تحليلات - عالم عربى

تقاطعات التغيير السياسى فى الجزائر والمصالح الإقليمية للقوى الكبرى

طباعة
في كل يوم جمعة منذ ٢٢ فبراير ٢٠١٩، كانت الشوارع والفضاءات العمومية تشهد مظاهرات مطالبة بإصلاحات جوهرية والمرور إلى وضعٍ ديمقراطيّ حقيقيّ يجسّد الإرادة الشعبية، نجح هذا الحراك، الذي تضخّم بسرعةٍ، ليضم الملايين في إجبار الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة على الاستقالة يوم ٢ أبريل بعد ضغطٍ من الجيش الوطني الشعبي الذي دعا لتطبيق المادة 102 من الدستور الجزائري، التي تحدّد آليات استقالة الرئيس وانتخاب رئيسٍ آخر.  بموجب هذه المادة، اجتمع في ٩ أبريل البرلمان بغرفتيه ليعلن إثبات حالة الشغور، ونصَّب رئيس مجلس الأمة، عبدالقادر بن صالح، أحد المقربين من الرئيس بوتفليقة، واللذين ينحدران من ولاية واحدة، هى تلمسان، رئيساً للدولة بصفة مؤقتة وبصلاحيات محدودة لمدة 90 يوماً يتمُّ خلالها التَّحضير لانتخابات رئاسية.
اختار الجيش، منذ البداية، عدم دعم النظام الحاكم، واحترام إرادة الشعب، مع ضرورة تسيير المرحلة الانتقالية داخل الإطار الدستوري. ودافع الجيش عن هذا الخيار رغم الآراء والأصوات الداعية إلى حلول أخرى خارج هذا الإطار وخارج الحلول المؤسّسية، وهي حلول عديدة ومتنوعة غير متجانسة، متعارضة ومتضاربة، ومجهولة الآليات القانونية والمؤسسيَّة في تطبيقاتها. غير أنه تعالت بعض الأصوات والشعارات في ميادين الحراك ومنصَّات التواصل الاجتماعي، بقصدٍ أو بغير قصدٍ، ترفض مقترح الجيش، بينما دافعت أخرى عن هذه الصيغة الدستورية في الانتقال، وهو ما أحدث شرخاً في تصوّرات مرحلة الانتقال بعدما كانت كل القوى متّحدة على رحيل بوتفليقة وآله. الحاصل أنه سينجم من هذا الاختلاف صراعُ قوى وإرادات، أيديولوجيات وثقافات، مشاريع وأجندات، بل ستتصاعد صراعات جهوية وعرقية، وستدخل قوى أجنبية، على رأسها فرنسا، لتحريك تابعين لها لرفض خطّة الانتقال التي وضعها الجيش. كذلك، قد تكون هذه الحلول اللادستورية فرصةً للقوى غير الدستورية –وهي قوى أحاطت بالرئيس بوتفليقة، وتمكّنت من الاستيلاء على مؤسسات الدولة ومقدّراتها، وقد وصفها بيان الجيش بـ "العصابة" التي دبّرت فترة خامسة لبوتفليقة- لاستجماع قوّتها بما يسمح بإعادة إنتاجها، خصوصاً أنها قوى تعتاش في الأوضاع اللادستورية، متى ملكت مفاتيح الفوز فيها.      
من جهة أخرى، تجب الإشارة إلى أن تفاعلات البنى السلطويَّة لنظام الحكم يُحدّدها تفاعل ثلاثة أقطاب رئيسية: مؤسسة الجيش، ومؤسسة الرئاسة، وجهاز المخابرات، فقد ظلَّت هذه الأقطاب الثلاثة تتنازع أو تتوازن في اختيار سياسات الدولة على المستويين الداخلي والخارجي، وتتصارع أيضاً على كسب ولاء الشَّعب من خلال دعم كل واحدةٍ فيها لأحزاب سياسية مختلفة تبرُز في المواعيد الانتخابية للظّفر بقليلٍ من "الشرعيَّة" يمنحُها الشعب حين يُستدعى في المواعيد الانتخابية، لكن ما بات مؤكّداً هو أن الحراك الشعبي أدْخَل هذا الشعب كقوَّة أخرى فاعلة ضمن معادلات تشكيل السلطة الحاكمة. كذلك، انتهى الوضع بعد استقالة بوتفليقة وإقالة الجيش لرئيس جهاز المخابرات الجنرال طرطاق ومحاصرته للجنرال المتقاعد مدين التوفيق إلى أن يكون الجيش اللاعب الأساسي في مرحلة ما بعد بوتفليقة، خصوصاً بعد إعادته إلحاق جهاز المخابرات بالمؤسسة العسكرية، وإعلان رئيس الأركان، في بياناته ومواقفه، تحالفه مع الشعب ضد القوى غير الدستورية التي مكثت في الرئاسة نحو عقد من الزمن. إذن ستكون حلبة الصراع مفتوحة بين الجيش والشعب ضد العناصر المندسَّة من بقايا الرئاسة والمخابرات، هاتان الأخيرتان اللتان ستتدعَّمان بسياسات غير رسمية لفاعل خارجيّ من المؤكَّد أن فرنسا هي من ستمثله. 
