تحليلات

استراتيجية الوساطة المركبة.. كيف أعادت قمة شرم الشيخ تشكيل معادلة الردع والتسوية في الشرق الأوسط

طباعة

شهدت منطقة الشرق الأوسط بين عامي 2023 و2025، واحدة من أكثر مراحلها اضطرابًا منذ عقود، حين اندلعت جولة العنف الكبرى في غزة في أكتوبر 2023، لتعيد إلى الواجهة أسئلة الأمن، والردع، وشرعية القوة، وحدود التسوية السياسية. ومع اتساع رقعة الدمار الإنساني والسياسي، برزت الحاجة إلى وساطة إقليمية ودولية مركّبة قادرة على تجاوز منطق الهدنة المؤقتة نحو صياغة معادلة جديدة للأمن والسلام في المنطقة.
في هذا السياق جاءت قمة شرم الشيخ للسلام (13 أكتوبر 2025) لتشكّل لحظة فاصلة بين زمن الحرب وزمن التسوية، بعدما نجحت جهود الوساطة الثلاثية بين مصر، وقطر، والولايات المتحدة في التوصل إلى اتفاق "شرم الشيخ لإنهاء الحرب في غزة"، معلنة بداية مرحلة جديدة من الترتيبات الأمنية والسياسية لما بعد الحرب.

تُعد مصر الفاعل المركزي في هذه المعادلة الجديدة؛ فهي الدولة التي تمتلك مزيجًا فريدًا من الشرعية التاريخية والدبلوماسية الجغرافية، مكّنتها من قيادة مسار الوساطة المعقّد بين الأطراف المتنازعة. فموقعها الجغرافي بين فلسطين وإسرائيل، وشبكة علاقاتها المتوازنة مع القوى الإقليمية والدولية، جعلتها قادرة على الجمع بين أدوات القوة الصلبة  (Hard Power)عبر سياساتها الأمنية والحدودية، وأدوات القوة الناعمة  (Soft Power)من خلال دبلوماسيتها التقليدية ومكانتها الرمزية كعرّاب للسلام منذ مبادرة الرئيس أنور السادات عام 1977.
وبينما سعت قطر إلى تفعيل قنوات الاتصال مع فصائل المقاومة الفلسطينية، وركزت الولايات المتحدة على ضمان المصالح الأمنية الإسرائيلية وإدارة مخاطر التصعيد، تبنّت مصر ما يمكن وصفه بـ "استراتيجية الوساطة المركّبة"؛ أي الجمع بين الضمانات الأمنية، والحوافز الاقتصادية، والرموز الدبلوماسية لبناء أرضية مشتركة تُرضي الأطراف المتصارعة وتستعيد الشرعية الإقليمية للمفاوضات.

جاءت قمة شرم الشيخ كمنبر لتجسيد هذا التوازن؛ حيث امتزجت السياسة بالمراسم، والرمزية بالواقعية. فقد مثّل خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسي إعلانًا لإعادة مصر إلى موقع القيادة في معادلة السلام، مؤكدًا أن “القيادة الحقيقية ليست في شنّ الحروب بل في القدرة على إنهائها". أما خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فشكّل محاولة لإعادة تقديم واشنطن كضامن للسلام لا كطرف في النزاع، مستندًا إلى خطته لإنهاء الحرب وإطلاق مسار "إعادة الإعمار والتنمية".

ومنح "قلادة النيل" للرئيس الأمريكي لم يكن تفصيلًا بروتوكوليًا فحسب، بل رسالة سياسية عميقة مفادها أن القاهرة لا تزال تمتلك أدوات التأثير الناعمة لتكريس "دبلوماسية الرموز" في مواجهة "سياسة القوة".

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل قمة شرم الشيخ باعتبارها نموذجًا تطبيقيًا لفكرة الوساطة المركّبة في العلاقات الدولية، من خلال تفكيك عناصرها الدبلوماسية، والعسكرية، والرمزية، وقياس أثرها على موازين الردع والتسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. كما تسعى إلى ربط الحدث بالإطارات النظرية الكبرى في علم السياسة الدولية — الواقعية، والليبرالية، والبنائية — لفهم كيف استطاعت مصر أن تمزج بين أبعاد القوة والأخلاق، وبين المراسم والبروتوكول كوسائل لتثبيت نفوذها كقوة إقليمية قائدة.

تطور الصراع في غزة (أكتوبر 2023 – أكتوبر 2025):

اندلعت جولة الحرب الكبرى في غزة في أكتوبر 2023 بعد سنوات من الانسداد السياسي وتراكم الاحتقان الإنساني، لتتحول سريعًا إلى واحدة من أكثر المواجهات دموية في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ومع السابع من أكتوبر، وجدت المنطقة نفسها أمام معادلة ردع مفتوحة بين إسرائيل التي لجأت إلى "استراتيجية الردع القصوى" القائمة على الاستخدام المفرط للقوة لتقويض قدرات المقاومة، وفصائل فلسطينية تبنّت "استراتيجية الاستنزاف المحدود" الهادفة إلى إطالة أمد المواجهة واستنزاف الخصم سياسيًا وإعلاميًا. في خضم ذلك الانفجار، بدأت مصر مبكرًا في تفعيل أدواتها الدبلوماسية والأمنية، ففتحت قنوات اتصال مع الولايات المتحدة، وقطر، والأمم المتحدة، مؤكدة منذ اللحظة الأولى أن احتواء الصراع ومنع تمدده إقليميًا أولوية وطنية وإقليمية، وأن الحل لن يأتي إلا عبر مسار سياسي يضمن الحقوق الفلسطينية ويعيد الاستقرار إلى المنطقة.

ومع تزايد حدة العمليات العسكرية، دخلت غزة مطلع عام 2024 مرحلة من الشلل الإنساني الشامل؛ بنية تحتية مدمرة، وآلاف القتلى والجرحى، وانهيار الخدمات الأساسية. هنا برز الدور المصري في صورته الأعمق، إذ تحولت القاهرة إلى الوسيط الإنساني-السياسي معًا، ففتحت معبر رفح لاستقبال الجرحى، ونظّمت مرور المساعدات بالتعاون مع الأمم المتحدة والهلال الأحمر، وحافظت على خطوط الاتصال مفتوحة مع جميع الأطراف رغم القصف. لقد أثبتت مصر في هذه المرحلة قدرتها على ممارسة وساطة دقيقة ومتعددة الأبعاد تجمع بين الميدان والإنسان، وبين الأمن والسياسة، وهو ما منحها ثقة المجتمع الدولي كوسيط متزن لا ينحاز سوى لمبدأ الاستقرار.

