تحليلات - عالم عربى

هل نجحت القمة العربية بتونس فى ترتيب أولويات النظام الإقليمي العربي الجديد ؟

طباعة
اختتمت القمة العربية الثلاثون فى تونس - كقمة عربية ثالثة عقب القمة العربية الأوربية فى القاهرة والقمة الاقتصادية فى بيروت - في ظل ظروف مختلفة تدفع الى إعادة ترتيب الأولويات والملفات العربية، وفقا لما  يواجه الشرق الأوسط من جُملة من الاستحقاقات الإستراتيجية والتى يحدد جدواها شكل وطبيعة النظام الإقليمي العربى الجديد، خاصة مع تعقيد الملفات الأمنية فى كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا، وإقتراب التحركات الأمريكية بعد الإعتراف بالجولان تحت السيادة الإسرائيلة وسابقاً القدس، من استصدار نسختها عن "مشروع السلام" والتسوية المعروفة إعلامياً بـ "صفقة القرن"، فضلا عن هيمنة الملف الأمنى على طاولة المفاوضات وتحديات الإقليم فيما بعد داعش، ليدفعنا بالتساؤل حول إذا ما نجح استحقاق تلك القمة "إعلان تونس" فى تحديد مسارات جديد لمستقبل النظام الإقليمي العربى، أم أنها مثل سابقيها ولن تخرج عن مجرد توصيات غير إلزامية واجتماعات بروتوكولية. 
 
قمة استثنائية :  
شكلت القمة العربية في تونس قمة استثنائة ونقلة مختلفة ومُفصلية للنظام الإقليمي العربى،وذلك لعدد من الأسباب:  
انتقال رئاسة القمة العربية من المملكة العربية السعودية ذات الثقل الإسلامي والتحرك السياسى الإقليمي- إلى تونس الدولة ذات "الدبلوماسية الهادئة" والتى تتسم بالحياد السياسي حول أغلب ملفات الإقليم العربى، مما يمثل تحولاً نوعيا فى إدارة القمم العربية.
تنعقد "قمة تونس" في وقت يشهد فية الإقليم العربى تصعيدًا متعدد الأبعاد، تتشابك دوُله بين فواعل الداخل الإقليمي (إيران وتركيا)، والفاعلين العنيفين من دون الدول (داعش)، وكذلك الفواعل الدولية (الولايات المتحدة وروسيا). 
تحمل القمة تحديا زمنيا، حيث تتشابك وتتعدد الرهانات الإقليمية والدولية بقضايا الحسم، وتتداخل فيها الحسابات العربية الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية، مما يجعل من جدول أعمال القمة متخمًا بقضايا مصيرية تلامس مستقبل النظام الإقليمي العربي.
 
أولويات مصيرية:  
فرضت الظروف العربية السياسية والاقتصادية والأمنية الحالية، والتى تُعد الأسوأ منذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، ملفاتها على طاولة مفاوضات القمة لتتنجح فى إعادة ترتيب أولويات النظام الإقليمي العربى، وذلك من حيث: 
ملف التسوية "عملية السلام":
تراجع الملف الإيرانى وتهديدات القوى الصاعدة للمرتبة الثانية في ترتيب الأولويات العربية، حيث تجاهلت قمة تونس مسارات "مؤتمر وارسو" الذي أوجد نواة عربية لحلف دولي إقليمي أطلقته واشنطن ضد إيران وظل حتى الآن حلفا نظريا، لتصبح القضية الفلسطينية ومشروع "عملية السلام" على رأس أولويات القمة العربية فى تونس، انعكاسا لجُملة التحركات الأمريكية الاستباقية بالإقليم العربى لإعلان تفاصيل ما يُعرف إعلاميا بـ "صفقة القرن"، حيث:
إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 6 ديسمبر 2017، والذي اعترف فيه بالقدس عاصمة لإسرائيل.
ما تم الإنتهاء إليه من التحضيرات السياسية واللوجيستية فى البحر الميت بالمملكة الأردنية من دراسة مشروع إنشاء تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي "MESA " والمعروف إعلاميا بـ "الناتو العربى". 
ما إنتهى إليه جاريد كوشنير فى الأسابيع القليلة الماضية من زيارات متتابعة لعدد من دول عربية لمناقشة الأبعاد المختلفة لصفقة القرن وفى مقدمتها البُعد الاقتصادى.
توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فى 25 مارس 2019، مرسوماً اعترف من خلالة بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان المُحتلة.  
ومن ثم، فمثل تلك التحركات ساهمت فى الدفع بملف "صفقة القرن" كأول الملفات على طاولة اجتماعات القمة الثلاثين لجامعة الدول العربية وانعكس ذلك فى التحركات العربية التى تم تحديد مساراتها وفقا لـ"إعلان تونس" الصادر عن القمة كخطة تحرك عربية مضادة لتحركات إدارة ترامب الساعية لإعادة رسم ملامح الصراع ووضع محددات جديدة له وذلك بتبني مفاهيم اليمين الإسرائيلي وتصوراته وأهدافه، وتفريغ الحقوق الفلسطينية والعربية من القضايا الجوهرية والمركزية، بحجة صعوبة التوصل إلى حلول توافقية لها، وحتى لا تبقى قضايا "ذات وضعية خاصة" يمكن أن تفجر خلافات تفاوضية، وذلك بالتزامن مع انتخابات الكنيست الإسرائيلى فى الربع الأول من إبريل 2019. 
 