تحاول هذه المقالة المختصرة تحليل أدوار القوى الكبرى الثلاث الأكثر تداخلا مع التطورات الراهنة في الجزائر: فرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وسنحاول بيان تأثير تلك التطورات فى المصالح الإقليمية لتلك القوى، ومن ثم استشراف الاتجاهات التي سيتبناها كل منها تجاه المشهد السياسي المتطور في الجزائر، وخياراتها الاستراتيجية إزاء مرحلة ما بعد بوتفليقة. 
أولًا- فرنسا:
بدايةً، يمكن القول إن المواقف بشأن تدخّلات فرنسية لتوجيه حراك الجزائريين لمصلحتها كانت تعد مجرّد افتراضات من المحلّلين والمتابعين، أو أنها مجرّد تصريحات تفتقد براهين قد أدلت بها شخصيات سياسية معارضة، غير أن كلمة رئيس الأركان، القايد صالح، فى أثناء زيارته للهيئة العسكرية الثانية بوهران أين أشرف على مناورات "حسم 2019" تقطع الشك باليقين، حيث قال فيها: "سجَّلنا للأسف، ظهور محاولات لبعض الأطراف الأجنبية، انطلاقا من خلفياتها التاريخية مع بلادنا، لدفع بعض الأشخاص إلى واجهة المشهد الحالي وفرضهم كممثلين عن الشعب تحسبا لقيادة المرحلة الانتقالية، وتنفيذ مخططاتهم الرامية إلى ضرب استقرار البلاد وزرع الفتنة بين أبناء الشعب الواحد، من خلال رفع شعارات تعجيزية ترمي إلى الدفع بالبلاد إلى الفراغ الدستوري وهدم مؤسسات الدولة، بل كان هدفهم الوصول إلى إعلان الحالة الاستثنائية، وهو ما رفضناه بشدة منذ بداية الأحداث".  
تعززت في عهد بوتفليقة العلاقات الفرنسية - الجزائرية على أكثر من مستوى، وبصيغة متنوعة رسمية وغير رسمية، كما تشكّلت بفعل سياسات وتوجهات نيو-ليبرالية برجوازيات وطنية غير تاريخيّة، مثل رجال الأعمال حداد، وكونيناف، وربراب، وعمر بن عمر، وغيرهم مرتبطة عضويا بمكوّنات السلطة وتدير شراكاتها مع برجوازيات المركز العالمية، على رأسها فرنسا والولايات المتحدة. تستأثر هذه البرجوازيات الوطنية بامتيازات مهمة داخل الجزائر، وأصبحت تملك آلة كبيرة من وسائل الإعلام والصحف وتموّل أحزابا وشخصيات سياسية وفواعل مدنية ترغب الآن في ركوب موجة الحراك والتحكم في طبيعة الشعارات المرفوعة وسط الجماهير. فقد غدت هذه المكوّنات تصنع الخطابات والشعارات المعادية لرئيس الأركان، والتي تتًّهم الجيش بخداع الشعب بعد موافقته على تعيين بن صالح. وللمفارقة، راكمت هذه البرجوازيات وفئات رجال الأعمال ثروتها ورأس مالها وأدواتها في فترة حكم بوتفليقة، مما يؤكّد أن ازدواجية مواقفها تعبّر عن رفضٍ ومعارضة غير بريئة غرضها كبح تدخلات الجيش في تسيير الانتقال الديمقراطي، والعمل على إقناع الشعب والقوى السياسية ضرورة تحقيق هذا الانتقال من خلال مرحلة انتقالية خارج الأطر الدستورية الحالية أو بتشكيل مجلس تأسيسيّ يصيغ دستورا جديدا. ومما لا شكّ فيه أن بعض هذه القوى تتحرك بإيعازٍ فرنسيّ، وتختبئ خلف قوى وفواعل اجتماعية أخرى طالبت بنفس هذه الحلول. عموماً، تدرك هذه القوى الموالية لفرنسا أنها تتقن المنافسة في حلبة الحلول اللادستورية، حيث تملك الوسائل والقوة اللازمة في ذلك، وأن الآليات الدستورية لانتخاب رئيس جديد، كما أصرّ على ضمانها الجيش، لن تسمح لهم بتنصيب رئيس موالٍ أو سلطةٍ ضامنةٍ لاستمرارية مشاريعهم ولاحتكارهم الأسواق الوطنية.