بحلول النصف الثاني من عام 2024، ومع فشل الأطراف في تحقيق حسم عسكري، بدأت الأصوات الدولية تتصاعد مطالبةً بإنهاء الحرب عبر تسوية سياسية شاملة. عند هذه النقطة، طُرحت "خطة ترامب لإنهاء الحرب في غزة"، التي قامت على ثلاث ركائز: وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، والشروع في مسار لإعادة الإعمار والتنمية. لكن تنفيذ الخطة تطلّب غطاءً عربيًا حقيقيًا وضمانات إقليمية متوازنة، وهو ما وفّرته القاهرة بامتياز. فقد عقدت اجتماعات تحضيرية في العريش، والقاهرة، والدوحة جمعت ممثلين عن الفصائل الفلسطينية والإسرائيليين تحت مظلة وساطة مصرية–قطرية مدعومة من واشنطن. واستطاعت مصر من خلال هذا الحراك أن تدفع الإدارة الأمريكية لتعديل بعض بنود الخطة، خاصة تلك المتعلقة بإعادة الإعمار ووقف التوسع الاستيطاني، بحيث تراعي المطالب الفلسطينية وتخلق بيئة تنفيذ واقعية.

وبحلول منتصف 2025، كانت ملامح الوساطة المركّبة قد تبلورت بوضوح في شكل تحالف وظيفي ثلاثي: مصر ممسكة بالمفاتيح الجغرافية والسياسية، وقطر بحبال التواصل مع الفصائل، والولايات المتحدة بأوراق الضغط على إسرائيل. هذا التحالف لم يكن مجرد تنسيق سياسي، بل نموذج لإدارة النزاع عبر الدمج بين الردع، والضمان، والحافز؛ أي الجمع بين التهديد الضمني بالعزلة الدبلوماسية لإسرائيل إن رفضت الاتفاق، وتقديم حوافز اقتصادية للفلسطينيين ضمن برنامج إعادة الإعمار، مع توفير ضمانات أمنية دولية للجانبين.
وعندما انعقدت قمة شرم الشيخ للسلام في 13 أكتوبر 2025، كانت القاهرة قد رسخت موقعها كـ عرّاب للوساطة المتوازنة، وأثبتت أن الدبلوماسية المصرية قادرة على إدارة الصراعات المركّبة بالقدر نفسه الذي أدارت به معاهدات السلام قبل نصف قرن. لقد مثّلت القمة تتويجًا لمسار مصري طويل، جمع بين الحنكة السياسية، والعمق الإنساني، والقدرة على تحويل المبادرة إلى اتفاق فعلي يعيد للأمن الإقليمي توازنه، وللقاهرة مكانتها كركيزة أساسية في هندسة السلام في الشرق الأوسط.

أدوار الوسطاء في معادلة إنهاء الحرب:

مثّلت حرب غزة الممتدة من عام 2023 إلى 2025 اختبارًا حاسمًا لقدرة القوى الإقليمية والدولية على ممارسة الوساطة في نزاع معقّد ومتشابك الأبعاد، إذ تجاوزت القضية مجرد وقفٍ لإطلاق النار إلى إعادة هندسة التوازنات الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط. وفي خضم هذا المشهد المضطرب، برزت مصر، وقطر، والولايات المتحدة كمحور ثلاثي شكّل جوهر ما يمكن تسميته بـ "الوساطة المركّبة"؛ وهي وساطة امتزجت فيها أدوات القوة بالشرعية، والمصالح بالاعتبارات الإنسانية، لتتحول من مجرد مسار تفاوضي إلى عملية لإعادة إنتاج النظام الإقليمي ذاته.

جاء الدور المصري في قلب هذه المعادلة، بصفته الأكثر عمقًا واتزانًا وقدرةً على الجمع بين المتناقضات. فمنذ الأيام الأولى للحرب، تبنّت القاهرة نهجًا استباقيًا يقوم على الاحتواء الأمني والتقدم السياسي المتوازي. فعلى المستوى الميداني حافظت على استقرار حدودها مع غزة ومنعت تمدد الصراع إلى سيناء، وعلى المستوى السياسي فعّلت شبكة اتصالات واسعة امتدت من واشنطن وتل أبيب إلى الدوحة ورام الله. وبفضل خبرتها التفاوضية المتراكمة منذ كامب ديفيد وأوسلو، استطاعت مصر أن تخاطب كل طرف بلغته؛ فتحدّثت مع إسرائيل بلغة الأمن، ومع الفلسطينيين بلغة الحقوق، ومع واشنطن بلغة الواقعية والمصالح المشتركة. وهكذا، لم تكن القاهرة وسيطًا محايدًا فحسب، بل صانع توازن استراتيجي استطاع أن يمزج بين أدوات القوة الصلبة والناعمة، ويعيد تعريف الوساطة كأداة لصناعة النظام لا لإدارة الأزمة.

أما قطر فقد لعبت دورًا تكميليًا محوريًا في الوساطة من خلال قنواتها المباشرة مع فصائل المقاومة الفلسطينية، مستفيدة من علاقاتها غير الرسمية لتسهيل التفاهمات الأولية وإدارة الاتصالات الميدانية. وقد أسهمت الدوحة في تمويل المساعدات الإنسانية وتخفيف حدة الأزمة عبر دبلوماسيتها المرنة، لكنها كانت بحاجة دائمة إلى المظلة المصرية التي تمتلك الشرعية الجغرافية والسياسية اللازمة لتحويل التفاهمات إلى ترتيبات قابلة للتنفيذ. وهكذا تشكّل بين القاهرة والدوحة نمط من التكامل الوظيفي لا التنافس، حيث تولّت مصر إدارة الإطار العام والتوازنات الإقليمية، بينما أدارت قطر التفاصيل اللوجستية والإنسانية، في مشهد يعكس نضجًا في التنسيق العربي المشترك.

في المقابل أدّت الولايات المتحدة دور الضامن الدولي وصاحبة النفوذ الأكبر على إسرائيل، غير أن تدخلها لم يكن متحررًا من الحسابات السياسية الداخلية. فقد سعت إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى استعادة الدور الأمريكي التقليدي في الشرق الأوسط عبر تقديم "خطة ترامب لإنهاء الحرب في غزة"، التي جمعت بين وقف إطلاق النار والشروع في عملية سياسية تتضمن إعادة الإعمار بتمويل دولي. إلا أن الخطة في نسختها الأولى كانت تميل إلى الرؤية الأمنية الإسرائيلية، وهو ما استدعى تدخلًا مصريًا حاسمًا لتعديلها وإدخال بنود تضمن الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية، وتفتح الطريق أمام استئناف مسار حل الدولتين. وبذلك تحولت الخطة من مشروع أحادي إلى منصة تفاوضية متعددة الأطراف، أصبحت فيها مصر الضامن التنفيذي والموازن السياسي، في حين احتفظت واشنطن بدور الراعي الدولي والجهة الضاغطة على إسرائيل.

