من المجلة - تقارير

مزاج ثورى:|التأثيرات العربية فى الاحتجاجات الأوروبية

طباعة

رغم رفض قطاعات عريضة في المجتمعات الأوروبية لسياسات التقشف الاقتصادي، فإن الحكومات لم تجد بدا أمامها من التصديق عليها. فمع بداية الحديث في أكتوبر 2010 عن وسائل الخروج من الأزمة التي ألمت بالاقتصادات الأوروبية واحدا تلو الآخر، أبدي الشارع الأوروبي رفضه التام لمثل هذه السياسات، وخرج الآلاف إلي الشارع للاحتجاج علي سياسات يرون فيها تهديدا لاستقلالية بلادهم. ولكن علي ما يبدو أن تلك الموجة من الاحتجاجات لم تكن كافية لفرض التغييرات التي ينادي بها المواطن الأوروبي علي سياسات حكوماته.

إذ لم ينجح في منع تقليل الإنفاق العام علي قطاعات واسعة من الخدمات، مثل الصحة والتعليم وإعانة البطالة. وبعد أن أصبحت الإجراءات التقشفية أمرا واقعا، لم يجد الأوروبيون سوي الخروج إلي الشارع لتجديد رفضهم التام لتلك السياسات والسعي لإسقاط حكوماتهم. وبالفعل، ظهرت موجة احتجاجية جديدة ضربت إسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا، واليونان منتصف شهر مايو، وقبلها احتجاجات عارمة في بريطانيا في مارس.

وعلي الرغم من وضوح الارتباط بين موجتي الاحتجاجات، فإن وقع الموجة الثانية من الإضرابات جاء أكثر اتساعا من حيث المطالب والدوافع، وكذلك أشمل من حيث المشاركة والتفاعل. فموجة احتجاجات أكتوبر في أوروبا كانت تهدف إلي إعلان الرفض الشعبي لسياسات اقتصادية أدت بدلا من تقوية الاقتصاد إلي إضعافه أمام ديون خارجية هددت استقلاله. وفي محاولة للتغلب علي خطر الإفلاس الأوروبي، أخذت الحكومات في تبني سياسات تقشفية تنتقص من الإنفاق العام علي الخدمات الأساسية، مثل التعليم و الصحة، إلي جانب رفع سن التقاعد إلي 76. مثل تلك السياسات رآها المواطنون مجحفة، ولا تهدف إلا إلي إهدار حقوقهم في ظروف معيشية كريمة. لذلك، خرجت التظاهرات ردا علي سياسات لم تبد مقبولة لدي قطاعات واسعة من المجتمع، خاصة الطلاب والعمال. أما موجة الاحتجاجات الجديدة التي تضرب عواصم أوروبا الآن، فجاءت لتحتج ليس فقط علي سياسات التقشف التي باتت أمرا واقعا، علي معظم دول الاتحاد الأوروبي أن تتقبله، ولكنها جاءت لتضم ما هو سياسي إلي جانب الاقتصادي. فقد تخطت مطالب المحتجين الاعتراض علي السياسات الاقتصادية بالبلاد، بل وكذلك ضمان مستوي أكبر من الشفافية والتصدي للفساد الذي طال مؤسسات الدولة والأفراد القائمين عليها، فعكست مطالب الاحتجاجات رغبة شعبية في تصحيح وتطوير آليات المشاركة السياسية.

