مقالات رأى

حين يتحول الغضب إلى فضيلة.. "السوشيال ميديا وتديين العنف الرمزي"

طباعة

لم تعد السوشيال ميديا مجرد فضاء مفتوح للتعبير عن الرأي أو منصة لتداول الأفكار، بل تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى ساحة مركزية لإعادة تشكيل الوعي العام، وإعادة تعريف ما يُعد صوابًا أو خطأ، أخلاقيًا أو غير أخلاقي. وفي قلب هذا التحول، برز نمط مقلق من الخطاب يمكن توصيفه بـ "تديين الغضب"، حيث يُعاد تقديم الانفعال الحاد، والإدانة الجماعية، والتشهير الرمزي، بوصفها أفعالًا أخلاقية مشروعة، بل وواجبة أحيانًا، طالما ارتدت غطاءً دينيًا أو قيميًا.

واقعة عامة تداولها الرأي العام مؤخرًا -دون أهمية لاسم أو شخص- كشفت عن هذا التحول بوضوح: موجة واسعة من الوصاية الأخلاقية، وأحكام قطعية، وخطاب إقصائي، لم يُمارَس بوصفه اعتداءً معنويًا، بل قُدِّم باعتباره دفاعًا عن القيم والدين. لم يكن الحدث في ذاته هو المثير للقلق، بل الطريقة التي تفاعل بها المجال العام الرقمي معه، حيث اختفى النقاش الهادئ، وتراجع التعاطف الإنساني، وحلّ محله سباق محموم لإثبات التفوق الأخلاقي.

ينطلق هذا المقال من فرضية أساسية مفادها أن ما نشهده لا يُختزل في تراجع أخلاقي فردي أو انحراف سلوكي عابر، بل يعكس تحولات أعمق في بنية المجال العام، وطبيعة السلطة الرمزية، ودور الدين داخل الفضاء الرقمي. ومن ثم يسعى المقال إلى تفكيك ظاهرة "تديين الغضب" بوصفها ظاهرة سياسية–قيمية مركبة، نتاجًا لتفاعل الدين مع منطق المنصات، لا انعكاسًا لجوهره الأخلاقي.

وفى سبيل ذلك يعتمد هذا المقال على نظريتين أساسيتين في التحليل السياسي والاجتماعي لتفسير ظاهرة "تديين الغضب" في الفضاء الرقمي:

- نظرية المجال العام (Public Sphere Theory):

تمثل هذه النظرية حجر الزاوية في فهم تحوّل النقاش العام من حوار عقلاني إلى خطاب تعبوي قائم على الانفعال والاستقطاب. صاغها الفيلسوف الألماني يُورجن هابرماس (Jürgen Habermas)، الذي وصف المجال العام بأنه فضاء يتيح للمواطنين التداول بحرية حول الشئون العامة عبر الحجاج العقلاني. وفي سياق الفضاء الرقمي، نرى تحول هذا المجال إلى ساحة تستدعي الرموز الدينية لإضفاء شرعية على الانفعال الجماعي بدل الحوار العقلاني.

- نظرية السلطة الرمزية والشرعية (Symbolic Power / Legitimacy Theory):

قدم بيير بورديو (Pierre Bourdieu) مفهوم السلطة الرمزية باعتبارها القدرة على فرض تعريف لما هو صواب أو خطأ، ومنح الشرعية عبر الاعتراف الاجتماعي، وليس عبر القوة المادية فقط. توظف هذه النظرية هنا لتفسير كيفية اكتساب جماعات رقمية غير رسمية القدرة على إعادة تعريف الفضيلة والدين، واستخدامهما كأداة للحشد، والوصاية الأخلاقية، والتأثير على السلوك العام.

الغرض من توظيف هاتين النظريتين هو تقديم إطار تحليلي متين لفهم التفاعلات في الفضاء الرقمي، وربطها بالسياسة الرمزية والوعي الاجتماعي، بدل الاقتصار على تفسير الظاهرة بوصفها مجرد سلوك فردي أو أخلاقي.