لقد أثبت هذا النموذج أن قوة الوساطة لا تُقاس بحجم النفوذ فقط، بل بقدرة الوسيط على خلق التكامل بين الأطراف المختلفة. فقد أدارت القاهرة ببراعة شبكة العلاقات بين واشنطن، والدوحة، وتل أبيب، محوّلةً التباين في الأدوات إلى تناغم في الأدوار: واشنطن قدّمت الضغط السياسي، وقطر أدارت الاتصالات والمساعدات، ومصر وحدها صاغت الإطار العام وضمنت التنفيذ. بهذا المعنى أعادت القاهرة تعريف الوساطة من جديد، لتصبح استراتيجية قيادة إقليمية تُرسخ أن أي سلام في الشرق الأوسط لن يمر إلا عبرها، وأن دورها ليس فقط إدارة الأزمات، بل هندسة التوازنات وصياغة المستقبل السياسي للمنطقة.

فكر الردع الإسرائيلي وخطة ترامب بين الأمن والسياسة:

يُعدّ فكر الردع الإسرائيلي أحد أكثر النماذج استقرارًا في بنية العقيدة الأمنية الإسرائيلية منذ تأسيس الدولة عام 1948، إذ يقوم على مبدأ أن "الأمن لا يتحقق إلا عبر التفوق العسكري الدائم، وإقناع الخصم بأن كلفة التحدي تفوق مكاسبه". ومن هنا بنت إسرائيل سياستها تجاه غزة على استراتيجية يمكن وصفها بـ "الردع التراكمي"؛ أي إحداث قدرٍ من الدمار في كل جولة صراع يُقنع الفصائل الفلسطينية بعدم جدوى المواجهة. لكن هذه المعادلة، رغم فاعليتها على المدى القصير، ظلت عاجزة عن إنتاج أمن مستدام، لأنها تجاهلت الأبعاد السياسية والإنسانية للصراع، وحوّلت الأمن من مفهوم استقرارٍ شامل إلى حالةٍ من السيطرة العسكرية المتوترة.

في حرب غزة 2023، برزت هذه العقلية بوضوح؛ فمع اندلاع القتال، تحركت إسرائيل وفق منطق "إعادة الهيبة الردعية"، فوسّعت نطاق العمليات العسكرية واستهدفت البنية التحتية المدنية تحت شعار "إزالة التهديد نهائيا".إلا أن هذا النهج واجه حدود فعاليته مع تصاعد الكلفة الإنسانية والسياسية للحرب، وانكشاف محدودية القدرة على تحقيق أهداف عسكرية حاسمة. هنا بدأ التحول في التفكير الإسرائيلي، إذ تزايدت الأصوات الداخلية التي ترى أن الردع العسكري وحده لم يعد كافيًا لضمان الأمن، وأن استمرار الحرب يستنزف صورة إسرائيل الدولية ويقوّض تحالفاتها.

في هذا التوقيت جاءت "خطة ترامب لإنهاء الحرب في غزة" لتقدّم بديلاً نظريًا عن استمرار الصراع، يجمع بين عناصر الأمن، والسياسة، والاقتصاد في إطارٍ شامل. ركزت الخطة على ثلاث مراحل أساسية: وقف إطلاق النار بضمان دولي، تبادل الأسرى وإعادة انتشار القوات الإسرائيلية، ثم إطلاق مسارٍ لإعادة الإعمار والتنمية بتمويل عربي ودولي. من الناحية الشكلية بدت الخطة امتدادًا للنهج الأمريكي التقليدي في إدارة النزاعات، لكنها في جوهرها كانت محاولة لتثبيت الرؤية الإسرائيلية للأمن عبر تطبيعٍ اقتصادي تدريجي يسبق الحل السياسي. وقد اعتبر العديد من المراقبين أن الخطة كانت تحمل في طياتها نزعة "براجماتية – أمنية"، تضع الاستقرار فوق العدالة، وتتعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها ملفًا إداريًا يمكن احتواؤه بالمساعدات لا بالحلول الجذرية.

غير أن ما أضفى على هذه الخطة طابع الجدية هو دخول مصر على خطّها كضامنٍ ومُعدّلٍ رئيسي. فالقاهرة، التي تابعت تفاصيلها منذ صياغتها الأولى، أدركت أن نجاحها لن يتحقق إلا إذا انتقلت من كونها وثيقة أمريكية إلى مشروع توافقي يحظى بشرعية إقليمية وعربية. لذلك تحركت الدبلوماسية المصرية في ثلاث اتجاهات متوازية: أولًا، إدخال تعديلات جوهرية على بنود الخطة تراعي المطالب الفلسطينية الأساسية، مثل وقف الاستيطان وضمان حرية الإعمار دون ابتزاز سياسي. ثانيًا، إقناع واشنطن بأن الضمانات الأمنية لا يمكن أن تكون أحادية بل يجب أن تُدار عبر آلية ثلاثية تضم مصر، وقطر، والولايات المتحدة. وثالثًا، العمل على تهيئة بيئة سياسية عربية داعمة، من خلال تنسيق موسّع مع السعودية، والأردن، والإمارات لتوفير غطاء إقليمي متماسك يجنّب الاتفاق العزلة أو الرفض الشعبي.

بهذا الدور استطاعت القاهرة أن تنقل مركز الثقل من منطق الردع العسكري إلى منطق التسوية السياسية المشروطة بالأمن، وأن تحوّل خطة ترامب من أداةٍ لتكريس الهيمنة الإسرائيلية إلى إطارٍ متوازنٍ يربط بين إعادة الإعمار واستعادة الحقوق. لقد نجحت مصر في توظيف خبرتها التاريخية في إدارة الصراعات لتُقنع إسرائيل بأن الأمن الحقيقي لا يُصان بالقصف بل بالسلام، وأن ضمان بقاء الردع لا يتحقق عبر القوة فقط، بل عبر توفير بيئة سياسية واقتصادية تنزع جذور العنف من أساسها. وهكذا غيّرت الوساطة المصرية جوهر معادلة الصراع: من "توازن الرعب" إلى "توازن المصالح".