الأمر الآخر هو أنه قد أصبح جليّا أن سياسة فرنسا الخارجية تستهدف ذلك التناغم بين الجيش والشعب الجزائري، فهي تدرك أن هاتان القوتان ستحاصران القوى المالية والسياسية التي تشكّلت في مؤسسة الرئاسة والمخابرات والإعلام وغيرها من الميادين. لذلك، ستكون محاولات فرنسا وأتباعها هي زعزعة الثقة بين الجيش والشعب، وتصوير أن الحلول الدستورية ومواقف الجيش ليست سوى التفاف على مطالب الحراك ومحاولة لإعادة إنتاج النظام. فعلى سبيل المثال، لم تبارك الخارجية الفرنسية استقالة بوتفليقة، ولكنها بالمقابل رحّبت بانتخاب بن صالح، المرفوض شعبيا، لرئاسة الدولة وفق الآليات التي تقرها 102 من الدستور. وهذا التصريح حقٌّ أريد به باطل، إذ يوحي للشعب أن تمسك رئيس الأركان قايد صالح بالمواد الدستورية هو تمثيلية بالاتفاق مع نظام الحكم وفرنسا تهدف لإفشال مطالب الحراك ومساعيه في التغيير.

جزائريون يتظاهرون ضد ترشح بوتفليقة في العاصمة الفرنسية باريس
   
يبقى الهمّ الفرنسي هو مدى وجود سلطة جديدة تحتفظ لها بمصالحها وتضمن لها استمرار "تبعيّة" الجزائر ثقافياّ واقتصاديا وسياسيا للمركز الفرنسي. وما يقلق حالياٌ الدوائر الفرنسية، الرسمية وغير الرسمية، هو تأكّدها من بزوغ حركة وعي سياسيّ ضد هذه التبعيّة، بل تمتد هذه الحركة إلى الداخل الفرنسي بسبب الوعي نفسه المتشكّل لدى الجالية الجزائرية بفرنسا، التي أصبحت قادرة على ممارسة ضغطٍ شعبيّ ووظيفيّ، والأهمّ أن هذه الجالية تتحالف وتتوافق مع حركة "السترات الصفراء"، ومع الجاليات من الأفارقة المناهضة لماكرون وسياساته الداخلية والخارجية. ومصداق هذه الافتراضات يمكن إيرادها في بعض الحوادث: 
طرد السلطات الجزائرية لمدير وكالة الأنباء الفرنسية في الجزائر (AFP) إيمريك فنسنو (انتهت مدة إقامته ولم تسمح له السلطات الجزائرية بتجديدها)، بما دفع الناطقة باسم الخارجية الفرنسية، أنييس فون، دير مول التعبير عن رفضها لعدم احترام السلطات الجزائرية لحرية الصحافة. 