ورغم أن الظاهرات والاحتجاجات تمت بناء علي دعوات وترتيبات مسبقة واسعة النطاق، فإن وقع خروج الآلاف إلي شوارع العواصم الأوروبية كان صادما للحكومات الأوروبية. ومن أكثر ما لفت الانتباه للشارع الاوروبي في هذه التظاهرات هو القدرات التنظيمية الهائلة التي أظهرها المحتجون، سواء خلال فترة الدعوة للتظاهر أو حتي خلال فترة إدارة الاعتصام نفسه. فخروج الآلاف في الوقت نفسه للتعبير عن رأيهم ورفضهم لسياسات حكوماتهم في معظم العواصم الأوروبية يعد سابقة تستحق الدراسة. فالتظاهرات التي تزامنت وعاصفة التغيير التي تطيح بالحكومات العربية تحمل دعوة صريحة لاستخلاص أوجه التشابه والاختلاف بين التجربتين بين شعوب عربية تناضل من أجل إيجاد مستقبل ديمقراطي وشعوب أخري أوروبية تسعي وراء تعزيز ديمقراطيتها. وعلي ما يبدو، باتت خبرة ثقافة الاحتجاج والنضال من أجل التغيير تجمع بين شعوب ضفتي المتوسط وتقرب بينهم ربما أكثر من تجارب وتفاعلات تاريخية طويلة.

بيد أن ثمة اختلافات مبدئية واضحة بين التجربتين، تبدأ من عراقة الديمقراطية في القارة الأوروبية علي مر سنين طويلة، كانت المنطقة العربية تمر خلالها بعهود متتالية ومتراكمة من الديكتاتورية. كما أن الاحتجاج ظاهرة طبيعية لدي الشارع الأوروبي، في حين أن موجة التغيير العربية قد تكون الأولي بالمنطقة، من حيث المشاركة الشعبية، وكذلك من حيث التغييرات التي أتت علي الواقع السياسي. وقد هدفت الاحتجاجات الأوروبية إلي دفع منهج جديد من المشاركة الشعبية في رسم السياسات، في حين أن التغيير الجذري وإسقاط النظام الحاكم كان هدف ثورات الشارع العربي. ولكن علي الجانب الآخر، هناك عدد من الشواهد علي توافقات وتشابهات موجودة بين التجربتين.

أولا- سقوط طبقة السياسيين وصعود السياسة الشعبوية :

جاءت الاحتجاجات الأوروبية الأخيرة لتؤكد الرفض الشعبي التام والكامل لنخبة السياسيين بالبلاد أو ما يسمي بطبقة السياسيين. فحقيقة تسمية الأوروبيين للساسة بالطبقة باتت بمثابة إعلان للحرب علي رموز السياسة بالبلاد، سواء السياسيون في الحكم أو غيرهم من رموز المعارضة، ممن انفصلوا بشكل كامل عن توقعات المواطن وتمثيل مصالحه. فمع انتشار ظاهرة الفساد وتفشي الفضائح السياسية والجنسية، أصبح السياسيون لا يمثلون تطلعات الشارع الأوروبي في حكومات ترعي مصالحه. فالإدارة الضعيفة للأزمة المالية حفزت الشارع علي رفض ليس فقط السياسات التقشفية التي أرهقت البلاد، بل وكذلك أسلوب إدارة البلاد ووضع سياسات داخلية لا تتماشي وتطلعات المواطن. فما وصل إليه الشارع الأوروبي من حالة عزلة عن طبقة السياسيين قد يتشابه، لكنه لا يقترب مما ظل الشارع العربي يعانيه لعقود طويلة من التهميش الاجتماعي والشكوي من سياسات فوقية مفروضة عليه. وبالتالي، تعززت حالة رفض تلك الطبقة بكامل ممارساتها، وتصاعدت حالة الاحتجاج ضد سياساتها بشكل كبير في الشارع، الأمر الذي أدي إلي اندلاع موجة الغضب الاحتجاجي.

أصبح التغيير هو الغاية والسبيل، سواء في الشارع العربي الذي ظل يعاني ديكتاتورية حكامه لعقود طويلة، أو في الشارع الأوروبي الذي خبر الديمقراطية علي مر تاريخ بعيد. فحتمية التغيير باتت مطلبا أساسيا يجمع بين التجربتين، إلا أن طبيعة التغيير جاءت لتفرقهما. ففي حين كان التغيير الجذري هو المطلب الأساسي وراء خروج الملايين العربية إلي الشارع، منددة بكل ما له علاقة بعهد ديكتاتوري أعلنوه بائدا ومرفوضا للأبد، جاءت الانتفاضة الأوروبية الأخيرة لتكون بمثابة صرخة غضب ضد حكومات غابت عنها حلول للأزمات التي أخذت تضرب القارة طوال العامين الماضيين(1).

