تحليلات - وطن عربي

التحركات السعودية نحو إعادة إنتاج‮ "‬اتفاق الطائف اللبنانى‮" ‬فى اليمن.

طباعة

تزامنًا مع  الذكرى السادسة لاندلاع "عاصفة الحزم - مارس 2015"، أعلنت المملكة العربية السعودية اعتزامها إعادة الدفع بمسار السلام وطرح "مبادرة تسوية" لحلحلة الأزمة اليمنية، وهو ما لقى تأييداً إقليمياً من كافة دول المنطقة، وفى مقدمتها القاهرة، وتأييد دولى تم الإعلان عنه بشكل رسمى من جانب الولايات المتحدة، وكذلك من جانب الكتلة الأوروبية على هامش اجتماع "حلف الناتو" فى 24مارس 2021 مقابل رفض الميليشيات الحوثية والدولة الايرانية لتلك المبادرة بذريعة أنها لا تحقق المطلوب فى ظل حجم التغيرات السياسية والاستراتيجية والميدانية التى طرأت على خريطة التحولات اليمنية، ليدفعنا بذلك نحو التساؤل حول حجم التغيرات النوعية بـ "المسألة اليمنية"، ودلالات وسياقات "التحركات السعودية"، وكذلك مؤشرات نجاح / إخفاق تلك التحركات والمسارات المُحتملة مستقبلا.

دلالات زمنية:

منذ بداية الصراع فى اليمن، تعددت المبادرات الرامية لإنهاء الإقتتال، والتوصل إلى حل سياسي، والدفع بمسار "التسوية السلمية"، ولكن كل تلك التحركات لم تنجح في إحراز تقدم فعلي في صناعة السلام.

فى المقابل، ثمة انفراجة بالمؤشرات الحيوية، والتى تؤهل لإمكانية خفض التصعيد فى اليمن، وهو ما دفع بالمملكة السعودية لتجديد "الطرح السياسي"، استنادا إلى عدد من المحددات، أهمها: 

- إدراك كافة الأطراف المحلية والإقليمية المنخرطة بـ "المسألة اليمنية" أنه لا بد من اختراق دائرة "الصراع المعلق" الذي لا يمكن حسمه عسكرياً -خاصة بعد تأزم الأوضاع الإنسانية والسياسية والميدانية-؛ فالحكومة الشرعية لا تمتلك القدرة البشرية على التغلغل في نطاقات سيطرة "الحوثيين" برغم الدعم المقدم لها من "التحالف العربى". بينما قوات أنصار الله فلا تستطيع الانتشار بصورة مكشوفة تجنباً للضربات الجوية، فهي تفتقر لمضادات الطائرات ولغيرها من الوسائل اللازمة لتأمين سيطرتها على الأرض برغم حجم التسليح المدعوم من إيران.

- تسعى إدارة بايدن إلى إنهاء الحرب في اليمن "سياسياً"، إذ يولي فريق بايدن أهمية قصوى للملف الإنساني لاعتبارات تتعلق بعودة واشنطن إلى ممارسة "دبلوماسية المبادئ - Principled Diplomacy. "، وهو ما انعكس بصورة أكثر تفصيلا بالخطاب الرئاسي حول السياسة الخارجية الأمريكية الذي ألقاه بايدن في فبراير 2021 حول "ملامح الاستراتيجية الأمريكية لفرض التسوية في اليمن"، إذ انتهى إلى عدة نقاط، أهمها: إنهاء الدعم الأمريكي للعمليات الهجومية للحرب في اليمن بما في ذلك مبيعات الأسلحة ذات الصلة، وتهيئة الظروف القانونية لبلورة حل دبلوماسي عبر نزع صفة الإرهاب عن "الحوثيين"، وإلغاء القرار الذي أصدرته الخارجية الأمريكية في أواخر رئاسة ترامب حول تصنيفهم جماعة إرهابية، وما يترتب على ذلك من تداعيات مختلفة. بالإضافة إلى التعهد الأمريكي بالالتزام بحماية السعودية من الهجمات التي يقوم بها الفاعلون العنيفون من دون الدول، وفى مقدمتهم "جماعة الحوثيين".

