تحليلات

مؤشرات أمننة النفوذ الإيراني في المنطقة.. ساعة الصفر تقترب

طباعة

في مساء 27 نوفمبر 2025، قدم القائد الأعلى الإيراني "علي خامنئي" عبر كلمة متلفزة، نفيًا حاسمًا لما تردد حول إرسال طهران رسالة غير مباشرة إلى الولايات المتحدة عبر المملكة العربية السعودية، مؤكدًا أن واشنطن لا تستحق من وجهة نظره أي مستوى من التواصل أو التعاون مع الجمهورية الإسلامية.

وبعد ساعات قليلة جاء تصريح وزير الخارجية الإيراني، "عباس عراقجي" ليعزز هذا الموقف، مشددًا على أن للمفاوضات قواعد واضحة، وأن الحديث عن عملية تفاوضية "متوازنة ومنصفة" غير ممكن في الظرف الراهن نتيجة السياسات الأمريكية الحالية.

يعكس هذا الخطاب المتتابع درجة الاحتدام في الموقف الإيراني تجاه التحركات الأمريكية والإسرائيلية، في ظل سلسلة تطورات متلاحقة ترسم ملامح قواعد الاشتباك، وتبدو فيها مؤشرات العد التنازلي نحو احتمالات التصعيد العسكري أكثر وضوحًا في المشهد الإقليمي.

ملف إبستين يحرض ترامب على التصعيد:

تشير الدوائر السياسية في طهران إلى أن قضية جيفري إبستين، التي أعادت صحيفة وول ستريت جورنال إحياءها في أغسطس 2025، عبر الإشارة إلى ورود اسم الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" في ملفها الجنائي المتعلق باستغلال وبيع القاصرين، لم تعد مجرد قضية جنائية داخلية في الولايات المتحدة، بل تحولت إلى أداة ضغط سياسي عابرة للحدود.

ومع أن القضية شغلت الإعلام الأمريكي على نطاق واسع، ترى إيران أن الضغوط التي يمارسها إعلاميون وشخصيات نافذة، مثل: الإعلامي "مارك لوين"، والملياردير الأمريكي "نلسون پليتز"، ورجل الأعمال الأمريكي "آيزاكپرلموتر"، و"روبرت مردوك" مالك كل من (The Wall Street Journal – Fox News) على ترامب، لدفعه نحو موقف أكثر تشددًا تجاه طهران، تعزز فرضية توظيف ملف إبستين كورقة ابتزاز سياسي لتأجيج الصراع مع إيران.

في المقابل كشفت وكالة "نادي المراسلين الشباب" (YJC) شبه الرسمية، استنادًا إلى وثائق مسربة، عن شبكة علاقات واسعة جمعت إبستين برئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق "إيهود باراك" وشخصيات محورية داخل الجهاز العسكري الإسرائيلي. وتُظهر هذه المراسلات طبيعة سياسية عميقة تتجاوز الحدود التقليدية للعلاقات الشخصية، وترتبط بتوجهات إدارة ترامب حيال إيران والصين، بما يعكس استخدام إبستين"رأس المال الجنسي" المتمثل في استغلال الشباب، و"رأس المال السياسي" المخصص للتأثير على النخب وصناعة القرار.

وتذهب بعض القراءات الإيرانية إلى أن إبستين وباراك عملا، ضمن هذا الإطار، بهدف تثبيت سياسة الضغط الأقصى ضد إيران، عبر تنسيق ممتد بين مليارديرات وشخصيات قيادية في إسرائيل، للحفاظ على مستوى عالٍ من التوتر في الشرق الأوسط باعتباره يخدم مصالحهم الاستراتيجية. كذلك قُدمت جزيرة إبستين الخاصة، كمنصة لتبادل النفوذ وترتيب صفقات التأثير بعيدًا عن الرقابة العامة.

وتكشف وكالة "فرارو" الإصلاحية بُعدًا آخر للقضية، مشيرة إلى ورود اسم مبعوث ترامب في ملفات لبنان وسوريا الملياردير الأمريكي،"توماس باراك"، ضمن نطاق التحقيقات نفسها. ورغم أن ترامب سارع إلى نفي أي صلة تربطه بالجزيرة التي يملكها إبستين، معتبرًا ما يُنشرحملة سياسية ديمقراطية ضده، ومذكرًا بأن "بيل كلينتون" هو من زار الجزيرة 28 مرة.

