تحليلات - عالم عربى

قراءة مغايرة: إشكالية تأمين "الطاقة" وحدود التنافس الروسى- الأمريكي فى سوريا

طباعة
فى أوقات الصراعات وتصاعد الأحداث، كثيرا ما تهتم وسائل الإعلام بالتركيز على الضحايا والدمار وتحليل خريطة سير العمليات العسكرية والأمنية وفواعلها. بينما يتجاهل البعض البُعد الجيوسياسي وكذلك الخلفيات الاقتصادية والمالية للجهات المتورطة، وأجنداتها الخاصة وأذرعها المتباينة بالصراع، وهذا ما ينطبق تماماً على المشهد الحالي في سوريا، فقد تجاوزت الأحداث مسألة إسقاط نظام، أو قمع مسلحين متمردين أو تقويض معارضة.
 ولعل تصاعد وتيرة الصراع بالداخل السورى وتداخل الفواعل الإقليمية والدولية، فضلا عن حدة الخطاب الأمريكى وتوجيه ضربة عسكرية مشتركة "أمريكية- فرنسية- بريطانية" ضد سوريا للرد على الهجوم الكيماوي على مدينة دوما السورية التي تعرضت له يوم 8 أبريل 2018 بغاز الأعصاب السام، وراح ضحيته عشرات القتلى، وذلك بعد فشل مجلس الأمن الدولي في تبني قرار ينهي الأزمة المتصاعدة- كل ذلك يضعنا أمام تحليل مُغاير عن طبيعة المشهد العملياتى استنادا للمُتغير "الجيو- سياسى" والانتقال لـ "ماهية الدور الأمريكي والروسى فى الداخل السورى، وهل يحمل التدخل الأمريكى مضامين مستقبلية تمهد إلى تغيير حقيقي في خريطة الصراع السوري وفواعلة أم لا ؟
 
دوافع التنافس:   
تعتبر التأثيرات الجيوسياسية أو التأثيرات الجغرافية لدولة ما على محيطها الإقليمي أو دوائر نفوذها الدولية عوامل أساسية في صناعة توازن القوى مع الخصوم الإقليميين والدوليين، ومنطلقًا لرسم السياسات الاستراتيجية التي تعتمد عليها أي دولة تتمتع بتلك المؤثرات في إدارة مصالحها القومية على الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية، وهو ما ينطبق على تحليل "دوافع" الصراع الروسي- الأمريكي داخل سوريا والتى تمحورت بشكل رئيسى على ضمان "أمن الطاقة".
فمع قيام الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد سيطرت بالفعل على معظم مصادر النفط في العالم، كما أن النفط كان عاملًا أساسيًا في هزيمة الاتحاد السوفيتي وإعلان تفككه عام 1991.
بالإضافة لذلك، بدأ التوجه العالمى بالحديث عن الطاقة النظيفة وما تمخض عنه من توقيع اتفاقية كيوتو عام 1997 في كيوتو في اليابان، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2005 وصدقت عليها 183 دولة عام 2008، وهو ما تلاقى مع الإدراك الأمريكى بأن "الغاز" هو طاقة المستقبل النظيفة في ظل تراجع احتياطيات النفط في العالم. 
وبموجب هذه الاتفاقية، وافقت الدول الصناعية على خفض الانبعاث الكلي للغازات الدفيئة بنحو 5.2% مقارنة بعام 1990، فقد ألزم الاتحاد الأوروبي بتخفيض ما قدره 8% ، والولايات المتحدة بنسبة 7%، واليابان بنسبة 6%، وهو ما يفرض على هذه الدول تخفيض استهلاكها من البترول والاتجاه لمصادر الطاقة النظيفة كالغاز والشمس والرياح.
ومن ثم، فقد جاء التحرك الروسي والاهتمام ببناء قوة اقتصادية كبيرة، مستغلا كون موسكو تملك أعلى احتياطي من الغاز في العالم، وهو ما دفعها للبدء بإمداد أوروبا بالغاز عبر شبكة أنابيب تمر عبر أوكرانيا وبيلاروسيا. ولكن بنشوب الخلاف في 2004 بين روسيا وحكومة أوكرانيا الموالية لأمريكا آنذاك حول سعر الغاز، أدى ذلك إلى تخفيض ضخ روسيا الغاز حوالي 48 ساعة، وهو ما دفع أوروبا وأمريكا للتفكير بحلول لتوفير الغاز الطبيعي لأوروبا إلى أوروبا من آسيا الوسطى دون المرور بروسيا لتجنب تكرار هذا الموقف واستغلال روسيا الغاز كسلاح اقتصاي ضد أوروبا، وتمثل هذا في اتفاق خط أنابيب نابوكو الذي تمخض الاتفاق عليه في 2009، كما تم الاتفاق علي خط تاناب الذي ينقل الغاز من بحر قزوين عند أذربيجان إلى اليونان عبر تركيا المزمع تشغيله في 2018.
ومن هنا، فقد جاء التنافس الأمريكى- الروسى بسوريا لأهميتها الجيوسياسية لكونها معبرا مهما لمرور أنابيب النفط والغاز "المُحتملة" مثل خط كركوك بانياس الذي توقف بعد الاحتلال الأمريكي للعراق 2003.
 