- تفعيل واشنطن لمعايير "الدبلوماسية القصوى" عند الحديث حول اتفاق نووي مع إيران، مما سيُخضع كل الملفات التي تنخرط فيها إيران للمراجعة، وعلى رأسها الملف اليمني. فعلى سبيل المثال:  يتم الضغط نحو إيقاف الدعم "الاستشاري" المعلن وغير المعلن الذي يوفره الحرس الثوري الإيراني للحوثيين كنوع من إثبات "حسن النوايا" الإيرانية، ورغبتها في انتهاج "سلوك توافقى" مع محيطها الجيوسياسي. إذ برغم إعلان طهران أنه لا نقاش حول سياساتها الإقليمية إلا أن الخبرة التاريخية والعملية تثبت أن التوافق على قضية حساسة يعقبها انفراجة في القضايا الأخرى.

رسائل سعودية:

فى خطوة نحو كسر "جمود العملية السياسية" في اليمن، في ظل إجماع دولي على أهمية تسريع إنهاء الأزمة اليمنية، دفعت المملكة العربية السعودية بمباردة لإنجاز خطوات جادة نحو "التسوية السلمية"، ترتكز بنودها الأربعة على: "وقف شامل لإطلاق النار فى جميع أنحاء البلاد تحت إشراف الأمم المتحدة بمجرد موافقة الحوثيين على المبادرة، وتخفيف القيود على ميناء الحديدة، مع تحويل إيرادات العوائد الجمركية إلى حساب مشترك فى البنك المركزى بالحديدة، وفتح مطار صنعاء لعدد من الوجهات الإقليمية والدولية، وإعادة إطلاق المحادثات السياسية لإنهاء الأزمة". إذ جميعها بنود تدفع بتوطئة عدد من الملفات "السياسية والاقتصادية والإنسانية"، والتمهيد لمسار التسوية السياسية، فى إشارة ضمنية لعدد من الرسائل، أبرزها: 

1- رسائل للأطراف الداخلية:

- تجديد الأهداف: إذ تتزامن التحركات السعودية "مبادرة التسوية" مع الذكرى السادسة لعاصفة الحزم، التي انطلقت في 26 مارس 2015 بقيادة السعودية لدعم الشرعية في اليمن، لتكون بمثابة إعادة تذكير للمجتمع الدولي بأهداف التحالف الرامية لتحقيق السلام. فعلى سبيل المثال: نجحت قوات التحالف في تمكين قوات الشرعية من استعادة عدد كبير من المدن والمحافظات اليمنية من سيطرة الحوثيين، إلى جانب تطهير العديد من المدن والقرى من فلول وعناصر تنظيمي القاعدة و"داعش" في اليمن.

 تأكيد النوايا: إذ إن التحركات السعودية بمثابة رسالة تأكيد على مبدأ "حسن النوايا" لدى المملكة السعودية، وإختبار لمدى جديتها فى إيجاد صياغات تمهيدية للتوصل لحل سياسي للأزمة اليمنية يراعى بالمقام الأول "الأبعاد الإنسانية"- جنبا إلى جنب- مع تسوية المسارات الاقتصادية والسياسية. 

- استحقاق مرحلى: مبادرة التسوية المطروحة تشتمل على خطوات تنفيذية تبدأ بوقف شامل لإطلاق النار، تمهيدا للتفاوض، وإحداث خرق بمسار التسوية السياسية، بينما عملية "وقف الحرب" نهائياً تتطلب استحقاقات أوسع تبدأ بالتوافق حول بنود المبادرة، وإطلاق مسار جديد للتسوية. والتمهيد لتشكيل سلطة سياسية/ وطنية جديدة على الأرجح أقرب إلى اتفاق "السلم والشراكة" الذى سبق عرضه، بالتزامن مع استيلاء الميليشيا الحوثية على صنعاء، وتم تضمينه فى اتفاق المبادرة الخليجية.

- التماهى مع الأطراف: عمدت بنود "المبادرة السعودية" على خلق مساحات مشتركة مع الأطراف المتداخلة بالملف اليمنى. فعلى سبيل المثال: تخفيف القيود على ميناء الحديدة ومطار صنعاء يتقاطع مع ما سبق وطالبت بها الميليشيا الحوثية، لكن وفق ضوابط، ففتح مطار صنعاء لا يعنى العودة إلى استئناف الرحلات إلى إيران أو لبنان حتى لا يعاد فتح الأجواء أمام الأولى ووكلائها الإقليميين لتوفير مزيد من الدعم العسكرى الإيرانى، أو عبر حزب الله للميليشيا الحوثية. كذلك، تحمل دلالات عملية تقاسم العوائد الجمركية فى ميناء الحديدة على التخلى عن سياسة "الفصل الاقتصادى" بعد نقل البنك المركزى التابع للشرعية إلى عدن.