إن تحليل فكر الردع الإسرائيلي في ضوء اتفاق شرم الشيخ يبيّن أن مصر لم تتعامل مع الحرب باعتبارها أزمة عابرة، بل كفرصة لإعادة تعريف حدود القوة ومعنى الأمن الإقليمي. فبينما ظلت إسرائيل حبيسة تصوراتها الأمنية التقليدية، دفعت القاهرة نحو نموذجٍ أكثر نضجًا يُزاوج بين الواقعية السياسية والعدالة الإنسانية. ومع إقرار خطة ترامب المعدّلة في قمة شرم الشيخ، بات واضحًا أن الردع الإسرائيلي لم يعد مُطلقًا، وأن التسوية التي وُلدت في شرم الشيخ حملت في طياتها أول اعتراف عملي بأن التفوق العسكري لا يساوي الاستقرار.

تحليل خطابي الرئيس السيسي والرئيس ترامب – بلاغة السلام وسياسة الرموز:

شكّلت كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسي في قمة شرم الشيخ للسلام محور الارتكاز الرمزي والسياسي للحدث بأكمله، إذ جاءت بمثابة إعلانٍ لإعادة صياغة سردية القيادة المصرية في الشرق الأوسط بعد عقدٍ من الاضطرابات الإقليمية. حمل الخطاب بُعدًا دبلوماسيًا وإنسانيًا معًا، فبدأ بتحيةٍ دافئة لقادة العالم وبالتأكيد على "اللحظة التاريخية الفارقة" التي تُغلق صفحةً أليمة من تاريخ البشرية، ليضع المستمع منذ البداية أمام ثنائية أساسية: الحرب كذكرى، والسلام كمستقبل. هذه الافتتاحية لم تكن مجرد مقدمة تقليدية، بل كانت إطارًا سرديًا مقصودًا أعاد من خلاله السيسي بناء مفهوم "الدور المصري" بوصفه امتدادًا طبيعيًا لمسار السادات في 1977، وكأن مصر تعود لتتسلّم من جديد راية السلام التي أسستها بدماء وتضحيات سابقة.

من الناحية اللغوية والرمزية، استخدم السيسي لغة تتراوح بين الحزم والعاطفة، فجمع بين خطاب العقل وخطاب الضمير. فقد استدعى مفردات، مثل "السلام العادل"، و"الكرامة الإنسانية"، و"الحق في الدولة"، و"المستقبل الآمن"، وهي تعبيرات ترتبط بالمدرسة الليبرالية البنّاءة في العلاقات الدولية التي ترى أن الشرعية والأمن لا ينفصلان عن العدالة. لكنه في الوقت ذاته ضمّن خطابه إشارات واضحة للمدرسة الواقعية من خلال حديثه عن "القيادة الحقيقية ليست في شنّ الحروب بل في القدرة على إنهائها"، في رسالة مزدوجة المعنى: الأولى موجهة إلى إسرائيل لتُدرك أن التفوق العسكري لا يضمن شرعية دائمة، والثانية إلى القوى الإقليمية لتعي أن النفوذ الحقيقي يُبنى بالسلام لا بالصراع.

وقد تعمّد السيسي أيضًا توجيه خطاب مباشر إلى شعب إسرائيل، لا إلى حكومته فقط، حين قال: "فلنجعل هذه اللحظة التاريخية بداية جديدة لحياة تسودها العدالة والتعايش السلمي"، وهي خطوة رمزية تستعيد إرث "دبلوماسية الخطاب الجماهيري" التي استخدمها السادات في زيارته إلى القدس، مما جعل الخطاب المصري يتجاوز قاعة القمة إلى الرأي العام الدولي والإسرائيلي في آنٍ واحد.

أما من حيث البنية البلاغية، فقد صيغ الخطاب على نحو تصاعدي يربط الماضي، بالحاضر، بالمستقبل: من استدعاء مبادرة السادات في 1977، إلى اتفاق شرم الشيخ في 2025، وصولًا إلى الرؤية المستقبلية لـ"شرق أوسط خالٍ من أسلحة الدمار الشامل". هذا التسلسل الزمني منح الخطاب بعدًا تاريخيًا متماسكًا وأضفى عليه شرعية الاستمرارية، أي إن مصر ليست عائدة إلى دورها بل مستمرة فيه عبر أجيال قيادتها. كما أن الختام بمنح الرئيس ترامب "قلادة النيل" لم يكن تفصيلًا بروتوكوليًا، بل رمزًا دبلوماسيًا ذا حمولة سياسية دقيقة؛ فالقاهرة استخدمت التكريم كأداة قوة ناعمة، لتؤكد أن الشرعية الأخلاقية لصانع السلام تُمنح من مصر، وأن من يسعى للسلام يمر عبر بوابتها. بهذا المعنى تحوّل الفعل الرمزي إلى أداة سيادية تثبّت مصر في موقع المانح للشرعية وليس المتلقي لها.

في المقابل جاء خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في القمة محكومًا برؤية براجماتية واضحة، ركز فيها على "نهاية الحرب" و"بدء إعادة الإعمار"، معتبرًا أن التحدي المقبل هو تحويل الدمار إلى تنمية. اتسم الخطاب بلهجة تصالحية غير معتادة على الخطاب الأمريكي تجاه قضايا الشرق الأوسط، واستعان ترامب بمفردات، مثل "الفرصة التاريخية"، و"شجاعة القادة العرب"، و"الشراكة الجديدة من أجل السلام". كان واضحًا أن الخطاب موجّه لإظهار الولايات المتحدة في صورة "الضامن لا المتحكم"، في محاولة لتصحيح الصورة الذهنية التي ارتبطت بها خلال العقود السابقة.

إلا أن اللافت في خطابه هو التحول من اللغة الأمنية إلى اللغة الاقتصادية، إذ تحدث ترامب عن "خطة إعادة الإعمار والتنمية" باعتبارها "مشروع القرن الجديد"، في تلميحٍ إلى رؤية تقوم على الاقتصاد مقابل الاستقرار. ومع ذلك فإن هذا التوجه –رغم ما يحمله من طابع نفعي– ساهم في إضفاء طابع عملي على القمة، حين أتاح لمصر أن تُعيد تعريف الأولويات: فبدلًا من أن يكون السلام مشروطًا بالهيمنة، أصبح مرتبطًا بالتنمية والبناء المشترك.

