تحليلات

عبقرية ملحمة السادس من أكتوبر..كيف أعادت مصر تعريف فن الحرب والدبلوماسية؟

طباعة

لم تكن حرب السادس من أكتوبر 1973 مجرد رد فعلٍ عابر أو عملية عسكرية منعزلة، بل كانت تتويجاً لمسيرة نهضة وطنية شاملة، امتدت لست سنوات من الصبر والجلد والعمل المضني. في غضون هذه الفترة، أعادت مصر صياغة مفاهيم الحرب الحديثة وفنون الدبلوماسية، عبر مزيج فريد من التخطيط الاستراتيجي المحكم، والخداع المتقن، والتناغم غير المسبوق بين السيف والقلم، بين العمل العسكري والتحرك الدبلوماسي والدعم الشعبي المعتمد على عبقرية الشخصية المصرية، ومزيد من أدوات القوة الناعمة لتحقيق غايات سياسية مرسومة بوضوح. لقد مثّلت الحرب نقلة نوعية في الفكر الاستراتيجي المصري أنهت حالة جمود مميتة عُرفت بـ "اللاسلم واللاحرب"، وتحطيم أركان العقيدة الأمنية للعدو القائمة على أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر" و"الحدود الآمنة".

أولاً- صياغة أدوات النصر (1967-1972):

تكمن العبقرية التأسيسية لحرب أكتوبر في تحويل الهزيمة إلى محرك للنصر. لم تكن الفترة ما بين عامي 1967 و1973 فترة جمود ويأس، بل كانت مرحلة من الإعداد المكثف والمدروس ومتعدد الأوجه، تم خلالها بناء الأسس المادية والنفسية للمعركة القادمة.

سيكولوجية أمة تولد من جديد:

شكلت نكسة يونيو 1967، صدمة وطنية عميقة.ومع ذلك، لم يُسمح لهذه الحالة بالتحول إلى شلل دائم. عملت القيادة المصرية، خاصة بعد تولي الرئيس البطل محمد أنور السادات السلطة، على توجيه هذا الشعور الجمعي وتحويله إلى إرادة وطنية جبارة وموحدة نحو هدف واحد: الثأر واستعادة الكرامة. هذا التحول من اليأس إلى العزيمة كان الركيزة النفسية الأساسية التي بُني عليها المجهود الحربي بأكمله.

لقد خلقت هذه الحالة النفسية مُجتمعاً مُستعداً لتحمل المشاق وجيشاً مشبعاً بدافع قوي لم تدركه المؤسسات الإسرائيلية التي كانت غارقة في ثقتها المفرطة. لم تكن القيادة تسعى فقط إلى مداواة جراح صدمة 1967، بل قامت بتسليح هذه الصدمة بفاعلية. فبدلاً من قمع هذا الشعور، ركز الخطاب الوطني، خاصة في الفترة التي سبقت الحرب، على "استعادة الكرامة والأرض"، وقد أدى ذلك إلى خلق قوة موحدة تجاوزت الاختلافات الاجتماعية والدينية، وولّدت دعماً شعبياً هائلاً للجيش. ترجمت هذه الإرادة الجماعية إلى فوائد ملموسة: تدفق آلاف المتطوعين، وحملات تبرع شعبية، وقدرة عالية على تحمل التقشف في زمن الحرب، مما خلق جبهة داخلية صلبة. وهكذا، كانت العبقرية تكمن في تحويل مصدر الضعف الوطني (الشعور بالهزيمة) إلى مصدر رئيسي للقوة الاستراتيجية (الإصرار على النصر)، والاعتماد على عبقرية الشخصية المصرية المتفردة غير القابلة للتوقع، وهو عامل غاب تماماً عن الحسابات الإسرائيلية المادية البحتة للتوازن العسكري.