2- رسائل للقوى الإقليمية:

- محاصرة التهديدات الجيوسياسية: إذ أصبحت الساحة اليمنية تُشكل جزًا من الاشتباك الجيوسياسي بين الطرفين السعودي والإيرانى. ومن ثم، تسهم التحركات السعودية في إحباط خطط طهران لإيجاد موضع قدم لها في اليمن وعلى البحر الأحمر لزعزعة أمن واستقرار المنطقة، وتهديد سلامة الملاحة الدولية في مضيق باب المندب.

- إرباك الخصوم: رد عملى على "المكلمة" الإيرانية والحوثية. فعلى سبيل المثال: أشار خطاب المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، في 21 مارس 2021 إلى أن السعودية "عالقة في مستنقع حرب اليمن، وأنها لا تستطيع وقفها ولا مواصلتها". كذلك، خطاب زعيم جماعة أنصار الله (الحوثيين)، عبد الملك الحوثي، ورفض المقايضة بين المشروطيات العسكرية والسياسية، والحقوق المشروعة للشعب اليمني، مثل: وصول المشتقات النفطية، والاحتياجات الإنسانية، والمواد الغذائية والطبية. 

3-رسائل للمجتمع الدولى:

- إعادة بناء الثقة: وذلك بالتجاوب مع التغير بسياسات الإدارة الأمريكية الديموقراطية الجديدة، التي تبحث عن تحقيق "إنجاز" سريع وسهل في اليمن، والذى انعكس بشكل واضح جراء متغيرين، الأول: هو النشاط والضغط المستمر الذي مارسته المنظمات الحقوقية والإنسانية لإيقاف زيادة أعداد الضحايا المدنيين، وتفاقم الأوضاع الإنسانية في اليمن المرتبطة بالحرب. الثاني: زيادة الاستقطاب السياسي في واشنطن، سواء على مستوى المؤسسات، بين الكونجرس والرئاسة، أو على مستوى الحزبين، وتحول حرب اليمن، ومعها العلاقات السعودية-الأمريكية،لإحدى ساحات هذا الاستقطاب.

- استقطاب الحلفاء: فإبراز السعودية لدور الأمم المتحدة في مختلف تحركاتها، خاصة بطرح الأخير لـ "التسوية السياسية"، يُعد بمثابة اختبار للمجتمع الدولى المتمثل فى: "الأمم المتحدة و الولايات المتحدة والدول الغربية" حول جديتهم في الضغط على الحوثيين للقبول بالمبادرة السياسية. خاصة أن "الطرح السعودي" تزامن بعد أيام من رفض ميليشيا الحوثي مبادرة المبعوث الأمريكي لليمن "تيموثي ليندر كينج" لوقف إطلاق النار التي تسلمها ناطقها الموجود في سلطنة عمان محمد عبدالسلام، بزعم أنها " لا تلبي طموحات جماعته

تحولات المشهد اليمني:

ثمة قاعدة ديناميكية يجب النظر إليها عند الحديث عن "التسوية السياسية" فى مرحلة ما بعد الصراع، مفادها أن "ما يجري على طاولة المفاوضات ما هو إلا امتداد للحقائق الميدانية على الأرض"، وهو ما انعكس على حجم التحركات الميدانية لكل من السلطة الشرعية وميليشيا الحوثيين لتأكيد قوتهم من أجل تحسين موقعهم التفاوضي. فعلى سبيل المثال: سعى الحوثيون لحشد أنصارهم فى مأرب للسيطرة عليها بغية انتزاع التمثيل السياسي والديمجرافي للمنطقة الشمالية المحاذية للحدود السعودية. كما ازدادت وتيرة الهجمات عبر الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية على أهداف في العمق السعودي خلال "فبرير 2021". بالمقابل، ثمة "حراك سياسى" تسعى لإنجاحه دول الجوار كـ "اختراق نوعى" لمسار "التسوية السياسية". فعلى سبيل المثال: تستضيف عمان اجتماعات مباشرة برعاية أممية بين ممثلي الحكومة اليمنية والحوثيين لبحث السبل اللازمة لتنفيذ اتفاق سابق للإفراج عن الأسرى والمعتقلين.