1- المجال العام وتحول النقاش إلى تعبئة:

تُستخدم نظرية المجال العام لفهم كيفية تحوّل النقاش العام من فضاء للحوار العقلاني إلى ساحة للتعبئة والانفعال. فالمجال العام الرقمي لا يعمل وفق شروط التداول الرشيد، بل يخضع لمنطق السرعة، والانتشار، والضغط الجماعي، حيث تُكافَأ المواقف الحادة أكثر من الآراء المتزنة.

في هذا السياق يُعاد إنتاج الخطاب الديني داخل المجال العام الرقمي بوصفه أداة تعبئة رمزية، تُستخدم لإضفاء شرعية على الغضب لا لضبطه، وعلى الإدانة لا لترشيدها. وهكذا يفقد الدين أحد أدواره التاريخية في تهذيب السلوك العام، ويتحول إلى لغة صدامية تُغذّي الاستقطاب بدلًا من احتوائه.

2- السلطة الرمزية وإعادة توزيع الشرعية:

يساعد اقتراب السلطة الرمزية في تفسير كيف انتقلت سلطة التقييم الأخلاقي من المؤسسات والمرجعيات التقليدية إلى جماعات رقمية غير رسمية. فامتلاك القدرة على تعريف ما هو "أخلاقي" أو "منحرف" داخل الفضاء الرقمي يُعد شكلًا من أشكال السلطة، تُمارَس عبر الحشد، والوصم، والتشهير، دون مساءلة أو ضوابط.

في هذا الإطار يصبح الخطاب الديني الغاضب وسيلة لاكتساب شرعية رمزية سريعة، حيث يُكافَأ الانفعال، ويُمنح الاعتراف الاجتماعي لمن يرفع نبرة الإدانة، لا لمن يدعو إلى الحكمة أو التوازن. وهكذا تُعاد صياغة مفهوم الفضيلة ذاته، من قيمة أخلاقية داخلية إلى أداء علني صاخب.

من القيم إلى الهوية الغاضبة:

عرف التدين تاريخيًا بوصفه منظومة قيم تضبط العلاقة بين الفرد وذاته، وبين الإنسان والمجتمع، وتؤسس لمعاني الرحمة والمسئولية الأخلاقية. غير أن هذا المعنى بدأ يتآكل مع انتقال التدين إلى الفضاء الرقمي، حيث لم يعد ممارسة داخلية أو التزامًا سلوكيًا، بل تحول إلى هوية صراعية تُعرّف نفسها عبر نفي الآخر وإدانته.

في هذا السياق لم يعد السؤال: ما السلوك الأخلاقي الصحيح؟، بل: من ينتمي إلى معسكر الفضيلة ومن يُستبعَد خارجه؟

وأصبح إثبات الالتزام القيمي مرهونًا بمدى الصلابة في الإدانة، لا بعمق الفهم أو اتساق السلوك.

هذا التحول من القيم إلى الهوية الغاضبة يُفسّر لماذا بات الخطاب الديني الرقمي أكثر ميلًا إلى القطع واليقين، وأقل استعدادًا للاعتراف بالتعدد أو التعقيد الإنساني. فالغضب هنا لا يُنظر إليه كحالة ينبغي ضبطها، بل كعلامة على الصفاء الأخلاقي.

العنف الرمزي وتديين الإقصاء:

يُعد مفهوم "العنف الرمزي" أداة تحليلية مهمة لفهم ما يجري داخل المنصات الرقمية. فالعنف هنا لا يُمارَس بالقوة المادية، بل عبر اللغة، والوصم، والتشهير، والإقصاء المعنوي. وفي حالته المُدينة، يصبح هذا العنف أكثر خطورة، لأنه يُقدَّم بوصفه فعلًا أخلاقيًا مشروعًا.

الخطير في هذا النمط من العنف أنه يُمارَس جماعيًا، ويُبرَّر أخلاقيًا، ويُنفَّذ دون إحساس بالذنب. فالفرد لا يرى نفسه معتديًا، بل مدافعًا عن القيم، مما يخلق حالة من الانفصال بين الفعل ونتائجه الإنسانية.

وهكذا تتحول الوصاية الأخلاقية إلى أداة ضبط اجتماعي، لا تستهدف السلوك بقدر ما تستهدف الشخص ذاته، وتُقصيه رمزيًا من المجال العام.