حرب الاستنزاف..مدرسة خط النار:

يمكن إعادة تأطير حرب الاستنزاف (1967-1970) ليس كصراع منفصل، بل كمرحلة استراتيجية مدروسة وممتدة من الإعداد. لقد كانت مختبراً حياً تم فيه إعادة بناء القوات المسلحة المصرية الباسلة بشكل منهجي وصقل خبراتها القتالية. من خلال الاشتباكات المستمرة والمكلفة، والتي حققت مصر بها عدة أهداف حاسمة: أجبرت إسرائيل على الدخول في حالة تعبئة طويلة ومستنزفة اقتصادياً، وأتاحت للقوات المصرية اختبار التكتيكات والدفاعات الإسرائيلية، خاصة على طول قناة السويس، كما وفرت خبرة قتالية لا تقدر بثمن لجيل جديد من الجنود والقادة، مما أعاد بناء الثقة وأسهم في رفع الروح المعنوية، والأهم من ذلك، أنها وفرت الدافع العملياتي لبناء شبكة الدفاع الجوي الهائلة، "حائط الصواريخ"، التي كانت ضرورية لمواجهة سلاح الجو الإسرائيلي.

لم تكن حرب الاستنزاف مجرد مناوشات متفرقة على ضفتي القناة، بل كانت استراتيجية محسوبة بدقة، ومدرسة حقيقية صُقل فيها المقاتل المصري وأُعدّ لمعركة الكرامة. انطلقت هذه الحرب عبر مراحل متدرجة: بدأت بمرحلة "الصمود" لإعادة بناء القوات وتنظيم الصفوف. تلتها مرحلة "الدفاع النشط" لتكبيد العدو خسائر مستمرة. وأخيراً، مرحلة "الاستنزاف" الفعلية لإنهاك قدراته المادية والمعنوية وتحطيم غروره.

كانت هذه الحرب بمثابة "بروفة" حية لملحمة أكتوبر المجيدة. ففي معارك بطولية مثل "رأس العش"، ثبتت فصيلة صاعقة مصرية في وجه لواء مدرع إسرائيلي، ومنعته من احتلال بورفؤاد، لتثبت للعالم أن روح القتال المصرية أسطورية. ونفذت القوات البحرية عمليات جريئة في عمق العدو، كإغراق مدمرات إسرائيلية في ميناء إيلات. كانت كل عملية ناجحة بمثابة جرعة ثقة تُحقن في شرايين القدرات الشاملة للدولة. والأهم من ذلك، أنه خلال هذه الفترة، بدأ التدريب الفعلي على عبور الموانع المائية، مما بث في نفوس الجنود اليقين بأن "يوم الحسم ورد الاعتبار والكرامة قد اقترب". لقد كانت حرب الاستنزاف سيفاً ذا حدين؛ فبينما كانت تستنزف العدو، كانت في الوقت ذاته تستنزف روح الهزيمة من نفوس المقاتلين، وتبني جسراً من الثقة عبروا عليه من يأس 1967 إلى فجر نصر 1973.

ثانيًا- سيمفونية الخداع الاستراتيجي:

تُعد خطة الخداع الاستراتيجي المصرية واحدة من أروع وأعقد الخطط في تاريخ الحروب الحديثة، وشاهداً على عبقرية العقل المصري الذي حوّل كل مناحي الحياة في الدولة إلى نوتات في سيمفونية متكاملة، هدفها الأوحد هو تضليل العدو وتحقيق مفاجأة استراتيجية كاسحة.

عبقرية الخداع على المسرح السياسي والدبلوماسي:

صاغ الرئيس البطل محمد أنور السادات، بعبقرية نسيج خيوط الخداع الاستراتيجي. فبعد إعلانه أن عام 1971 هو "عام الحسم"، ومرور العام دون أن تندلع حرب، نجح في خلق انطباع لدى العالم وإسرائيل بأن مصر لن تحارب،لقد كان ذلك جزءاً من خطة مدروسة لإفقاد تصريحاته مصداقيتها، وتنويم يقظة العدو.

وجاءت ذروة الخداع الاستراتيجي في يوليو 1972 بقرار طرد الخبراء العسكريين السوفييت. هذا القرار، الذي بدا للعالم كأنه شرخ عميق في العلاقات المصرية-السوفيتية، ودليل قاطع على أن مصر فقدت ذراعها الهجومية، كان في حقيقته إحدى أذكى مناورات الخداع على الإطلاق. فقد أخفى حقيقة أن الكوادر المصرية قد أتقنت بالفعل تشغيل الأسلحة المعقدة، وأرسل إشارة مضللة تماماً عن نوايا مصر. ولدعم هذا الانطباع، كثفت مصر من نشاطها الدبلوماسي، حيث انطلق كبار مسؤوليها في جولات خارجية قبيل الحرب مباشرة، لإيهام العالم بأن كل جهودها منصبة على المسار السلمي.