ولا تقتصر دلالة خروج الشارع الأوروبي منددا بحكوماته علي إعلان الاحتجاج ضد سياسات التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي علي الدول الأعضاء، لكنه خروج لإعلان سقوط منهجية السياسة التقليدية الحاكمة أمام السياسة الشعبوية، وأن العملية السياسية لم تعد تقتصر علي نخبة حاكمة وأخري، بل فرض الشارع الأوروبي نفسه كفاعل أساسي في تلك العملية. فالاحتجاجات التي أغرقت الشارع الأوروبي جاءت لتؤكد محورية دور الشعب في العملية السياسية، وأن الإرادة الشعبية هي روح المؤسسات السياسية بالبلاد. فصعود الحركات الاجتماعية الجديدة - مثل حركة "غاضبون" بإسبانيا وحركة "النجم الخامس" بإيطاليا- كان بمثابة تأكيد شعبي علي رفض الشارع الأوروبي لكل ما له صلة بالسلطة. فالسياسيون بالنسبة للفكر الشعبوي ليسوا سوي طبقة نخبوية فوقية تتمرس علي ممارسة الفساد ويشيع عنها الفضائح والمخالفات، فتلك الطبقة لا تخدم سوي مصالحها الخاصة والضيقة، في حين تظل المصلحة العامة غائبة، والعدل الاجتماعي بعيد المنال.

يري البعض أن صعود تلك الحركات الشعبوية هو انعكاس للممارسات الديمقراطية بالبلاد التي تحفز تمثيل القطاعات المختلفة من الشعب حتي الرافضة منها، إلا أن نجاحها في حشد تأييد واسع من قبل الشارع الأوروبي ينذر ببداية اتجاه جديد من المواطنين الرافضين للمؤسسة الديمقراطية العاملة بالبلاد و المطالبة بتغييرها(2). فمطلب المحتجين في إسبانيا وإيطاليا بتعديل النظام الانتخابي يدلل علي تلك الحقيقة، وهي أن المؤسسة الديمقراطية في أوروبا لم تعد تمثل تطلعات الشارع، وتحتاج إلي تغيير جذري يضمن ابتعاد العملية السياسية عن تناطح قوي المعارضة والقوي الحاكمة، بل وكذلك يضمن تمثيلا أوسع لقطاعات الشارع المختلفة. فالشارع الأوروبي بات يسعي وراء أول مبادئ الديمقراطية، ألا وهو تمثيل روح المصلحة العامة في السياسات المفروضة عليه. فالتمرد علي النظام الانتخابي يعد دعوة لاتجاه شعبوي جديد للسياسة الأوروبية، يكتسب الحاكم شرعيته فيه من الأفراد، ويساءل منهم.

ثانيا- الانتخابات المحلية ساحة للاحتجاج :

تزامنت الانتخابات المحلية في كل من إسبانيا وإيطاليا مع الاحتجاجات الواسعة التي عبأت الشارع ضد سياسات النخب. وجاءت نتيجة الانتخابات لتكشف عن انخفاض شعبية الحكومات، وتنذرها بابتعاد قريب عن سدة الحكم. فالسياسات المجحفة جمعت حكومة ثاباتيرو الإسبانية ذات التوجه الاشتراكي مع حكومة برلسكوني التي تنتمي ليمين الوسط في إيطاليا. ووجد المواطن الأوروبي نفسه أمام سياسات متشابهة، رغم اختلاف الأيديولوجيات وراءها، الأمر الذي أفقد الساسة مصداقيتهم أمام الشارع، فجاءت نتيجة الانتخابات لتهوي بالحكومات(3).

