من المجلة - كيف يفكر العرب ؟

عاصفة الحزم‮ .. ‬نمط التحالفات واحتمالات التكرار ومسارات المستقبل

طباعة
 
ليست "عاصفة الحزم" بحدث عادي في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، ليس لكونها أول حرب بين أطراف عربية، ولا لكونها نمطا من الحروب التي امتزج فيها "النظامي" بأسلوب حرب العصابات، ولا لأنها انعطفت في طريقها نحو مسار سياسي بحثا عن حلول، وإنما لأنها التحرك الخليجي المسلح الواسع الذي أعلن جهارا أنه يرمي إلى تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة.
 
كما أنها الأولي من نوعها بالنسبة لبلدان عربية لم تكن في الماضي تقدم على خوض غمار حرب بهذه القوة، وهذا العمق، وذلك الاتساع، والأولي كذلك في اعتمادها بالأساس على قوات عربية متحالفة، ليست ضد عدو خارجي ظاهر، مثل حرب أكتوبر 1973، وليست بالتعاون، أو بالأحري بمساعدة قوات أجنبية، مثلما جري في حرب تحرير الكويت من الغزو العراقي في مطلع عام 1991، وإنما بالأصالة عن أطراف التحالف.
 
ويتطلب تحليل هذا الحدث، غير العابر، في المسار السياسي العربي، في حقيقة الأمر، إمعان النظر في الخطوط العريضة، أو المسارات الكبرى، بعيدا عن التفاصيل اليومية من أخبار ميدانية، وتصريحات مكتبية، وصور ومقاطع متلفزة، ملأت شاشات الفضائيات، وصفحات الصحف، ومواقع التواصل الاجتماعي، ولاكتها ألسن المتابعين للحرب، واضطربت بها مشاعر اختلط فيها الأمل بالألم، والشجاعة بالخوف، واللهفة بالرجاء.
 
وهذا المنحي يرمي إلى رسم صورة كلية، ليس فقط لما جرى ويجري الآن، وإنما أيضا في اتجاه بناء تصور متكامل، أو استراتيجية للمستقبل.
 
من أجل هذا، لا بد من تحليل ثلاثة عناصر أساسية تتعلق بهذه الحرب، هي:
 
1 - نمط التحالفات وطبيعتها، سواء من زاوية الأطراف المشاركة فيها، ومدي تماسكها، وحجم إسهامها، والأهداف التي قصدتها من إقدامها على هذه الخطوة الواسعة، والحصاد الذي جنته حتي الآن، والتغيير الذي أدخلته على العقيدة العسكرية لدول مجلس التعاون الخليجي.
 
2- مدي إمكانية تكرار "عاصفة الحزم" حيال ملفات عربية أخرى ساخنة، أو مواجهات محتملة مع أطراف إقليمية طامعة، سواء في ضوء "مبادرة الدفاع العربي المشترك"، أو "التحالف الإسلامي". ويتطلب هذا تحليل عدد من الشروط، منها: مدي النجاح، وزاوية النظر إليه وتقييمه، والضرورة ومستوي ارتباطها بالمفاجأة وتقدير الموقف سريعا، والتشجع في اتخاذ قرار الحرب، والاستعداد لدفع الثمن، والاعتقاد الجازم بأن هذه هي الطريقة الملائمة لعلاج الموقف، ثم التصورات المرتبطة بالمشروعية والشرعية، والمؤسسية والتنظيم، وأخيرا الموقف الدولي واتجاهاته.
 
3- تكوين استراتيجية لمستقبل اليمن، والعلاقات العربية معه، على أساس أن الاستراتيجية هي أعلى درجة في التفكير، والتدبير، والترتيب، ونطاق التأثير، والأفق الزمني من "السياسة"، والتي تتطلب شروطا، مثل: وضوح الأهداف، وتكاملها، وواقعيتها، إلى جانب العقلانية، والتخصص، والاستمرارية، والإلزام، والمرونة.
 
أولا- جوهر الصراع في اليمن قبل "عاصفة الحزم":
 
حاولت النخبة الثقافية والاجتماعية اليمنية أن تدخل ببلادها إلى آفاق العصرنة، متخلصة من رواسب الماضي التي ظلت، طيلة الوقت، تشد اليمن إلى الخلف، حيث الحضور الطاغي للتقسيمات الاجتماعية التقليدية، بتشكلاتها القبلية، والطائفية، والفئوية، وبعض المظاهر التي لا تخلو من غرائبية، مثل "الجنبية"، و"الرهينة"، و"القات".
 
ولعل هذا المسار يقدم اقترابا علميا لتفسير جانب مما يجري في اليمن حاليا، حيث قامت ثورة شعبية من أجل إخراج البلاد من إسار الماضي، لكنها اصطدمت بعراقيل قوية آتية من أعماق هذا الماضي، فتعثرت، وأتاحت فرصة لثلاثة أطراف، كي تتصارع على سرقتها، وهي:
 
1- كل إمكانات قوي "الثورة المضادة" المرتبطة بالرئيس المخلوع على عبدالله صالح، الذي ظل، من خلال الجيش والقبيلة، يطرح نفسه بشكل متدرج ومتفاوت في كل الحلول، إلى أن أصبح طرفا ظاهرا في الصراع، ويبذل قصارى جهده، بالسلاح والسياسة، في سبيل أن يكون في قلب أي تسوية سياسية قادمة، أو لا يتم وضع حد لنفوذ الحوثيين إلا من خلاله.
 
2- الحوثيون الذين رفعوا شعار "الثورة مستمرة" خلفهم، وزحفوا إلى صنعاء تحت ستار مطالب اجتماعية تتعلق بالدعم، والأسعار، والفقر، حتي تمكنوا من العاصمة، وأصدروا إعلانا دستوريا اختطفوا فيه السلطة باسم الثورة.
 
3- جماعة "الإخوان المسلمين" التي تصرفت في اليمن، كما تصرفت في غيره من بلدان عربية، متوسلة بالثورات والانتفاضات، كي تحقق مشروعها المختلف عن ذلك الذي أراد الثوار المدنيون بناءه.
 
وهذه الأطراف تستدعي وتوظف الماضي بتشكلاته، وإمكاناته، وحمولاته التقليدية التي لم يتم تفكيكها، أو التقليل من آثارها، لاسيما تلك المرتبطة بالقبيلة والسلاح. وإذا كان الإخوان يطرحون أنفسهم، من خلال مؤسسة حديثة تتمثل في "حزب سياسي"، فإن هذا الحزب هو شكل حديث فقط، بينما المضمون تقليدي، سواء على مستوي البناء، حيث تنتمي الجماعة في تكوينها وتراتبيتها إلى نمط قديم، أو على مستوي الخطاب، حيث تريد أن تستعيد نظاما سياسيا واجتماعيا لم يعد صالحا لزماننا. ويفعل الحوثيون الأمر نفسه من خلال أطروحاتهم النابتة من رحم مشروع "الدولة الدينية" بمختلف مضامينها وأشكالها.
 
والمضي على درب هذا المسار في التحليل ينتهي إلى القول باطمئنان: إن الصراع الحقيقي في اليمن، قبل انطلاق عاصفة الحزم، كان بين قوي الثورة المضادة بالأساس، سواء بإمكاناتها المحلية، أو بالأطراف الإقليمية والدولية التي تغذيها. وجاءت الحرب في ظل تفاعلات جانب كبير من هذا الصراع، الذي لا تزال قواه الذاتية وآلياته تعمل دون توقف.
 
يزيد الطين بلة أن الطرفين اللذين يدخلان الصراع تدريجيا في الوقت الراهن، ويجدان فرصا سانحة لتحقيق أهدافهما ينتميان إلى الماضي أيضا، وهما: "القاعدة" و"داعش"، وملحقاتهما من "السلفيات الجهادية"، والحراك الجنوبي الذي يعمل على انفصال جنوب اليمن عن شماله، لتستعيد النخبة التي تم إقصاؤها في حرب 1994 إلى الواجهة، وهي لا تملك على الأرجح مشروعا تحديثيا لليمن، إلا إذا أدركت أن غاية المراد ليست استعادة الماضي.
 
هذا معناه أن كل الصراع في اليمن ضد ولادة مستقبل للبلاد، يفارق الماضي، ولو بشكل متدرج، ويبني مشروعه التحديثي، ولو على مهل. ومن أسف، لا تلوح في الأفق أي بوادر لهذا المشروع الذي حلم به الثوار، لكن الصراع على السلطة حوله إلى كابوس تحضر فيه كل أشباح الماضي، لاسيما بعد تعثر المباحثات السياسية بالكويت، التي سعت إلى حل المعضلة اليمنية المعقدة، وقفز علي عبدالله صالح والحوثيين إلى نتيجة، لا تقبلها دول التحالف، بتشكيل "مجلس سياسي" أدي اليمين الدستورية في البرلمان يوم 15 أغسطس 2016،  وهو ما قد يعد تمهيدا لانفصال شمال اليمن إلى حين، علاوة على ما فيه من التفاف وافتئات على شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، بل محاولة لإلغاء هذه الشرعية.
 