كما استغلت مصر ببراعة الصورة النمطية التي رسخها العدو عنها، كدولة منهكة اقتصادياً وعدم استعدادها للحرب، وحولتها إلى قناع مثالي لإخفاء نواياها الحقيقية. لم يكن الخداع يعمل ضد استخبارات العدو، بل معها، عبر تزويد العدو بمعلومات تؤكد قناعاته المسبقة، وهذاهو أحد أرقى فنون الخداع الاستراتيجي: أن تجعل عدوك يخدع نفسه.

كان جزءاً من عبقرية السادات تكمن في الإدراك الشامل لأن التأثير السياسي للحرب سيكون أعظم بكثير من النتائج العسكرية المباشرة. . لذلك، كان عبور القناة بنجاح والتوغل في عمق سيناء، سبباً في "تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر"،هذا النجاح العسكري كان المفتاح الذي فتح باب الدبلوماسية، حيث منح السادات الشرعية الداخلية للتفاوض من موقع قوة وأجبر إسرائيل علي قبول السلام وإدراكها أنها لا تستطيع ضمان أمنها من خلال التفوق العسكري وحده.

عبقرية اختيار التوقيت:

لم يكن اختيار يوم السادس من أكتوبر وليد الصدفة، بل كان ثمرة دراسة علمية دقيقة. قامت الدراسة بتحليل كافة العوامل لاختيار "أنسب التوقيتات" للهجوم. وشملت أفضل الظروف لسرعة تيارات مياه القناة، ومواعيد الشروق والغروب، وحالة القمر لتوفير إضاءة خافتة تساعد القوات ليلاً. لكن العامل الحاسم كان تزامن الهجوم مع "يوم كيبور" (عيد الغفران)، وهو يوم تتوقف فيه الحياة تماماً في إسرائيل، وتصوم فيه الغالبية، وتتوقف الإذاعات عن البث، مما يجعل استدعاء قوات الاحتياط عملية بالغة الصعوبة والبطء.

جدول (1): عناصر خطة الخداع الاستراتيجي المصرية متعددة المجالات:

المجال

الإجراء

التصور المستهدف للعدو

الهدف المصري الحقيقي

السياسي

إعلان الرئيس السادات المتكرر أن 1971هو "عام الحسم" ثم عدم حدوث شيء.

التردد وعدم الجاهزية أو القدرة على اتخاذ قرار الحرب.

إفقاد تصريحات القيادة المصرية مصداقيتها وخلق حالة من التبلد لدى العدو.

الدبلوماسي

طرد الخبراء السوفييت في يوليو 1972.

خلاف مصري-سوفيتي حاد، مصر فقدت قدرتها الهجومية.

إخفاء وصول أسلحة جديدة وتدريب الأطقم المصرية عليها، وإظهار مصر كطرف ضعيف.

العسكري

تنفيذ مناورات تدريبية متكررة على العبور

هذه مجرد تدريبات روتينية، المصريون غير جادين في الحرب.

جعل حشد القوات يبدو كأمر طبيعي، ثم تحويل المناورة الأخيرة إلى هجوم فعلي.

الإداري

الإعلان عن تسريح دفعة من جنود الاحتياط قبل الحرب بأيام.

مصر تخفف من حالة الاستعداد، ولا نية للحرب في المدى القريب.

تضليل أجهزة الاستخبارات المعادية بشكل كامل في اللحظات الأخيرة.

 

الاقتصادي

إظهار ضعف مصر الاقتصادي وعدم قدرتها على تحمل تكاليف الحرب.

مصر مفلسة وغير قادرة على تمويل عملية عسكرية واسعة.

إخفاء الدعم المالي وتخصيص الموارد سرًا للمجهود الحربي.

الإعلامي

إطلاق محطة إذاعية باللغة العبرية تبث موسيقى غربية ودعوات للسلام.

هناك تيارات مصرية تسعى للسلام، والجبهة الداخلية غير موحدة خلف خيار الحرب.

تخدير الرأي العام الإسرائيلي وخفض حالة التأهب النفسي.

