تحليلات

خط "مرند–چشمه ثریا" الجديد.. بين الطموح والمراهنة السياسية

طباعة

في تسعينيات القرن الماضي، لم تكن أمام منطقة غرب آسيا سوى خيارات محدودة لممرات الطاقة، أما اليوم فقد تعددت البدائل وتنوعت المسارات. ومع هذا التعدد، لم تعد الجغرافيا عامل الحسم الوحيد، بل أصبحت مجرد عنصر ضمن منظومة أوسع من المحددات.ورغم أن التحولات طالت فضاء غرب آسيا بوصفه نقطة ارتكاز جغرافية، فإن آثارها الأوضح برزت في خيارات دول آسيا الوسطى التي أعادت ترتيب مسارات العبور وفق منطق تقليل المخاطر.

يعكس هذا التحول تأثير الأناركية الدولية، حيث تسعى الدول والفاعلون الإقليميون والدوليون إلى تعظيم أمنهم وتقليل مخاطرهم لضمان البقاء. ونتيجة لذلك، اتجهت إيران إلى تجارة السكك الحديدية مع تركيا؛ بغية تسهيل نقل المشتقات النفطية، بعد أن حدّت العقوبات الأمريكية المفروضة على حلفائها النفطيين، لا سيما فنزويلا، من خيارات التحايل على العقوبات.

إدارة المخاطر تطوق دبلوماسية الطاقة الإيرانية:

نشرت مجلة The National Interest، القريبة من دوائر صنع القرار الأمريكية، يوم الأربعاء 26 نوفمبر 2025، مقالًا مثيرًا للجدل بعنوان: Why Iran Missed Out on Central Asian Connectivity(لماذا خسرت إيران موقعها في شبكات الربط في آسيا الوسطى؟)، خلص إلى أن العقوبات الاقتصادية وضعف موثوقية الإطار التنظيمي الإيراني أسهما في إضعاف موقع طهران داخل شبكات التجارة المتنامية في المنطقة.

ويتقاطع هذا الطرح مع مقالة نشرتها يوم الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 بعنوان:تأثير الأناركية الدولية على استقرار التمركز الجيوسياسي لإيران، توصلتُ فيها إلى أن التحولات في ممرات الطاقة لا تقتصر على كونها تغييرات بنيوية، بل تمثل تعديلًا فعليًا في هندسة القوة الإقليمية، وتقليصًا لدور إيران في دبلوماسية الطاقة، ولا سيما في القوقاز والخليج.

ويأتي ذلك في سياق أن الأناركية الدولية قد وضعت حدودًا واضحة لقدرة إيران على استثمار موقعها الجغرافي ومواردها الطاقوية داخل المعادلات الإقليمية. غير أن هذه القيود الخارجية تزامنت مع اختلالات داخلية، تمثلت في النقص المفاجئ في الديزل، والتقلبات الحادة في سعر الصرف، وإرباك حسابات الشركات الأجنبية، فضلًا عن صعوبة مواكبة متطلبات الانضباط الزمني لسلاسل الإمداد الحديثة.

ويُضاف إلى ذلك تحديات التنمية الداخلية للبنية التحتية، التي قيدت قدرة إيران على استثمار موقعها الاستراتيجي على نحو كامل. والأهم في طرح المجلة أنها تبنت رؤية مفادها أن دول آسيا الوسطى لا تُقصي إيران بدافع الخصومة السياسية، بل انطلاقًا من اعتبارات تقليل المخاطر وإدارتها.

وبناءً على ذلك، تعكس الرؤية الأمريكية أن آسيا الوسطى لم تُغلق أبوابها أمام إيران بقدر ما اتجهت إلى تبني بدائل أكثر استقرارًا. وتشكل هذه الخلاصة جوهر التحليل بأكمله، إذ تتنافس دول غرب آسيا بالفعل على تأمين مسارات طاقة تضمن استدامة مشاريعها، في مسار تفرضه اعتبارات الأناركية الدولية ومنطق إدارة المخاطر.