ثانيا- نمط التحالف والتغير في العقيدة العسكرية الخليجية:
 
انتقلت العقيدة العسكرية الخليجية من دفاعية إلى هجومية، في جانب منها، مع عملية "عاصفة الحزم" التي قادتها المملكة العربية السعودية.  وهي تنبني على "تحالف"، أو "ائتلاف عسكري وأمني"، يتكئ على توافق الإرادة السياسية بين دول الخليج التي تشارك فيه، وتلك التي تتعاون معها في هذه العملية. وإن كان هذا التحالف مرتبطا بظرف مواجهة الحوثيين وحلفائهم، ومن ورائهم إيران، فإنه لا يوجد ما يمنع من إعادة تشكيله من جديد، حين تقتضي الضرورة ذلك.
 
وحتي قبل "عاصفة الحزم"، فإن تغير تلك العقيدة العسكرية قد واكب تطورات فارقة في المنطقة، تتمثل فيما يأتي:
 
1- تمدد النفوذ الإيراني في العالم العربي: إذ استغلت طهران الاحتلال الأمريكي للعراق لتعزز من سيطرتها عليه، بينما تعاظم نفوذها في لبنان عبر "حزب الله"، ووظفت الاضطرابات في سوريا لمصلحتها، ثم سعت إلى الإمساك بزمام الأمور في اليمن من خلال الحوثيين. وجري هذا في وقت استمرت فيه التهديدات الإيرانية لبعض دول الخليج على حالها، في ظل الاتهامات المتبادلة، حيث تتهم دول الخليج إيران بالتدخل في شئونها، من خلال إثارة النعرات الطائفية، بينما تتهم إيران دول الخليج بأنها تسهل من مساعي الدول الكبري، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، في حصار إيران وإضعافها، علاوة على المشاكل التقليدية، ومنها احتلال إيران لجزر الإمارات الثلاث (طنب الكبري - طنب الصغري - أبو موسي)، ومحاولة تسييس موسم الحج.
 
2- توحش الطور الأخير من الإرهاب: إذ لم تعد عمليات الإرهابيين تقتصر على القتل، والتخريب، والتدمير بعمليات متناثرة هنا وهناك، وإنما استمرءوا اقتطاع جزء من الدول، ثم إقامة "إمارة إسلامية" عليه، مثلما فعل تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، ثم تنظيم "داعش" في العراق وسوريا. وكان من الطبيعي أن تنتبه دول الخليج لهذا التطور، وتستعد لأسوأ السيناريوهات في هذا السبيل، حيث من الممكن أن تستغل التنظيمات الإرهابية أي اضطراب اجتماعي من المحتمل أن يحدث في أية دولة خليجية، وتحاول أن تكرر التجربة المريرة في العراق وسوريا.
 
3- التغير في السياسات الدولية حيال الخليج: حيث أزعج تنامي العلاقات الأمريكية - الإيرانية دول مجلس التعاون، خوفا من اتفاق الطرفين على دول الخليج، عكس ما كان سائدا من قبل،  وذلك عقب توقيع اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني، أو من تراجع الدور الذي كانت تقوم به واشنطن في حفظ أمن الخليج، دفاعا عن مصالحها، لاسيما مع انخفاض القيمة الاستراتيجية للخليج لدي الأمريكيين، بعد اتجاههم أكثر لاستخراج النفط الصخري، وبحثهم الدائب عن مصادر بديلة للطاقة، وانشغالهم بمناطق أخري منتجة للنفط، مثل غرب إفريقيا.
 
وقطعا، فإن هذا جعل الولايات المتحدة تراجع ثوابت سياستها الدفاعية والخارجية عموما، بما يضع شرق الباسيفيكي مكان الشرق الأوسط في دائرة الاهتمام، والانشغال والتحرك.
 
4- التهديدات الأمنية التقليدية: وهي التي دفعت دول الخليج إلى إنشاء "مجلس التعاون لدول الخليج العربية" عام 1981، في محاولة منها لتجميع قواها، بغية مواجهة الأخطار المحدقة بها، ومنها غزو الاتحاد السوفيتي المنهار لأفغانستان، سعيا للوصول إلى المياه الدافئة، وبدء امتداد أعين قادة الثورة الإيرانية، التي نجحت عام 1979 في الإطاحة بحكم الشاه، إلى الخارج لتصدير الثورة، وتراجع الدور المصري في الخليج، بعد إبرام مصر اتفاق سلام مع إسرائيل، ومقاطعة العرب لها. ومثل هذه التهديدات، أو الشعور العميق بها، هو الذي دفع فيما بعد إلى تبني استراتيجية دفاعية موحدة، تمثلت بالأساس في "قوات درع الجزيرة"، التي وافق المجلس الأعلى لمجلس التعاون في دورته الثالثة، المنعقدة بالمنامة في  نوفمبر 1982، على إنشائها.
 
وعقب الغزو العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990، دعت الرياض مجددا  لزيادة التعاون الداخلي للدول الأعضاء في درع الجزيرة، ودعمت اقتراح السلطان قابوس بزيادة أعداد هذه القوات إلى مئة ألف جندي. إلا أن هزيمة القوات العراقية في نهاية فبراير 1991 أدت إلى تراجع الأصوات الداعية إلى هذه الخطوة.
 
وعاد المجلس الأعلى لدول مجلس التعاون في دورته السادسة والعشرين، التي استضافتها أبوظبي في ديسمبر عام 2005، ليوافق على اقتراح الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود بتعديل المسمي من "قوة درع الجزيرة" إلى "قوات درع الجزيرة المشتركة".
 
عند هذا الحد، كانت قوات درع الجزيرة تتكون من فرقة مشاة آلية بكامل إسنادها، وهي (المشاة، والمدرعات، والمدفعية، وعناصر الدعم القتالي). وتتألف القوة التأسيسية من لواء مشاة يقدر بنحو خمسة آلاف جندي من عناصر دول مجلس التعاون الست. وأغلب جنود القوة هم من السعودية مع أعداد أصغر من بقية الدول. وكانت القدرة القتالية لهذه القوة تمكنها فقط من خوض حرب دفاعية، وإن كانت غير قابلة للتصدي لأي عدوان خارجي.
 
ورغم أن وزير الدفاع السعودي وقتها، الأمير سلطان بن عبدالعزيز، قد أعلن  في ديسمبر 2005 تفكيك قوات درع الجزيرة، على خلفية التوترات السعودية - القطرية، وإدراك مجلس التعاون أن القوات لم تكن على المستوي المطلوب، فإن مجلس الدفاع المشترك في دول المجلس ناقش في نوفمبر 2006 اقتراحا سعوديا لتوسيع قدرات الدرع، وإنشاء نظام مشترك للقيادة والسيطرة. وبذا، كانت قوة درع الجزيرة في عام 2006 تقدر بنحو سبعة آلاف فرد. وفي عام 2010، تجاوزت القوة عتبة الثلاثين ألف عسكري من ضباط وجنود، بينهم نحو 21 ألف مقاتل.
 
وطُرح موضوع القيادة العسكرية الخليجية الموحدة في ختام القمة الخليجية الثالثة والثلاثين بالمنامة يومي 24 و25 ديسمبر 2012، وقد تزامن مع توقيع اتفاقية أمنية قضت بتشكيل شرطة خليجية موحدة.
 
أما في السلم، فتكون مهمة هذه القيادة هي تقييم الأخطار، وإعداد الخطط لمواجهتها، وضمان التنسيق بين قوات المجلس، عبر تعاون رؤساء الأركان، وتقديم المشورة في شأن العقائد العسكرية، والحصول على الأسلحة والمعدات، لتعزيز إمكانات مختلف القوات، وإنشاء مركز مشترك للاتصالات، والاستخبارات، والعمليات العسكرية، والإشراف على تنفيذ المناورات، والتدريبات، والتفتيش عليها، وتقييمها،  وإبداء الرأي حول تجهيز مسرح العمليات، وتحديد حجم الإسهام العسكري لكل دولة، وتقسيم القوات المسلحة في كل منها إلى: قوات الأسبقية الأولي، وهي جاهزة دائما، وقوات الأسبقية الثانية، وتكون جاهزة للتحرك عند الضرورة، وقوات الأسبقية الثالثة، وهي متبقية في بلدها، وتتولي مهام الأمن الداخلي.
 