 إلا أن التسريبات المتدرجة حول دوره المحتمل في القضية توحي، وفق التحليلات الإيرانية، بأن إسرائيل جزء من هذا المسار؛ بغية دفع واشنطن نحو خيارات أكثر التصاقًا بمصالحها، خاصة عبر اللوبيات المؤثرة التي تسعى إلى حشد القرار الأمريكي باتجاه مواجهة مباشرة مع إيران.

هذا النمط من التشابك بين الفضيحة الجنائية، ورأس المال السياسي، واللوبيات الفاعلة، يُرسخ أن قضية إبستين لم تُطوَ بعد، وأنها تتجاوز حدودها القانونية لتتحول إلى عنصر فاعل في هندسة السياسات الأمريكية تجاه طهران في لحظة إقليمية شديدة الحساسية.

أمننة أنشطة حزب الله اللبناني:

تزامنًا مع توقف العمليات العسكرية في غزة، وسع الجيش الإسرائيلي نطاق ضرباته ليطال أهدافًا مرتبطة بمحور المقاومة من لبنان إلى اليمن، فيما شرعت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وعلى رأسها الاستخبارات العسكرية "أمان" والموساد، في تنفيذ حملة مركزة تستهدف قيادات بارزة في المقاومة. وانتهت إحدى هذه العمليات باغتيال رئيس أركان حرب حزب الله "هيثم طبطبائي" في غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت، في مؤشر على انتقال تل أبيب إلى مستوى أكثر اندفاعًا لإعادة استهداف البنية القيادية للحزب.

وفي موازاة التصعيد العسكري برزت محاولات إعلامية إسرائيلية لإعادة إنتاج نموذج مشابه لما جرى مع حكومة فنزويلا، لكن هذه المرة عبر ربط عناصر من حزب الله بأنشطة إجرامية عابرة للحدود. وقد ذكرت تقارير إعلامية، منها صحيفة "إسرائيل هيوم" أن نوح زعيتر، الملقب بـ"بابلو إسكوبار لبنان" والمطلوب منذ سنوات بتهم تتعلق بالاتجار بالمخدرات، اعتقلته الأجهزة الأمنية اللبنانية في البقاع، وأن له صلات بجماعة سورية تعمل في تصنيع الكبتاجون ونقله إلى الأسواق الخارجية.

وعلى الرغم من أن ملف زعيتر ليس جديدًا في السجال اللبناني، إلا أن إعادة توظيفه إسرائيليًا تُقرأ بوصفها جزءًا من محاولة منهجية لـ"أمننة" أنشطة حزب الله وإعادة صياغتها ضمن سرديات تهدف إلى نزع الشرعية عنه.

ويتقاطع هذا التوظيف مع تقارير بحثية، مثل دراسة إيمانويل أوتولنجي الصادرة عن "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات" في أغسطس 2024، والتي نسبت إلى الحزب إدارة أنشطة غير قانونية تشمل تهريب المخدرات ومخططات غسيل الأموال القائمة على التجارة.

غير أن تصنيف قسم من أنشطة الحزب المالية كغسيل أموال وفق معايير اتفاقية باليرمو – إحدى ركائز مجموعة العمل المالي(FATF)- لا ينعزل عن واقع الضغوط الأمريكية المتصاعدة، التي دفعت الحزب إلى تبني أساليب مشابهة للنهج الإيراني في الالتفاف على العقوبات وإدارة التمويل في بيئة شديدة القيود.

وتبرز هنا مفارقة دالة؛ إذ يشبه الخطاب الأمريكي، في بعض جوانبه، مقاربة واشنطن لحكومة نيكولاس مادورو، التي صورت كـ"دولة مخدرات"، الأمر الذي يجري إسقاطه على بعض عناصر محور المقاومة لتبرير التدخلات العسكرية أو العمليات الاستخباراتية.

وفي إطار منهجة الضغوط اتهمت إسرائيل الحكومة اللبنانية بعدم تنفيذ التزاماتها تجاه القرار 1701 وعدم نزع سلاح حزب الله، ملوحة بتوسيع عملياتها حتى شمال نهر الليطاني. جاء ذلك بالتزامن مع زيارة وفد من وزارة الخزانة الأمريكية إلى بيروت، وقد منح خلالها السلطات اللبنانية مهلة لا تتجاوز 60 يومًا لاتخاذ إجراءات ملموسة لقطع التمويل عن حزب الله.

تعكس هذه المهلة مستوى غير مسبوق من التشدد الأمريكي، مما يجعلها جزءًا من مسار تصعيدي واضح يستهدف تقويض أدوات النفوذ الإيراني داخل لبنان في لحظة إقليمية شديدة الحساسية.