أسفرت الانتخابات المحلية في إسبانيا عن تقدم حزب المحافظين المعارض علي الحزب الاشتراكي بعشر نقاط، مما يتيح إجراء انتخابات مبكرة من المحتمل أن تطيح بالحكومة. وفي إيطاليا، رجحت كفة اليسار الديمقراطي علي حزب بيرلسكوني اليميني، مما يهدد بقاءه بالسلطة(4). وأكدت الانتخابات المحلية الأوروبية أن الشارع بات يميل نحو إسقاط الحكومات القائمة، حتي وإن كان البديل حكومة لا تحظي بشعبية واسعة(5).

إذن، تنذر الانتخابات المحلية بصراع قاس بين الحكومات والمعارضة علي البقاء، في حين يظل تيار واسع من المجتمع خارج المنافسة يرفض المشاركة في عملية، أطرافها جميعا متهمون بالفساد والفشل. لذلك، وضعت الاحتجاجات الأخيرة علي قائمتها المطالبة بتغيير النظام الانتخابي علي نحو ينأي بالعملية السياسية بعيدا عن تطاحن القوي السياسية، وكذلك تأكيد دور الفرد - الممثل في الشارع - كمشارك أساسي في العملية السياسية.

ثالثا- تراجع المعارضة التقليدية :

شهدت أوروبا في أكتوبر الماضي الموجة الأولي من الاحتجاجات ضد سياسات التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد والبنك الدوليان علي الدول الأعضاء. ولوحظ خلال تلك الموجة من الاحتجاجات الدور المحوري لأحزاب المعارضة والنقابات والاتحادات العمالية والمهنية التي عبأت أعضاءها - إلي جانب قطاعات واسعة من المجتمع - ضد مد رفع سن التقاعد، وقطع الإنفاق العام علي الخدمات الأساسية بالبلاد، وفرض خطة واسعة من خصخصة رأس المال الحكومي. إلا أنه مع اتساع قائمة الاعتراضات والمطالب التي بات يحتج عليها الشارع الأوروبي، والتي تضمنت ما هو سياسي إلي جانب المؤرقات الاقتصادية، وقفت القوي التعبوية التقليدية عاجزة أمام منافسة قوي شعبوية ذات طابع رافض لشتي أشكال المؤسسات التنظيمية العاملة بالبلاد. رجح هذا الاتجاه كفة الحركات الاجتماعية ذات الأساليب الحديثة في التعبئة علي غيرها من التشكيلات التقليدية. فرجاحة الاتجاه الشعبوي جاءت لتؤكد انتشار ثقافة الاحتجاج في أطياف متباعدة من الشارع الأوروبي، وذلك لضمانه قائمة أوسع من المطالب، في حين ظلت المؤسسات التقليدية غارقة في الصراع مع النخبة الحاكمة علي حزمة ضيقة من المصالح، لم تعد تمثل فئات الشعب المختلفة. فصعود الشعبوية دليل علي أن الشعوب الأوروبية باتت تبحث عن تمثيل لم تجده في أجندة الحكومة ولا في برامج النخب المعارضة. يتشابه هذا ووضع المواطن العربي، فالبعد عن المؤسسات التقليدية، واللجوء إلي قوي غير تقليدية من أجل التعبئة، ظاهرة جمعت بين حركات الاحتجاج في جميع الدول العربية.

رابعا- التعبئة وأساليب الاحتجاج :

يضم التاريخ الأوروبي تجارب واسعة ومتكررة من الاحتجاجات لمواطنيه، علي عكس تاريخ الشعوب العربية التي ظلت لعقود طويلة - إن لم يكن لقرون طويلة - خانعة لحكامها، مع وجود استثناءات، إلا أن تلك الموجة الحديثة التي تعصف أوروبا باحتجاجاتها جاءت لتتشابه وذلك الربيع الذي أعاد إحياء الشرق بتغييراته. قد يكون التقارب الزمني فاعلا مهما في هذه الظاهرة. وقد يكون نجاح بعض تلك التجارب، سواء في مصر أو تونس وربما قريبا في اليمن وليبيا وسوريا، مدعاة لكي تلحق أوروبا بها.

تشابهت التجربتان أو موجتا الاحتجاج في عدد من المعطيات، منها الجهات الداعية للتظاهرات، والأساليب المستخدمة في الإعلان عن المطالب والتعبئة، وحتي أساليب إدارة الاعتصامات.