وفي ختام كلمته خصّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرئيس السيسي بتحيةٍ خاصة، واصفًا إياه بأنه "قائدٌ شجاع أعاد لمصر استقرارها وهيبتها"، وأشاد بجهود الجيش المصري ووزارة الداخلية في مكافحة الإرهاب والسيطرة على معدلات الجريمة، مؤكدًا أن "مصر اليوم من أكثر دول العالم أمنًا بفضل قيادتها القوية". كما نوه إلى الدور الفاعل الذي قامت به وزارة الخارجية المصرية في إدارة مفاوضات السلام، وبـ كفاءة جهاز المخابرات العامة الذي وصفه بأنه "العين الساهرة التي ضمنت تنفيذ الاتفاق بدقةٍ ونجاحٍ لافت". هذه الإشادات، التي جاءت على لسان رئيس أكبر قوة عالمية، لم تكن مجاملة بروتوكولية، بل اعترافًا صريحًا بنجاح النموذج المصري في إدارة الدولة الحديثة، القادر على الجمع بين الحسم الأمني والدبلوماسية الفاعلة. وبذلك عزّز خطاب ترامب شرعية الدور المصري وأكّد أن استقرار القاهرة أصبح جزءًا من استقرار النظام الدولي ذاته.

من زاوية تحليل الخطاب السياسي المقارن، يمكن القول إن خطاب السيسي ارتكز على الشرعية الأخلاقية والتاريخية، بينما ارتكز خطاب ترامب على الشرعية الواقعية والاقتصادية. الأول ينتمي إلى منطق "القيادة بالقيم"، والثاني إلى منطق "القيادة بالمصالح"، لكن الجمع بينهما في قاعة واحدة صنع ما يمكن وصفه بـ "تكامل الخطابين"، حيث توافقت لغة الضمير مع لغة المصلحة، ووجدت الوساطة المصرية طريقها بينهما لتُترجم الأقوال إلى أفعال. لقد مثّلت كلمة السيسي، في مضمونها ومراسمها، امتدادًا لدبلوماسية مصرية تعتبر أن الكلمة ذاتها أداة قوة، وأن الخطاب حين يُصاغ بوعيٍ سياسي يمكن أن يكون امتدادًا للسياسة الخارجية بوسائل ناعمة.

إن تحليل خطابي الزعيمين في سياق القمة يكشف أن القاهرة لم تكتفِ بلعب دور الوسيط في المفاوضات فحسب، بل أدارت أيضًا "وساطة الخطاب"في ساحة الرأي العام الدولي، فصاغت من لغتها الدبلوماسية خطابًا جامعًا يمزج بين الواقعية والمثالية، ويعيد ترسيخ فكرة أن مصر هي الضمير الاستراتيجي للشرق الأوسط. وهكذا تحوّل المنبر السياسي في شرم الشيخ إلى مساحة لإعادة تعريف مفردات القوة ذاتها: لم تعد القوة هي امتلاك السلاح أو النفوذ فقط، بل أصبحت أيضًا امتلاك القدرة على صياغة المعنى وصناعة الإجماع.

المراسم والسياسة الرمزية – القوة الناعمة المصرية في هندسة البروتوكول الدبلوماسي:

تُعد قمة شرم الشيخ للسلام (أكتوبر 2025) نموذجًا متكاملًا لتجسيد ما يُعرف في أدبيات العلاقات الدولية بـ "الدبلوماسية الرمزية" (Symbolic Diplomacy)، حيث تتحول تفاصيل البروتوكول، من ترتيب الجلوس إلى منح الأوسمة، إلى أدوات اتصال سياسي ذات معنى عميق تتجاوز الشكل إلى المضمون. فقد استطاعت مصر أن تُحوِّل مراسم القمة إلى جزء من رسالتها السياسية الكبرى، مؤكدة أن السلام ليس فقط اتفاقًا مكتوبًا بل فعلًا حضاريًا تُجسده اللغة، والصورة، والرمز.

ولم يكن المشهد الرمزي مقتصرًا على داخل القاعة فقط، بل امتد إلى السماء المصرية ذاتها، حين رافقت تشكيلات من طائرات إف-16المصرية طائرة الرئيس الأمريكي أثناء دخولها المجال الجوي المصري في استعراضٍ مدروس للقوة، والسيادة، والأمن الوطني. هذا المشهد لم يُقدَّم كعرض عسكري، بل كرسالة دبلوماسية رمزية بأنّ السماء المصرية آمنة ومُسيطر عليها بالكامل، وأن الدولة التي تقود السلام قادرة أيضًا على حماية شركائها وضيوفها. وبهذا جمعت القاهرة بين القوة الصلبة في ثوبٍ بروتوكولي، والقوة الناعمة في أداءٍ حضاري، مما عزّز صورة مصر كدولة تجمع بين الأمن والانفتاح في آنٍ واحد.

منذ اللحظة الأولى لانعقاد القمة، عكست الترتيبات البروتوكولية هندسة دقيقة للمعنى. فاختيار مدينة شرم الشيخذات الرمزية المزدوجة كـ"مدينة السلام" ومقر لاتفاقيات دولية سابقة – كان رسالة في حد ذاته: مصر تُذكِّر العالم بأنها لا تزال مسرح صناعة القرارات المصيرية للمنطقة. أما توزيع المقاعد في القاعة الرئيسية فجاء وفق ترتيب مدروس يوازن بين رمزية القيادة واحترام التعددية، حيث تصدّر الرئيس عبدالفتاح السيسي الجلسة إلى جوار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يتوسطهما علم مصر، في إشارة واضحة إلى أن القاهرة تقف في المنتصف بين الشرق والغرب، بين العرب والعالم، بين القوة والشرعية.

كما أن لغة الجسد والتفاعل الدبلوماسي خلال القمة حملت بدورها رسائل عميقة. فقد اتسم أداء السيسي بالثقة الهادئة والابتسامة الدبلوماسية، مع إشارات متكررة بالرأس عند الحديث عن "المستقبل المشترك"، وهي إشارات تُقرأ في علم السلوك السياسي بوصفها دعوة للشراكة لا للتبعية. في المقابل بدا ترامب أكثر تحفظًا في بداية القمة قبل أن يلين خطابه لاحقًا بعد استقبال حار من الجانب المصري، وهو ما يعكس نجاح القاهرة في تحويل أجواء المفاوضة إلى أجواء مصالحة عبر التحكم الإيجابي في الرموز البصرية والمناخ العام للجلسات.

