أدخلت الطائرات المسيّرة تحوّلًا جذريًا في طبيعة الحروب، متجاوزة كونها مجرد أداة تقنية إلى كونها عنصرًا بنيويًا يعيد تشكيل موازين القوى. لم يعد امتلاك سلاح الجو مرادفًا لطائرات مقاتلة باهظة التكاليف ومطارات عسكرية ضخمة، بل أصبح مشهد السماء مرهونًا بأسراب من الطائرات الصغيرة، والرشيقة، والمبرمجة بدقة، والتي قد تُصنع أحيانًا في ورش صغيرة أو على يد جماعات غير حكومية. هذا التحول المفاهيمي يضعف احتكار الدولة للعنف المنظم، ويمنح الفواعل من غير الدول قدرة استراتيجية على التأثير، والردع، وحتى المبادرة الهجومية.
تكمن قوة هذا التحول في مزيج من الكفاءة والتكلفة المنخفضة. فالمسيّرات توفر قدرات استطلاعية وهجومية دقيقة، دون الحاجة لبنية تحتية مكلفة أو طيارين معرضين للخطر. ومع تزايد قدراتها في التحليق المنخفض وتجنّب الرصد، بات من الصعب مواجهتها بأنظمة الدفاع التقليدية. هذا التفاوت في الكلفة بين الطائرة المسيّرة ورصدها أو إسقاطها غيّر المعادلات الحسابية للردع العسكري، وأجبر الجيوش الكبرى على إعادة النظر في منظوماتها الدفاعية. فحين يُطلق خصمك طائرةً بكلفة 300 دولار، وتردّ أنت بصاروخ بمليون دولار، فأنت تخسر المعركة قبل أن تبدأ.
لقد تجلى هذا التحول على نحو غير مسبوق في النزاعات الحديثة، خاصة في مشاهد الحرب الممتدة من غزة إلى أوكرانيا. ففي غزة لم تعد المعركة برية فقط، بل سمائية حيث تدير إسرائيل عملياتها الدقيقة بمسيّرات هجومية واستطلاعية، بينما تنفذ حركات المقاومة عمليات هجومية واستطلاعية عبر مسيّرات انتحارية، تستهدف العمق الإسرائيلي وتربك استخباراته. وفي لبنان، والعراق، واليمن، باتت المسيّرات جزءًا من معادلات الاشتباك الإقليمي، تُستخدم في توجيه رسائل عسكرية مركبة دون الحاجة إلى خوض حرب تقليدية. أما في أوكرانيا فقد تحولت السماء إلى حقل تجارب مفتوح، تُختبر فيه المسيّرات بآلاف الطلعات يوميًا، وتُدمج في شبكة قتال تجمع بين الذكاء الاصطناعي والحرب السيبرانية.
الحرب في غزة خلال 2024 و2025، كشفت عن مستوى غير مسبوق من استخدام المسيّرات من الطرفين. فقد اعتمدت إسرائيل عليها بشكل مكثف في توجيه ضربات واغتيالات، ومراقبة التحركات، وجمع المعلومات الاستخباراتية في بيئة معقدة. في المقابل وظّفت حركات المقاومة المسيّرات بمرونة وابتكار، كأدوات انتحارية، أو للمراقبة اللحظية، أو حتى في تشويش الاتصالات، مما منحها ميزة نسبية رغم الفارق الهائل في الإمكانيات. لقد تحولت غزة إلى مختبر قتال عصري، حيث يُختبر مفهوم الردع غير المتكافئ عبر الأجواء، لا عبر الجبهات البرية فقط.
ومع تسارع تطور تقنيات المسيّرات، لم تعد المسألة تقتصر على الأداء الفردي لطائرة واحدة، بل على قدرة جماعية مركّبة، تعرف باسم “أسراب المسيّرات”، وهي أنظمة هجومية معقدة تقودها خوارزميات ذكاء اصطناعي تتيح تنسيق الهجمات دون إشراف بشري مباشر. هذه التقنية تعني أن الطائرات يمكن أن تتواصل فيما بينها، وتقرر الأهداف، وتعيد الانتشار بشكل لحظي. هذا التصور يفتح الباب أمام نوع جديد من الحروب –حروب بلا جنود، تُخاض فيها المعركة بين برمجيات ذكية ونظم دفاعية عاجزة عن المواكبة.
تأسيسًا على ما سبق، وفي ظل تصاعد هذا السباق التكنولوجي، تشهد ميزانيات البحث والتطوير قفزات هائلة، حيث تجاوز الإنفاق العالمي على تقنيات الطائرات المسيّرة 100 مليار دولار عام 2024. وتبرز دول، مثل تركيا، وإيران، وإسرائيل كمراكز إقليمية متقدمة في هذا المضمار، مستفيدة من تبني استراتيجية تصنيع محلي وتصميم أنظمة هجومية متعددة الاستخدام. في المقابل لا تزال معظم الدول العربية في موقع المستهلك أو المتأخر، وهو ما يطرح تحديات كبرى على صعيد السيادة التكنولوجية والجاهزية الدفاعية.
مما لا شك فيه أن التحولات الجارية في مجال الطائرات المسيّرة تفرض اليوم ضغطًا متزايدًا على الجامعات ومراكز البحوث العربية لإعادة هندسة برامجها الأكاديمية والبحثية، فهذا المجال لم يعد حكرًا على التطبيقات العسكرية فحسب، بل تحول إلى قطاع متعدد التخصصات يندمج فيه الهندسة، والذكاء الاصطناعي، وأمن الشبكات، والميكانيكا الدقيقة. ومن هذا المنطلق يتحول تأسيس برامج أكاديمية متخصصة من كونه ترفًا معرفيًا إلى استثمار استراتيجي يمس صميم الأمن القومي والتنمية المستدامة. كما أن دمج هذه التخصصات مع تطبيقات مدنية حيوية -كالزراعة الدقيقة، وإدارة الكوارث، ومراقبة الحدود، والتنقيب الجوي- لا يضفي عليها بعدًا تنمويًا فحسب، بل يحولها إلى ركيزة أساسية لبناء اقتصاد المعرفة، مما يعزز القدرة التنافسية العربية في سباق التكنولوجيا العالمي ويحقق السيادة التقنية المنشودة.
إنّ الطائرات المسيّرة هي تجسيد حيّ للتحول من الحروب الميكانيكية إلى الحروب الرقمية. ففي المعارك المقبلة التي تُخاض من فوق، لن يكون النصر حكرًا على من يملك أكبر عدد من الدبابات أو المقاتلات، بل على من يملك الأكواد الأكثر ذكاءً والخوارزميات الأكثر فعالية. لقد أصبحت السماء مجالًا معلوماتيًا بامتياز، ومن يسيطر على هذا المجال سيمتلك اليد العليا في معارك الأرض.