دخول أزمة المياه إطار التصعيد:

وفقًا لتقرير موقع إکوایران المحسوب على التيار التكنوقراطي الإيراني، تُوصف أفغانستان عادة بأنها دولة حبيسة، لكنها من الناحية الهيدرولوجية تتحكم في تدفق مياه نهر هلمند، الذي ينبع من المرتفعات الأفغانية ويتجه نحو أحواض ومستنقعات هامون في محافظة سیستانوبلوچستان الإيرانية، مما يمنحها دورًا محوريًا في أمن المياه الإقليمي.وهو نفوذ تدركه حركة طالبان أكثر من أي حكومة أفغانية سابقة.

وتنص معاهدة مياه هلمند لعام 1973 على حصول إيران على 22 مترًا مكعبًا من المياه في السنوات العادية، مع إمكانية شراء 4 أمتار مكعبة إضافية في سنوات الوفرة. إلا أن الاتفاقية تفتقر إلى آليات تنفيذ واضحة، وتعتمد على نظم مراقبة وتبادل بيانات مشتركة لم تُفعل منذ عقود.

على هذا الأساس تتهم طهران كابول بحجز مياه هلمند عبر التحكم بسدي كجکیوكمال‌خان، في حين تصر السلطات الأفغانية على أن إيران تحصل على حصتها القانونية، وأن أزمة سیستان تعود إلى سوء الإدارة الداخلية، والضخ المفرط من الآبار، والري غير الفعال، وزراعة محاصيل تستنزف كميات كبيرة من المياه.

والمفارقة أن كلا الطرفين عاجز عن تقديم إثبات حاسم يدعم روايته. أما خزانات "چاه‌نیمه" الأربع التي شيدتها إيران في الثمانينيات لتأمين احتياط استراتيجي من مياه هلمند، فقد أصبحت شبه جافة، مما فاقم الاختلالات الداخلية ورفع منسوب التحذيرات الرسمية بشأن دخول البلاد حالة طوارئ مائية وطنية، فيما يُلقى باللوم على سياسات السدود الأفغانية.

ومع هذا تجاوزت تداعيات الأزمة بعدها البيئي لتمتد إلى المجال السياسي، إذ أسهمت ندرة المياه في تسريع وتيرة الهجرة من سیستانوبلوچستان، وهو ما تعتبره طهران تهديدًا بيئيًا وأمنيًا متداخلا، مدفوعًا -وفق المسئولين الإيرانيين- بسياسات طالبان في التحكم بالموارد المائية.

وتبرز في هذا السياق احتمالية توظيف واشنطن للملف المائي كورقة ضغط إضافية على إيران، وهي فرضية تتأرجح بين الاستقراء الواقعي والتوقع السياسي، خاصة بعد نشر المعهد اليهودي للأمن القومي الأمريكي (JINSA) الوثيقة الاستراتيجية التي تكشف استراتيجية الضغوط الأمريكية ضد إيران.فإلى جانب الخلاف المائي مع أفغانستان حول هلمند وهريرود، تتصاعد التوترات المائية مع تركيا وأذربيجان والعراق، ولا سيما بعد حرب الاثني عشر يومًا، ليعود ملف المياه إلى الواجهة بوصفه أحد أبرز ملفات الأمن القومي الإيراني.

وبناء على ذلك لم تعد أزمة المياه في إيران مجرد تحدٍ بيئي، بل تحولت إلى قضية أمن قومي مركزي، وورقة تفاوضية حساسة تحكمها معادلات داخلية، وإقليمية، ودولية متشابكة، في وقت يُحتمل فيه أن يُستغل تغير المناخ ضمن ترتيبات لحظة الصفر.

خاتمة:

في المحصلة تقود مؤشرات التوتر الإقليمي إلى تهيئة بيئة ملائمة لموجة تصعيد غير مسبوقة بين إيران وخصومها. فقد سعت طهران، في أعقاب حربها الأخيرة مع إسرائيل، إلى سد ثغراتها وتحويل نقاط الضعف إلى أدوات ضغط استراتيجية لرفع كلفة أي عمل عسكري ضدها.

ومن هذا المنطلق جاءت الخطوات الأمريكية والإسرائيلية لتدشن مسارًا يهدف إلى "أمننة" أنشطة محور المقاومة، واستخدام ملفات الأمن القومي. وعلى رأسها ملف المياه. كوسائل لتهيئة الظروف لتصعيد مباشر ضد إيران، وزيادة الضغط على النظام للحد من قدرته على المناورة، مع إبقاء احتمالات الحرب الشاملة على الطاولة.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. شيماء المرسي

    د. شيماء المرسي

    الخبيرة فى الدراسات البينية الإيرانية