لكن اللحظة الأكثر رمزية في القمة كانت بلا شك قرار مصر منح الرئيس ترامب "قلادة النيل"، وهو أعلى وسام مصري يُمنح لرؤساء الدول تقديرًا لمساهماتهم في خدمة الإنسانية. لم يكن هذا التكريم مجرد إجراء بروتوكولي، بل فعلًا سياسيًا محسوبًا بعناية. فمنح الوسام في نهاية الخطاب، وأمام الحضور الدولي، حمل ثلاث رسائل أساسية:

الأولى، أن مصر تُمارس دبلوماسية "المكافأة الرمزية"، حيث تُكافئ بالشرعية الأخلاقية من يسهم في صناعة السلام؛ الثانية، أن القاهرة تُعيد توظيف أدوات القوة الناعمة لتثبيت مكانتها كـ"مانحة للشرعية"، لا كدولة تتلقاها؛والثالثة، أن شرم الشيخ – كما في الماضي – هي المنصة التي تُمنح فيها شرعية السلام لا شرعية القوة.

كما امتدت الرمزية إلى تفاصيل المشهد البصري للقمة: العلم المصري يتوسط خلفية المنصة بلونٍ ذهبي موحد يرمز للاستقرار، شعار "قمة السلام" مكتوب بخط عربي مزخرف يعانق الإنجليزية في توازن ثقافي مدروس، وعزف السلام الوطني في افتتاح الجلسة بأداء أوركسترالي يربط الهوية القومية بالموقف السياسي. حتى اختيار المقعد المخصص للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في الصفوف الأمامية ببطاقة رمزية تحمل اسمه كان إشارة إلى أن القضية الفلسطينية لا تزال في الوجدان المصري والعربي رغم كل التحولات.

بهذا الشكل، أعادت القاهرة تعريف البروتوكول باعتباره لغة سياسية موازية للبيانات الرسمية. فالمراسم في قمة شرم الشيخ لم تكن مجرد ديكور، بل أداة دبلوماسية في يد الدولة المصرية توصل بها رسائل متعددة المستويات: إلى واشنطن بأن مصر شريك لا تابع؛ إلى تل أبيب بأن السلام لا يُصنع بالقوة وحدها؛ وإلى الشعوب العربية بأن مصر لا تزال حاملة لواء القومية، والكرامة، والاعتدال. لقد جسدت هذه القمة ما يسميه جوزيف ناي "القوة الناعمة الاستراتيجية"، أي استخدام الرموز الثقافية والبروتوكولية لإعادة تشكيل إدراك الفاعلين الآخرين تجاه موقع الدولة.

إن دلالات المشهد المصري في قاعة القمة تُظهر أن القاهرة لم تكن فقط الوسيط السياسي في الاتفاق، بل أيضًا المخرج الرمزي للمشهد، الذي صاغ من خلاله صورة جديدة للشرق الأوسط، قوامها أن السلام لا يُفرض بالسلاح بل يُصنع بالعقل والرمز. ومن خلال هذا الاستخدام الذكي للمراسم، أثبتت مصر أن القوة الناعمة ليست مجرد أداة تكميلية، بل ركيزة من ركائز أمنها القومي ودبلوماسيتها الممتدة، وأن التاريخ المصري في السلام لم يكن لحظة عابرة، بل مشروعًا متجددًا تُرسم معالمه بالسياسة والفن معًا.

إعادة تشكيل موازين الردع والتسوية – آفاق ما بعد قمة شرم الشيخ:

أحدثت قمة شرم الشيخ للسلام تحوّلًا نوعيًا في معادلة الصراع العربي–الإسرائيلي، إذ مثّلت لحظة انتقال من منطق الحرب إلى هندسة السلام كإطارٍ للأمن الإقليمي. فالمنطقة التي عاشت لسنوات طويلة تحت معادلة "الردع المتبادل" بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، دخلت بعد القمة مرحلة جديدة عنوانها "التسوية المشروطة بالتنمية"، حيث باتت القوة العسكرية جزءًا من منظومة أوسع تشمل السياسة، والاقتصاد، وإعادة الإعمار، والتعاون الإقليمي. هذا التحول لم يكن نتيجة اتفاق تقني فحسب، بل ثمرة وساطة مصرية واعية استطاعت تحويل ميزان القوة إلى ميزان شرعية، والانتقال من معادلة الخوف إلى معادلة الثقة التدريجية.

فعلى المستوى الأمني، رسّخت القمة مفهوم "الردع المتوازن" بدل الردع الأحادي. فإسرائيل، التي اعتادت أن تكون الطرف المهيمن عسكريًا، وجدت نفسها أمام قيود جديدة تفرضها الشرعية الدولية، والرقابة السياسية التي نشأت عن الاتفاق. أما الفصائل الفلسطينية، فدخلت مرحلة إعادة هيكلة داخلية استعدادًا لتحمّل مسئولية سياسية واقعية في إدارة القطاع بعد الحرب، مما جعل الردع يتحول من ردعٍ عسكري إلى ردعٍ سياسي قوامه الالتزام بالاتفاق وضماناته. وهنا برزت مصر كضامنٍ فعليٍّ للتوازن، إذ تولّت تنسيق اللجان الأمنية المشتركة، وأشرفت على نشر مراقبين من الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية لضمان تنفيذ مراحل الخطة دون انتكاس.

وعلى المستوى السياسي، نجحت القاهرة في إعادة إحياء فكرة حلّ الدولتين بعد سنوات من الجمود، ليس كشعارٍ دبلوماسي، بل كهدفٍ مرحليٍّ ضمن خطة التنفيذ التدريجي. فقد تبنّت مصر رؤية تقوم على أن التسوية لا تبدأ بالحدود، بل ببناء الثقة ثم الانتقال إلى الاعتراف المتبادل، في نموذج مستوحى من فلسفة "السلام من أسفل إلى أعلى". ومع ذلك لم تُغفل القاهرة واقع القوة، فربطت تنفيذ المراحل بالالتزام الأمني الإسرائيلي، لتضمن ألا تتحول التسوية إلى تنازلات غير متكافئة. وبذلك قدّمت مصر نموذجًا لما يمكن تسميته بـ "السلام الواقعي"؛ سلام يقوم على موازنة المصالح لا على مثالية الشعارات.