وباعتبار المنصات الرقمية كفاعل غير محايد لا يمكن فهم تصاعد تديين الغضب دون إدراك دور المنصات الرقمية بوصفها فاعلًا غير محايد في تشكيل الخطاب. فالخوارزميات لا تكافئ الحكمة أو التوازن، بل تكافئ المحتوى القادر على إثارة الانفعال وتحفيز التفاعل السريع.

في هذا الإطار يصبح الغضب موردًا قابلًا للاستثمار، ويتحول التدين إلى رأسمال رمزي يُستخدم لتعظيم الانتشار. لا لأن هذا الخطاب يعكس جوهر الدين، بل لأنه يتوافق مع منطق اقتصاد الانتباه.

وهكذا تُعاد صياغة القيم الدينية في قالب استقطابي، يُفرغها من بعدها الأخلاقي، ويحوّلها إلى أدوات حشد وصراع.

ومن التدين الفردي إلى الوصاية الجماعية يعد أحد أخطر نتائج هذا التحول هو انتقال التدين من كونه علاقة فردية بالقيم، إلى كونه أداة وصاية جماعية تُمارَس عبر الضغط الرقمي. لم يعد الفرد مسئولًا عن سلوكه فقط، بل أصبح خاضعًا لمحاكمات أخلاقية مستمرة، تُدار من قبل جماعات غير مفوضة، وبلا حدود واضحة للمساءلة.

في هذا السياق، يفقد الدين أحد أهم أدواره الأخلاقية: حماية الكرامة الإنسانية، لصالح خطاب يُعيد إنتاج السيطرة الاجتماعية تحت غطاء قيمي.

لا تقف خطورة تديين الغضب عند حدود النقاش الأخلاقي، بل تمتد إلى المجال السياسي والأمني. فمجتمع يُكافئ الغضب ويُعاقب التوازن، هو مجتمع أكثر قابلية للاستقطاب، وأقل قدرة على إدارة الاختلاف، وأكثر هشاشة أمام خطابات التطرف.

كما أن تآكل الثقة في المجال العام، وتحول النقاش إلى صراع أخلاقي دائم، يُضعف مناعة المجتمع، ويُربك العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويخلق بيئة خصبة للتلاعب بالوعي.

ختاما:

 لابد من استعادة الأخلاق قبل استعادة الخطاب حيث لا تكمن خطورة تديين الغضب في كونه تشددًا دينيًا فحسب، بل في كونه تفريغًا للأخلاق من معناها، وتحويلها إلى أداة صراع. فالدين الذي يُستخدم لتبرير الإقصاء يفقد جوهره القيمي، والمجتمع الذي يخلط بين الفضيلة والغضب، يغامر بتفكيك نسيجه الأخلاقي.

إن مواجهة هذه الظاهرة لا تبدأ بإدانة الأفراد، بل بتفكيك البنية التي تُنتجها: مجال عام مأزوم، ومنصات تكافئ الانفعال، وخطاب ديني فقد بوصلته الأخلاقية. واستعادة المعنى الأخلاقي للتدين لا تكون عبر مزيد من الوصاية، بل عبر إعادة الاعتبار لقيم الرحمة، والمسئولية، وضبط النفس، بوصفها جوهر أي منظومة أخلاقية حقيقية.

تدل ظاهرة تديين الغضب في الفضاء الرقمي على أن المجتمعات المعاصرة لم تعد تواجه خطر الانحراف الأخلاقي الفردي فحسب، بل تواجه تحديًا هيكليًا على مستوى المجال العام والسياسة الرمزية. فعندما تتحول المنصات الرقمية إلى ميادين لإعادة إنتاج السلطة الرمزية، ويصبح الخطاب الديني أداة تعبئة للصراع الرمزي، فإن المجتمع يفقد القدرة على التوازن، وتضعف أدوات الرقابة الذاتية والاجتماعية.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. هبة الحسينى

    د. هبة الحسينى

    مدرس العلوم السياسية-كلية اقتصاد وإدارة- جامعة ٦ أكتوبر