لماذا سوريا ؟ 
فى يوليو 2009، تحدث بشار الأسد بمنتدى رجال الاعمالى السورى- الاذربيجانى حول رؤيته لربط البحار الأربعة عن طريق مشروع يسعى إلى تأسيس بنية تحتية قوية، تجعل من هذه المنطقة عقدة حيوية لعبور الأشخاص والبضائع، ولتوليد ونقل الطاقة، وأكد ضرورة الربط الفيزيائي بين البنية التحتية لدول المنطقة مما يشكل شبكة متكاملة من أنابيب الغاز والسكك الحديدية والموانئ التي تربط بين البحار الأربعة، المتوسط والأسود وقزوين والخليج حتى البحر الأحمر، وأعاد التأكيد على هذه النقاط خلال زيارته لأرمينيا في نفس العام .
بالمقابل، فقد قُوبل اقتراح "قطر" بتوصيل خط انابيب للغاز مرورا بقطر والأردن وسوريا إلى تركيا، التي تعتبر عقدة خطوط الغاز لأوروبا وربطه بخط الغاز العربي الذي يبدأ من مصر إلى الأردن، بالرفض التام من جانب روسيان الحليف الاستراتيجي لسوريان لأن ذلك يضر بأهداف روسيا الاستراتيجية في السيطرة على سوق الغاز لأوروبا من جهة أوكرانيا، وبحر البلطيقن خاصة مع توقيع اتفاق مشروع الخط الإسلامى فى 25 يوليو 2011 لنقل الغاز من حقل بناس في الخليح العربي إلى سوريا مرورا بالعراق، تمهيدا لربطه بأوروبا مستقبلا.
 
صراعات "إثبات المكانة":  
اعتمد الصراع "الجيوسياسى" الأمريكى- الروسى على استراتيجية "الوكلاء" دون المواجهه المباشرة لتحقيق مصالحها، فروسيا تساند بشار حفاظا على مصالحها الاقتصادية، وهو نفس ما تفعله تركيا وأمريكا وقطر، فكل منها يحاول أن يوجه دفة الحرب في الاتجاه الذي يُعظم مكاسبه. 
بالمقابل، ثمه تغير "استراتيجى" بنمط العلاقات الأمريكية- الروسية، ظهر أولاً مع إطلاق دونالد ترامب  صواريخ أمريكية من نوعية "توماهوك"، قُدرت بنحو 59 صاروخا، على الأراضى السورية فى 7 أبريل 2017 واستهدف القصف قاعدة الشعيرات الجوية، ردا على استخدام النظام السوري غاز السارين ضد المدنيين في إحدى قرى محافظة إدلب، الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة، مما عمق من مساحة التوتر فى العلاقات الأمريكية- الروسية، وازداد ذلك برفع سقف الخطاب الأمريكى إلى حد تحميل كل من الرئيسين الروسي والإيراني مسئولية تجاوزات النظام، والتوعد بتوجيه ضربات أمريكية على سوريا؛ جاءت بصبغة دولية مشتركة مع كل من فرنسا وبريطانيا فجر السبت الموافق 14 أبريل 2017 ، استهدفت فى إطارها عددا من المواقع، هى: الحرس الجمهوري لواء 105، وقاعدة الدفاع الجوي بجبل قاسيون دمشق، ومطار المزة العسكري، ومطار الضمير العسكري، ومركز البحوث العلمية ببرزة دمشق وفروعه فى جمرايا دمشق، واللواء 41 قوات خاصة، ومواقع عسكرية قرب الرحيبة في القلمون الشرقي، ومواقع في منطقة الكسوة بريف دمشق، ليبقى التساؤل المُسيطر على المشهد العام: "هل يمكن أن يؤدي التدخل الأمريكي "الهش" إلى تغيير حقيقي في خريطة الصراع السوري؟ 
 