تتماثل التجربتان في الابتعاد عن المؤسسات التقليدية للتعبئة الاجتماعية، وقد جاء هذا الرفض لقوي المعارضة التقليدية تأكيدا لرفض كل ما له صلة بما تشهده البلاد من تدهور وتأخر. وبالتالي، لجأت القوي الشعبوية إلي تكوين حركات اجتماعية مطاطة تضمن مشاركة شتي أطياف المجتمع. فحركات اجتماعية، مثل حركة "الغاضبون" التي امتدت من موطنها بإسبانيا إلي فرنسا والبرتغال، وكذلك حركة "النجم الخامس "بإيطاليا، جاءت لتماثل حركات احتجاجية عديدة أخذت تتوسع في الشرق، وتجذب تأييد قطاعات أوسع من الشعب خلال السنوات الخمس الماضية، مثل الحركة المصرية للتغيير (كفاية) التي جاء تأسيسها في عام 2004، تأكيدا لرفض الشارع المصري للنخب السياسية التقليدية، والبحث عن تحالف اجتماعي أوسع يدافع عن مصالحهم، بالإضافة إلي حركات وتنظيمات أخري حفزت الشارع المصري والعربي علي رفض التهميش المفروض عليه. وما ميز تلك الحركات الاجتماعية هو كونها عابرة للأيديولوجيا ورافضة للقوالب السياسية التي باتت تحجم القوي السياسية، وبالتالي جاء اتساع نطاق  المشاركة في تلك الحركات ليعكس استيعاب تلك الحركات أطياف الشعب في أشكاله المتعددة، وتنوعاته الطبقية والسياسية، وحتي الجيلية(6).

في أوروبا، كان من أهم دلائل تعبير الحركات الاحتجاجية بصدق عن المجتمع أنها طالبت ودفعت بقوة نحو التغيير دون أي تنازلات، مقابل المكاسب الضيقة التي تعرضها الحكومات.

لم يقتصر التشابه بين الموجتين الاحتجاجيتين علي تكوين جماعات اجتماعية احتجاجية ناجحة وجديدة، أو رفض التعامل مع نخبة سياسية، مشوبة بالفساد، معروفة بتراخيها عن المصلحة العامة لحساب مصالح ضيقة، لكن التشابه وقع كذلك في أسلوب تسويق المطالب للقطاعات المختلفة من المجتمع، وتعبئة حجم أكبر من المشاركة. ففي الحالتين، لعبت وسائل التواصل - مثل الفيس بوك وتويتر - دورا بارزا ومحوريا في دعوة قطاعات من المجتمع ظلت لوقت طويل مهمشة وغير مدرجة علي أجندة العمل السياسي. فشباب أوروبا رأوا في شباب العرب مثالا في المشاركة المجتمعية، وبالتالي كان للشباب الأوروبي الدور الأساسي ليس في الدعوة إلي تلك الموجة الحديثة من الاحتجاجات، بل وكذلك في نقل الخبرة العربية التي باتت تظهر نجاحا. وهنا، لابد من تأكيد متغيرين أساسيين في التسويق للموجة الثانية من الاحتجاجات الأوروبية، أولهما هو الإعلان المسبق للاعتصامات، والذي أخذ في التوسع في الدعوة لمشاركة من فئة لأخري في المجتمع، مما أسهم في تراكم عدد المشاركين طوال فترة الدعوة. ثانيهما هو تبني وسائل التواصل الحديثة إلي جانب غيرها التقليدية في التعبئة، وبالتالي جاءت الدعوة لتصل إلي قطاعات ظلت بعيدة عن المشاركة.