خروج الملايين من المتظاهرين في الشارع الجزائري، وآلاف أخرى في المدن الفرنسية ترفع شعارات "لا لبيع الغاز لفرنسا 'بالمجان'"، في إشارة إلى صفقات سريّة أبرمتها شركة سوناطراك مع فرنسا لتوريدها مجانا بالغاز، وهو ما سارعت سوناطراك لنفيه، أو برفعهم في مدينة ليون شعار "الغاز ديالنا... وفرنسا عايشة على ظهرنا". إنه ورغم بساطة سوسيولوجيا هذا الحراك، فإنها تعبّر فعلا ًعن ميلاد وعي جماهيريّ بات ينتقد الشراكات غير المتكافئة والمجحفة بين الجزائر وفرنسا، بل والمؤكد أن هذا الوعي سيفرض تحديات واستفسارات عن أيّ صفقات مستقبلية ستكون بين البلدين، بل ستكون تحت مراقبة النقابات والإعلام الوطني وباقي الفاعلين. وربما دعوة رئيس الأركان جهاز العدالة الجزائرية إلى إعادة فتح ملفات فساد في الشركة النفطية العملاقة سوناطراك يندرج ضمن هذا الافتراض.       
تدرك فرنسا أن بروز نظام حكم جديد في الجزائر لن يهدّد فقط مصالحها ويحاصر نفوذ وكلائها في الجزائر، بل سيكون مقدمةً لتراجع النفوذ الفرنسي في كل إفريقيا، بداية من المغرب وتونس، وصولاً إلى مالي فالسنغال. إن الجزائر باروميتر فرنسا في علاقاتها ما بعد الكولونيالية مع مستعمراتها السابقة، وهذا ما بدأ يتكشّف بسرعة، إذ رفع المتظاهرون في دولة مالي الشعارات ضدّ تدخلات فرنسا واستغلالها لموارد البلد، وهو ما سيصل مداه قريباً إلى دولة المغرب التي تشهد رفضاً شعبيّا للنفوذ الفرنسي من تدشين مشروع القطار السريع (TGV)  الذي أنجزته شركات فرنسية وصولاً إلى رفض إدماج اللغة الفرنسية في برامج التعليم الابتدائي. وتعيش تونس الاعتراضات نفسها بشأن صفقات عديدة أبرمها السبسي مع فرنسا. إذن، لا يتعلق الحراك في الجزائر بمسألة خروج شعب يطلب التغيير والإصلاح ضد السلطوية والفساد، بل بتغيير مشهد العلاقات ما بعد الكولونيالية غير المتكافئة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة، بل هو حراكٌ سيثير المشاعر لدى كل شعوب الضفة الجنوبية للمتوسط، ويحرك الوعي الثقافي والسياسي والاستراتيجي للتحرّر من الهيمنة والتبعية. 
من هذه الحسابات وغيرها، لم تتأخر فرنسا في تحريك أذرعها في الإقليم المغاربي من أجل التشويش على حراك الجزائر والتأثير فى القيادة العسكرية الجزائرية، فقد أوعزت للجنرال حفتر للتقدم بميليشياته العسكرية في الغرب الليبي المحاذي للحدود الجزائرية لأجل السيطرة على طرابلس وإفشال مساعي الحل السياسي المرتقب، مع العلم أن اللقاء الوطني الليبي الذي يجتمع من خلاله الفرقاء الليبيون في غدامس كان مبرمجا في منتصف أبريل. وفي اعتقادي أن هذه الخطوة المسلحة من حفتر أرادت من خلالها فرنسا إفشال مساعي الحل السياسي في ليبيا، والحفاظ على "الوضع الراهن" المتميّز بالصراعات المسلحة بين القوى الليبية، وبضعف المؤسسات، وباستيلاء الميليشيات المتمردة على مقدرات الدولة الليبية من النفط الذي يباع بأثمان رخيصة للقوى الدولية، فضلا عن تأمينها الاستثمارات النفطية "الاستغلالية" لشركات توتال الفرنسية. 
الوصول إلى حلول سياسية في ليبيا واستقرارها سيجعلها فى المستقبل دولة سيّدة قرارها السياسي، أو على الأقل سيجعلها غير خاضعة في إرادتها السياسية والاستراتيجية لقوة دوليّة واحدة، وهو الأمر الذي تخشاه فرنسا التي كانت رأس حربة مشروع التدخل العسكري لإسقاط القذافي، والذاكرة الليبية تحتفظ بذلك. هذا التحرّر الليبي التدريجي من اليد الفرنسية، إن تقاطع مع التحرّر الجزائري الكامل، ووصل إلى تحرّر تونسيّ ومغربيّ، أكيد سيوصل إلى إرادات سياسية عربية متحالفة ضدّ التدخل الفرنسي، وستكون راغبة في تفعيل اتحاد المغرب العربي، وهو اتحاد كثيراً ما عرقلته فرنسا. 
