رحلة بين مدينتين.. وروحين:
لم أكن أظن أن للمدن أصواتًا تشبه البشر.. إلى أن مشيت في شوارع براغ.
مدينة لا تتكلم.. بل تهمس وتفتح لك قلبها في صمت وتريك جمالها كمن يبوح بسرٍّ لا يُقال إلا همسًا.
من قلبها القديم، بين الكنائس ذات الأبراج الحادة والبيوت التي تعانق الغيوم شعرت أنني أمشي داخل لوحة رسمها التاريخ بيده ثم تركها لنا لنتأملها.
عبرت جسر تشارلز مع آلاف الغرباء.. لكن كلٌّ منهم بدا كأنه يعرف هذا المكان منذ قرون.
العازفون في الشوارع يسكبون الموسيقى في الهواء كأنها بخور.. والأنهار تلمع تحت الشمس كأنها مرايا سماوية.
في مقاهي البلدة القديمة يجلس الناس في سكونٍ مهيب لا أحد يرفع صوته، كأن الصمت هنا لغة ثانية.
براغ تُدرّسك الجمال لا بالكلام بل بالتفاصيل، في حجرٍ قديمٍ لم يُنتزع.. في نافذةٍ حافظت على نقوشها.. في احترام التاريخ لا محوه.
القاهرة.. مدينة لا تهمس بل تتكلم:
لكن كل هذا السحر لم يمنعني من الحنين إلى مدينتي. كنت أعلم أنني حين أعود إلى القاهرة سأدخل إلى عالمٍ آخر تمامًا: مدينة لا تعرف الصمت، لا تهمس، بل تصرخ بالحياة. مدينة لا تخفي فوضاها، ولا تتجمّل، لكنها حقيقية، مثل القلب.
عدت إلى النيل، إلى ضفته التي لا تشبه شيئًا في العالم. جلست أُطلّ على الجسر المزدحم، على أصوات المراكب وضحكات الناس ونداءات الباعة. هناك، في تلك الفوضى الجميلة، شعرت أنني في براغ أخرى لو عرفنا فقط كيف نرى.
من كورنيش النيل بدأت رحلتي المصرية من جديد.
سرت نحو وسط البلد، تلك المدينة داخل المدينة، التي تختزن في مبانيها ما يفيض عن الزمن من حكايات.
من مقهى "ريش" إلى "زهرة البستان" ومن شارع طلعت حرب إلى ميدان الأوبرا، تشعر أن كل خطوة تمرّ فوق ذاكرة وطن. في تلك الأزقة مشى الأدباء، وكتب الشعراء، وحلمت أجيال بأوطانٍ أجمل.
من قصر عابدين إلى خان الخليلي.. ومن القلعة إلى مجمع الأديان.. واصلت السير إلى قصر عابدين، فتذكّرت أن القصور ليست فقط للحكام، بل للوطن كله. هنا احتفظت الجدران بصدى أزمنة متناقضة من عصور الملك إلى بدايات الجمهورية، وكأن كل حجر فيه يقول: (أنا شاهد لا أنتمي إلا للتاريخ).
ومن هناك اتجهت نحو القاهرة الفاطمية، حيث الأزهر الشريف، ومسجد الحسين، وجامع السلطان حسن، وأصوات المآذن التي تتقاطع مع رائحة البخور في الأزقة القديمة.
تتسلل أنوار الذهب من المشغولات النحاسية وتلمع التحف في خان الخليلي كما تلمع الأرواح القديمة في وجوه الناس.
ثم صعدت إلى القلعة.. ذلك الحصن العتيق الذي يُشرف على المدينة كلها، وكأن القاهرة تمتد تحت قدميك كبحرٍ من البيوت والمساجد والذكريات.
ومن الأعلى ترى المدينة كلها تتنفس.. ترى القديم والجديد.. الفقير والغني.. الصامت والضاجّ.. في لوحة لا يرسمها إلا الخالق.
ونزلت بعدها إلى مصر القديمة.. إلى مجمع الأديان:
حيث تتجاور الكنيسة المعلقة، ومسجد عمرو بن العاص، والمعبد اليهودي في أمتارٍ قليلة. هناك فقط تدرك أن القاهرة لا تشبه أي مدينة في العالم، وأنها ليست مجرد جغرافيا، بل معنى للوجود المشترك، مدينة تتسع للجميع كما يتسع النيل لكل روافده.
من الحلم إلى الفكرة.. ومن الفكرة إلى المشروع:
وأنا أعود أدراجي نحو النهر، خطرت لي فكرة بسيطة:
لماذا لا نحول وسط البلد إلى وسط براغ؟ ليس تقليدًا.. بل استعادة لروح تشبهنا نحن.
لدينا كل شيء: النيل - العمارة التاريخية – القصور – الجوامع – الكنائس – الأسواق – المقاهي – والأهم.. الإنسان المصري الذي يعرف كيف يصنع الحياة من لا شيء.
يمكن أن يبدأ الخط السياحي من هنا.. من النيل، إلى وسط البلد وعماراتها التراثية، فـقصر عابدين، مرورًا بالقاهرة الفاطمية، وشارع المعز، وخان الخليلي، ثم القلعة وختامًا بمجمع الأديان.
خطّ واحد يربط ما بين الحضارة، والتاريخ، والروح، يرويه مرشدون شباب وتضيئه أضواء تُحسن الحديث مع الحجر، لا تصرخ عليه.
دعوة إلى مشروع ( القاهرة المفتوحة ).
ربما آن الأوان أن نحلم.. لكن هذه المرة لا نحلم فقط، بل نُنفّذ.
أن نحول "وسط البلد" إلى مساحة حرة للفن والضوء، إلى قلبٍ نابض كما كانت القاهرة دومًا.. إلى "مدينة مفتوحة" يتنقّل فيها الزائر بين النيل والتاريخ دون أن يفقد الإحساس بالحياة.
ليس الحلم بعيدًا، فلدينا كل المفاتيح:
المباني التراثية التي يمكن ترميمها لتصبح فنادق ثقافية.. الشوارع التي يمكن أن تتحول إلى مسارات للمشاة كما في براغ وباريس.. المقاهي التي يمكن أن تعود منصات للحوار والإبداع.. والأسواق القديمة التي يمكن أن تُعرض فيها الحرف المصرية أمام السائحين لا خلف الجدران.
"مشروع القاهرة المفتوحة" ليس مجرد تطوير عمراني - بل استعادة لروح العاصمة التي أنجبت الحضارة والفن والوعي. أن نربط النيل بوسط البلد، ووسط البلد بالقاهرة الفاطمية، ثم بالقلعة، فخان الخليلي، فمجمع الأديان، في خطٍّ سياحي واحد يروي للعالم قصة مدينةٍ مر عليها وعاش فيها الأنبياء، والملوك، والشعراء، والفقراء وتجاورت فيها المآذن مع الأجراس، والذهب مع التراب، والضجيج مع الدعاء.
حين يحدث ذلك؟
فلن يسافر الناس إلى براغ بحثًا عن الجمال بل سيأتون إلى القاهرة ليكتشفوا كيف يعيش الجمال حين يكون حيًّا.. مشاغبًا.. صادقًا… ومصريًّا.