تحليلات

هندسة القوة الناعمة.. "المتحف المصري الكبير" سفيرًا دائمًا لمصر لدى الإنسانية

طباعة

في عالم يَمُوجُ بالصراعات وتتنازع فيه القوى الدولية على النفوذ والمصالح، تختار مصر أن تخاطب العالم بلغتها الأسمى والأبقى، لغة الحضارة والبناء والسلام المستنِدِ إلى القوة. ومن هضبة الجيزة الخالدة، حيث يتوقف الزمن احتراما لاسم مصر، وتقف الأهرامات في حوار أبدي مع الزمن، ينهض اليوم صرح معماري فريد، لا لينافس عظمة الماضي، بل ليكملها ويصافحها، حيث تشرق الشمس على أيقونتها الأحدث والأعظم: "المتحف المصري الكبير".

إن افتتاح المتحف المصري الكبير ليس مجرد حدث ثقافي عابر، بل هو إعلان حضاري واستراتيجي، ولحظةٌ فارقة تكتب فيها مصر "فصلا جديدا من تاريخ الحاضر والمستقبل". هذا الصرح ليس مجرد أكبر مستودع في العالم لكنوز حضارة واحدة، إنه أداة استراتيجية فائقة الدقة صاغتها الدولة المصرية الحديثة. فهو يعمل في آن واحد كهديةٍ عالمية للإنسانية، ومحرك جبار للقوة الناعمة الوطنية، وقاطرة اقتصادية تتناغم مع رؤية مصر 2030، والرمز الأعلى لإرادة وقدرة الجمهورية الجديدة. يستعرض هذا التقرير الأبعاد المتعددة للمتحف، مُحللا دلالاته العالمية، والاستراتيجية، والاقتصادية، والوطنية، وكاشفا عن دوره كفاعل رئيسي في تشكيل مكانة مصر في القرن الحادي والعشرين.

أولا- هدية للإنسانية ورسالة من مهد التاريخ:

الإعلان الرسمي.. منارة للثقافة والإنسانية:

لقد حرص الخطاب الرسمي للدولة المصرية على أعلى مستوياته على تأطيرِ المتحف ضمن سياق العطاء الإنساني. فإعلانُ رئيس مجلس الوزراء، الدكتور مصطفى مدبولي، المتكرر بأن المتحف يمثل "هدية مصر للعالم أجمع"، لم يكن مُجرد توصيف بلاغي، بل كان بمثابة حجر الزاوية في السردية الرسمية لهذا الإنجاز. وقد تكرس هذا المفهوم بحضور فخامة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، الذي أكد في كلمته الافتتاحية أن هذا الصرح ينطلق من الأرض التي "خطّت فيها الحضارة أول حروفها وانطلقت منها أنوار الحكمة"، وهو ما يضع المتحف في سياق إرث عالمي تتشرف مصر بحمله وتقديمه للبشرية.

جسر بين الحضارات ومنتدى دبلوماسي عالمي:

يُعَدُّ المتحف المصري الكبير بمثابة الأداة الأكثر بريقًا وتأثيرًا في ترسانة القوة الناعمة المصرية. إنه سفير فوق العادة، لا ينطق بالسياسة المباشرة، بل يتحدث بلغة الحضارة والجمال التي تكسب العقول والقلوب دون ضجيج.

ويتجاوز المتحف دوره كمؤسسة ثقافية ليصبح "جسرا حضاريا وثقافيا بين شعوب العالم". ولم يكن الحضور الدولي غير المسبوق في حفل الافتتاح، والذي ضم 79 وفدا دوليا، من بينهم 39 وفدا على مستوى ملوك وأمراء ورؤساء دول وحكومات، مجرد مشاركة احتفالية. لقد كان هذا الحضور بمثابة قبول عالمي فوري لهذا الدور، واعترافا دوليا بمكانة مصر كحاضنةٍ للتراث الإنساني. وبهذا تحول المتحف منذ يومه الأول من مشروع وطني إلى منتدى دبلوماسي عالمي، ومنصة للتلاقي والحوار.