الاحتفاظ بشيء من الفوضى ومناطق صراع مسلح قرب الحدود الجزائرية، بما سيسهم فى المستقبل في تهديد الجزائر بالجماعات الجهادية التي يمكنها أن تخترق المجتمع الجزائري، وتؤثر فى أمن دولته، وذلك بغرض إيصال رسالة أساسية للأمريكان والاتحاد الأوروبي محتواها أن وضع الجزائر في مرحلة ما بعد بوتفليقة غير آمن، وأن خطَّة الجيش الجزائري لقيادة الانتقال الديمقراطي كانت غير حكيمة، ربما يتمّ دعم هذا الواقع من خلال أعمال عنف تقع داخل الجزائر ترعاها "القوى غير الدستورية" المرتبطة بفرنسا. 
نجاح الحراك السلمي في الجزائر، وقبله تونس سيكون نموذجا لكل الدول الإفريقية ما بعد الكولونيالية لتطبيق هذه التجربة السلمية للتخلص من الديكتاتوريات التي نصّبتها فرنسا أو ساعدت في بقائها، من السنغال إلى ساحل العاج، ومن الجابون إلى تشاد وجيبوتي. إنه وبدون وقوع الكثير من المبالغة يمكن التأكيد أن صعود تيارات سياسية وثقافية معادية لفرنسا إلى سدة الحكم في الجزائر سيهدد بقاء وهيمنة فرنسا على إفريقيا، بل وسترتفع خطابات الجاليات الإفريقية داخل فرنسا ضد هذه التدخلات، وهذا الوجود، وهي تدخلات بات الفرنسيون أنفسهم يرفضونها ويُسائلون حكومتهم عنها. 
تعدّ الجزائر عضوا فاعلاً في الاتحاد الإفريقي، وتربطها علاقات قويةّ مع دول الجوار الإفريقية، ومن شأن بروز قيادة ديمقراطية جديدة تتمخّض عن هذا الحراك وترفض التدخلات الفرنسية أن يشجّع باقي القيادات الإفريقية على انتهاج المواقف المعارضة ذاتها، ومن بين هذه المواقف رفض وجود قواعد وقوات عسكرية فرنسية ببعض الدول الإفريقية، وهي قوات وضعت كي تسهم في ردع عمليات التغيير الديمقراطي في إفريقيا، ولتسهّل التدخل الخارجي، وتشكّل نقاط ارتكاز استراتيجية للقوات الفرنسية وجيو-استراتيجتها، علماً بأنه توجد اتفاقيات فرنسية مع بعض الدول الإفريقية تسمح بعبور قواتها وبتوقّفها الجوي أو البري. 
خشية فرنسا تتعاظم من الشعارات المرفوعة في حراكي الجزائر ومالي والرافضة للتدخل الفرنسي. وفرنسا تعلم أن سياقات دولية جديدة وموجات شعبية تتشكّل دولياّ لتصنع نزعات قومية جديدة المظهر، شاءت بعض أدبيات العلوم السياسية أو وسائل الإعلام أن تسمّيها "الشعبويّة" (populism) التي ترفض التفاوتات الطبقية الحادة والصيغ النيو-ليبرالية التي تصنع اللاتكافؤ، ودول الضّفة الجنوبية غير مستثنية من هذه الموجات. لذلك تتخوّف فرنسا من وجود إرادات شعبية في دول إفريقيا ترفض مشاريعها الاستغلالية، انطلاقاً من مالي التي تسيطر فيها الشركات الفرنسية على إنتاج الذهب، والذي تتراوح فيه حصة الدولة المالية ما بين 18 إلى 20%  من الأرباح، إلى النيجر التي تسيطر فيها الشركات الفرنسية على إنتاج اليورانيوم. أما بخصوص دول المغرب العربي، فاستثمارات فرنسا كبيرة جدا ومختلفة من الصعوبة بمكان طرحها فى هذا المقال المختصر.
تدرك فرنسا أنها مقبلة على خسارة سيطرتها على الفضاء الساحلي-الصحراوي، أو كما يصفه بعض الكتاب الفرنسيين "ساحِلٍسْتان"، الذي وُضعت خُطط السيطرة عليه منذ عهد ديجول، وهو فضاء غنيّ بالموارد الطبيعية، وفقدانها تسيير هذه الموارد يؤثر فى اقتصادها الوطني، وفى مكانتها الدولية. فضلاً عن بروز قوى جديدة منافسة لها، مثل الصين والولايات المتحدة.  
أمام هذه الافتراضات والسيناريوهات، مما هو متوقّع في رأينا بخصوص تعامل فرنسا مع الحراك الشعبي الجزائري، ومع الحلول الدستورية التي يدافع عنها الجيش، تترواح بين سياسات رسميّة وأخرى غير رسمية. ففي خانة هذه الأخيرة، قد تشجع بعض الدوائر الفرنسية قوى جزائرية مندسة مرتبطة بها من رجال الأعمال، "العصابة كما وصفها الجيش" التابعة لشقيق الرئيس بوتفليقة، على إثارة أعمال إجرامية وأعمال عنف محدودة، تطول شخصيات سياسية وإعلامية وأمنية جزائرية، وربما شخصيات معادية للجيش، أو شخصيات قبائلية وأخرى معارضة، وذلك كي تطول الاتهامات مؤسسة الجيش ويتم التشويش على سلمية التغيير وسلمية هذا الانتقال، أو بهدف دفع الجيش لإعلان حالة الطوارئ أو الحالة الاستثنائية، بما يسقط آليات تفعيل المادة 102 من الدستور المؤدية إلى انتخاب رئيس في 90 يوماً. يضاف إلى ذلك العمل على أن تحدث هذه الأعمال الإجرامية تصدّعات مجتمعيّة وجهوية تفقد المجتمع الجزائري تماسكه والتفافه حول حلّ وطنيّ، مع مراعاة أن السياسة الفرنسية لن تسمح بتطور الأوضاع إلى ما كانت عليه أيام جزائر التسعينيات، حين شهدت فرنسا موجة هجرة شرعية وغير شرعية واسعة أثرت فى اقتصادها وأمنها القومي. لذلك ضمان نوع من "الفوضى المتحكم فيها" ضروريّ بالنسبة لفرنسا وللقوى الموالية لها داخل الجزائر، وهي قوى كانت مرتبطة في السابق بمؤسسة الرئاسة والأجهزة الأمنية المخابراتية التي كانت تحت قيادة الجنرال المعزول طرطاق وقبله الجنرال توفيق. أمام كل هذه الأجندات الخفيّة، سيبقى الجيش الجزائري السدّ المنيع والكابح لمشاريع فرنسا ومشاريع هذه القوى، التي تعتقد أن حشره في الزاوية لا يكون إلا كما كانت تجربة التسعينيات، أي إدخاله في مواجهة مع الشعب. وأعتقد أن بيانات الجيش بدأت تعلن صراحة عن تدخّل أطراف خارجية تريد ضرب استقرار البلاد وزعزعة ثقة الشعب بمؤسساته الدستورية، لذلك دعا رئيس الأركان الشعب إلى التحلي بالحنكة والفطنة والصبر.  
 
ثانياً- الولايات المتحدة الأمريكية:
فيما يخص الولايات المتحدة، فاهتمامها بما يجري في الجزائر ينبع من عنصرين أساسيين: المصالح الاقتصادية، على رأسها استثماراتها في قطاع النفط الجزائري، وثانيا دور الجزائر في مكافحة الإرهاب. لذلك، لا يأخذ هذا الحراك الأهمية الاستراتيجية لدى الأمريكيين كما كانت عليه الحال مع دول الربيع العربي الشرق أوسطية، مثل سوريا ومصر، حيث من شأن تغيير السلطة الحاكمة في هاتين الدولتين التأثير المباشر فى المشهد الاستراتيجي للشرق الأوسط برمّته، وعلى الحضور الأمريكي فيه، فضلاً عن إشكالية صعود الحركات الإسلامويَّة أو تغيّر معادلات الصراع العربي - الإسرائيلي. غير أنه يجب الاعتراف أن المواقف الأمريكية كانت متباينة، فهي كانت واضحة بشأن مصر وتونس، وخافتة بشأن البحرين، وقويّة جدا مع سوريا. شملت هذه المواقف ضرورة احترام مسيرات التغيير وتكريس الديمقراطية في هذه الدول، ورحيل الأنظمة الحاكمة، مع العلم أن الولايات المتحدة وظّفت على مستوى غير رسمي قوتها الناعمة ووكلائها لدعم قوى وتوجهات استراتيجية محدّدة، سواء في المغرب العربي أو في المشرق.