الجدير بالذكر، أن المشهد اليمنى يحظى بزخم سياسي وميدانى لكلا الأطراف والوكلاء المتداخلة بالصراع، بما قد يدفع نحو عرقلة أى مساعى رامية لكسر جمود "العملية السياسية"، إذ من أبرز تلك العقبات:

- اختلال الميزان الميدانى:

إذ يبدو ميدانيا أن ميزان القوى يتأرجح نحو "قوة أنصار الله - ميليشيا الحوثيين" دون "الحكومة الشرعية"، مما يدفع بالجماعة المسلحة لتعميق تحركاتها نحو انتزاع المزيد من التمثيل في التركيبة السياسية الرسمية فى كافة المفاوضات المستقبلية، وبما يؤهلها كذلك لرفض أى تحركات نحو "التسوية السياسية"، استنادا لثلاث محددات، الأول: أن ميليشيا الحوثيين لا يملكون دافعًا للانخراط في العملية السياسية وتقاسم السلطة مع الأطراف اليمنية الأخرى، نظراً لأنهم يسيطرون اليوم على معظم مناطق شمال اليمن. ثانيا: تنامى القدرات العسكرية المتنامية للحوثيين، مما يجعلهم أقل عرضة للقبول بتقديم التنازلات التي ستنص عليها أي تسوية. ثالثا: أن المجتمع الدولى لا يملك وسائل ضغط كافية لإلزام الحوثيين بعملية التسوية السياسية، فالجماعة لا يعنيها التلويح بالعقوبات ولا بالانتقادات الدولية، فضلا عن كونها تصنف نفسها كحركة مسلحة / كيان عقائدي، وليست فصيلاً سياسيا.

نقطة أخرى تتعلق بـ "التكيف الهيكلى" داخل كلا الطرفين. ففى الوقت الذى أظهرت به الميليشيا المدعومة من إيران تماسكا بالموقف السياسي والميدانى، ظهرت الحكومة الشرعية بمظهر "المضطرب" نتيجة تصادمها مع بعض الجهات، مثل المجلس الانتقالى الجنوبى. ومن ثم، فالدفع بمسار التسوية السلمية يلزم معه توليفية سياسية تراعي مصالح القوى الفاعلة كافة، دون إقصاء طرف، ودون هيمنة طرف على القرار السياسي اليمني. 

- الازدواجية/ الهشاشة المؤسساتية:

ثمة عدد من الشواهد التى ترسخ لفرضية "الهشاشة المؤسساتية"،والتى منها على سبيل المثال: إعلان عدن عاصمة مؤقتة لإدارة شئون الدولة عقب سيطرة ميليشيا "أنصار الله" على العاصمة صنعاء فى سبتمبر 2014، ومآلات تشكيل "حكومة إنقاذ" فى 2015 وتقاسم الأطراف المتصارعة الوزارات والإختصاصات عقب الاتفاق التنظيمي بين المجلس السياسي الأعلى التابع للحوثيين وحزب المؤتمر الشعبي العام بقيادة الرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح، وما تلى ذلك من فراغ سياسي –عقب اغتيال صالح- وسط غياب شخصيات ذى ثقل محلى وتتمتع بمعامل الثقة إقليميا، فضلا عن تردي المؤسسات القائمة وعدم قدرتها على تأدية مهامها نظراً لهشاشة الوضع الأمني والاجتماعى والخدمى باليمن. فعلى سبيل المثال: وفقا لأحدث تصنيف لمؤشر الدول الهشة "Fragile States Index" ، فقد سجل اليمن تقدما فى مؤشر الهشاشة متقدمة بنقاطها على الصومال.

من ثم، يتطلب لإحداث "التوافق السياسي" إنجاز تحدى "التوافق الإدارى" بين المؤسسات القائمة وتقويض كافة المحاولات الداعمة لحالة "الخلل المؤسسى" والمستفيدة من حالة الازدواجية. فعلى سبيل المثال: حينما يتم الحدث عن هيكلة "التوافق السياسي" يتعين على صانعى القرار النظر فى دراسات ما بعد الحرب "Post War Studies" ، والتي تركز على نقل الاستقرار من المستوى السياسي إلى المستوى الاجتماعي/ المؤسسى، على أن يتم توطئة مصادر النزاع، وتهيئة البيئة الملائمة لممارسات أدوار "الدولة الوطنية".