 

ثالثًا- هندسة النصر..قهر الحواجز وإعادة تعريف ساحة المعركة:

لم تكن عبقرية أكتوبر مجرد خداع وتخطيط فقط، بل كانت أيضاً ملحمة هندسية أثبتت أن العقل المصري قادر على إيجاد حلول مبتكرة لأعقد التحديات. لقد واجهت مصر الحواجز التكنولوجية والعسكرية للعدو بحلول هندسية بسيطة ومبتكرة، مما يمثل فلسفة عسكرية تقوم على إيجاد حلول غير متوقعة لنقاط ضعف العدو بدلاً من مواجهة قوته بشكل مباشر.

مفتاح النصر.. الضربة الجوية الحاسمة:

في تمام الساعة الثانية وخمس دقائق من بعد ظهر السادس من أكتوبر، انطلقت أكثر من 220 طائرة مقاتلة وقاذفة مصرية في موجة هجومية منسقة، لتعلن بدء ملحمة العبور. كانت هذه الضربةبمثابة المفتاح الذي فتح أبواب النصر. حلّقت النسور المصرية على ارتفاعات منخفضة للغاية، مع التزام صمت لاسلكي تام، لتفاجئ العدو بشكل كامل، واستهدفت الضربة بدقة متناهية سلسلة من الأهداف الحيوية في عمق سيناء، شملت المطارات الرئيسية كمطار المليز وبير تمادة، ومراكز القيادة والسيطرة، ومحطات الرادار والتشويش الإلكتروني، وبطاريات الدفاع الجوي. كان أول الأهداف التي دُمرت هو مركز القيادة الرئيسي للعدو في "أم مرجم"، والذي قُصف بصاروخ بعيد المدى أُطلق من قاذفة ثقيلة حتى قبل أن تعبر الطائرات المصرية القناة.

حققت الضربة نجاحاً فاق كل التوقعات، حيث تم تدمير ما يزيد عن 90% من الأهداف المحددة، لقد أدت هذه البداية المذهلة إلى إحداث حالة من الشلل والارتباك في صفوف القيادة الإسرائيلية، وأفقدت العدو توازنه في الساعات الأولى الحاسمة من الحرب. وبفضل هذا النجاح الساحقبدأت ملحمة تحطيم خط بارليف.

تحطيم أسطورة خط بارليف:

وُصف العدو خط بارليف بأنه أقوى خط دفاعي في التاريخ الحديث، ولم يكن مجرد حصون، بل كان منظومة دفاعية متكاملة تعتمد على مانعين رئيسيين: قناة السويس، والساتر الترابي الهائل الذي أقامته إسرائيل على الضفة الشرقية بارتفاع يصل إلى 20 متراً وبميل حاد يجعل تسلقه مستحيلاً. ساد الاعتقاد بأن اختراق هذا الساتر سيحتاج إلى قنابل نووية تكتيكية أو سيستغرق أياماً تحت نيران العدو.

لكن العقل المصري توصل إلى فكرة عبقرية في بساطتها. فبدلاً من المتفجرات، تقرر استخدام قوة المياه. تم اختبار الفكرة في 322 تجربة عملية على ساتر ترابي مماثل للتأكد من فاعليتها. واستُوردت مضخات مياه نفاثة قوية من ألمانيا وبريطانيا تحت ستار استخدامها في مشاريع زراعية وإطفاء الحرائق. وفي يوم العبور، وجهت القوات المسلحة الباسلة خراطيم المياه الجبارة إلى جسد الساتر الرملي، فانهار على الفور، فاتحاً الطريق أمام المدرعات المصرية للعبور للأرض المقدسة في سيناء.

ملحمة العبور وبناء الجسور:

أدى سلاح المهندسين العسكريين دوراً بطولياً يستحق أن يُدرّس في أرقى الأكاديميات العسكرية. ففي غضون ساعات قليلة وتحت قصف العدو، تمكن سلاح المهندسين العسكريين من فتح 70 ثغرة في الساتر الترابي، وتشييد 10 كباري ثقيلة، و5 كباري خفيفة للخداع، وتجهيز وتشغيل 35 معدية. كانت هذه العملية الهندسية العملاقة صدمة للعدو الذي كان يعتقد، كما ورد في مذكرات قادته، أن المصريين يحتاجون "لسلاح المهندسين الأمريكي والسوفيتي مجتمعين" لإنجاز مثل هذه المهمة.  

