مقالات رأى

سقوط الإسلام السياسى..من وهم التمكين إلى حقيقة الانهيار الشامل

طباعة

شهد العقدان الماضيان صعودًا سريعًا لتيار الإسلام السياسي.. بدا خلالهما وكأنه القوة القادرة على إعادة تشكيل المشهد العربي من جذوره، قبل أن يتبيّن أن هذا الصعود لم يكن سوى موجة قصيرة انتهت بانحسار حاد وتفكك داخلي وتراجع خارجي غير مسبوق.

فما حدث لم يكن مجرد خسارة انتخابية أو تراجع تنظيمي، بل انهيار شامل لبنية فكرية، وتنظيمية، وسياسية توهمت طويلًا أنها الأكثر قدرة على البقاء.

فمنذ اللحظة التي وصل فيها الإسلاميون إلى الحكم في بعض الدول تكشّفت فجوة ضخمة بين الشعارات التي رُفعت لعقود والواقع المعقد لإدارة الدولة.

التجربة التي كان يُفترض أن تكون نموذجًا ملهمًا –وأبرزها تجربة الإخوان المسلمين في مصر– اصطدمت بغياب رؤية واضحة للحكم وعجز عن بناء تحالفات وسوء تقدير لطبيعة الدولة الوطنية ومراكز قوتها.

تحولت الجماعة من مشروع تغيير شامل إلى كيان عاجز أمام استحقاقات السلطة، ومحاصر بالصراع مع المؤسسات، ومثقل بخيارات متناقضة بين منطق الدعوة ومنطق الحكم.

إلى جانب هذا الفشل السياسي برز التكلس الفكري كعامل أساسي في الانهيار. فخطاب الإسلام السياسي ظل أسير مفاهيم قديمة، مثل الحاكمية، والتمكين، والولاء والبراء دون أن ينجح في إنتاج قراءة جديدة تستوعب تحولات الدولة المعاصرة أو تطلعات الأجيال الشابة.

ومع انغلاق الخطاب وضعف التجديد تآكلت القدرة على الإقناع وتراجع تأثير الحركة في الشارع الذي لم يعد يقبل بالشعار الديني كضمانة للحكم أو الإصلاح.

زاد من عمق الأزمة الانقسامات الداخلية غير المسبوقة: صراعات مالية وتنظيمية، وصدام بين قيادات الداخل والخارج، وتنازع على الشرعية أدى إلى انهيار التنظيم الهرمي الذي كان يمثل أكبر مصادر قوة التيار.

تزامن ذلك مع تغيّر جذري في البيئة الإقليمية والدولية؛ فالدول التي كانت تقدم دعمًا مفتوحًا أصبحت حذرة أو معادية، والغرب بات أكثر تشددًا تجاه الحركات ذات المرجعية الإسلامية بعد تمدد الإرهاب وظهور تنظيمات العنف.

ومع كل ذلك كان التحول الشعبي هو الضربة الحاسمة. المواطن العربي الذي منح الإسلاميين فرصة في لحظة ارتباك تاريخي عاد سريعًا ليكتشف أن الشعارات لا تبني دولة وأن الإدارة ليست مجرد نوايا حسنة.

فتراجعت الحاضنة الاجتماعية التي كانت تمثل السند الحقيقي للجماعات، وتقلصت شبكات الدعم والخدمة، وفقد التنظيم موقعه داخل المجتمع لصالح مؤسسات الدولة الرسمية وخطاب ديني وطني أكثر اتساقًا مع متطلبات اللحظة.

اليوم يقف تيار الإسلام السياسي أمام مشهد غير مألوف: تنظيمات مفككة، وقيادات مشتتة بالخارج، وقواعد اجتماعية منهارة، ومشهد سياسي لم يعد يتسع لخطاب عقائدي يبحث عن دولة دينية في زمن تتقدم فيه فكرة الدولة الوطنية.

النشاط الذي تبقى لم يعد سياسيًا بقدر ما هو إعلامي وحقوقي في المنفى بلا تأثير حقيقي في الداخل.

ويبقي السؤال هل يمكن أن يعود التيار؟ العودة بصورته القديمة تكاد تكون مستحيلة فالظروف تغيرت، والوعي تغير، والدعم تغير.

لكن احتمالات الظهور بصيغ جديدة تبقى قائمة: أحزاب محافظة بواجهة مدنية، نشاط خيري أو اجتماعي بلا طابع سياسي مباشر، أو مبادرات فردية شبابية ذات نزعة دينية غير تنظيمية. وحتى هذه الأشكال، إن ظهرت، فلن تحيي المشروع القديم، بل ستقدم "ظلًا" خافتًا له.

إن انهيار تيار الإسلام السياسي ليس مجرد صفحة طويت، بل درس تاريخي يكشف أن الخطابات العقائدية مهما بدت صلبة تنهار حين تُختبر أمام استحقاقات الدولة الحديثة.

ما سقط لم يكن تنظيمًا فقط، بل نموذجًا كاملًا كان يتصور أنه البديل الأكيد. واليوم يقف الواقع شاهدًا على أن زمن الجماعة تراجع، وأن زمن الدولة الوطنية هو العنوان الرئيسي للمرحلة المقبلة، حيث يبحث المواطن عن استقرار وتنمية لا عن صراع أيديولوجي، وعن دولة قوية لا عن جماعة قوية.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    طارق العوضي

    طارق العوضي

    المحامي بالنقض، مدير مركز دعم دولة القانون