- انتشار السلاح خارج التشكيلات المقاتلة:

ثمة مخاوف من تصاعد نمط "عسكرة النزاعات الفرعية/ القبلية" بالداخل اليمني بمرحلة ما بعد تسوية الصراع اليمنى بين الحكومة الشرعية وميليشيا الحوثيين، خاصة مع تزايد امتلاك المواطنين للسلاح مقابل هشاشة المؤسسات الأمنية فى تقويض ومحاصرة تلك الظاهرة وضبط السلاح وحصره في الأطرر الرسمية، لاسيما أن الثقافة الشعبية اليمنية تعتز بالسلاح وتعتبره جزءاً من الهوية المجتمعية.

وتتصاعد المخاوف مع استغلال الجماعات الإرهابية للفوضى الأمنية جراء الحرب القائمة باليمن، فى تنويع أنظمة التسليح الخاصة بها، وهو ما يعني استمرار خطر هذه الجماعات في المستقبل، حتى وإن تم الاتفاق على السلام وإنهاء الحرب.

- إعادة إنتاج تنظيم القاعدة في اليمن:

برغم تراجع "تنظيم القاعدة" مقابل تنامى "تنظيم داعش" إعلاميا وجغرافيا بالمنطقة، إلا أن أنصار تنظيم القاعدة فى اليمن لايزالون يشكلون تهديداً أمنياً بارزاً، نظراً للخبرات العملية والتكتيكية التي تمتلكها قياداته، فلطالما كانت الجغرافيا اليمنية ملاذاً آمناً للإرهابيين ، يتم استغلالها فى إطار التخطيط والتدريب لعمليات إرهابية أو للهروب من الرقابة الأمنية. وهو ما دفع بالرئيس الأمريكي "جو بايدن" لاستثناء "عمليات مكافحة الإرهاب" من قرار وقف العمليات العسكرية الأمريكية في اليمن.

ومن ثم، يجب الأخذ فى الاعتبار من جانب الأطراف المتداخلة بـ "المسألة اليمنية" عند هيكلة مسار "التسوية السياسية"عدم تعميق الفراغ الأمني، والتأكيد على عمليات  مكافحة الإرهاب. إذ بدون تلك "المعالجات الأمنية" سيتمدد الإرهاب - بنسختيه القاعدية والداعشية – للحد الذى يهدد معه أمن الممرات البحرية، خاصة مضيق باب المندب الحيوي للملاحة.

مسارات مُحتملة :

ثمة عدد من المتغيرات، والتى أصبحت تحكم مستقبل التحركات السعودية نحو فرضية "إعادة إنتاج اتفاق الطائف اللبنانى" بالداخل اليمني، إذ خلافا للتغيرات الميدانية بالصراع اليمنى، والتغير فى الأجندة الامريكية للديموقراطى "جو بايدن"، فإن أبرز المتغيرات النوعية تتمثل فى:  

- تداعيات جائحة كورونا: إذ أضفت تلك الجائحة مزيداً من التعقيدات على تفاعلات إقليم الشرق الأوسط وأنماط التسوية؛ ودفعت بتوظيفات الفاعلين الإقليميين (مثل إسرائيل وإيران وتركيا ومصر والسعودية والإمارات)، وسياسات الفاعلين المحليين (مثل جماعة الحوثي، والمجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، ومقاتلي السلفية المدخلية في اليمن وليبيا،.. إلخ)، إلى تعميق الاستقطابات الإقليمية والدولية، وهو ما يستدعى مزيدا من الوقت للتوصل إلى حلول توافقية ومعالجة آثاره السلبية. فعلى سبيل المثال: اختزلت التسويات الدولية والإقليمية "المسألة اليمنية"، في منظور "أمني/ إغاثي"، دون النظر لحجم التعقيدات الداخلية وتشابكاتها مع الأبعاد الدولية والإقليمية، فضلاً عن تجاهل "الانقسام النخبوى" وفشل الدولة فى إدارة مؤسساتها الداخليه وتحالفتها الخارجية.

- السيناريو الفيدرالى:إذ أغلب السيناريوهات المطروحة أمميا ودوليا بالتفاعلات الصراعية بالشرق الأوسط، تجنح لفكرة" الفيدرالية"، وبالنظر للحالة اليمنية فيما بعد أحداث فبراير 2011، فإن أغلب التسويات الخارجية تدفع نحو فكرة "فيدرالية الدولة"، وتأجيج عملية "تفسيخ المجتمع" وفقا للمعيار الطائفى، كأداة جازمة لإدارة الأزمة، دون النظر لأي معطيات سياسية/ اجتماعية لمعالجة جذور الصراع في اليمن، والتأكيد على وحدة "الدولة الوطنية".

وفقا لذلك ، وقياسا على حجم التطورات السياسية والعسكرية والإستراتيجية، فثمة مسارين يحددا مستقبل التحركات السعودية نحو الدفع بإعادة إنتاج "اتفاق الطائف اللبنانى" فى اليمن، يتمثلان في:

المسار الأول - البناء المرحلى:

يعزز ذلك السيناريو عددًا من الفرضيات الرامية لإنجاح التحركات السعودية، الأولى: مدى نجاح السعودية فى تطويع الموقف الأمريكي والأممى الداعم لـ "التسوية السياسية" فى إنجاز مزيد من الضغوط على ميليشيا الحوثيين والأطراف الداعمة لهم لاسيما إيران. والثانى: أن طهران تخشى العزلة الدولية والإقليمية جراء سياستها بـ"المسألة اليمنية"، لاسيما أن هناك بداية الحديث عن انفراجة حثيثة تجاة الملف النووى والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وبالتالى قد نجد موقفها يحمل طابع "المقايضة" ما بين إنجاز أجنداتها الوطنية "الاتفاق النووى+ رفع العقوبات الاقتصادية"، وبين إقناع ميليشيا الحوثيين بالتحركات السعودية والتفاوض حول خطوات "بناء الثقة". الثالث: يتمثل فى إستناد الحوثيين على استراتيجية "الحرب الدبلوماسية"، إذ بعد إعلان الرفض المبدئى للمبادرة السعودية، قد يلجأ الحوثيون بقبول فكرة "التفاوض المرحلى" مع بقاء التقدم الميدانى، خاصة فى مأرب لفرض تصوراتهم الخاصة على "ملف التسوية السياسية" استنادا لنظرية "المكاسب على الأرض"، والتى يُرجح أن تكون أقل بكثير مما تطمح له الحكومة الشرعية فى اليمن، بل أسوأ من اتفاق استوكهولم 2018 قياسا على تراجعها العسكري على الأرض وظروفها الاقتصادية الحرجة، فضلاً عن استمرار تصدعاتها الداخلية وانقسام النخب. 

المسار الثانى – فشل التحركات السعودية:

ينتهى ذلك المسار إلى فشل التحركات السعودية نحو إعادة الدفع بمسار التسوية السياسية، وذلك استنادا إلى عدد من المحددات، الأول: واقع خريطة التحركات الميدانية الجديدة للحوثيين. الثانى: تعثر التوصل الى "نقاط توافقية" بين أغلب الفصائل المسلحة والقوى السياسية المحلية. فجذور الصراع داخلية أكثر منها خارجية أو إقليمية. الثالث: العجز عن إيجاد صياغات تحفيزية للأطراف المتداخلة بالمسألة اليمنية، فعملية "التسوية السياسية" تُعد فى جوهرها "تسوية إقليمية"، أقرب إلى "المقايضة الجيوسياسية" منها لـ "التسوية الفعلية".

ومن ثم، فعلى اختلاف كلا المسارين بالمسألة اليمنية، فإنه يتعين أولاً إنهاء الصراع بأبعادة الإقليمية، ليصبح بعد ذلك "الانتقال النوعي" رهن إرادة اليمنيين وتوافقهم على إستقرار وطنهم، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وهو ما يتطلب معه تحييد التدخلات الخارجية، وتقويض أذرع وكلائهم وأجنداتهم الخاصة الرامية لاستنزاف الموارد والثروات اليمنية.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. إيمان زهران

    د. إيمان زهران

    متخصصة في العلاقات الدولية والأمن الإقليمي