وتدفع هذه التطورات دول الخليج العربية، أو أغلبها، إلى مزيد من التعاون العسكري بينها، بعد أن تعزز كل دولة على حدة قدراتها العسكرية، سواء بتجهيز كوادر وطنية مؤهلة، أو الحصول على أحدث الأسلحة. وقد تواصل انتقالها من الاقتصار على قدراتها الذاتية التي تشكل تحالفا  "خليجيا - خليجيا" لبناء تحالف عربي، تنطلق منه إلى بناء تحالف "خليجي - إقليمي" واسع.
 
وفي العموم، فإن العقيدة العسكرية الخليجية تحكمها عدة مبادئ، هي:
 
1- هي عقيدة دفاعية بالأساس، ترمي إلى الإبقاء على "الحدود آمنة"، أو "حدود يمكن الدفاع عنها"، وهذا يتطلب امتلاكها القدرة على رد الفعل السريع حيال أي تهديدات محتملة أو محققة.
 
2- هي عقيدة رادعة، تهدف إلى منع أي دول من المبادأة بالاعتداء على دول الخليج. واعتمد هذا الردع بالأساس على امتلاك أفتك الأسلحة وأحدثها.
 
3- امتلاك إمكانية التحول من الدفاع إلى الهجوم، إن اقتضت الضرورة، مثل عملية "عاصفة الحزم"، ومن قبلها دخول القوات السعودية إلى مملكة البحرين.
 
4- تفهم حساسية وضع دول خط المواجهة، ويعني بها مواجهة التهديدات الإيرانية، وكيف يمكن أن تشكل المملكة العربية السعودية عمقا استراتيجيا لها.
 
5- العمل على إنشاء نقاط آمنة خارج الحدود، والدفاع عنها، مثل "خط الفهد" السعودي للدفاع الجوي، الذي يبدأ من المياه الدولية خارج أراضي السعودية.
 
6- الانفتاح على التعاون مع أي قوة إقليمية أو دولية يهمها أمن الخليج العربي، أو تتعرض لمصادر التهديد ذاتها التي تواجهها دول الخليج.
 
ومن النقطة الأخيرة، نبع التحالف الذي قام حول "عاصفة الحزم"، والسؤال الذي من الضروري طرحه في هذا المقام هو: أي نوع من التحالف هو؟
 
ابتداء، يعد التحالف العسكري  علاقة تعاقدية بين دولتين أو أكثر، يتعهد بموجبها المتحالفون بتبادل المساعدة في حالة الحرب، دفاعية كانت أو هجومية، لكنه عادة ما ينطوي على معاهدات واتفاقات غير عسكرية مصاحبة، قد تكون سياسية، واقتصادية، وتجارية، وأمنية. وبذا، يبقي التحالف هو بديلا لسياسة العزلة التي تتنصل فيها الدول من أي مسئولية عن أمن دول أخري، وله وظيفة ضرورية لتوازن القوي.
 
وحتي يقام التحالف على أرض صلبة، فلا بد من وجود مصالح مشتركة وثيقة بين أطرافه، فهي في أغلب الأحيان الرباط الأكثر قوة، سواء بين الدول أو الأفراد، رغم أنها ليست بالضرورة محددة بإقليم جغرافي، أو هدف معين.
 
وتتنوع الأحلاف أو التحالفات بين هذه التي تخدم مصالح أو سياسات متطابقة،  وتلك ذات النزعة العقائدية أو الأيديولوجية، التي تتجاوز المصالح المادية البحتة والمباشرة. وهناك التحالفات المتبادلة مقابل وحيدة الطرف. ويمكن أن نفرق بين التحالفات العامة والمحدودة، وبين التحالفات الدائمة والمؤقتة، وبين التحالفات الفعالة والخاملة، أو الخامدة، أو المجمدة.
 
ويبقي أفضل شكل للتحالف هو ذلك الذي يحاول تحويل جزء صغير من إجمالي المصالح المشتركة للدول المتعاقدة إلى سياسات وتدابير مشتركة، إذ إن بعض المصالح قد لا يحظي بأهمية  لأهداف أطراف الحلف، بحيث يؤيدها بعضها، ويتنصل منها آخرون، بل قد تعارضها جماعة ثالثة.
 
وقبل الشروع في بناء التحالف، يكون أمام الدول الساعية إلى هذا ثلاثة خيارات لتعزيز قوتها، هي: أن تزيد قوتها الذاتية بمزيد من التسليح والتدريب، إلى جانب الركائز الأخري الاقتصادية والدبلوماسية، أو تضيف إلى قوتها قوي أخري، أو تعمل على إضعاف قوة الخصم.
 
واختارت المملكة العربية السعودية، التي شرعت في تكوين هذا التحالف، الخيار الثاني، نظرا لأن الخيارين الآخرين سيستغرقان وقتا طويلا، بينما كان الحوثيون على أبواب عدن، الأمر الذي يعني، بالنسبة للسعودية ودول الخليج العربية، أن وقوع اليمن في قبضة إيران قد بات وشيكا، وأن هذا يفرض عليها التحرك سريعا للحيلولة دون ذلك.
 
ولهذا، بدا الأمر بالنسبة لهذه الدول أقرب إلى "الحرب الوقائية" التي تعرف بأنها الحرب التي تشنها الدول لإزالة تهديد بعيد، وذلك في ظل اعتقاد الذين يبدءون الحرب بأنهم إذا انتظروا، فسيصبح التهديد أشد، وستتقلص مقدرتهم على التصدي له بمرور الوقت، ومن ثم فإنه من الأفضل الضرب في زمن مبكر.
 
لم ينطلق الخطاب الرسمي السعودي من هذه النقطة فحسب، بل قدم برهانا آخر يتعلق بالاستجابة لطلب "الحكومة الشرعية" في اليمن، التي تعاملت مع الحوثيين وحليفهم، علي عبدالله صالح، وما تبقي لديه من القوات النظامية، والميليشيات القبلية على أنهم "انقلابيون"، وهو المسوغ الذي أدي في النهاية إلى بناء التحالف.
 
فالعملية جاءت، كما ذكر بيان لمجلس التعاون الخليجي، تلبية لطلب من الرئيس اليمني، و"حماية اليمن وشعبه من العدوان الحوثي المستمر، وردع الهجوم المتوقع حدوثه في أي ساعة على مدينة عدن، وبقية مناطق الجنوب، ومساعدة اليمن في مواجهة القاعدة وداعش".
 
وشاركت في الضربة الأولي 185 طائرة مقاتلة، بينها مئة من السعودية التي حشدت أيضا 150 ألف مقاتل، ووحدات بحرية وضعتها على أهبة الاستعداد للمشاركة، حال تطور العمليات العسكرية، وثلاثون طائرة من الإمارات، و15 من الكويت، ومثلها من البحرين، وعشر طائرات من قطر، وست من الأردن، ومثلها من المغرب، وثلاث من السودان. وشاركت مصر بقوات بحرية، وشارك طيارون منها في الضربات الجوية، بينما شاركت السودان بقوات برية، إلى جانب القوات الخليجية.
 
وقامت السعودية  في 15 ديسمبر 2015 بتشكيل تحالف إسلامي عسكري يضم أربعين دولة في مواجهة " التنظيمات الإرهابية أيا كان مذهبها وتسميتها"، يتخذ من العاصمة السعودية الرياض مقرا، وغرفة للعمليات، ويمثل قوة عسكرية ضخمة، قوامها أربعة ملايين جندي مقاتل، وأكثر من خمسة ملايين جندي احتياط، وأكثر من ثلاثة آلاف طائرة مروحية ومقاتلة، ونحو 65 ألف مركبة عسكرية قتالية ودبابة متنوعة.
 
ويأخذ هذا التحالف على عاتقه تنسيق الجهود لمحاربة الفكر المتطرف، عبر مبادرات فكرية، وإعلامية، ومالية، وعسكرية، على أن ينطلق جهده من قيم الشرعية، والاستقلالية، والتنسيق، والمشاركة، ويسعي إلى ضمان جعل جميع أعمال وجهود دول التحالف في محاربة الإرهاب متوافقة مع الأنظمة والأعراف بين الدول.
 
عسكريا، يعمل هذا التحالف على التنسيق العسكري العملياتي لمواجهة الإرهاب لأي دولة عضو، وفقا لإمكانياتها، وتدريب وتأهيل الوحدات الخاصة للدول الأعضاء المنخرطة في محاربة الإرهاب، وردع التنظيمات الإرهابية، من خلال التنسيق العسكري لدول التحالف كقوة واحدة ضد الإرهاب.
 
