أثبتت الدبلوماسية المصرية العريقة، كلاعب شطرنج قديم ومحترف، قدرتها البارعة في قمة شرم الشيخ على السير في خطوط متوازية واللعب فوق المربعات السياسية الممكنة لمواجهة الخبث الإسرائيلي علي قاعدة أن السياسة هي فن الممكن.
كانت لمصر رؤية واضحة في الحفاظ على الأمن القومي المصري الصرف، مع التمسك بالثوابت والحقوق الفلسطينية، وجاء تدويل قضية غزة كأحد أهم مظاهر نجاح الدبلوماسية المصرية في قمة شرم الشيخ للسلام منذ بداية حرب غزة، كان مؤشر بوصلة السياسة المصرية في حل القضية واضحًا: إقامة دولة فلسطينية غير مسلحة على حدود 1967.
وقد لخّص الرئيس المصري هذا التوجه منذ البداية، في خارطة طريق عادلة وواضحة، تعكس وعي مصر بأن التفريق هو سلاح الخصوم. ولذلك سعت المخابرات العامة المصرية عبر مفاوضات ماراثونية في القاهرة إلى توحيد الفصائل الفلسطينية، مؤكدة أن مصر ليست ضد المقاومة الفلسطينية، وأن نزع سلاح حماس هو قضية فلسطينية يحلها الفلسطينيون ولذا كانت الخطة المصرية واقعية وواضحة وهي وقف الحرب، ورفض التهجير، وإنهاء الاحتلال.
وجاءت قمة شرم الشيخ لتكون رسالة سياسية حاسمة تؤكد سيادة مصر الكاملة على سيناء، وتعلن انتصارها على مخطط التهجير نحو أراضيها، وتبخّر حلم حكومة اليمين الصهيوني المتطرف في ذلك. كما كانت القمة تأكيدًا على نجاح الخطة المصرية في تثبيت وقف إطلاق النار، والانطلاق نحو إعادة الإعمار، ودمج الضفة الغربية وقطاع غزة، وإعلان الدولة الفلسطينية على حدود 1967 لتكون الدولة هي الحاضنة لملف تجميد سلاح المقاومة.
فقد أدركت القاهرة أن الاعتراف الأمريكي بالدولة الفلسطينية هو الطريق الواقعي نحو تجميد سلاح حماس، التي قبلت بالخطة المصرية في مقابل الخطة الإسرائيلية التي أرادت دفع المال العربي ثمنًا للإعمار والصمت علي كل ما تفعله إسرائيل، ولعل اقتراح الرئيس المصري لمشاركة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في قمة شرم الشيخ كان ذروة الذكاء الدبلوماسي، لما يحمله من رمزية تعزز اتفاق وقف إطلاق النار، وتؤكد إجهاض خطة التهجير إلى سيناء.
مصر اليوم تفكر بنضج وواقعية سياسية بعيدًا عن الشعارات والعنتريات، فلم تسعَ للانفراد بموقع الصدارة في حل هذا الملف شديد التعقيد، بل حرصت في القمة على الإجماع الدولي والإقليمي حول المبادئ العامة التي أقرتها.
فكما كانت المخابرات المصرية تسعى لتوحيد فصائل المقاومة، كانت أيضًا تجري مباحثات موازية مع أجهزة المخابرات الإقليمية المؤثرة في ملف غزة، خاصة المخابرات التركية التي تمتلك قنوات اتصال مباشرة مع كتائب القسام المحتجزة لعدد من الأسرى الإسرائيليين.
حرصت مصر على أن تكون قمة شرم الشيخ برعاية إقليمية موسعة شملت تركيا وقطر وحتى إيران، التي دعمت المفاوضات للوصول بحماس إلى قناعة أنها تشارك ولا تنفرد بالقرار.
وهكذا نجحت السياسة المصرية في تشكيل جبهة دولية وإقليمية داعمة لخطة القاهرة في وقف الحرب، وإنهاء الاحتلال، وإعادة الإعمار، ورفع الحصار، وتقرير مصير الشعب الفلسطيني، وصولًا إلى سلطة فلسطينية إصلاحية تدمج كل الفصائل وتربط بين غزة والضفة، وترفض المقترح الإسرائيلي بإدارة مصر لقطاع غزة — كما صرّح وزير الخارجية المصري لصحيفة الشرق الأوسط.
لقد خالفت هذه الجبهة الإقليمية التي حرصت مصر علي دعم موقفها الفقه الإبراهيمي للتطبيع، وأكدت أن مصر -كما كانت دائمًا- هي من أدارت الحرب والسلام من قبل، وتدير السلام الآن.
فـ"فقه مصر في السلام" هو الذي يحدد النص الذي يتفق عليه الجميع، لأن رفض الاحتلال والتهجير، وإقامة دولة فلسطينية على أرض 67 وفق مبدأ الأرض مقابل السلام، هو الفقه المصري للتعايش مع إسرائيل.
وبذلك تكون قد سقطت ورقة اليمين المتطرف التي كانت تروج لمبدأ "السلام مقابل السلام" أو "السلام بالمجان". اليوم يقف اليمين الصهيوني المتطرف صامتًا بلا أوراق حقيقية للعب، سوى محاولاته لاختراق اتفاق شرم الشيخ، كما صرّح الوزير سموتريتش بنيته الاستيطان في المنطقة العازلة ورفض انتشار القوات الدولية، ومحاولات نتنياهو تأخير الإعمار وتقليل دخول المساعدات (من 600 شاحنة إلى 300 فقط يوميًا)، أو استفزازات بن غفير المتكررة بدخول المسجد الأقصى.
وحسب مصادر من الإعلام العبري سيسعى اليمين المتطرف لاحقًا لمحاولة إقصاء مصر من المشهد في غزة عبر إغراء أنقرة بصفقة سوداء "غزة مقابل سوريا" -أي نزع سلاح حماس مقابل نزع سلاح الأكراد فقد تم توقيع اتفاقية مع أحمد الشرع لعمل تركي داخل سوريا لمسافة ٣٠ كم، اليمين المتطرف سيحاول اللعب بورقة الاختراق الاستراتيجي لاتفاق وقف إطلاق النار لكن الدهاء المصري التاريخي سيبقى أقدر على إحباط تلك المناورات.
فـخبث التكتيكات الصهيونية لن ينتصر أبدًا على استراتيجية مصر المنقوشة على ورق البردي التي تفوح منها رائحة التاريخ، وترسمها عبقرية الزمان والمكان.