رسالة سلام في عالم مضطرب:

في عالم يَمُوجُ بالاضطرابات الجيوسياسية وصراعات الهوية، تقدم مصر متحفها الكبير "كرسالةِ حب وسلام إلى العالم"، و"رسالة سلام من أرض الكنانة". إنه ليس مجرد عرض للماضي، بل هو استثمار استراتيجي في المستقبل، عبر توفير منصة لتعزيز "حوار الحضارات، وليس صراع الحضارات". تستخدم مصر عمقها التاريخي الفريد للدعوة إلى القيم الإنسانية المشتركة، مؤكدة أن الإرث الحضاري يمكن أن يكون أداة لبناء الجسور لا لتكريس الانقسامات.

إن سردية "الهدية إلى العالم" تُمثل عملا متقنا من "الإيثار الاستراتيجي". فمن خلال تقديم هذا الإنجاز الوطني كمساهمة عالمية، ترتقي مصر بمشروعها فوق المصالح الضيقة، وتولد رصيدا هائلا من النوايا الحسنة، وتعزز مكانتها كوصيٍّ لا غنى عنه على التراث الإنساني. هذا الموقف السخي يعزز نفوذها الدبلوماسي وقوة جاذبيتها الناعمة بشكل أكثر فعالية مما لو تم تقديمه كإنجاز قومي بحت. ففعلُ "العطاء" هنا هو في جوهره فعل "اكتساب" للمكانة والاحترام والتأثير، ودور مركزي في الحوار الثقافي العالمي.

ثانيا- معمار الهوية.. صرح من عبقرية مصر الحديثة:

حوار مع الخلود:

إن فلسفة تصميم المتحف المصري الكبير هي بمثابة حوار معماري واعٍ مع الأهرامات. فالواجهة ذات الزخارف المثلثية، المستوحاة من مثلث "سيربنسكي"، لا تربط المبنى الحديث بجيرانه القدماء رمزيا فحسب، بل تجسد فكرة اللانهاية والتجدد. كما أن خطوط التصميم تمتد كأشعة نحو قمم الأهرامات الثلاثة، خالقةً جسرا بصريا ومفاهيميا بين الجلال القديم والإبداع الحديث. هذا ليس مجرد فن معماري، بل هو تجسيد مادي لسردية مصر الحضارية المتصلة التي لم تنقطع.

الحجم كرسالة:

إن الحجم الهائل للمتحف، الذي يمتد على مساحة 117 فدانا (ما يقارب 500 ألف متر مربع) ويضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، يجعله أكبر متحف في العالم مخصصا لحضارة واحدة. هذا التفوق ليس وليد الصدفة، بل هو خيار استراتيجي مصمم ليكون بيانا لا يقبل الجدل بالتفوق الثقافي والطموح الوطني. إنه أكبر من متحف اللوفر، وقد صُمم ليكون أيقونة عالمية تليق بتاريخ مصر.

اندماج التراث والتكنولوجيا:

المتحف المصري الكبير هو واجهة للحداثة بامتياز. فهو يستخدم "أحدث أساليب وتقنيات العرض المتحفي"، من التوثيق الرقمي للآثار، إلى الوسائط التفاعلية والسينما ثلاثية الأبعاد. هذا الاندماج يثبت أن مصر ليست مجرد حارس لماضٍ جامد، بل هي قوة مبتكرة قادرة على إعادة تقديم تراثها لجمهور القرن الحادي والعشرين بلغة عصرية ومبهرة.

صرح أخضر للمستقبل:

إن حصول المتحف على شهادة "Edge Advance" كأول متحف "أخضر" في إفريقيا والشرق الأوسط هو تفصيل بالغ الأهمية. هذا الالتزام بالاستدامة يربط المشروع بالقضايا العالمية الملحة، ويقدم صورة لدولة مسئولة وذات رؤية مستقبلية، مما يضيف بعدا قويا لجاذبيتها كقوة ناعمة.