أما على الصعيد الاقتصادي، فقد فتحت القمة الباب أمام مشروعات إعادة الإعمار والتنمية في غزة، بتمويلٍ مشترك من الولايات المتحدة، وقطر، والاتحاد الأوروبي، بإشراف مصري مباشر. أُعلن عن تأسيس "الآلية المصرية الدولية لإعمار غزة" ومقرها القاهرة، لتكون منصة تنسيق مالي وإداري بين الجهات المانحة والسلطة الفلسطينية، بما يضمن الشفافية ويمنع استغلال التمويل سياسيًا. هذا الدور الاقتصادي عزّز النفوذ المصري الإقليمي، وجعل من القاهرة المركز المحوري لمرحلة ما بعد الحرب، لا كمجرد وسيط بل كفاعل تنموي يمتلك أدوات الاستدامة. وهكذا تحولت مصر من "قناة اتصال" إلى "منصة بناء"، واستطاعت تحويل دبلوماسيتها السياسية إلى قوة تنموية ناعمة تدير من خلالها الإعمار والاستقرار في آنٍ واحد.

ومن زاوية العلاقات الإقليمية، أثمرت القمة عن تقارب غير مسبوق بين دول المحور العربي الرئيسي (مصر، والسعودية، والأردن، والإمارات) حول ضرورة تأسيس نظام أمني عربي مشترك يستند إلى مبادئ احترام السيادة، ونبذ التدخلات الخارجية، ودمج إسرائيل في ترتيبات أمنية مشروطة بسلامٍ دائم. كما فتحت القمة قنوات اتصال جديدة مع تركيا وإيران عبر دبلوماسية "التطمين المتبادل"، مما خفّف من احتمالات التصعيد في جبهات أخرى كلبنان والبحر الأحمر. وبهذا أعادت مصر هندسة هامش الاستقرار الإقليمي عبر مزيجٍ من التفاهمات الأمنية والتحالفات السياسية التي تؤسس لما يمكن وصفه بـ "شرق أوسط ما بعد الحرب"- شرق أوسط لا يقوم على توازن الرعب بل على توازن المصالح والتنمية.

أما على المستوى الدولي، فقد أعاد اتفاق شرم الشيخ لمصر موقعها كـ ركيزة أساسية في معمار الأمن الجماعي للمنطقة. فالقاهرة باتت تُعامل دوليًا كضامنٍ شرعيٍّ التسويات الشرق أوسطية، وكمركز ثقة بين الغرب والعالم العربي. ولعلّ أبرز مؤشرات ذلك هو قرار الأمم المتحدة اعتماد "آلية متابعة شرم الشيخ"برئاسة مصر، لتقييم التقدم في تنفيذ بنود الاتفاق كل ستة أشهر، وهو اعتراف مؤسسي بأن الاستقرار الإقليمي لا يمكن أن يتحقق دون البعد المصري.

إن إعادة تشكيل موازين الردع بعد القمة لا يعني نهاية التحديات، بل بداية مرحلة اختبار للسلام الجديد. فنجاح الاتفاق يتوقف على قدرة الأطراف على تجاوز منطق "الإدارة الأمنية" نحو "التسوية المستدامة". ومع ذلك فإن ما تحقق في شرم الشيخ أرسى قاعدة غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي: أن الردع لا يتحقق بالقوة وحدها، بل بالشرعية، وأن السلام لا يُصان بالهدنة بل بالبناء المشترك. لقد أثبتت مصر من خلال هذه القمة أن قدرتها على الجمع بين الوساطة السياسية، والضمان الأمني، والدور التنموي تجعلها القلب النابض لمنظومة السلام الجديدة في الشرق الأوسط.

الإسقاطات النظرية في العلاقات الدولية – الواقعية والليبرالية والبنائية في نموذج الوساطة المركّبة:

تُعد قمة شرم الشيخ للسلام 2025، حالة فريدة في العلاقات الدولية، لأنها لم تكن مجرد حدث سياسي أنهى حربًا، بل تجربة متكاملة أعادت تعريف أدوات القوة والسلام في الشرق الأوسط. فهي تُجسّد عمليًا التفاعل بين ثلاث مدارس كبرى في الفكر السياسي: الواقعية، والليبرالية، والبنائية، وقد نجحت مصر في توظيفها جميعًا داخل ما يمكن تسميته بـ "استراتيجية الوساطة المركّبة"، أي المزج بين المصالح المادية، والرمزية، والهيكلية في إطارٍ واحد. من هذا المنظور، يمكن القول إن القمة مثلت انتقالًا من منطق "القوة الصلبة" إلى منطق "التأثير المركّب"، الذي يجمع بين الردع، والتعاون، وصناعة المعنى.

من زاوية الواقعية السياسية، حافظت القمة على منطق المصلحة القومية باعتباره المحرك الرئيسي للسلوك الدولي. كل طرف شارك بدافع تعزيز أمنه لا مجرّد خدمة قضية إنسانية؛ فإسرائيل أرادت استعادة الردع وحماية حدودها، والولايات المتحدة سعت إلى استعادة نفوذها المترنح في الشرق الأوسط، بينما ركّزت مصر على تثبيت مكانتها كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها في أي معادلة أمنية أو سياسية. غير أن القاهرة أعادت تعريف "الواقعية" نفسها، إذ استخدمت أدوات القوة الذكية لا الصلبة؛ فمارست الضغط من خلال النفوذ الدبلوماسي لا العسكري، وجمعت بين لغة الأمن ولغة القيم في آنٍ واحد. بهذا المعنى لم تكن مصر تلعب داخل قواعد اللعبة الواقعية فحسب، بل أعادت صياغتها بما يجعل القيادة السياسية تُقاس بقدرة الدولة على توجيه النظام دون فرضه.

أما على المستوى الليبرالي، فقد قدّمت قمة شرم الشيخ نموذجًا للتعاون المؤسسي القائم على الاعتماد المتبادل، إذ أسفرت عن إنشاء لجان دولية للإشراف على تنفيذ الاتفاق وآليات تمويلية لإعادة إعمار غزة بمشاركة البنك الدولي والاتحاد الأوروبي. وبدلًا من أن تظل التسوية رهينة التفاهمات الأمنية، ربطت مصر نجاحها بتكامل اقتصادي طويل المدى يخلق مصالح مشتركة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. هذا التوجّه يعكس فلسفة ليبرالية خالصة ترى أن السلام لا يُبنى بالردع فقط، بل بتوسيع دوائر المصلحة المتبادلة، وأن التعاون في مجالات الاقتصاد والتنمية قد يُصبح أداة ردعٍ أكثر فعالية من القوة العسكرية. وبفضل هذا المنطق تحولت مصر من وسيط سياسي إلى محفّز تنموي يسعى لتأسيس بيئة سلام تستند إلى الاعتماد لا الصراع.