ملف "الأوضاع اليمنية": 
أنهت القمة التاسعة والعشرون أعمالها بالسعودية بتأكيد التمسك بالشرعية فى اليمن، وهو ما انعكس بقمة تونس من مراجعة أعمال قمة "الظهران" فيما يتعلق بالأوضاع السياسية والأمنية والإنسانية فى اليمن. 
ومن ثم، تمت ترجمة ذلك بإعلان الدعم العربى لما تم التوصل اليه من اتفاق بين طرفي النزاع برعاية الأمم المتحدة ودولة السويد كأحد اهم المسارات الأمنية فى دعم بناء النظام الإقليمي الجديد، خاصة أن اتفاق ستوكهولم في 13 ديسمبر 2018 سمح بفتح ميناء الحديدة وإبعاد أطراف الصراع ومناطق العمليات عنه، مما مكن من إدخال المساعدات الإنسانية والتخفيف من حدة معانات الداخل، فضلا عن تأكيد رفض كافة محاولات بعض القوى الإقليمية عن التدخل في شئون اليمن حتى تتمكن مختلف الأطراف من إيجاد مساحات مشتركة للحل وللخروج من الأزمة. 
 
ملف "الأوضاع الليبية":
أحد أهم الملفات ذات الأولوية المصيرية بهيكل النظام الإقليمي العربى الجديد، حيث تم تقديم الخطة الأممية لرأب شبح احتمالات التقسيم للداخل الليبى إلى ثلاث دول "شرقا وغربا وجنوبا"، وذلك بدعم القادة العرب لخطوات دفع الاستقرار في ليبيا الى الأمام، والتأكيد بـ "إعلان تونس" على مساندة الأطراف الليبيبة المتنازعة لتحقيق وحدة الصف والكلمة من خلال الانتخابات التشريعية القادمة من جهة، وصف الجهود المسلحة وراء الجيش الليبي من ناحية ثانية، من اجل صالح ليبيا والليبيين.
نقطة أخرى، تتعلق بمحور المسار الأمنى بالنظام الإقليمي العربى الجديد، وذلك بتقديم القمة الدعم العربى للاستقرار الأمنى فى منطقة الشمال الأفريقي ودحض خطط حركة الإرهاب الدولى والجماعات الإرهابية لاختراق القارة الإفريقية عن طريق الدولة الليبية، لتكوين دولة "خلافة" جديد مرة أخرى عقب انحسارها فى سوريا والعراق، مستغلين ضعف الأوضاع الأمنية والصراعات العرقية فى ليبيا ووعورة التضاريس الجغرافية.
 
ملف عودة سوريا:  
المتابع للشأن العربى يجد أن هناك سجالا دائرا بين مختلف الدول العربية وعلى كافة المستويات السياسية حول موضوع "عودة سوريا". فبالرغم من العودة الحذرة للعلاقات الخليجية السورية وفتح دولة الإمارات سفارتها بدمشق،  فإنه لا يوجد توافق عربى موحد حول وضعية "سوريا" داخل جامعة الدول العربية، وهو ما تم تأكيده بالقمة العربية فى تونس تحت بند أولوية "وحدة النظام الإقليمى العربى"، خاصة انه من المتعارف عليه ببروتوكولات الجامعة العربية، أنه لكي تعود سوريا يجب أن يكون هناك توافق عربى تام، ويصدر ذلك التوافق بقرار مكتوب يُقره المجلس الوزاري، وتتحرك بالتالي بموجبه الأمانة العامة لإنجاز قرار العودة والذى من الممكن إنجازة حال إنجاز "استحقاق التوافق" بالقمة العربية الحادية والثلاثين2020. 
 
