، وهو ما يُشكل خُطوة بالغة الأهمية للخرطوم من أجل إنجاح المرحلة الانتقالية، مما يجعل من ذلك المؤتمر نقطة فارقة جديدة في علاقات السودان السياسية والاقتصادية الدولية، الأمر الذي يضعه في مكانه الطبيعي كعنصر دعم وإسناد للاستقرار والأمن الإقليميين.

ختاماً، يعد مؤتمر باريس بمنزلة طوق نجاة وفرصة هامة لإعادة تموضع النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل، عبر تأسيس وجود ونفوذ فرنسي في السودان، والذي كان في الماضي خارج دائرة النفوذ الفرنسي التقليدي، مما يكشف بوضوح عن خُطط عاجلة لباريس تسعى حثيثاً  من خلالها إلى مجابهة التحركات المعادية لها ( الدور الروسي نموذجاً)، والتي تسعى أيضا للحد من النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل، وهو ما جعل باريس تفكر في نقاط نفوذ جديدة تستخدمها كمحطة دعم وإسناد لوجودها في المنطقة، في ضوء التوترات المتسارعة التي شهدتها منطقة الساحل مؤخراً، خاصة في دولة تشاد، التي لديها حدود مشتركة مع السودان، مما يرشح السودان ليكون نافذة جديدة تعزز من خلالها باريس وجودها ونفوذها في منطقة الساحل التي تمثل عمقاً استراتيجياً لها.