أبعاد توظيف إيران لخطوط السكك الحديدية:

أُعلِن خلال المؤتمر الصحفي المشترك لوزير الخارجية الإيراني، عباس عراقچي، ونظيره التركي، هاكان فيدان،يوم 30 نوفمبر2025، عن إنشاء خط حديدي جديد يمتد من مدينة مرند –إحدى مدن شمال غرب محافظة أذربيجان الشرقية بإيران– إلى أقصى شمال غرب البلاد، عند نقطة الصفر الحدودية مع تركيا "چشمه ثريا"، وصولًا إلى منطقة "آراليك" على الحدود التركية.

ويهدف هذا الممر إلى تحويل طريق الحرير الجنوبي إلى ممر لوجستي متكامل، يتيح نقل البضائع بسرعة وبتكلفة منخفضة، مع تقليل التوقفات قدر الإمكان، وفقًا لتأكيدات وزيرة الطرق والتنمية العمرانية الإيرانية، فرزانة صادق. ومن المتوقع أن يعزز هذا المشروع موقع إيران ضمن شبكات العبور الأوراسية.

وعلى الرغم من أن أكثر من 80٪ من التبادلات التجارية العالمية تُنقل عبر الطرق البحرية، إلا أن الطرق البرية ما تزال فعالة من حيث الوقت والمسافة لنقل البضائع والركاب. ووفق تقرير وكالة نورنيوز الإيرانية، والقريبة من المجلس الأعلى للأمن القومي، يمثل ممر مرند – چشمه ثريا خطوة مهمة لتعزيز خطوط السكك الحديدية بين آسيا وأوروبا.

ويبلغ إجمالي تكلفة المشروع نحو 106مليار دولار، ويغطي مسافة تقارب 200 كيلومتر، ومن المتوقع الانتهاء منه خلال ثلاثة إلى أربعة أعوام، ليصبح أحد أهم استثمارات خطوط السكك الحديدية الإقليمية لإيران في العقود الأخيرة. إذ يكتسب المشروع أهمية إضافية نظرًا لعودة طريق الحرير إلى واجهة الاستراتيجيات الجيوسياسية، مع إطلاق مبادرة "الحزام والطريق" الصينية عام 2013.

تجارة السكك الحديدية وإعادةالتموضع الإيراني:

رغم أن دور إيران ظل محدودًا نسبيًا بفعل العقوبات الدولية وصعوبة بيئة الاستثمار، يشير الانفتاح الجديد على تركيا إلى نهج براغماتي تتبناه طهران لترسيخ موقعها في الممرات الشرقية – الغربية. وتتمثل أهمية الشراكة مع تركيا في أن اقتصادها مرتبط بأوروبا، وتتمتع بنفاذ مباشر إلى البحرين الأسود والمتوسط، مع طموح لتصبح محورًا أوراسيًا.

كما يضمن المشروع لتركيا استمرار مساراتها اللوجستية وتعزيز موقعها كنقطة وصل بين آسيا الوسطى وغرب آسيا والاتحاد الأوروبي، خصوصًا وأن خط السكك الحديدية بين إيران وتركيا لا يزال محدودًا بفعل نقص البنية التحتية وتعقيدات الإجراءات الحدودية. ومن المتوقع أن تعالج الخطوات الجديدة هذه الاختناقات بشكل ملموس.

ويظهر ذلك في خطوة إيران العملية بإرسال أول قطار صادرات محمل بالكلِنكر – مادة صلبة تستخدم في صناعة الأسمنت البورتلاندي كمنتج وسيط – من محطة مترو الأنفاق "هشتگرد" قرب مصنع آبیك للأسمنت إلى تركيا منتصف نوفمبر 2025. وقد ضم القطار 27 عربة بحمولة 1500 طن، في إشارة لبداية مرحلة جديدة من تجارة السكك الحديدية الإيرانية.

وإذا تحسن أداء العبور وأنظمة التعرفة والإجراءات الحدودية، فتشير التقديرات، وفق تقرير وكالةإيسنا شبه الرسمية ووكالة نورنيوز، إلى احتماليةارتفاع حجم الشحن إلى 20 ألف طن شهريًا. وبالتالي، زيادة العائدات، وتقوية حركة الترانزيت في إيران، ولا سيما شبكة سكك طهران التي تسعى لتوسيع ارتباطاتها الدولية.