أما العامل الأساسي في التقارب بين التجربتين، فكان أسلوب إدارة الحركة الاحتجاجية نفسها، حيث حاولت الاحتجاجات الأوروبية استحضار الخبرة العربية والتشبه بها، من احتلال المحتجين الأوروبيين لشوارع بروكسل ببلجيكا، إلي محاولة الفرنسيين احتلال ميدان الباستيل، واليونانيين لميدان سينتماجما، والإسبان لميدان باب الشمس، مما يمكن وصفه بأنه محاولة للتمثل بالتجربة العربية في ميدان التحرير بالقاهرة، وساحة التغيير باليمن، ولكن فوق أراض أوروبية(7). كما حرص المحتجون الأوروبيون علي رفع شعارات تؤكد سلمية احتجاجاتهم، وأن اعتصاماتهم مستمرة حتي تحقيق مطالبهم، علي غرار نهج الثورات العربية(8).

ويبدو الدرس المستلهم من التجارب العربية آخذا في التناقل من دولة أوروبية لأخري، هو أن الاعتصام الاحتلالي لساحات وميادين العواصم العربية كان كفيلا بفرض الإرادة الشعبية علي العملية السياسية، هذا إلي جانب الظهور بشكل مؤثر قد يصدم الرأي العام في الوهلة الأولي، ولكنه في النهاية فعال في حشد تأييد واسع بين قطاعات من المجتمع، ظلت بعيدة ومهمشة عن العمل العام لعقود طويلة.

كذلك لم يقتصر التشابه بين التجربتين الأوروبية والعربية فقط علي مستوي المحتجين، ولكن جاء رد الفعل الحكومي أيضا متشابها إلي حد بعيد. فقد تماثل قدر العنف الذي أظهرته الجهات الأمنية في إنجلترا وإسبانيا وإيطاليا واليونان مع ما تم في تونس والقاهرة وصنعاء، حيث واجه الأمن التظاهرات في الشوارع الأوروبية بهجمات عنيفة. يندرج ذلك العنف الأمني تجاه المتظاهرين، والذي أصاب أكثر من 100 محتج بميدان باب الشمس بمدريد، في إطار الاستراتيجيات الأمنية نفسها لحكومات لم تجد أمامها سوي العنف ملاذا لها(9).

وتشير كل تلك الظواهر إلي أن الاحتجاجات الأوروبية والتعامل الرسمي والأمني معها، خصوصا العنف الممارس ضد المتظاهرين السلميين، بمثابة جرس إنذار، علي الحكومات الأوروبية الانتباه إليه، لأنه يعني تزايد الاحتقان وأزمة الثقة بين المواطن الأوروبي وحكوماته، ويشير إلي أن تصعيد الأزمة بينهما بات أمرا حتميا، مادامت الحكومات مستمرة بسياسات تقشف مرفوضة لدي قطاعات واسعة من المجتمع أصبحت مهمشة وغير ممثلة سياسيا.

الهوامش :

1- زSpanish PM Zapatero faces Rebellion as Socialists Digest Election Defeatس، www. Guardian.co.uk، access date: June 1st، 2011.

2- كارن أبو الخير، الشعبوية تعود إلي المجتمعات الغربية، مجلة السياسة الدولية، عدد (184) أبريل 2011، ص171.


3- The Economist،  "A Blow to Berlusconi"، May 21st، 2011، p.33.

4- The Economist ، " Italy"s Municipal Elections: Not- So- Sweet Home"، May 31st،2011، http://www.economist.com/blogs/newsbook/05/2011/italys_municipal_elections

5- "Spain"s election Results May Lead to a More Unpopular Government"، www. Guardian.co.uk، access date: May 28th، .2011

6- "Italians are Angry with their Politicians: it would be Foolish to ignore Them"، www. Guardian.co.uk، access date: June1st، .2011

7- The Economist، "The Unhappy Campers"، May 28th، 2011، p. .31

8- Spanish Protesters Clash with Police Over Claen-UP، www.guardian.co.uk، Date of Access: May 27th، 2011.

9- Peter Apps،"Analysis: Europe faces rising austerity protests in 2011"، http://www.reuters.com/article/15/12/2010/us-europe-protests-idUSTRE6BE3FK20101215، access date: June 13th، 2011.

طباعة

    تعريف الكاتب

    ريم عوني

    ريم عوني

    باحثة مساعدة في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام