تحليلات - مفاهيم نظرية

وسائل التواصل الاجتماعي كفاعل سياسي مؤثر: تساؤلات واجبة التفكيك

طباعة

مرت الانتخابات الأمريكية بسلام محفوف بمخاوف وإجراءات أمنية غير معهودة على أكبر قلاع الديمقراطية فى العالم، ولكن هذا المرور لم يكن ينبغى أن يمضى بلا تساؤلات مهمة، أبرزها: من يحكم من؟ هل السياسة هى من تحكم أم الإعلام؟ هل الديمقراطية من تحكم أم المصلحة الخاصة؟ من هو المتحكم فى العالم؟ من وراء إدارة العالم؟ وهي جملة التساؤلات المحيرة التي سيتصدى لها الباحث تباعا.

كل هذة التساؤلات برزت بشدة فى المنعطف الأخير من السباق المحموم بين ترامب وبايدن، بعد أن شاهدنا جميعا جمهوريات التواصل الاجتماعى القابعة فى وادى السيلكون، وهى تصفع ترامب الصفعة تلو الأخرى بقفل حساباته الإلكترونية بدون سابق إنذار ولا التوقف عن أن من يقفل حسابه هو رئيس أمريكا.

وما كان من ترامب الا الانصياع الإجبارى لتحديد الاقامة الإلكترونى الجبرى المعلن من تويتر وفيسبوك وسناب شات ويوتيوب. حتى قبل هذة العقوبة الشديدة، كانت إدارة توتير وفيسبوك تُزيل كل مدوناته وبجملة واحدة أن الانتخابات انتهت وبايدن هو الرئيس ردا على استنكار ترامب للنتيجة والتجاوزات المزمع التقاضى عليها فى بعض الولايات آنذاك، ولم يقوى الرئيس الأمريكى على الرد، فمن الأقوى إذا؟

هل أصبحت الشبكات الرقمية هى الحاكم الفعلى للعالم الآن؟ ولم لا فكل عيون العالم من حكام الى شعوب تمضى يومياً قرابة الست ساعات على الإنترنت، وعدد مستخدمى الفيسبوك النشطاء فى العالم يتجاوز الملياران، (متوسط ​​الوقت الذي يقضيه المستخدم لكل مستخدم يوميًا هو 35 دقيقة)والولايات المتحدة الامريكية هى الثانى عالمياً فى الاستخدام (موقع أخبار المال) (والأولى عالمياً فى استخدام تويتر)، حتى أصبحت التطبيقات هى من تحكم العقول والأهواء، وهى ما تتحكم فى مصائر الشعوب والحكومات.

نحن هنا بصدد الحديث عن الربيع العالمى الجديد، وليس الربيع العربى. فمؤامرة الربيع العربى التى بدأت بثورة تونس، والتى لا تزال مشتعلة حتى الآن، والتى أتت على أغلب دول شمال إفريقيا وانسحبت حتى سوريا واليمن بالشرق الاوسط لم ينج منها سوى جمهورية مصر العربية بفضل جيشها القومى ذى العقيدة الوطنية والمملكة المغربية لطابعها الخاص.

وبمرور الأزمان اتضحت أركان المؤامرة وأطرافها ونجا منها من نجا، ولكن نحن هنا نتحدث عن ربيع عالمى يعصف بأم الديمقراطيات العالمية، ويعصف بقيادة العالم، ويتحكم بكل وضوح وفجاجة فى إدارة مستقبل العالم، فمن وراء تلك الجمهوريات الرقمية.

لم تكن انتخابات 2020 هى البداية، ولكنها الأخطر، لكونها المستكملة  لممارسات تضييق الخناق فى انتخابات الرئاسة 2016 على المرشح آنذاك دونالد ترامب، فوسائل التواصل الاجتماعي أحد أهم الفاعلين الدوليين، فلم يعد تأثيرها يقتصر على النظام الداخلي في دولة ما، وإنما يمتد إلى مجال العلاقات الدولية، وباتت تلعب دوراً في التفاعلات السياسية الدولية، ولهذا يمكن اعتبارها أحد الفاعلين من غير الدول التي تمتلك القدرة على التأثير في تطورات الأحداث الإقليمية والعالمية، ولعل ما أثير عن تدخل روسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2016 يُعد أحد تجليات التأثير الذي يمكن أن تحدثه وسائل التواصل الاجتماعي في هذا الشأن، حينما قامت شركة "كامبريدج أناليتيكا" باستغلال بيانات 50 مليون مستخدم لموقع "فيسبوك" لصالح شركات روسية لغرض التأثير في انتخابات الرئاسة الأمريكية. ورغم أن موقع "فيسبوك" اعتذر عن هذه الواقعة، إلا أنها تظل تثير التساؤلات حول مدى التزام مواقع التواصل الاجتماعي بحماية بيان مستخدميها وضمان سريتها وعدم توظيفها بشكل سيئ من جانب بعض الشركات أو الدول للتأثير في أحداث دول أخرى.

كما كشفت تقارير فرنسية عن تعاون شركة "كامبريدج أناليتيكا" مع شركة "إجريجت آي كيو" الكندية في التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حيث ساعدت الشركتان تيار الانفصال في الفوز بالاستفتاء الذي حُسم بأقل من 2% من الأصوات. كما أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي بدور مهم فيما يسمى "أحداث الربيع العربي" التي اندلعت منذ نهاية عام 2010 في تونس، وانتقلت إلى مصر، ثم ليبيا واليمن، سواء من خلال التنسيق بين الشباب لتنظيم حركة المظاهرات والاحتجاجات، أو من خلال التحريض ضد الحكومات والدعوة إلى الإطاحة بها باستخدام شعارات تجذب الجماهير.

وعلى لسان جوشوا رامو (رئيس مجلس الإدارة، والرئيس التنفيذى المشارك لكيسنجر أسوشتس) "نحن نعيش فى زمن الشبكات" وهذه ليست بالجملة السهلة، فهى تحمل معانى عميقة جدا، خصوصاً إذا علمنا تمام العلم أن المواقع السياسية الآن هى الأعلى بحثاً على محركات البحث العالمية، فقد أصبحنا فى عصر الإنترنت السياسي.

فلصالح من هذه التدخلات العلنية الفجة ولصالح أى أمن قومى تكون؟

وتأخذنا هذة التدخلات والتساؤلات الى إعلان بارلو للاستقلال الرقمى رداً على قانون آداب الاتصالات الصادر عن الكونجرس عام 1996 فى الثامن من فبراير والمحتوى على أبرز نقاط إعلان استقلال الفضاء السبرانيكما يلى:

  • حكومات العالم الصناعي، عمالقة الضجر من اللحم والمعادن، جئت إليكم من الفضاء الإلكتروني، الموطن الجديد للعقل، لأطلب منكم بالنيابة عن المستقبل تركنا وشأننا، غير مرحب بكم بيننا، وليس لديكم سيادة حيث نجتمع.
  • ليس لدينا حكومة منتخبة، لا يحتمل أن يكون لدينا يومًا ما، لذلك فإنني أخاطبكم بسلطة ليست أكبر من تلك التي تعبر الحرية من خلالها عن نفسها، لأعلن أن الفضاء الاجتماعي العالمي مستقل بطبيعته عن الطغيان الذي تحاولون فرضه علينا، ليس لديكم أي حق أخلاقي لحكمنا، ولا تملكون أدوات نخشاها.
  • تستمد الحكومات العادلة شرعيتها من قبول المحكومين بها، وأنتم لم تطلبوا ذلك ولا نحن أعلناه لكم، ولا ندعوكم إليه، أنتم لا تعرفوننا، ولا تعرفون عالمنا، الفضاء الإلكتروني لا يقع ضمن حدودكم، ولا يمكنكم التعامل معه وكأنه مرفق عمومي، لأنه من نتاج الطبيعة، ويُنمي نفسه من خلال أعمالنا الجماعية.
  • الفضاء الإلكتروني يتكون من المعاملات والعلاقات والفكر نفسه، وهي أشبه بموجة دائمة في شبكة الاتصالات لدينا، عالمنا موجود في كل مكان، ولا مكان محدد له في ذات الوقت، لكنه ليس موجودا حيث توجد الأجساد.
  • نحن نخلق عالم، حيث يكون باستطاعة أي شخص، وأينما كان، التعبير عن معتقداته بغض النظر عن تفردها، ودون خوف من إرغامه على الصمت أو مطابقة الآخرين.
  • مفاهيمكم القانونية عن الملكية والتعبير والهوية والحركة والسياق لا تنطبق عليها، فكلها مبنية على المادة، وفي عالمنا لا وجود للمادة.
  • هوياتنا ليس لها أجساد، لذلك خلافًا لكم لا يمكن فرض النظام عن طريق الإكراه البدني، بينما نعتقد أن الأخلاق، والمصلحة الخاصة المستنيرة، والمصالح العامة المشتركة ستبني حكومتنا.

فكيف لا تتدخل جمهوريات التواصل الاجتماعى والإنترنت اليوم بكل هذه القوة طالما دستورها قائم على التحدى وعدم الاعتراف بالواقع والحكام والحدود والأعراق والهويات، هذة هى الحقيقة.

نحن أمام قوى خفية تحكم العالم وتتحكم فى أدوات الحكم بكل حرية وأريحية ودون مقاومة، لأنها الأقوى الآن، بل ونظمت لها الديمقراطيات الكبرى قوانين تسمح لها بالتدخل فيما يحلو لها وليس للمنفعة العامة، أمام قوى تعبث بمقدرات العالم وليس دولة بعينها بقوى، يمكنها أن تعبث بأمريكا نفسها ورؤساءها أو تعبث لتمكين فصيل معين للحكم لوضعه على رأس مائدة إدارة العالم.

المراجع:
  • موقع اخبار المال.
  • كتاب الساحة والبرج (نيل فرجسون).
  • إحصاءات جوجل تريند.
  • مركز تريند للبحوث والاستشارات (وسائل التواصل الاجتماعي: تأثيرات متنامية وأدوار شائكة في العالم العربي، د.أشرف العربى).

 

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    نور الشيخ

    نور الشيخ

    خبير في بحوث السياسات والمفاهيم الأمنية