تعزيز موقع إيران في ممرات أوراسيا:

تسعى إيران، من خلال مشروعها الجديد مع أنقرة واستئناف تشغيل قطار الحاويات التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي(ECO) بين إيران وباكستان وتركيا في ديسمبر الجاري، إلى ترسيخ موقعها كمركز رئيسي لخطوط السكك الحديدية التي تربط آسيا الوسطى والقوقاز والخليج بأوروبا.خصوصًا في ظل خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب،لتطوير ممر زنجزور وسعي إدارته إلى عسكرة الحواف الجيوسياسية لإيران.

ومن وجهة نظري،يبدو أن الهدف الأهم لإيران من المشروع يتمثل في تسهيل نقل المشتقات النفطية والتحايل على قيود نقل الطاقة المفروضة دوليًا، مع الاستفادة من التضييق على منافسين نفطيين آخرين، لا سيما فنزويلا، أحد أهم حلفاء طهران الاستراتيجيين.

في هذا الإطار، يشكل كل من الممر الشرقي الغربي عبر تركيا والممر الشماليالجنوبي عبر (الهند–إيران–روسيا) الركيزتين الأساسيتين لهذه الاستراتيجية. إذ سيسهم ربط الخطوط الجديدة بالشبكات القائمة في خلق منظومة حديدية تنافسية، تقدم بديلًا فعالًا عن الطرق البحرية المزدحمة أو المعرضة للمخاطر الجيوسياسية.

أما تركيا، فتنظر إلى المشروع كجزء من استراتيجيتها الكبرى للتحول إلى مركز لوجستي أوراسي، يدمج موانئها المتوسطية وشبكة طرقها السريعة وبنيتها الحديدية الحديثة مع التدفقات التجارية في آسيا والمحيط الهادئ. كما تعزز هذه المشاريع الممر الحيوي شرقغرب، وتوفر بديلًا عمليًا عن الطرق البحرية، وتزيد من قدرة أوراسيا على الصمود اللوجستي.

وبالتالي، فإن اكتمال ممر مرندچشمه ثريا سيسد إحدى الحلقات المفقودة في شبكة خطوط السكك الحديدية بين الصين وأوروبا، معززًا دور تركيا كمحور إقليمي، ودافعًا إيران إلى موقع فاعل في الهيكل الاقتصادي لطريق الحرير الحديث. ومن منظور جيوسياسي، يؤكد الاستثمار البالغ 1.6  مليار دولار وتزايد مشاريع السكك الحديدية أن النقل البري عاد ليكون أداة استراتيجية محورية للربط بين آسيا وأوروبا. وإذا سارت الأمور وفق الاتفاق، من المتوقع أن تتحرك أول القطارات على هذا الممر الجديد في أوائل عامي 2029–2030، لتشكل مسارًا تنافسيًا جديدًا لتدفقات البضائع بين أوروبا وآسيا.

خاتمة:

تُعد إدارة المخاطر في ظل الأناركية الدولية المحدد الحقيقي لسلوك الدول ومسارات الطاقة والعبور. وبفعل العقوبات، تحولت إيران إلى عقدة عالية المخاطر داخل شبكة إقليمية ودولية متزايدة التعقيد، ما دفعها إلى محاولة فتح نافذة براغماتية عبر تركيا، بوصفها مسارًا أقل حساسية نسبيًا للقيود العقابية.

غير أن هذا الرهان يظل مشروطًا؛ إذ في حال اعتبرت الولايات المتحدة أن الممر الجديد يشكل توسعًا لوجستيًا ومنفذًا فعليًا للالتفاف على العقوبات، فإن أدوات الضغط ستتركز على البنوك الممولة وشركات الشحن العابرة للحدود، بما يكفي لتقليص الجدوى الاقتصادية للمشروع دون الانخراط في مواجهة سياسية مباشرة.

وبما أن البراجماتية التركية ليست ثابتة بنيويًا، بل خيارًا سياسيًا محكومًا بتوازنات داخلية وخارجية، فإن الحياد التركي لا يُتوقع أن يكون مطلقًا إذا ما تعارض المشروع مع أولويات أطلسية أوسع، ولا سيما في سياق الصراع مع روسيا أو تشديد نظام العقوبات على إيران.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. شيماء المرسي

    د. شيماء المرسي

    الخبيرة فى الدراسات البينية الإيرانية