يشتمل تصميم المتحف على ميزات مستدامة متقدمة، مثل محطات الطاقة الشمسية، والتهوية الطبيعية، وأنظمة إدارة الطاقة الذكية، وأنظمة إعادة تدوير المياه، مما أدى إلى تحقيق تخفيضات كبيرة في استهلاك الطاقة بنسبة 62% وفي انبعاثات الكربون. ويهدف المشروع إلى أن يكون "أيقونة ثقافية محايدة كربونيًا"، مما يعكس التزامًا وطنيًا بدمج الاستدامة البيئية في جميع القطاعات.

ويُعَدُّ معمار المتحف هو في حد ذاته استعارة مادية لفلسفة الجمهورية الجديدة: فهو عميق الجذور في التاريخ (الحوار مع الأهرامات)، وضخم في طموحه (حجم لا يضاهى)، ومتقدم تقنيا (التكامل الرقمي)، ومسئول عالميا (الشهادة الخضراء). المبنى نفسه يروي القصة التي ترغب الدولة في إيصالها للعالم. فاحترامُ الماضي يعكس التركيز على "الهوية"، والطموح والحجم يعكسان التوجه نحو "المشروعات القومية العملاقة"، والتكنولوجيا تعكس السعي نحو "التحديث والتنمية"، والاستدامة تعكس انخراط مصر في القضايا العالمية، مثل استضافتها لمؤتمر المناخ (COP27). وهكذا لم تكن الخيارات المعمارية جمالية أو وظيفية فحسب، بل كانت سياسية بعمق، صُممت لتجسد رؤية الدولة وهوية مشروعها الوطني بلغة عالمية ومفهومة.

ثالثا- درة التاج.. السردية الكاملة لتوت عنخ آمون:

رحلة الملك الذهبي وكنوز تُكشف للمرة الأولى في التاريخ:

يمثل عرض المجموعة الكاملة للملك توت عنخ آمون، والتي تضم أكثر من 5,300 قطعة أثرية، حدثا تاريخيا فريدا، حيث تُعرَضُ المجموعة مجتمعة لأول مرة منذ اكتشاف المقبرة على يد هوارد كارتر عام 1922. فعلى مدى قرن كامل، ظلت هذه الكنوز متفرقة، ولم يُعرَضْ منها سوى جزء بسيط (نحو 1,300 قطعة) في المتحف المصري بالتحرير. إن هذا التوحيد هو حدث عالمي بكل المقاييس.

وراء هذا العرض يقف جهد لوجستي وعلمي هائل في نقل وترميم المجموعة. هذه "الرحلة الثانية" للفرعون الذهبي تطلبت سنوات من العمل الدقيق على أيدي فرق مصرية متخصصة داخل أكبر مركز للترميم في العالم، والذي يقع داخل المتحف المصري الكبير. هذه السردية، التي تتمحور حول استعادة المصريين لتراثهم والحفاظ عليه بأيديهم وخبراتهم، هي بيان قوي بالسيادة الثقافية.

ويزيد من أهمية هذا الحدث عرض قطع أثرية لم تُشاهَدْ من قبل، مما يخلق دافعا قويا للزيارة. من بين هذه القطع جنينان لملكتين من بنات الملك، ودروع جلدية فريدة، وقلادة نباتية نادرة، مما يضيف بعدا إنسانيا مؤثرا لقصة الملك. كما أن عرض التابوت الخارجي إلى جانب التابوتين الآخرين يكمل المجموعة الجنائزية لأول مرة خارج المقبرة.

تجربة غامرة للزائر:

يختلف النهج التنظيمي للمتحف عن العروض السابقة. فبدلا من عرض القطع الأثرية حسب الممالك، يقدمها في "سرد بانورامي" يركز على موضوعات، مثل الملكية، والمجتمع، والدين عبر الأسر الحاكمة. ويعمل "الدرج العظيم"، بتماثيله الـ 87 المرتبة ترتيبًا زمنيًا، كرحلة مادية عبر الزمن، ترمز إلى الصعود الحضاري لمصر.

إن التركيز على مجموعة توت عنخ آمون الكاملة يوفر محورًا قويًا ومعترفًا به عالميًا لهذه السردية، حيث يجمع بين التاريخ والشعور بالاكتشاف والدهشة. هذا النهج لا يعرض الآثار كقطع جامدة، بل ينسجها في قصة متماسكة تهدف إلى إيصال رسالة محددة حول طبيعة الحضارة المصرية.