في الوقت نفسه جسّدت القمة بوضوح أبعاد المدرسة البنائية التي تنظر إلى العلاقات الدولية من منظور الهوية والمعنى. فقد أدركت مصر أن السلام الحقيقي لا يُفرض من الخارج، بل يُبنى من الداخل عبر إعادة تشكيل التصورات والهويات المتبادلة. من هنا جاءت الرمزية العميقة في خطاب الرئيس السيسي، واختيار مدينة شرم الشيخ كرمز للسلام، ومنح "قلادة النيل" للرئيس الأمريكي كإشارة إلى أن الشرعية الأخلاقية للسلام تُمنح من مصر. هذه الرموز لم تكن تجميلًا بروتوكوليًا، بل أدوات لإعادة تعريف الذات والآخر: إسرائيل لم تُعامل كعدو بل كشريك محتمل، والفلسطينيون لم يُقدَّموا كضحايا بل كأصحاب حق وسيادة، والولايات المتحدة لم تُظهَر كقوة مفروضة بل كضامن متعاون. لقد استخدمت القاهرة الرمز والخطاب كوسيلتين لإعادة بناء الإدراك السياسي، في مثالٍ نادر على ما تسميه الأدبيات "دبلوماسية المعنى".

وهكذا جمعت قمة شرم الشيخ بين المدارس الثلاث في تناغم غير مسبوق: من الواقعية استمدت أدوات إدارة القوة، ومن الليبرالية آليات التعاون، ومن البنائية لغة الهوية والرمز. وقد شكّل هذا المزج أساس ما يُعرف بـ العقل المصري في إدارة السلام؛ عقل عملي ومرن في الوقت نفسه، يدرك أن الأمن لا يتحقق بالقوة وحدها، وأن الشرعية لا تُبنى بالكلمات فقط، وأن الرمزية ليست نقيضًا للمصلحة بل إطارها الأخلاقي. ومن خلال هذه المقاربة، أثبتت مصر أنها لا تتعامل مع النظريات كقوالب جامدة، بل توظفها بمرونة في خدمة أهدافها الوطنية والعربية، لتصبح الوساطة المصرية نموذجًا نظريًا وميدانيًا في آنٍ واحد، يمكن أن يُدرَّس مستقبلًا كأحد أنجح أشكال الدبلوماسية المعاصرة في إدارة النزاعات المعقدة.

الخاتمة – مصر كركيزة للنظام الإقليمي الجديد:

أثبتت قمة شرم الشيخ للسلام (2025) أن مصر لا تزال تمتلك القدرة على تحويل الأزمات الإقليمية الكبرى إلى فرص لإعادة هندسة النظام الدولي والإقليمي. فالقاهرة لم تكتفِ بلعب دور الوسيط التقليدي الذي ينقل الرسائل بين المتخاصمين، بل ارتقت إلى موقع الضامن والمصمّم للمعادلات، ونجحت في أن تُعيد للسلام العربي بريقه بعد عقود من التراجع. لقد أظهرت القمة أن الوساطة ليست مجرد أداة لإنهاء الحرب، بل أداة لإعادة توزيع النفوذ وتثبيت الشرعية، وأن الدولة التي تتقن إدارة التوازن بين الأمن والسياسة، والرمز والمصلحة، يمكن أن تُصبح مركزًا لتوجيه الإقليم بأكمله.

تكشف التجربة أن مصر استطاعت عبر الوساطة المركّبة أن تجمع بين أبعاد القوة الصلبة والناعمة، وبين الواقعية السياسية والرمزية الثقافية، في توليفة نادرة أفرزت ما يمكن تسميته بـ "السلام المصري المتوازن" -سلام لا يقوم على الهيمنة ولا على الاستسلام، بل على إدراك متبادل للمصالح وضمان متكافئ للأمن. كما أثبتت أن القاهرة قادرة على إدارة التعددية الدبلوماسية بين وسطاء متباينين (قطر، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي) دون أن تفقد موقعها القيادي، وهو ما يعكس نضجًا مؤسسيًا جعلها تمثل الجسر الفاصل والواصل بين العرب والعالم.

على المستوى الإقليمي رسخت القمة مبدأ أن الأمن العربي لا يمكن أن يُدار من الخارج، وأن التسويات الدائمة تتطلب قيادة عربية ذات مصداقية، وهو ما جسدته مصر من خلال الجمع بين البعد الوطني والمصلحة الجماعية. أما على المستوى الدولي، فقد أعادت القاهرة صياغة علاقتها بالقوى الكبرى من موقع الندّ لا التابع، إذ تعاملت مع واشنطن وواشنطن تعاملت معها كشريك لا كوسيط من الدرجة الثانية. وبهذا تحولت مصر إلى فاعل مرجعي في قضايا الشرق الأوسط، بحيث باتت أي مفاوضات مستقبلية –سواء حول غزة، أو لبنان، أو السودان– تحتاج إلى رعايتها أو مباركتها لتحقيق الشرعية والنجاح.

من الناحية النظرية تُقدم قمة شرم الشيخ نموذجًا تطبيقيًا يستحق الدراسة الأكاديمية كأحد أشكال الدبلوماسية المركّبة التي تدمج بين الواقعية، والليبرالية، والبنائية، مما يجعلها حالة مثالية لفهم كيف يمكن لدولة نامية أن تُعيد تعريف دورها الإقليمي عبر أدوات غير تقليدية. فبينما انشغلت القوى الكبرى بإدارة الصراع، انشغلت مصر بإدارة السياق، أي البيئة التي تُنتج الصراع وتُهيئ للحل، وهو ما يُعد جوهر القيادة الذكية في العلاقات الدولية الحديثة.

إن قمة شرم الشيخ لم تكن مجرد نهاية لحرب، بل بداية لفصل جديد في التاريخ الدبلوماسي المصري، أكدت فيه القاهرة أن القيادة لا تُقاس بحجم الصوت في ساحة الصراع، بل بقدرة الدولة على إسكات البنادق وصناعة الأمل. لقد أعادت مصر صياغة معادلة الشرق الأوسط على أسس جديدة: القوة مقرونة بالحكمة، والمصلحة مشروطة بالعدالة، والسلام مؤسس على التنمية. ومن هنا تظل التجربة المصرية في شرم الشيخ علامة مضيئة في مسار العلاقات الدولية المعاصرة، ودليلًا على أن مصر، حين تتحرك، لا تصنع اتفاقًا فحسب، بل تصنع تاريخًا جديدًا للمنطقة بأكملها.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. محمد إبراهيم حسن فرج

    د. محمد إبراهيم حسن فرج

    دكتوراه العلوم السياسية- كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،جامعة القاهرة