رسائل أمريكية :
على الرغم من هشاشة ومحدودية العملية العسكرية المشتركة والتى لا تتجاوز "90 دقيقة"، فإنها جاءت لتبعث بعدد من الرسائل الإقليمية والدولية، منها: 
- رسائل للداخل الأمريكى: بعضها جاء كرغبة من ترامب بإقامة تمايز بينه وبين إدارة أوباما، خاصة فى ظل الصراع المؤسسى الواضح بالإدارة الأمريكية الحالية، وآخر شخصى يتعلق بمحو الصورة المتخيلة عن ترامب كدُمية لبوتين، فضلا عن شغل الرأى العام الداخلى خاصة أن إدارته هى الأضعف من بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ولا يزال يتعرض لشبح التلاعب الانتخابي. 
- رسائل للمجتمع الدولى: جاءت الضربة العسكرية كتقويض "ظاهري" للنفوذ الروسى فى سوريا، خاصة مع تصاعد "احتمالية" التنسيق "الاستخباراتى" الأمريكي- الروسى للضربة المشتركة التى انعكست على سحب نظام الأسد لجانب كبير من معداته الحيوية، وترك فقط نقاط تفتيش اعتيادية، فضلا عن التفاهمات الإسرائيلية والتركية والتى ظهرت فى التصريحات المؤيدة للسياق العملياتى، وكذلك جاءت الضربة الأمريكية المشتركة ردا على نتائج القمة الثلاثية التركية الروسية الإيرانية المشتركة، والتى أكدت: "رفض كل المحاولات الرامية لخلق واقع ميداني جديد في سورية تحت ستار مكافحة الإرهاب"، وتأكيداً على المصالح الأميركية في سوريا المستقرة في شرق الفرات بـ 20 قاعدة عسكرية تضم ألفي جندي تقريبا، وأن واشنطن لا تزال من ترسم خطوط الصراع، وأنه لن تتم أى تسويات بسوريا بدون إشراكها ولو ظاهريا.
- رسائل للإقليم: جاءت العملية الأمريكية تزامنا مع عقد القمة العربية الـ 29 ، لإضفاء حالة من الإرباك بالمشهد العربى لدفع العرب نحو إعادة تقييم رهاناتهم وخياراتهم فيما يتعلق بصراع الأجنحة الدولية (الأمريكية- الروسية) بالإقليم عوضا عن مناقشة خيارات التسوية، وكذلك محاولة تقويض تمدد النفوذ الإيراني بسوريا من جهة، وفرض معادلة "المصالح الأمنية الإسرائيلية"من جهه أخرى.
الجدير بالذكر أن الضربة الأمريكية "الهشة" جاءت لتُبقى على الأهداف الأمريكية الجيواستراتيجية والموزعة بأربع مناطق؛ الأولى: في محافظة دير الزور التي تحتوي على أكبر الحقول النفطية في سوريا، والثانية: شرقي حلب لدعم قوات سوريا الديمقراطية، الثالثة: شرقي الفرات لقطع أحبال التواصل الإيراني عبر الحدود العراقية السورية، والرابعة: في الجنوب للقضاء على تنظيم الدولة، فضلا عن إفشال خطة التفتيش الدولي التي كانت ستكشف "كذب الادعاءات" بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية في دوما.
 
فى النهاية .. فمنطقة الشرق الأوسط تُعد منطقة نفوذ "جيوسياسى" لأطراف دولية تتصارع وتوظف وكلاءها بالإقليم لتحقيق مصالحها، وأولى تلك المصالح ما يتمثل بشكل أساسي في تأمين السيطرة على مصادر الطاقة النظيفة، وتحديدا غاز حوض البحر المتوسط في كل من لبنان وسوريا ومصر والعراق، وهو ما يُعمق من حدة التنافس الأمريكي- الروسي ووكلائهما في الإقليم الشرق أوسطى، خاصة بسوريا ذات الأهمية الجيوسياسية بالإقليم.
 
طباعة

    تعريف الكاتب

    د. إيمان زهران

    د. إيمان زهران

    متخصصة في العلاقات الدولية والأمن الإقليمي