وهناك بالطبع علاقة بين هذا التحالف الإسلامي، وذلك الذي ارتبط بعملية "عاصفة الحزم"، إذ إن نطاق عمل الأول يمكن أن يمتد إلى الثانية، في ظل وصف بعض سلوكيات الحوثيين بالإرهاب من قبل الدول المتحالفة، وكذلك مع تنامي نشاط تنظيمي "القاعدة"، و"داعش" في جنوب اليمن، الأمر الذي يهدد أي منجز تحققه دول التحالف بتثبيت "الحكومة الشرعية"، عبر إغراق الجنوب في الفوضى، بما سهل من سيطرة التنظيمين عليه.
 
ولا ترتبط احتمالات استمرار وتماسك هذه التحالفات فقط بقوة الدول المشاركة فيها، لحظة الإعلان عنها، وإنما هو بالأساس رهن لاستمرار مصالحها الحيوية، وترابط آلية التنسيق والتسيير، وتعزز التفاهم بينها، وحاجتها المتجددة إليها، واستمرار التهديد لأمنها القومي، أو شعورها بهذا.
 
ثالثا- احتمالات تكرار "عاصفة الحزم" في ملفات أخري ساخنة:
 
كما سبق الذكر، تبدو تجربة "التحالف العسكري العربي" في اليمن مفارقة في تاريخ العرب المعاصر، إذ لم تتداع الجيوش العربية لعمل عسكري من هذا النوع منذ حرب أكتوبر 1973 ضد إسرائيل. والتجربتان اللتان لحقتا بهذا تحملان سمات وقسمات مغايرة، فالعرب ساعدوا العراق في حربه ضد إيران بالمال، والسلاح، والتخطيط، لكن دون مشاركة فعلية مباشرة من الجيوش، وإن كانوا أفرادا عربا، خاصة من المصريين، عملوا في المهام اللوجيستية بالجيش العراقي.
 
وشاركت جيوش عربية في "حرب تحرير الكويت" التي اندلعت في يناير 1991، لكنها لم تكن "القوة الضاربة"، أو "العمود الفقري" لهذه العملية التي اعتمدت بدرجة أساسية على قوات تحالف غربية دعمتها قوات من دول عربية، لاسيما في الحرب البرية.
 
من هنا، فإن ما يجري في اليمن يفتح شهية المختصين في علم السياسة، والعلوم العسكرية والاستراتيجية على تساؤلات، وتوقعات، واحتمالات، من بينها، إن لم يكن على رأسها، سؤال عريض يقول: هل بوسع هذه التجربة أن تتكرر مرة أخري في سوريا، أو ليبيا، أو ضد إسرائيل، أو غيرها؟
 
ابتداء، فإن تكرار هذه التجربة يشترط عدة أمور، يمكن ذكرها على النحو الآتي:
 
1- النجاح:
 
وهذا شرط مبدئي وأساسي، إذ لا يمكن تكرار تجارب عسكرية فاشلة. والنجاح من عدمه لا تحدده قوة التدمير والتأثير، البارح والجارح، في الخصم، بقدر ما تعينه النتائج السياسية المترتبة على النصر العسكري، إذ إن هدف أي حرب هو تحصيل مكاسب سياسية أو اقتصادية في النهاية.
 
وحرب اليمن الراهنة لم تندلع بغية الانتقام من طرف، أو لتجريب أسلحة، أو التنفيس عن مشكلات داخلية في البلدان المشاركة في التحالف، أو لوقف تمدد الثورة اليمنية، ونصرة القوي المضادة للثورة، وإنما رمت إلى تحجيم النفوذ الإيراني في اليمن، عبر الحوثيين، الذين وإن كانوا يشكلون جزءا أساسيا من المجتمع اليمني، فإن رهاناتهم وارتباطاتهم السياسية بإيران تعززت في السنوات الأخيرة، وتقاطعت مع المصالح الوطنية اليمنية، ولا يمكن الاعتداد بخطابهم الذي يتحدث عن إنفاذ مطالب الثورة اليمنية، لأنهم امتطوا الثورة لتحقيق أهدافهم هم، وليست أهداف الشعب الثائر، مثلما فعلت جماعة الإخوان في مصر تماما.
 
على هذا الأساس، يكون نجاح هذه الحرب مرتبطا بتقليم أظافر الحوثيين، ومنعهم من أن يكونوا "حصان طروادة" بالنسبة للمطامع الإيرانية في اليمن، وإعادتهم إلى حجمهم الطبيعي، كجزء قليل من الشعب اليمني، يمكن أن يشارك في الترتيبات السياسية المستقبلية على قدر وجوده وإمكانياته، وعلى قاعدة "وطنية"، وليس مهيمنا ومتسيدا، كما كان يرمي، حين زحفت قوات الحوثي، وقوات الجيش اليمني الموالية للرئيس المخلوع، علي عبدالله صالح، نحو عدن، وأرادت إخضاع كل التراب الوطني اليمني لسلطانها، ثم استعملت هذه الهيمنة، أو قامت بمحاولة توظيفها لحساب إيران.
 
أما إذا انتهت هذه الحرب بغير تحقيق هذا الهدف الجوهري، وخرج الحوثيون منها أقوي سياسيا واجتماعيا، من خلال تسويق أنفسهم على أنهم الطرف الذي يدافع عن كبرياء اليمن، وعمقه الحضاري وسيادته، فلا يمكن وقتها الحديث عن نجاح، وبالتالي لن تتشجع الأطراف المشاركة فيها، أو أي أطراف أخري، على تكرار التجربة في مكان آخر.
 
وقياس النجاح يجب ألا يقف عند حد تقدير ومصالح الدول المشاركة في التحالف العربي، ولا الأطراف العالمية المتفهمة لهذه الخطوة، أو تؤيدها، بل من الضروري النظر إلى تأثير الحرب في أوضاع المدنيين داخل اليمن لتقليل أضرارهم إلى أدني حد، ابتداء، ثم تعويضهم، لاحقا، عن أي خسائر تلحق بهم، أو -على الأقل- تخفيف الأعباء عنهم، لأن غير ذلك سيعين الحوثيين على إثارة الحنق، والأحقاد، والإحن في نفوس قطاعات من الشعب، خاصة سكان شمال اليمن حيال الدول المشاركة في التحالف، لاسيما دول الخليج، وهذا ما لا تريده هذه الدول أبدا، والتي تبني جزءا أساسيا من عوامل نجاحها على إقناع أغلبية الشعب اليمني بعدالة هذه الحرب.
 
2- الضرورة:
 
وهذه مسألة أساسية في إمكانية تكرار تجربة التحالف العسكري العربي الذي يخوض حرب اليمن. فقديما، قال فقهاء "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". وحديثا، يقال "الحرب شر، لكننا قد نكون مجبرين على خوضها أحيانا". والتدخل العسكري في اليمن بدا، من وجهة نظر المملكة العربية السعودية، في البداية "ضرورة"، وانضمت إليها دول عربية أخري في الاستجابة لهذه الضرورة، خاصة أن المصالح المباشرة لهذه الدول متطابقة مع هدف الحرب في مواجهة تمدد النفوذ الإيراني في الوطن العربي، والذي يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في بلدان الخليج، ويرمي إلى السيطرة على مضيق باب المندب، بما يؤثر سلبا في قناة السويس، وهي شريان حيوي للتجارة الدولية، وأحد أهم الأهداف الاستراتيجية التي يدافع عنها، ويحميها الجيش المصري.
 
وهذه الضرورة ترتبط في الحالة اليمنية بعدة أمور، هي:
 
أ- المفاجأة: فالعرب فوجئوا بتطور حصل سريعا على الأرض، خارقا كل قواعد اللعبة. ففي البداية، خرج الحوثيون، بمساعدة علي عبدالله صالح، من موطنهم ومكمنهم في "صعدة"، وتحركوا نحو صنعاء، رافعين مطالب اجتماعية، للتمويه أو التعمية على هدفهم الرئيسي في السيطرة على السلطة في ربوع اليمن كافة. وبعد إجراءات سياسية كان بوسعها أن تجنب الجميع مخاطر الصراع العنيف والمسلح، انقض الحوثيون ليخطفوا السلطة في صنعاء، ثم زحفوا جنوبا لإحكام القبضة على عدن.
 
ب- التقدير السريع للموقف: نظرا لأن دول الخليج كانت ضالعة في الملف اليمني، بعد الثورة ضد علي عبدالله صالح، وطرحت مبادرة للحل، فقد بات بوسعها أن تقيم الأمور على الأرض سريعا، في ظل المعلومات المتوافرة لديها، ومواقف حلفائها داخل اليمن في النخبة السياسية، والظهير القبائلي، والصورة التي أرادت اليمن عليها، والتي ينبغي ألا تؤثر سلبا في أمن، واستقرار، ومصالح دول الخليج، لاسيما المملكة العربية السعودية.
 
