مقالات رأى

"لغز" الغاز: ماليٌ أم سياسيٌ

طباعة

كما قيل بحق، لم يسبق أن أحدثت صفقة -في ظاهرها تجارية- مثل هذا الجدل على المستوى الشعبي واحتوت على مثل هذه الأسرار والألغاز، في سريانها ثم في إلغائها.

وفي الأسبوع الماضي، أعلنت القاهرة أخيراً، ما كان متوقعاً: فقد أوقف تصدير الغاز الطبيعي لإسرائيل، ثم أسرعت الحكومة المصرية لتعلن أن قرار الإلغاء جاء لأسباب تجارية بحتة. وفي نفس اليوم تقريباً، أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن وقف تصدير الغاز جاء لخلاف بين الشركة المصرية ونظيرتها الإسرائيلية، أي أنه خلاف تجاري بالأساس.

ورغم تطابق التصريحات المصرية والإسرائيلية -التطابق الذي أصبح نادراً الآن- فإن كل هذا في واقع الأمر ليس كما أعلن تماماً. فالمسألة في شكلها تجارية أو اقتصادية، لكن الخلفية الأساسية للقرار فيها سياسية، والدليل على ذلك هو الترحيب الشعبي الهائل الذي قوبل به هذا القرار، كما أنه -رغم عدم وجود معلومات مفصلة عن سبل اتخاذه- فإنه يمس سياسات عليا، وذلك لأنه يتعلق بأساسيات السياسة الخارجية المصرية: أي العلاقات المصرية الإسرائيلية، وحتى العلاقات المصرية الأميركية، لذلك فهو قرار لا يمكن اتخاذه بالمرة دون التشاور مع وزارة الخارجية والمجلس العسكري الحاكم. ما هو المغزى السياسي إذن؟

الواقع أن هذه الصفقة لتصدير الغاز المصري إلى إسرائيل تعكس عدة عوامل سياسية، داخلية وخارجية، وقبل الدخول في التفاصيل، هناك خطأ شائع هذه الأيام في بعض التقارير والتعليقات يتعين تصحيحه، وهو أن قرار وقف تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل ينتهك معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية لعام 1979، وهذا غير صحيح، فذلك القرار يؤثر بالطبع على العلاقات المصرية الإسرائيلية، لكنه سليم تماماً من الناحية القانونية، لأن الكلام عن الطاقة في إطار هذه المعاهدة يقتصر على البترول فقط ولا يتعرض للغاز بالمرة، لذا كان هناك اعتراض من جانب المتخصصين القانونيين المصريين في عهد الرئيس السابق "مبارك"، على جدوى اتفاقية تصدير الغاز، ليس فقط من ناحية المبدأ ولكن خاصة بمثل هذه الأسعار التي تقل كثيراً عن مستوى الأسعار العالمية.

والحقيقة أن معدل السعر -رغم مظهره التجاري- يعكس الارتباط بين الفساد المالي والفساد السياسي في عصر "مبارك"، إذ تراوح السعر في بادئ الأمر بين 70 سنتاً ودولار ونصف الدولار لكل مليون وحدة حرارية، لكن بسبب المعارضة الشعبية ارتفع السعر إلى 3.6 دولار، بينما نجد أن قطر مثلاً تبيع غازها إلى الصين بحوالى 15 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية.

وبالإضافة إلى التساؤل عن سبب هذا السعر البخس، اتضح أن أحد كبار رجال الأعمال القريبين جداً من "مبارك"، وهو حسين سالم، كان ضالعاً في الشركة المصرية وفي إبرام الصفقة مع إسرائيل. والملياردير "سالم" هذا يُعرف باسم إمبراطور شرم الشيخ، وقد أهدى قصوراً لمبارك ولأبنائه بأسعار رمزية، وهو متورط في عدة قضايا فساد وتجري محاكمته غيابياً في الوقت الحالي، لأنه هرب إلى إسبانيا التي يحمل جنسيتها، ومن المفروض أن تقوم مدريد بتسليمه إلى مصر. وتحيط بماضي "سالم" أيضاً شبهات وارتباط بصفقات توريد ونقل السلاح منذ وجوده في واشنطن خلال الثمانينات، واستمرار تربيطاته مع رجال أعمال أو سياسيين سابقين أصبحوا رجال أعمال في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. وفي الواقع فإن شبكات ضخمة تربط الفساد المالي بالسياسي كما يحدث في السينما.

العنصر السياسي الآخر في إلغاء هذه الصفقة يرتبط بتداعيات هذا الإلغاء على النظام الشرق أوسطي نفسه، فمن المعروف أن أساس هذا النظام منذ اتفاق كامب ديفيد في سنة 1978 يرتكز على أول معاهدة سلام بين إسرائيل ودولة عربية، لكن بضمان أميركي. وفي الواقع فقد ارتكزت السياسة الأميركية في المنطقة منذ السبعينيات على منظور كامب ديفيد لتشكيل المنطقة، من اتفاق أوسلو سنة 1993 بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ثم معاهدة وادي عربة بين الأردن وإسرائيل في سنة 1994، وبعدها المفاوضات الإسرائيلية السورية في واشنطن خلال منتصف التسعينيات.

وفي الواقع فإن موافقة الكونجرس سنوياً على المساعدات الأميركية لمصر كانت جزءاً من تدعيم اتفاقية كامب ديفيد وضمان سريانها كأساس لهذا النظام الشرق أوسطي.

وقف تصدير الغاز المصري لإسرائيل هو تهديد لروح كامب ديفيد، وبالرغم من أنه لا يلغي هذه الاتفاقية، فإنه يجعل السلام البارد بين مصر وإسرائيل أكثر برودة. من النادر في التاريخ أن نجد صفقة تجارية بمثل هذا المغزى السياسي.

---------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الأربعاء 2/5/2012.

طباعة

تعريف الكاتب

د. بهجت قرني

د. بهجت قرني

‬أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة‮.‬