لا تُقَدَّمُ المجموعة كمعروضات ثابتة، بل كقصة غامرة. فالقاعتانِ المخصصتان للملك، واللتان تمتدان على مساحة شاسعة تبلغ 7,200 متر مربع، تستخدمان تقنيات تفاعلية وإضاءة متطورة لسرد قصة حياة الملك الشاب ورحلته إلى العالم الآخر.

وبفضل هذا التوحيد، يتحول كنز توت عنخ آمون من مجرد اكتشاف أثري شهير ومجزأ إلى ملحمة وطنية متكاملة ومصقولة. إن هذا الفعل، فعل التوحيد السردي، هو ممارسة للقوة الناعمة، حيث تؤكد مصر دورها ليس فقط كمالك للآثار، بل كالمفسر وراوي القصة الأصيل لتاريخها. فالمجموعة المتفرقة تروي قصة متقطعة، أما المجموعة الكاملة فتسمح بسرد قصة متماسكة. والدولة المصرية، عبر المتحف، هي التي تتحكم في هذه السردية، مما يعيد إليها السيطرة على تفسير تاريخها، وينقل مركز الثقل في علم المصريات من العواصم الغربية إلى القاهرة.

رابعا- الضرورة الاستراتيجية.. المتحف كمحرك للقوة الناعمة:

الدبلوماسية الثقافية.. هوية الدولة وتأكيد الريادة الإقليمية والعالمية:

إن المتحف المصري الكبير هو أكثر من مجرد موقع سياحي، إنه "أداة دبلوماسية من طراز خاص" و"منصة دائمة للحوار". وقد أدركت وسائل الإعلام الدولية هذا البعد الاستراتيجي، حيث وصفته وكالة الأنباء الإسبانية "إفي" صراحة بأنه "رمز للقوة الناعمة والفخر"، ووصفته أيضًا العديد من كبريات الصحف الأمريكية والغربية ودول آسيوية. يتيح المتحف لمصر أن تقدم للعالم صورة من الاستقرار، والكفاءة، والثراء الحضاري، مؤكدة أنها ليست فقط "حارسة لماضيها، بل هي أيضا رائدة في رسم مستقبل الحفاظ على التراث"، على حد تعبير نوريا سانز، المديرة الإقليمية لليونسكو. إنه يعيد تعريف هوية مصر كـ "عاصمة ثقافية للعالم".

في هذا المحيط الإقليمي المضطرب الذي يعاني من "صراعات الهوية والحروب"، يقف المتحف كـ "منصةٍ للأمان الثقافي". إنه فعل من أفعال التأكيد الحضاري العميق، يبرهن على الاستقرار والالتزام بصون تراث إنساني، في وقت يتعرض فيه التراث في مناطق أخرى من الإقليم للتهديد. كما يتم تقديم المتحف كمصدر فخر لا يقتصر على مصر وحدها، بل يمتد ليشمل العالم العربي بأسره ("فخر لكل العرب"، حسب تصريح وزير الثقافة العماني) والقارة الإفريقية ("فخر إفريقيا الثقافي"، حسب وصف صحيفة الإندبندنت)، مما يعزز دور مصر التاريخي كقائدة ثقافية في دوائرها الإقليمية والعالمية.

سردية جديدة للتفاعل العالمي:

يمنح المتحف مصر القدرة على فرض سيادتها السردية، حيث يدعو العالم إلى أن يقرأ تاريخها "من خلال نافذتها الجديدة، وليس من خلال نافذة الآخرين". فبإنشاء هذا المركز الذي لا مثيل له لعلم المصريات، تستعيد مصر مكانتها كسلطة مرجعية أولى في تاريخها، وتعيد مركز الجاذبية للبحث والحوار إلى القاهرة. كما يقدم المتحف نموذجا للدول النامية الأخرى حول كيفية "تحويل تراثها إلى ميزة تنافسية ومكاسب اقتصادية".

ويمثل المتحف المصري الكبير تحولا استراتيجيا من الامتلاك السلبي للتراث إلى توظيفه الفعال كأداة من أدوات الحكم والدبلوماسية. لم تعد مصر مجرد موقع للآثار القديمة، بل أصبحت مهندسة المنصة العالمية الأولى للتفاعل مع هذه الآثار، وبالتالي فهي التي تضع شروط هذا التفاعل وتعظم قيمته الاستراتيجية. هذا الانتقال يحول التراث من "مورد" ثابت إلى "أداة" ديناميكية. يمكن تسمية هذا المفهوم بـ "قوة التراث" (Heritage Power)، وهو شكل محدد من القوة الناعمة، حيث تقوم دولة ما بتوظيف إرثها التاريخي الفريد عبر مبادرات حديثة تقودها الدولة لتحقيق أهداف جيوسياسية معاصرة.

فمن خلال المتحف المصري الكبير، تقوم مصر بـ "إعادة تقديم نفسها للعالم" ليس فقط كمهد للحضارة، بل كـ "دولة حديثة قادرة على توظيف تاريخها لبناء مستقبلها". يُقدم المشروع على أنه "هدية مصر للعالم" ورسالة سلام وتنوير. هذه السردية تهدف إلى مواجهة الصور النمطية عن عدم الاستقرار الإقليمي والتحديات الاقتصادية، وتقديم صورة من الطموح والاستقرار.  

وتُعد التغطية الإعلامية الدولية الواسعة في منافذ مثل "فوربس" و"تايم" و"نيويورك تايمز" جزءًا أساسيًا من استراتيجية الترويج العالمية هذه، حيث تضع المتحف كأحد أكثر الأحداث الثقافية ترقبًا على مستوى العالم، مما يعزز صورة مصر ونفوذها على المسرح العالمي.  

إن استراتيجية القوة الناعمة للمتحف المصري الكبير هي في جوهرها "منافسة على السرديات". إنها محاولة متعمدة تقودها الدولة لنشر أصل حضاري فريد وغير قابل للتكرار (التراث الفرعوني) لاستعادة دور مركزي في الخطاب الثقافي العالمي وتأكيد هوية مميزة في منطقة غالبًا ما تُعرَّف بالصراعات السياسية والسرديات الدينية. الأصل الأساسي الذي تمتلكه مصر ومعترف به عالميًا هو حضارتها القديمة، فلا يمكن لأي دولة أخرى المطالبة بهذا الإرث المحدد. في المقابل، غالبًا ما يتم تصوير الشرق الأوسط في الإعلام الدولي من خلال عدسة الصراع أو الإسلام السياسي أو الثروة النفطية.

إن سردية المتحف، على النقيض من ذلك، فهي تدور حول التراث الإنساني العالمي، والإبداع، والجمال، وتاريخ يمتد لسبعة آلاف عام من فن الحكم، والعلوم، والحضارة الإنسانية. إنها سردية علمانية وحضارية. ومن خلال استثمار أكثر من مليار دولار لإنشاء أكبر متحف في العالم مخصص لحضارة واحدة، تقدم مصر بيانًا استراتيجيًا. إنها تنافس بنشاط السرديات الإقليمية الأخرى من خلال نشر أقوى أسلحتها الثقافية وأكثرها تميزًا. وكأنها تقول: "بينما يُعرَّف الآخرون بالصراعات الحديثة أو الأيديولوجيات، نحن نُعرَّف بآلاف السنين من الحضارة". هذا ليس مجرد جذب للسياح، إنه فعل جيوسياسي. فالمتحف هو أداة استراتيجية لتحويل الحوار العالمي حول مصر، وبالتالي الشرق الأوسط. إنه يهدف إلى ترسيخ مكانة القاهرة كعاصمة ثقافية عالمية تضاهي باريس أو لندن، مما يزيد من ثقلها الدبلوماسي ونفوذها من خلال استغلال أصل لا يمكن لمنافسيها الإقليميين مجاراته.