ج- التشجع في اتخاذ قرار الحرب:  فالسعودية لم تخض حربا، بهذا المستوي والمعني، من قبل، ولذا كان قرار الحرب على الحوثيين وصالح يحتاج إلى جرأة من القيادة السياسية الجديدة، وثقة في إمكانية الاعتماد على الذات بدرجة أساسية. وقطعا، شجع الرياض على هذا القرار الردود الإيجابية التي تلقتها من الأطراف العربية والإقليمية التي تواصلت معهم سرا، قبل وقت قليل من شن أول غارة على قوات الحوثيين وصالح.
 
د- الاستعداد لدفع الثمن: فقد بدت الأطراف المشاركة في التحالف مدركة أن ثمنا يجب أن يدفع في سبيل تحقيق الأهداف التي حددتها من هذه الحرب. وقد بان هذا في ردود أفعال الإماراتيين والسعوديين على استشهاد ضباط وجنود لهما على أرض اليمن، أو حتي جراء الهجمات المدفعية والصاروخية التي تشن من داخل الأراضي اليمنية في اتجاه الأراضي السعودية في نجران وجيزان. وهناك ثمن سياسي واقتصادي آخر، بعد أن تضع الحرب أوزارها، في إطار ما يسمي عملية إعادة الأمل إلى اليمن، والتي تحددت لها عدة أهداف، هي:
 
- استئناف العملية السياسية وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216، والمبادرة الخليجية، ومخرجات مؤتمر الحوار اليمني.
 
- استمرار حماية المدنيين من الحوثيين، أو في حال قيامهم بأعمال مماثلة لما قاموا به قبل عملية عاصفة الحزم، ومكافحة الإرهاب.
 
- تيسير إجلاء الرعايا الأجانب.
 
- تكثيف المساعدة الإغاثية والطبية للشعب اليمني في المناطق المتضررة.
 
- إفساح المجال للجهود الدولية لتقديم المساعدات الإنسانية.
 
- التصدي للتحركات والعمليات العسكرية للميليشيات الحوثية ومن تحالف معها، ومنعها من التنقل داخل اليمن، أو محاولة التغيير على أرض الواقع، وعدم تمكينها من استخدام الأسلحة المنهوبة من المعسكرات، أو المهربة من الخارج.
 
- استمرار فرض الحظر الجوي والبري، والقيام بأعمال التفتيش لمنع تسليح الحوثيين، تنفيذا لقرار الأمم المتحدة رقم .2216
 
هـ- الاعتقاد الجازم بأن هذه هي الطريقة الملائمة لعلاج الموقف: فالرياض لم تشأ أن تنظر في خيار آخر، من الممكن أن تكون تكلفته العسكرية والاقتصادية، وربما السياسية، والاجتماعية، والتاريخية، أقل، ألا وهو الاستجابة لمطلب على عبدالله صالح بإمداده بالسلاح والمال من أجل مواجهة الحوثيين، وإعادتهم مرة أخري إلى معقلهم في "صعدة"، وهو المطلب الذي أرسل من أجله ابنه إلى العاصمة السعودية، قبل شن عملية "عاصفة الحزم" بأيام. وربما قدرت الرياض أن هذه الوسيلة غير مأمونة العواقب، في ظل معلومات واضحة عن تحالف وثيق بين صالح والحوثيين، بدا خلال عملية زحفهم إلى صنعاء، واستيلائهم عليها، ومن ثم فليس هناك ما يضمن ألا يستعمل صالح السلاح والأموال الخليجية، ليس في مواجهة الحوثيين، وإنما في العمل معهم من أجل السيطرة على ربوع اليمن كافة. علاوة على هذا، فإن صالح خاض ضد الحوثيين، وقت أن كان في السلطة، عدة حروب، وفشل في نزع مشروعهم السياسي، أو قطع الحبل السري الذي يربطهم بإيران، وهو الذي كان آخذا في التعاظم مع مرور الوقت.
 
و- المشروعية والشرعية: لم يكن من المستساغ أن يتدخل التحالف العربي عسكريا في اليمن من دون دعوة من الحكومة الشرعية.  فوزير الخارجية حينئذ، رياض ياسين، دعا في 23 مارس 2015 دول الخليج العربية إلى التدخل عسكريا في اليمن لوقف تقدم المقاتلين الحوثيين المعارضين للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، وقال يومها عن الحوثيين: "هم يتمددون في الأرض، يحتلون المطارات، يحتلون المدن، يقصفون عدن بالطائرات، يعتقلون من يشاءون، ويهددون ويحشدون قواتهم." وفي اليوم نفسه، رد نظيره السعودي، الراحل سعود الفيصل: "أمن اليمن وأمن دول مجلس التعاون الخليجي كل لا يتجزأ، ونرفض كل ما ترتب على انقلاب الحوثيين". وقد خاطبت "السلطات اليمنية الشرعية" مجلس التعاون الخليجي، والأمم المتحدة، وكذلك المجتمع الدولي، بغية فرض منطقة حظر طيران، ومنع استخدام الطائرات العسكرية في المطارات التي يسيطر عليها الحوثيون. ومثَّل هذا بداية لعملية "عاصفة الحزم".
 
ولولا هذا الطلب الرسمي، ربما ما صدر قرار أممي ضد الحوثيين، ولعُدَّ التدخل العربي عسكريا في المسألة اليمنية من قبيل العدوان على دولة ذات سيادة، وكان من الوارد أن تترتب عليه عواقب دولية وخيمة، والأهم كان سيعطي الحوثيين وصالح فرصة ذهبية لتعبئة الشعب اليمني كله خلفهم للتصدي للعدوان، الأمر الذي كان سيؤثر قطعا في مسار الحرب، حتي لو أقنعت الدول المتحالفة شعوبها بأنها أقدمت على هذه الخطوة دفاعا عن أمنها القومي، وفي خطوة استباقية للتصدي للتمدد الإيراني، عبر الحوثيين.
 
ز- المؤسسية: فالتدخل في اليمن يقوم على أكتاف ائتلاف من عدة دول عربية،  وقد بدأ تنفيذ ضربات جوية على الحوثيين بالفعل  في 25 مارس 2015، تحت اسم "عملية عاصفة الحزم"، شاركت فيها طائرات مقاتلة من السعودية، ومصر، والإمارات، والكويت، وقطر، والبحرين، والمغرب، والأردن، والسودان، فيما فتحت الصومال مجالها الجوي، والمياه الإقليمية، والقواعد العسكرية للائتلاف لاستخدامها في العمليات، ووفرت باكستان، رغم رفض برلمانها التدخل العسكري المباشر، سفنا حربية لمساعدة التحالف في فرض حظر على الأسلحة من الوصول للحوثيين.
 
ورغم أن هذا التدخل لم يتبع تكوين قوة مشتركة أو حلف بشكل مؤسسي، فإن تفاهمات وطرقا في إدارة العمليات، علاوة على تقارب المصالح والأهداف، خلقا قدرا كبيرا من التناغم بين الأطراف الداخلة فيه، وإن كان هذا لم يتطور بعد إلى شكل مؤسسي، يضمن له ديمومة في مرحلة ما بعد اليمن، أو حتي في اليمن ذاته، إن استمرت لقوات الحوثيين وصالح قدرة على الفعل، أو استدراج قوات التحالف إلى حرب استنزاف طويلة الأمد.
 
ح- الموقف الدولي: فبريطانيا وفرنسا أيدتا التدخل، رغم انتقاد الاتحاد الأوروبي له، وعدّه، على لسان مسئولة السياسة الخارجية، أن مثل هذا التصرف لا يحل الأزمة، وسيزيد من معاناة المدنيين اليمنيين. ولم تكتف الولايات المتحدة بتأييد العملية، بل أجاز رئيسها، باراك أوباما، تقديم الدعم لها في مجالي الاستخبارات والتموين، وعرضت واشنطن بيع سلاح لدول الخليج.
 
أما روسيا، فقد تحفظت، وحضت الأطراف المنخرطة في الصراع على وقف القتال، وأبدت استعدادا للإسهام في تسوية الأزمة، بعد وقف إطلاق النار. وعارضت الصين العملية، وأظهرت قلقا من تدهور الوضع في اليمن، ودعت كل الأطراف إلى الالتزام بقرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة باليمن، وحل النزاع عبر الحوار.
 
لكن الدول المتحفظة والمعارضة لم تشرع في اتخاذ خطوات مضادة أو معرقلة لعاصفة الحزم، بينما اتخذت الدول المؤيدة خطوات إيجابية.
 
ولا يمكن لدولة أو تحالف دولي يقدم على عمل عسكري من هذا المستوي، وهو يهمل الموقف الدولي، أو لا يضعه في حسبانه، وهو يدبر الخطط، وتقديرات المواقف، وحساب العناصر المؤدية إلى النصر. وبالتالي، تبقي هناك علاقة طردية بين تأييد العالم، أو الدول الفاعلة فيه لعمل عسكري لدولة أو أطراف دولية، وبين قدرة هذه الدولة وتلك الأطراف على التحرك نحو دخول الحرب.
 
بناء على هذه الأمور الخمسة، يمكن أن نجيب على السؤال الذي تدور حوله هذه الورقة، وهو: هل بوسع دول التحالف أن تكرر تجربتها في اليمن حيال دول، أو ملفات، وبؤر صراعية أخري، لاسيما في الدول التي تشهد اضطرابات سياسية، وحروبا أهلية، وصراعات مفتوحة، بعد الانتفاضات التي اندلعت فيها ضد الأنظمة الحاكمة؟
 
في ظني أن الأمر يبدو مختلفا، على الأقل، حيال الصراعات الراهنة. ويمكن تفصيل هذا على النحو الآتي، من دون إسهاب ممل، ولا إيجاز مخل:
 
1- ذهبت المسألة السورية في طريق، من الصعب على أي قوة عربية، أو تحالف عسكري عربي، أن يكون فيه ناجعا، إن أراد التدخل، على غرار المسألة اليمنية. فالسلطة الحاكمة لن تطلب تدخلا عربيا، مثلما فعلت السلطة اليمنية. كما أن هذه السلطة نفسها مختلف عليها عربيا، بين من يراها جزءا أساسيا من الحل، ومن يريد رحيلها، ولا يري أي مستقبل لسوريا مع وجودها. علاوة على هذا، فإن الأطراف الخارجية تدخلت بشكل مباشر، على غير ما جري في اليمن، إذ إن لإيران قوات على الأرض، ومعها مقاتلون من حزب الله. وتعمق الأمر بتحالف لا يمثل العرب صلبه الرئيسي في مواجهة "داعش"، تقوده الولايات المتحدة وتري أن القضاء على هذا التنظيم الإرهابي قد يستغرق ثلاث سنوات. ثم جاء التدخل الروسي بشكل أكثر تأثيرا وقوة للدفاع عن مصالح موسكو في الحفاظ على النظام الحاكم، أو المساومة عليه، ومواجهة التنظيم الإرهابي، ومحاولة إزاحته عن المشهد.
 
هذا الوضع يجعل احتمالات نجاح أي تحالف عسكري عربي حيال المسألة السورية غير مضمونة، فضلا عن أنها غير مرغوب فيها من السلطة، حتي الآن على الأقل، الأمر الذي سينزع عن التدخل شرعيته، ويجعل إمكانية مأسسته صعبة، خاصة أن هناك دولا عربية لا تري أن مثل هذا التدخل ليس ملحا أو ضروريا، إما لأن هناك أطرافا دولية قد تقوم بالمهمة، أو لعدم تأثير ما يجري في سوريا في المصالح الخليجية، بالشكل المباشر نفسه الذي للأوضاع في اليمن، أو لأن الكل ارتضي، على ما يبدو، بنمط الحرب بالوكالة في سوريا، وإن تبدلت المواقف، بمرور الوقت، وتطور الأحداث، حيال النظام الحاكم، والمعارضة المدنية، وجناحها العسكري، متمثلا في الجيش الحر، والقوي الدينية المسلحة، ممثلة في "داعش"، و"النصرة".
 
2- أما بالنسبة للمسألة الليبية، فإن مقاربتها تبدو مختلفة. فليبيا لم تعد دولة موحدة، لا على المستوي النظري، أو العملي. فالخلافات اللفظية الحادة والمريرة التي اندلعت بين المتنافسين السياسيين على مواقع التواصل الاجتماعي، عقب سقوط القذافي، سرعان ما انتقلت إلى الميدان، واختلط الحابل بالنابل، وفُتح باب الحرب على مصراعيه، وتشابكت العوامل التي تدخل منه ولا تخرج في اللهاث وراء الثروة، والسلطة، والنفوذ، وصراع القديم الذي لا يريد أن يموت، مع الجديد الذي لا يجد فرصة كي يولد.
 
والخلاف والشقاق في ليبيا غاية في التعقيد، ومفتوح في الجبهات كافة. فهناك صراع بين قوي البيروقراطية، والمؤسسة الهشة القديمة من ناحية، والمؤسسات الجديدة التي ترتبت على ثورة 17 فبراير من ناحية أخري. وهناك صراع بين الجيش الضعيف، والميليشيات العديدة والمتوحشة، وهي مسألة لم ينهها ضم الميليشيات إلى قوات الجيش، المكونة من مئة ألف عنصر، والأجهزة الأمنية المكونة من ضعف هذا العدد. فعلى الرغم من أن عناصرها تتلقي رواتب منتظمة من الحكومة، فإنها تبقي على ولائها لميليشياتها الأصلية، وبالتالي تصبح قوات الجيش والأمن، التي يجب أن تكون الجهة الوحيدة التي تحتكر السلاح في البلاد، مفككة من الناحية الواقعية، ويضرب صراع ضار في جنباتها بلا هوادة، وتدخل على الخط الصراعات القبلية التقليدية، ومعها التنافس الجهوي، في بلد كان مقسما من قبل إلى ثلاث ولايات. ويتداخل القتال من أجل حيازة الثروة النفطية مع ذلك الذي يرمي إلى تحصيل النفوذ، وسط نعرة قبلية مستعرة. وهناك صراع أشد وطأة بين حاملي الأفكار الدينية المتطرفة، التي لا تؤمن بـ "الدولة الوطنية"، وتراها "رجسا من عمل الشيطان"، أو "بدعة"، وبين من يؤمنون بأن الدولة هي الكيان الاجتماعي والسياسي الجدير بالولاء.
 
وبينما لا تريد قوي ثورية، وشريحة اجتماعية، كانت مغبونة في حكم القذافي، لرموز نظامه أن يعودوا إلى الواجهة، ويطلقوا عليهم اسم "الأزلام"، و"الطحالب"، يصارع هؤلاء من أجل الحفاظ على مكتسباتهم، بمن فيهم عسكريون، وساسة، وأفراد أمن، ورجال مال وأعمال. وفي البداية، حين لم تتمكن أي من القوتين من هزيمة الأخري، استعانت بقوة خارجية بغية تحقيق هذا الهدف، فاستعان القذافي بمرتزقة من بعض البلدان الإفريقية، واستعانت القوي الاحتجاجية بقوات حلف "الناتو". فتح هذا التدخل الخارجي نافذة واسعة أمام صراعات إقليمية ودولية على الساحة الليبية، الأمر الذي ألقي بظلال كثيفة على إمكانية فض هذه التشابكات الحادة تباعا، أو إنهاك الأطراف إلى درجة اقتناعها جميعا بأنه لا مناص من التفاهم. فالأموال والأسلحة التي تتدفق إلى الأراضي الليبية، وتذهب إلى ميليشيات بعينها، تطيل أمد الصراع، وتؤججه، وتضعف من فرص كل من يسعي إلى حلول سلمية للمعضلة الليبية.
 
واستمر هذا المسار في الاتكاء على الخارج، فأخذ بعض الأطراف الداخلية يعتمد على أطراف خارجية في تمويله، وتسليحه، وتغذيته بالأفكار والمعلومات وتوجيهها في الساحة الداخلية، وتوظيفها كورقة في صراع إقليمي أشمل، يراد من خلاله لليبيا أن تكون نقطة انطلاق لخلق توتر دائم لكل البلدان العربية المجاورة لها، خاصة مصر والجزائر. وهذا الوضع يدفع الدول المستهدفة بالقطع إلى أن تبادر إلى الدفاع عن مصالحها من الأراضي الليبية، عبر تقوية نفوذ ومكانة القوة الساعية إلى لملمة أشتات الدولة، وبناء جسور قوية معها، وتقصير أمد التطاحن الداخلي. فإن تعذر عليها هذا المسار والخيار، فستعمل جاهدة على خلق ولاءات داخلية مضادة للتنظيمات والجماعات التي تستهدفها.
 