•الإرهاب ومستقبل أمن الإقليم:  
أحد اهم الملفات ذات الأولوية السياسية والأمنية، خاصة بمناقشة القمة لملف الإرهاب والتطورات الميدانية لمجابهة الخرائط العسكرية والسياسية لتنظيم داعش، فالقمة العربية فى تونس حظيت بميزة نسبية هى أنها تزامنت مع التحركات العسكرية لتصفية آخر "الجيوب الإرهابية" لداعش فى منطقة الباغوز السورية وإعلان انهزام داعش عسكرياً، وهو ما يتطلب الإصطفاف العربى حول توحيد الجهود لمرحلة ما بعد داعش، ومناقشة ما يفرضه واقع الإرهاب من تحديات أمنية مستقبلية لنظامنا الإقليمي العربى، تتمثل فى الاتى:
الدواعش العائدون: أحد أهم الموضوعات ذات الأولوية بهيكل النظام الإقليمي العربى الجديد، وذلك لأهمية توحيد الموقف العربى من مسألة "العائدين" من مقاتلى داعش وكيفية التعامل معهم، وخيارات ذلك التعامل ما بين الطرح الخاص بسحب الجنسية العربية منهم أم منحهم ضمانات بمحاكمات عادلة، وسجنهم في حالة ثبت تورطهم في أعمال إرهابية أم ماذا؟!، فأغلب التقارير الدولية تؤكد أنه لا يزال هناك نحو 20 ألف مقاتل داعشي في سوريا والعراق تم تسريبهم إلى الداخل العراقي تحديدا، وذلك لأغراض غير واضحة أو مفهومة، ربما يكون بغرض "إعادة الإنتاج" و تنظيم الصفوف والاستعداد لمعارك آخرى انطلاقا من العراق، وما يعزز تلك الفرضية هو عدم محاصرة مصادر التمويل الداعشى حتى الآن، ومن ثم التشكك فى الوضع الأمنى ومستقبل دحضد الإرهاب فى الإقليم العربى.  
التحولات النوعية فى أجيال التنظيمات الإرهابية: فلم تعد تلك التنظيمات تعتمد على الهيراركية الرأسية كما فى حال تنظيم القاعدة، ولكن أصبح الوضع أشبه بالخلايا العنقودية ذات الانتشار الأفقى على مختلف العوالم الواقعية مثلما بات يعرف بظاهرة "الذئب المنفرد"، والعوالم الافتراضية عبر ما بات يُعرف بـ "الكتائب الإلكترونية" وغيرها من تحركات إرهابية مُتخذة من العوالم الرقمية الافتراضية ملاذا آمنا لعملياتها الإرهابية ضد الدول والحكومات العربية والدولية. 
 
فى النهاية .. 
استضافت تونس أول قمة عربية على أرضها ناقشت عددا من الملفات المصيرية ذات الأولوية المشتركة والمتمثلة فى: القضية الفلسطينية والموقف الأمريكي من سيادة الجولان وتحركاتة نحو شرعنة الاحتلال، وأزمات سوريا وليبيا واليمن، ومكافحة الإرھاب، وتدخلات القوى الصاعدة "إيران وتركيا" فى بعض الدول العربية، ومتابعة تطوير منظومة الأمن القومي العربي،.. وغيرها.
وعلى الرغم من إغفال القمة لعدد من الملفات العربية ذات الأهمية الثانوية والتى فى مقدمتها الأحداث في الجزائر والسودان، ودعم الصومال، وبحث آليات تطوير ميثاق ونظام الجامعة العربية ووظائفة السياسية،  فإن القمة العربية فى تونس سعت فى مخرجات إعلانها "إعلان تونس" لإعادة ملء الفراغ المؤسسى العربى، واستحضار الأدوات الداعمة لإعادة ترتيب المنطقة وفقا للأولويات العربية وليس الأجندات الخارجية، بما يخاطب التهديدات الأمنية الحالية، وهو ما انعكس على سياقات ودعائم القمة التى مثلت فى توقيتها وأولويات أجندتها حدثاً عربياً استثنائياً، ليبقى التحدى المستقبلى متمثلا فى الترجمة العربية لترتيبات  "إعلان تونس" على واقع النظام الإقليمي العربى الجديد. 
 
طباعة

    تعريف الكاتب

    د. إيمان زهران

    د. إيمان زهران

    متخصصة في العلاقات الدولية والأمن الإقليمي