خامسا- العائد الاقتصادي.. من رأس المال الثقافي إلى النمو المُستدام:

قاطرة للسياحة ورؤية 2030:

يشكل المتحف حجر الزاوية في استراتيجية وطنية تهدف إلى إحداث طفرة في قطاع السياحة. وتشير التقديرات إلى أن المتحف سيجذب أكثر من خمسة ملايين زائر سنويا، ليعمل بمثابة "قاطرة للاقتصاد". وهذا الهدف يصب مباشرة في صلب رؤية مصر 2030 التي تستهدف الوصول إلى 30 مليون سائح سنويا.

ويُوصف المتحف المصري الكبير صراحةً بأنه مشروع سيعمل على "إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني" و"تعزيز القطاعين الصناعي والسياحي". ويُنظر إليه على أنه "محرك اقتصادي جديد" و"ركيزة جديدة للاقتصاد المصري". إن تكلفة المشروع التي تجاوزت المليار دولار، على الرغم من الانتقادات التي واجهتها في ظل التحديات الاقتصادية، فهي تعد استثمارا طويل الأجل في مستقبل مصر الاقتصادي. فالمتحف ليس مجرد إنفاق على الثقافة، بل هو بناء لأصل اقتصادي قادر على توليد عوائد مستدامة.

كما يمثل المتحف المصري الكبير تحولًا استراتيجيًا في نموذج السياحة المصري، من تجربة متفرقة ومتعددة المواقع إلى نموذج "المركز الوجهة" (Destination Hub) عالي التركيز والقيمة. إن هذا التجميع للأصول الثقافية ليس مجرد تطوير، بل هو استراتيجية جيواقتصادية مدروسة تهدف إلى تعظيم الإيرادات لكل سائح والاستحواذ على حصة أكبر من سوق السياحة الثقافية العالمية. تاريخيًا، كانت زيارة القاهرة تتضمن جولة في المتحف المصري بالتحرير، ثم رحلة منفصلة إلى أهرامات الجيزة، وأخرى إلى سقارة، مما يجعل التجربة مجزأة. أما النموذج الجديد، فيقوم على تجميع أثمن القطع الأثرية (مثل مجموعة توت عنخ آمون الكاملة لأول مرة) في موقع واحد فائق الحداثة. ويرتبط هذا الموقع ماديًا بالأهرامات عبر ممشى سياحي ويقع بالقرب من مطار مخصص (مطار سفنكس الدولي)، مع إعادة تطوير المنطقة المحيطة بالكامل.

منظومة اقتصادية متكاملة:

لا يعمل المتحف ككيان منعزل، بل هو محور "منظومة اقتصادية متكاملة" تحفز الاستثمار في الفنادق ووسائل النقل والمشروعات الصغيرة والمتوسطة في المنطقة المحيطة به. ومن المتوقع أن يؤدي إلى زيادة مدة إقامة السائحين ومتوسط إنفاقهم اليومي في القاهرة. وقد ظهرت الآثار الأولية لذلك بالفعل مع ارتفاع نسب الإشغال وأسعار الفنادق بالتزامن مع الافتتاح.

الهدف الاقتصادي الأساسي للمتحف هو "إعادة رسم خريطة السياحة الثقافية" وإعادة تموضع مصر كوجهة ثقافية رائدة على الساحة العالمية. وتستهدف استراتيجية السياحة المصرية جذب 30 مليون سائح بحلول عام 2030، ومن المتوقع أن يجذب المتحف وحده ما بين 5 إلى 7 ملايين زائر سنويًا.  

صُمم المتحف لزيادة مدة إقامة السياح في القاهرة ورفع معدلات إنفاقهم، وهي معادلة اقتصادية حيوية لتعظيم العائد من كل سائح. وتشير التوقعات إلى أن افتتاحه سيؤدي إلى طفرة في معدلات إشغال الفنادق لتصل إلى ما بين 85% و90%، مما ينعش قطاع الضيافة بشكل كبير. علاوة على ذلك يخلق المشروع منطقة سياحية جديدة ومتكاملة من خلال ربط المتحف ماديًا وتجريبيًا بهضبة الجيزة ومطار "سفنكس" الدولي، مما يحول المنطقة إلى وجهة سياحية عالمية متكاملة.

هذا التصميم يخلق وجهة ثقافية عملاقة متكاملة، حيث يمكن للسائح قضاء يوم كامل أو أكثر داخل منطقة واحدة محكومة وعالية الخدمات. هذا النموذج يزيد من فرص الإنفاق في الموقع (مطاعم، ومتاجر، وفعاليات) ويبرر الأسعار المرتفعة، مما يرفع متوسط الإيرادات لكل زائر. إن استراتيجية "المركز الوجهة" لا تتعلق بالسياحة فقط، بل بالتحكم واستقطاب القيمة. فمن خلال تركيز التجربة الثقافية الأهم، يمكن للدولة إدارة السردية والأمن، والأهم من ذلك، التدفقات الاقتصادية بشكل أفضل. وبهذا تتحول المواقع التاريخية المتفرقة إلى أصل اقتصادي موحد، حديث، ومربح للغاية، مما يعكس نهجًا أكثر تطورًا في توظيف التراث لتحقيق مكاسب اقتصادية.

خلق فرص العمل ورأس المال البشري:

يمتد التأثير الاقتصادي للمتحف إلى ما هو أبعد من السياحة المباشرة، حيث يهدف إلى خلق آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة. ومن المتوقع أن ينشط الاقتصاد غير الرسمي في المناطق المحيطة ويعيد إحياء الحرف التقليدية من خلال إنتاج وبيع المستنسخات الأثرية عالية الجودة.  

ويعمل المشروع أيضًا كـ "بوابة ذهبية لجذب الاستثمار الأجنبي"، حيث بدأت سلاسل الفنادق العالمية والمطورون التجاريون بالفعل في التفاوض على مشاريع في محيطه. ومن المتوقع أن يمتد تأثيره إلى المحافظات الصناعية المجاورة من خلال تحفيز قطاعات الخدمات اللوجستية والصناعات الداعمة.

ويُعد المشروع مصدرا رئيسيا لتوفير فرص العمل، حيث يخلق آلاف الوظائف المباشرة وغير المباشرة. علاوة على ذلك فهو مركز لتنمية الكوادر البشرية في مجالات متخصصة، مثل الترميم، والإدارة المتحفية، والسياحة الثقافية، مما يرفع من كفاءة رأس المال البشري المصري في هذا القطاع الحيوي. وهو ما يتضح في الجدول التالي.

مستهدف 2029/2030

تقديرات 2026

تقديرات 2025

المقياس

-

-

5  ملايين زائر

زوار المتحف سنويا

28 - 30  مليون سائح

18.56  مليون سائح

17.76  مليون سائح

إجمالي السياح الوافدين لمصر

19  مليار دولار (تقديرات متحفظة)

20  مليار دولار (متوقع)

17.1  مليار دولار

عائدات السياحة السنوية

استمرار النمو

استمرار النمو

آلاف الفرص

الوظائف المباشرة وغير المباشرة

رافعة أساسية للنمو المستدام

نمو متزايد

زيادة ملحوظة

المساهمة في الناتج المحلي

 

جدول 1 (تقديرات المتحف المصري الكبير حتى 2030)

حلم يتحقق.. إرادة البناء والتغلب على الصعاب:

يمثل المتحف تتويجا لرحلة طويلة وشاقة. فالفكرة تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، لكن المشروع واجه تحديات هائلة أدت إلى توقفه بالكامل تقريبا بعد أحداث عام 2011.

ويعود الفضل في إحياء المشروع وإنجازه إلى "الإرادة السياسية الواضحة والحاسمة" للقيادة الحالية ممثلة في فخامة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية. وبهذا لا يُنظر إلى إنجاز المتحف كحدث معماري فحسب، بل كنتيجة مباشرة للاستقرار والعزيمة التي تميز الجمهورية الجديدة، وكدليل على قدرتها على تنفيذ المشروعات القومية المعقدة وطويلة الأمد.

إن إنجاز المشروع رغم العقبات البيروقراطية، وتحديات التمويل، والاضطرابات الإقليمية، يُقدم "كدرس في الإرادة والإدارة والإيمان بالمستقبل". إنه رمز للصمود المصري ولقدرة الدولة المصرية الحديثة على تحويل التحديات إلى إنجازات، وهو ما يتضح في الجدول التالي:

 

المساهمة الدولية الكبرى

التحديات الرئيسية

الحدث الرئيسي

المرحلة/السنة

-

-

طرح الفكرة ومسابقة التصميم

1992-2002

-

بيروقراطية، تمويل أولي

بدء أعمال الإنشاء الأولية

2005-2010

-

اضطراب سياسي، انعدام الاستقرار

توقف المشروع وتجميده

2011-2013

قروض ميسرة ودعم فني مكثف من اليابان (جايكا)

تحديات تمويلية ولوجستية ضخمة

تم التغلب عليها

استئناف المشروع وتسريع وتيرة العمل به

2014-2024

حضور دولي رفيع المستوى

-

الافتتاح الرسمي

2025

 

جدول 2 (مراحل إنشاء المتحف المصري الكبير التحديات والمساهمات الدولية)

 

مصدر الفخر الوطني ونموذج للشراكة العالمية:

أصبح المتحف مشروعا "يوحد وجدان المصريين" ومصدرا هائلا للفخر الوطني. إنه أداة لـ "ترسيخ الهوية الوطنية"، وتعزيز الشعور بالانتماء والإنجاز الجماعي.

ورغم كونه انتصارا وطنيا، إلا أن المشروع هو أيضا نموذج للشراكة الدولية الناجحة. فالدعم المالي والتقني الحاسم الذي قدمته اليابان عبر وكالة "جايكا" هو خير مثال على ذلك. وهذا يبرهن على قدرة الجمهورية الجديدة على الانخراط بشكل بناء مع الشركاء الدوليين لتحقيق أهدافها الوطنية.

الخاتمة- المتحف سفير مصر الدائم لدي الإنسانية:

وفي الختام، فإن المتحف المصري الكبير ليس مجرد نافذة نُطِلُّ منها على الماضي، بل هو بوابة نعبر منها إلى المستقبل. إنه عمل وطني استثنائي يستدعي كل مظاهر الاحتفاء والفخر لمصر والمصريين، إذ يربط بين عظمة مصر القديمة وطموحات وقدرات الجمهورية الجديدة، ويؤكد استمرار انتقال العبقرية والعظمة في مصر من الأجداد إلى الأحفاد.

ويُعَدُّ المتحف المصري الكبير كيانًا متعدد الأوجه والأبعاد: فهو هدية للعالم، وتحفة معمارية، وحاضنة لملحمة توت عنخ آمون الكاملة، ومحرك جبار للقوة الناعمة، وقاطرة للتنمية الاقتصادية، والرمز الأسمى لرؤية وعزيمة الجمهورية الجديدة. فهو ليس نصبا تذكاريا جامدا، بل هو مؤسسة حية ونابضة، ومركز ديناميكي للبحث والتعليم والتواصل الحضاري. إنه بحق "سفير مصر الدائم لدى الإنسانية".

إن افتتاح المتحف المصري الكبير ليس نقطة نهاية، بل هو نقطة انطلاق. إنه تدشين لعهد جديد من الدبلوماسية الثقافية، وحجر زاوية ستواصل مصر البناء عليه لرسم ملامح مستقبلها، وهي واثقة من هويتها ومن مكانتها التي تستحقها في العالم. إنه إعلان بأن "مصر العظيمة قادرة على أن تبهر العالم دائما".

إنه رسالة مصر الخالدة إلى العالم، تقول فيها بثقة: "أنا مصر، مهد الحضارة والرقم الصحيح، لم أغب يومًا عن مسرح الحضارة والتاريخ. واليوم أكتب فصلا جديدًا في أمجادي، أهديه بفخر وعظمة للإنسانية جمعاء".

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. محمد منير غازى

    د. محمد منير غازى

    باحث فى الدراسات السياسية والاتصال السياسى