وما كان يمكن لكل هذه الألوان من الصراعات أن تظهر على هذا النحو المروع، لو أن مرحلة ما قبل الثورة قد رزقت بنظام حكم بذل جهدا معقولا في سبيل الدمج الطوعي، والانصهار الطبيعي لأشتات الدولة الليبية، عبر إجراءات للتحديث السياسي والاجتماعي، تقلل من غلواء النعرة القبلية، وتخلق على الأرض شريحة عريضة من المنحازين للقيم الجديدة، والاعتدال الديني، وتبني مؤسسات سياسية قوية وراسخة تحمل الدولة نفسها، بعد سقوط نظام الحكم. ولكن القذافي دمج الدولة في النظام تماما، واختزل النظام في شخصه، فكان لسان حاله يقول: "ليبيا من قبلي لم تكن شيئا يذكر، أنا ليبيا وليبيا أنا"، بل إنه قد قال هذا بالفعل في إحدي خطبه، خلال الثورة، حين صرخ غاضبا: "قبلي كان العالم لا يعرف ليبيا، وحين يذكر أحدهم اسمها أمام أي أجنبي، يسأله: أتقصد لبنان أم ليبيريا؟ أما بعدي، فما إن يقول أحد منكم أنا من ليبيا، حتي يرد عليه من يسمعه: آه ليبيا القذافي، أنا أعرفه".
 
أمام هذا التعقيد أو التشابك، لا تصلح سياسة الحل الجزئي للمعضلة الليبية، من خلال مساندة طرف، أو جماعة، أو مجموعة، أو قوة، وترك القوي الأخري، أو من خلال الاعتقاد بأن الحل سيكون مسلحا بالضرورة. وهنا، علي القوي الليبية نفسها أن تختار الآن بين الدولة واللادولة. فإن كان الانحياز للدولة، فهذا يفرض علي كل القوي السياسية والاجتماعية، التي تناصر هذا المسار، أن تتوحد في وجه ميليشيات تكفيرية وإرهابية لا تقتنع بالدولة، وتريد أن تحول البلاد إلى مجموعة من الكيانات الصغيرة التي تفرض فيها ما تتوهم أنه صحيح الدين، وهو في الحقيقة مجرد ستار هش لمآرب أخري، على رأسها تحصيل المال والنفوذ.
 
وعلي الدول الإقليمية، سواء المجاورة لليبيا، أو غيرها من البلدان العربية والإفريقية، أن تقف وراء الفريق المنحاز للدولة، وتقنع جماعاته، وتجمعاته، وأطرافه بأن أحدا لن يكون بوسعه أن يسيطر ويحكم وحده، وإنما يريد الجميع إعلاء مبدأ التساند والتآزر. وتقوم هذه الدولة بإسناد هذا الخيار، ثم دعوة العالم كله إلى فعل هذا، ولاسيما أن القوي الدولية أصبحت معنية بالبحث عن طريق لخروج ليبيا، الدولة النفطية المهمة، من مأزقها.
 
لكن في كل الأحوال، يجب العمل علي منع تغول القوي الدينية المتطرفة الرافضة للدولة، والتي تزعم أنها صاحبة الثورة، وتتم محاصرتها تباعا حتي تضع السلاح، بعد أن تقطع ليبيا شوطا بمساعدة إقليمية ودولية في بناء جيشها الوطني، ومؤسساتها السياسية، والأمنية، والاجتماعية. فإن تمكنت هذه القوي المتطرفة والإرهابية من حسم الموقف لمصلحتها على الأرض، أو اقتطعت جزءا من أراضي ليبيا، وأعلنت عليه دولة بشكل واقعي وعملي، وليس بمجرد الدعاية، أو الوهم، والافتراض، فهنا يمكن، بل يجب، التفكير في مقاربة أخري، قد تكون علي غرار اليمن، مع تغيير في الأوزان النسبية للقوي المشاركة في تحالف عسكري يؤدي هذه المهمة، إذ إن الدولتين المعنيتين أكثر بالمسألة الليبية هما مصر والجزائر، ومن الضروري أن تتفقا أولا على أي سيناريو قادم.
 
3- تبقي هناك حالات أكثر وضوحا في تبرير، أو تسويغ وحجية قيام تحالف عسكري عربي، مثل مواجهة إسرائيل إن اعتدت على دولة عربية، أو إثيوبيا إن جارت على حقوق مصر في مياه النيل، أو إيران إن هاجمت أيا من دول الخليج. هذه الحالة مقدرة بثلاثة أمور على النحو الآتي:
 
- معاهدة الدفاع العربي المشترك، التي كثيرا ما طالب كثيرون بتفعيلها، وتساءلت عنها الشعوب وقت العدوان على بعض الدول العربية. فالمعاهدة تنص على  قيام هيئة استشارية من رؤساء أركان الجيوش المتعاقدة، ووجود "مجلس دفاع مشترك"، يقوم بإعداد الخطط العسكرية لمواجهة جميع الأخطار المتوقعة، أو أي اعتداء مسلح يمكن أن يقع على دولة أو أكثر من الدول المتعاقدة، أو على قواتها، وتقديم المقترحات لتنظيم قوات الدول المتعاقدة ولتعيين الحد الأدني لقوات كل منها حسبما تمليه المقتضيات الحربية، وتساعد عليه إمكانيات كل دول، وتقديم المقترحات أيضا لاستثمار موارد الدول المتعاقدة الطبيعية، والصناعية، والزراعية، وغيرها، وتنسيقها لمصلحة المجهود الحربي، والدفاع المشترك، وتنظيم تبادل البعثات التدريبية، وتهيئة الخطط للتمارين والمناورات المشتركة بين قوات الدول المتعاقدة، وبحث مختلف التسهيلات والمساعدات التي يمكن أن يطلب إلى كل من الدول المتعاقدة أن تقدمها، وقت الحرب. وتري المعاهدة أن أي عدوان على أي دولة موقعة على البروتوكول هو عدوان على باقي الدول.
 
لكن من أسف، فإن هذه المعاهدة لم تفعّل بالقدر الكافي، منذ توقيعها، وهو الأمر الذي يتم تسليط الضوء عليه وانتقاده وقت الحروب والأزمات التي تلم ببعض الدول العربية.
 
- هناك النمط الذي تم تطبيقه بالفعل، وتمثل في مشاركة رمزية بالجنود والسلاح، ومشاركة أكثر قوة بالمال والتأييد الدبلوماسي، مثلما جري خلال حرب أكتوبر 1973، حيث كانت هناك قوات رمزية من بعض الدول العربية تقاتل إلى جانب الجيشين المصري والسوري، لكن قامت دول عربية منتجة للنفط بمنع تصديره إلى الدول التي تقف وراء إسرائيل وتساعدها، الأمر الذي كان له دور مهم في الحرب.
 
- هناك النمط الأخير الحاصل حاليا، والمتعلق باليمن، لكن هذه الطريقة مقدرة بالعوامل الخمسة التي سبق ذكرها، وهي النجاح، والضرورة، والمشروعية، والتأسيس، والموقف الدولي، وتبقي إمكانية تكرارها مرتبطة إلى حد بعيد بهذه الأمور.
 
رابعا- تكوين استراتيجية للمستقبل:
 
تعد الاستراتيجية هي أعلى درجة في التفكير، والتدبير، والترتيب، ونطاق التأثير، والأفق الزمني من "السياسة"، وهي عملية منضبطة ذات مخرجات، وغايات، ووسائل محددة بوضوح، وهي تخدم الهدف السياسي الوطني، وتخدم السياسة، في إطار التقلبات، والتعقيدات، والهواجس، والغموض. ويصبح التفكير الاستراتيجي هو القدرة على تطبيق الاستراتيجية في الواقع، ثم صياغة ما يخدم بنجاح مصالح الدولة، من دون تحمل مخاطر يمكن تفاديها، ولذا فهو يتضمن جانبي الفن والعلم معا.
 
ومفهوم الاستراتيجية هو من المفاهيم المتداولة في مختلف العلوم الاجتماعية بأقلام وألسنة الباحثين، والمتخصصين في الشئون العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. لكن تظل الاستراتيجية عملا سياسيا محضا، أو يجب أن تكون كذلك على الأقل. ومثل كل الأعمال، يستلزم النجاح ممارسة حسن تقدير الأمور، وهذا يتطلب من دون شك قدرا لا يستهان به من الخيال العلمي.
 
وإذا كان من شروط وضع الاستراتيجية وضوح الأهداف، وتكاملها، وواقعيتها، إلى جانب العقلانية، والتخصص، والاستمرارية، والإلزام، والمرونة، فإن أحد أهم هذه الشروط هو الابتكارية، والاعتماد على الذات، وهنا يكون للخيال دوره. وبذا، تتسم الاستراتيجية بأنها "استباقية توقعية"، إن لم تكن "تنبئية". وهذا الاستباق يرمي إلى رعاية المصالح الوطنية، وحمايتها مما يخبئه المستقبل، ولذا يجب ألا يقوم على التقديرات الجزافية، أو الخيالات الأسطورية، وإنما دراسة الاحتمالات والسيناريوهات، ووضع الافتراضات والمنطلقات، والتي تكون بدورها مشروطة بما يجري على الأرض، وبالإمكانات المتاحة.
 
ولابد من إدارك أهمية وجود استراتيجية محددة لهذه العملية التي يختلط فيها العسكري بالسياسي، والدبلوماسي، والاقتصادي، والإعلامي، والاجتماعي، والثقافي، والنفسي، رغم أن الزخم الأكبر منصرف إلى العمليات العسكرية الجارية. ويتطلب تكوين الاستراتيجية عشرة محددات أساسية، هي:
 
1- وضوح الهدف الأساسي: وهنا، يمكن القول إن مطلقي "عاصفة الحزم" أعلنوا صراحة، منذ اللحظة الأولي، أن هدفهم هو منع تمكن إيران من اليمن، عبر توظيف القدرات العسكرية والاجتماعية للحوثيين وحليفهم، علي عبدالله صالح، الذي خلعته الثورة اليمنية من الحكم، ويناور ويراوغ من أجل العودة إليها.
 
2- تكامل الأهداف الفرعية: حيث توجد أهداف فرعية تتكامل بغية تحقيق هذا الهدف الأعم أو الأشمل، ويمكن أن نستقيها من التصريحات المعلنة لمسئولين بالدول المشاركة في "عاصفة الحزم". وتتمثل هذه الأهداف الجزئية في: تمكين الشرعية السياسية والدستورية للرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته، وتقليص إمكانات الحوثيين، بما يعيدهم إلى حجمهم الطبيعي في الدولة والمجتمع باليمن،  واحتواء القبائل اليمينية، وإعادة اصطفافها لتكون قوة رافعة لدولة يمنية عربية في حكمها، وتوجهاتها، وانحيازاتها، وخياراتها، وفي ركاب هذا تشكيل الجيش اليمني على نحو يحقق هذا أيضا، علاوة على محاربة الإرهاب، خاصة في ظل تربص "القاعدة" و"داعش" بالدولة اليمنية، بحيث تتم مكافحة البيئات المنتجة، والحاضنة، والموظفة للإرهاب، ومنع استفادة الإرهابيين من هشاشة الدولة اليمنية حاليا، أو استمالتهم من قبل الحوثيين وصالح، ولو مرحليا. كما تتضمن الأهداف تقليل أخطار الطائفية التي تتعمق لأسباب ودوافع سياسية بحتة باليمن في الوقت الراهن.
 
3- واقعية الأهداف: وتتطلب هذه المسألة عموما حساب التكلفة أو الثمن، ومعرفة حجم الجهد المطلوب بذله، وكذلك تفهم طبيعة الأمور، إن جاء العائد غير كبير في البداية، وأن الحرب لن تستمر إلى الأبد، وإنما ستنتهي بالسياسة، كما جرت العادة.
 
وأعتقد أن المشاركين في "عاصفة الحزم" يدركون تماما أهمية الابتعاد عن التقديرات الجزافية، والخيالات الأسطورية، فلا يتحدثون عن قضاء مبرم على الحوثيين، ولا كسب المعركة في زمن يسير جدا، فهم يعرفون أن الحوثيين جزء من الشعب اليمني، لكن عليهم أن يعملوا مع بقية الأطراف على أرضية وطنية، ولا يكونوا "حصان طروادة" لإيران، فيمكنوها من رقبة اليمن.
 
كما أن هناك، منذ اللحظة الأولي، تقديرا لصعوبة المعركة، خاصة على الأرض، لكن هناك ثقة بأن الانتصار آت في خاتمة المطاف. وهذه مسألة طبيعية لأي قوة عسكرية دخلت حربا، مهما يكن مستوي التفاوت بين قدراتها وقدرة خصمها.
 
4- العقلانية: وتعني تقدير قوة الخصم، وجمع المعلومات الدقيقة عنه، وتحليلها بطريقة علمية، ووضع السيناريوهات التي ستسلكها الحرب (سننتصر سريعا - سنتعثر بعض الشيء في البداية - سندخل هدنة - سيعاند الخصم طويلا - سينهار الخصم بعد مدة معينة)، ثم وضع البدائل، ليس فقط العسكرية، لكن السياسية أيضا. وتتعلق بالأطراف التي يمكن للدول المشاركة في "عاصفة الحزم" أن تتفاعل أو تتعامل معها، في ظل التغيرات التي تطرأ في اليمن.
 
5- التخصص: ويرتبط هذا المحدد بمهارة القيادة العسكرية الميدانية، وحنكة الدبلوماسيين وقت التفاوض، بعد انطلاق المسار السياسي، ودور الإعلام في التسويق السياسي، والدعاية والحرب النفسية، وصناعة الصورة، وتوافر مديري الأزمات، وضرورة الاستعانة بعلماء السياسية، والاقتصاد، والاجتماع، وعلم النفس، والتاريخ، والفلكلور، وخبراء الأمن. فأصحاب مثل هذه التخصصات والخبرات يجب أن يوجدوا وقت وضع الاستراتيجية، وتؤخذ آراؤهم في الحسبان.
 
6- الاستمرارية: وهذه ركيزة أساسية من ركائز الاستراتيجية، فـ "المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي". وهنا، يجب النظر إلى استمرار الحرب بوسائل أخري، أي من خلال السياسة، والعمل على تحسين الصورة، وكسب الشعب اليمني دوما، وإعادة إعمار اليمن بعد الحرب، ووضع الخطط التي من شأنها الحفاظ على وحدة التراب الوطني اليمني، والنظر في دمج الحوثيين بعد هزيمتهم، مع إعادتهم إلى وزنهم الحقيقي في المجتمع، ثم متابعة أدائهم عن كثب في قابل السنين، والتشبيك أو مد روابط الصلة مع النخبة اليمنية الجديدة، لاسيما من الشباب الذي مثَّل القوة الاجتماعية الأساسية في الثورة على نظام على عبدالله صالح، وأخيرا النظر في عملية كتابة التاريخ، حيث سيعمد الحوثيون ومن معهم إلى تدوين ما يعزز وجهة نظرهم من مجريات الأمور، وهذا أمر متوقع.
 
7- المرونة: وتفرض إعادة النظر في السياسات التفصيلية إن فشلت، وإعادة بناء الخطط إن توعكت، والقيام بتقييم المشرفين المباشرين على الخطط بشكل مستمر لضمان كفاءتهم، وتجديد المعلومات باستمرار حول وضع قوات الحوثيين وحلفائهم، وموقف القبائل، ووجهة نظر الحراك الجنوبي، وتصورات الأطراف الإقليمية والدولية، ووضع المجتمع اليمني بمختلف أطرافه من القبائل، والشباب، والأحزاب، والإعلام، والجهود المستمرة التي كانت تبذل في سبيل إخراجه من التقليدية إلى التحديث.
 
8- الإلزام، وهنا تصبح الدول المشاركة في "عاصفة الحزم" ملزمة بالتكاتف حتى تحقيق الهدف الرئيسي، والأهداف الفرعية، ومواصلة إعادة بناء ما هدمته الحرب، وتحسين شروط حياة اليمنيين، بعد انتهاء العمليات العسكرية بشكل نهائي، ثم العمل على بناء نمط علاقات جيدة متصاعدة مع اليمن، بما يحفط استقلاله وهويته العربية.
 
9- المراجعة: وتتمثل في هذا المقام في تحديد مدة زمنية لتقييم وتقويم السياسات والعمليات العسكرية، وتحديد من يناط بهم القيام بهذه المراجعة، ومراقبتهم، بغية ضمان أفضل تطبيق ممكن لبنود الاستراتيجية، في فروعها الصغيرة، المتمثلة في "السياسات"، والأكبر منها المتعلقة بـ "الخطط"، ثم الأوسع المرتبطة بالاستراتيجية نفسها.
 
10- الابتكار: فنظرا لأن وضع الاستراتيجيات يتطلب تفكيرا نقديا، وتفكيرا إبداعيا، إلى جانب التفكير في التأثير المتبادل بين المنظومات، والتفكير في الزمن، والتفكير الأخلاقي، فإن للخيال دوره المهم في صياغة الاستراتيجيات، من زاوية الإسهام في زيادة الفهم، وتوسيع التفسيرات المنطقية الممكنة، ووضع الخيارات البديلة، وتحديد الفرص المحتملة. وكل هذا يصب في إطار صياغة الثالوث الاستراتيجي، المتمثل في الأهداف، والأفكار، والموارد، وكل منها يحتاج إلى خيال، ينصرف بالأساس إلى توقع ما يأتي، والاستباق في الرؤية والحركة. وهذه مسألة لا أعتقد أنها بعيدة عن الدول المشاركة في "عاصفة الحزم".
طباعة

    تعريف الكاتب

    د. عمار علي حسن

    د. عمار علي حسن

    باحث في الاجتماع السياسي‮.‬