الرئيس المستقيل بوتفليقة يصافح الجنرال كارتر هام ثاني قائد للأفريكوم في الجزائر سبتمبر 2012
 
إن الولايات المتحدة الأمريكية حذرة جدا في تعاملها مع الشئون الداخلية الجزائرية، وتدرك "غموض" الصراعات والتفاعلات السلطوية داخل مربع النظام، كما تدرك حجم التعقيدات التي يتركها التدخل الفرنسي في الشأن الجزائري. والعنصر الأهم، هو إدراكها حساسيّة الجزائريين المفرطة إزاء التدخلات الأجنبية، وإزاء التدخل الأمريكي بعد تجربة التدخل العسكري "لمساندة ربيع" ليبيا. لذلك، لم تصرّح الخارجية الأمريكية عن مواقفها من الاحتجاجات السابقة، التي رفضت ترشح بوتفليقة لفترة رابعة، واكتفت بعدها بتصريح مقتضب تهنئ فيه الشعب الجزائري على انتخاب رئيس جديد. المنطق البراجماتي نفسه يفرض عليها الآن التزام الصمت بشأن أحداث الجزائر مع مراقبتها للوضع، وستنحاز الولايات المتحدة فى المستقبل للسلطة الجديدة القائمة وتتعامل مع الرئيس الجديد حتى ولو كان الجيش هو من فرضه. غير أن الولايات المتحدة تعلم أن نفوذ فرنسا في جزائر ما بعد بوتفليقة سيتقلّص، وهي فرصة سانحة لها لإعادة تقييم حجم استثماراتها في الجزائر، وقد صرّح وزير الطاقة الجزائري السابق شكيب خليل أن فرنسا تمنع وتعيق استثمارات الدول الأجنبية في الجزائر، وأكّد أن القوى الدولية عليها المرور "بمكتب باريس" للظفر بذلك. ومع ذلك، لا يعني هذا القبول الأمريكي في التعامل مع الرئيس الجديد المنتخب أنها ستكون راضية عن سياساته، بل ستنحاز للأقوى وستعمل على توظيف قوتها الناعمة للتأثير فى الجزائر بحسبانها دولة فاعلة بخصوص قضايا إقليمية معيّنة. فالولايات المتحدة معنية من الناحية الجيوبوليتيكية بالاحتفاظ بموطئ قدم في البحر المتوسط، خصوصا أن الجزائر والمغرب وتونس انضمت إلى صيغ شراكة عسكرية مع حلف الناتو. 
يمكن التأكيد أيضاً على أن فرنسا والولايات المتحدة تدركان أن تغير ميزان القوى في الجزائر لمصلحة قوى ديمقراطية حقيقية ومتوافقة مع الجيش لن يؤثر فقط فى مصالحهما، بل سيغيّر معادلات القوة في الأقاليم، إقليم المغرب والفضاء الساحلي-الصحراوي. فاستقرار الجزائر وتفكيكها لعصابات الفساد سيسمحان لها باستعادة قوّتها ونموها الاقتصادي بما يمكّنها من أن تكون فاعلا إقليميّا في إدارة وحل النزاعات من ليبيا أو تونس، وصولا إلى مالي وجيبوتي. بل ستقود الجزائر مبادرات سلام موازية لمبادرات أوروبية وأمريكية بشأن الساحل وليبيا، ناهيك عن الضغط الذي ستمارسه الجزائر لرفض وجود قوات عسكرية أجنبية في هذه الأقاليم. إذن ستبقى فرنسا والولايات المتحدة أمام رؤيتين متضادين: عدم التدخل في الشأن الجزائري لضبابية تفاعلات القوى الداخلية فيها، والاحتفاظ على مسافة فاصلة تضمن الاحتفاظ بما أمكن من المصالح الاقتصادية، أم الحفاظ على ذراع ملوية لقوة الجزائر حتى لا تكون كابحا لأجندات استراتيجية غربية في الأقاليم: المغاربي، المتوسطي والساحلي - الصحراوي. وفي اعتقادنا أن مشاريع كبح الدور تنطبق على معظم دول الوطن العربي ذات المكانة الاستراتيجية من مصر إلى الأردن إلى سوريا ولبنان وصولا إلى ليبيا.
 
ثالثاً- روسيا:
كان الموقف الروسي صريحاً وواضحاً بخصوص ما يحدث في الجزائر، إذ زار في بداية الحراك وزير الخارجية الجزائري السابق، والمقرب من بوتفليقة، رمطان لعمامرة، موسكو، وتحادث مع المسئولين الروس، وأطلعهم على بعض حيثيات الحراك. وفي ذلك، أكَّدت روسيا، على لسان وزير خارجيتها لافروف، ضرورة عدم تدخل القوى الأجنبية في الشأن الجزائري الذي يبقى شأنا داخليّا، وهي رسالة واضحة للولايات المتحدة خاصة فرنسا التي تعمل على الضغط إعلاميا وسياسيا على الجيش الجزائري وتحذّر من انقلابه على نظام الحكم باسم دعم مطالب الشعب. هذا الحياد الإيجابي من روسيا، وهذه الزيارة من وزير الخارجية الجزائري إبان زخم الحراك الشعبي، تشير إلى دخول روسيا كطرف في معادلات توازن القوى في المغرب العربي، خصوصا أن لديها علاقات تاريخية مع الجزائر وتصدر لها أعلى كميّة من السلاح الروسي التي يصل ثلاثة مليارات دولار سنويا أو يزيد، فضلاً عن العقيدة القتالية للجيش الجزائري المستوحاة من العقيدة الروسية. إذن، حتى لو افترضنا إمكانية تدخل روسيّ في الشأن الجزائري، فالمؤكد أن روسيا ستميل لمصلحة الشعب والجيش على حساب الرئاسة. الأمر الآخر هو تحاشي روسيا ذلك الحياد السلبي الذي أبدته مع ليبيا وتونس بما أسهم في غيابها من المشهد الاستراتيجي المغاربي، وهو ما تداركته في الفضاء المتوسطي، من خلال تكثيف الحضور في سوريا. والمؤكد أن الموقف الروسي بشأن أحداث الجزائر سيتصاعد -بحذر كبير من اتهامها بالتدخل في الشئون الداخلية الجزائرية- بتصاعد تدخل فرنسا والولايات المتحدة.
 
بعد هذه التحليلات والافتراضات بشأن موقف القوى الكبرى من حراك الجزائريين وبشأن تحوّلات الشئون الإقليمية، يمكن في الأخير القول إن السفارات الأجنبية بالجزائر لديها المعطيات الكاملة حول قوّة الحراك الشعبي ومطالبه، وقوّة مؤسسة الجيش في التّحكم في شئون البلد، وفي مرحلته الانتقالية. فهي مطّلعة على ذلك التلاحم الواقع بين الجيش والشعب رغم بعض المشاريع المندسّة لنسفه. كما أن هذه السفارات قد تيقّنت أن فواعل السلطة السابقة يشهدون اختلافات وخلافات، وسيختلفون حول من يمثّلهم في الاستحقاقات الرئاسية القادمة، بل ستكون بين أصدقاء الأمس القريب تهمٌ وتهمٌ مضادّة قد تكشف للجزائريين عن أسرار الدولة العميقة التي تتحرك ضدّ إرادتهم. المؤكّد أيضاً أن هذه السفارات تنقل –وستنقل- لدولها أن المجتمع الجزائري منتبه وفطّن جدّا إلى أيّة مساعي للتدخل الأجنبي في شئونه، حتى من الدول العربية الصديقة، وذلك بحكم تراكم أسباب تاريخية وأمنية متعددة. لذلك، ستنصح هذه السفارات المسئولين في دولها بعدم التسرّع في إبداء المواقف وإعلان التصريحات على الأقل حتى يحين انتخاب رئيس جديد للبلد، مع أنه توجد إمكانية لقول بعض التصريحات العامة من شاكلة "حق الشعب الجزائري في ممارسة سيادته"، "الشأن الجزائري شأن داخليّ" ، "ندعم استقرار الجزائر ووحدتها".      
 
طباعة

    تعريف الكاتب

    د. جلة سماعين

    د. جلة سماعين

    باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، الجزائر