ولم يقتصر الإنجاز على سرعة التنفيذ، بل شمل ابتكارات فريدة، حيث تم تصنيع أكثر من 60% من معدات العبور محلياً، كما طُورت ستائر عائمة خاصة لحماية الجسور من الألغام البحرية.

إطفاء "الجحيم"..سلاح النابالم:

كانت إحدى العقبات التي زرعها العدو على طول القناة هي أنابيب لنقل سائل النابالم الحارق، بهدف إشعال سطح مياه القناة وتحويلها إلى جحيم لأي قوات تحاول العبور. لكن في ليلة 5 أكتوبر، تسللت مجموعات من أبطال قوات الصاعقة والمهندسين في عملية سرية بالغة الفدائية، وتمكنت من تحديد أماكن الأنابيب وسد فتحاتها بمواد خاصة، مبطلةً مفعول هذا السلاح وتحييده تماماً دون أن يشعر العدو بشيء.

"حائط الصواريخ".. السماء المحرمة:

لم تكتفِ مصر بقهر الحواجز المادية، بل أعادت تعريف قواعد الاشتباك في ساحة المعركة الحديثة. حيث طورت استراتيجية ذكية تقوم على "تحييد" كل نقاط قوة العدو الرئيسية.

لذلك، كان بناء "حائط الصواريخ" شرطاً أساسياً لاتخاذ قرار الحرب. وخلال حرب الاستنزاف، وتحت قصف جوي متواصل، بنى رجال الدفاع الجوي والمهندسون الأبطال منظومة دفاع جوي منيعة، تتكون من شبكة صواريخ سام-2 وسام-3 وسام-6، مدعومة بأنظمة رادار متطورة.

وفي الساعات الأولى للحرب، أثبت الحائط فعاليته بشكل مذهل. تحولت سماء الجبهة إلى منطقة محرمة على الطيران الإسرائيلي، حيث تساقطت طائرات الفانتوم والسكاي هوك بالعشرات. وأجبرت الخسائر الفادحة قائد القوات الجوية الإسرائيلية على إصدار أمر لطائراته بعدم الاقتراب من قناة السويس لمسافة تقل عن 15 كيلومتراً. لقد خلقت هذه المنظومة "مظلة حماية جوية" آمنة عبرت تحتها القوات المصرية، مُحيدةً بذلك أحد أهم أسلحة العدو.

جيش من صائدي الدبابات:

كانت القوة الضاربة الثانية للعدو هي سلاح المدرعات. وركزت الخطة المصرية على دراسة نقطة ضعفها، وتم تسليح موجات المشاة الأولى التي عبرت القناة بآلاف الصواريخ المحمولة المضادة للدبابات (مثل "ماليوتكا" و"ساجر")، ومع بداية الهجمات الإسرائيلية المضادة، فوجئت دبابات العدو بأنها تواجه جيشاً من "صائدي الدبابات". تحول كل جندي مشاة إلى قوة نارية قادرة على تدمير دبابة، مما أدى إلى تدمير مئات الدبابات الإسرائيلية في الأيام الأولى للحرب. لقد كانت هذه ثورة تكتيكية أثبتت أن جندي المشاة المدرب والمسلح بصاروخ موجه يمكنه أن يهزم الدبابات متقدمة التسليح، مما قلب موازين القوى التقليدية في ساحة المعركة.

النصر على الأرض وفي المفاوضات:

خلق النجاح العسكري المصري واقعاً جديداً على الأرض، وأجبر القوى العظمى على التدخل. ففي 22 أكتوبر، أصدر مجلس الأمن قراره رقم 338، داعياً إلى وقف فوري لإطلاق النار والبدء في تنفيذ القرار 242، واستثمرت مصر هذا الواقع الجديد الذي فرضته ببراعة، بداية من مفاوضات "الكيلو 101" العسكريةالتي مهدت الطريق لاتفاقيات فض الاشتباك، وكانت هذه المفاوضات بداية لعملية سياسية طويلة، استثمرت فيها مصر نصرها العسكري كورقة ضغط أساسية، وصولاً إلى اتفاقية كامب ديفيد ثم معاهدة السلام في مارس 1979، والتي توجت باستعادة كامل السيادة المصرية على كل شبر من سيناء.

ختاماً، فإن الحديث عن هذه الملحمة الوطنية المتكاملة لا تكفيها آلاف المجلدات من الوصف والتفصيل والتعمق، وتبقي عبقريةملحمة النصر في السادس من أكتوبر في كونها ملحمة وطنية متكاملة، تلاحمت فيها عبقرية الرؤية السياسية الثاقبةوالتخطيط العسكري الدقيق مع الخداع الاستراتيجي المبتكر، والدعم الشعبي غير المحدود،فلم تكن مجرد حرب لاسترداد الأرضالمصرية فقط، بل كانت حرباً لاسترداد الكرامة والعزة والكبرياء لمصر والعرب جميعاً.

لقد استعادت مصر بهذه الحرب مكانتها كقوة رائدة في المنطقة، وغيرت التوازن الاستراتيجي في إقليم الشرق الأوسط إلى الأبد. والأهم من ذلك، أنها تركت إرثاً خالداً للأجيال القادمة. بأن الأمة المصرية قادرة دوماً على النهوض وقهر المستحيل، وأن "الحق الذي يستند إلى القوة تعلو كلمته وينتصر في النهاية".

وستظل حرب أكتوبر 1973نموذجاً عالمياً فريداً في كيفية استخدام دولة لمواردها المحدودة بعبقرية لتحقيق أهداف استراتيجية كبرى أعادتمن خلالها تعريف فن الحرب والدبلوماسية في العصر الحديث.

المصادر:

* وزارة الدفاع المصرية. وثائق حرب أكتوبر ١٩٧٣ (أسرار الحرب) - فض الإشتباك وإنسحاب القوات الإسرائيلية.

https://www.mod.gov.eg/ModWebSite/DocumentDetails.aspx?id=5

* لواء د. سمير فرج، المصري اليوم. كيف حقق المصريون «المفاجأة» فى 6 أكتوبر ١٩٧٣؟.

https://www.almasryalyoum.com/news/details/1521416

* لواء أ.ح / محمد الغباري، مجلة السياسة الدولية. حرب أكتوبر 1973.. دروس وعبر (1-4).

https://www.siyassa.org.eg/News/19695.aspx

 *لواء. أ.ح.د/ عز الدين عبد الرحمن عوف، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية. تداعيات حرب أكتوبر 1973 على نظرية الأمن الإسرائيلي.

https://ecss.com.eg/48471

* لواء. أ.ح.د/ عز الدين عبد الرحمن عوف، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية. معركة رأس العش: من بطولات الصاعقة المصرية في حرب الاستنزاف

https://ecss.com.eg/48478/

 * لواء طيار أ. ح/ د. عماد عبد المحسن منسى، مجلة السياسة الدولية. أعمال القتال الرئيسية للقوات المسلحة فى حربي الاستنزاف وأكتوبر. https://www.siyassa.org.eg/News/19696.aspx

* الجمسي، م. ع. (2023). مذكرات المشير الجمسي: يوميات مقاتل في حرب أكتوبر ١٩٧٣. دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع.

* محمد منصور، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية. خطة الخداع الاستراتيجي في حرب أكتوبر 1973: عبقرية التخطيط ودقة التنفيذ. https://ecss.com.eg/48402/

* رامي محي الدين. (2023، 28 سبتمبر). حرب الاستنزاف.. هزيمة 67 كانت صدمة والمعارك كانت بروفة نصر أكتوبر. اليوم السابع.

https://www.youm7.com/story/2023/9/28/%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%86%D8%B2%D8%A7%D9%81-%D9%87%D8%B2%D9%8A%D9%85%D8%A9-67-%D9%83%D8%A7%D9%86%D8%AA-%D8%B5%D8%AF%D9%85%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D9%83-%D9%83%D8%A7%D9%86%D8%AA-%D8%A8%D8%B1%D9%88%D9%81%D8%A9-%D9%86%D8%B5%D8%B1/6318908

* نوال سيد عبدالله. (2024، 6 أكتوبر). الاستراتيجية الدبلوماسية والعسكرية لمصر.. 5 دروس مستفادة من حرب 6 أكتوبر. صدى البلد. https://www.elbalad.news/6344304

 * محمد عبدالخالق، حازم أبودومة (2023، 16 أكتوبر). ملف خاص «حائط الصواريخ» أسطورة مصرية قطعت الذراع الطولى للعدو.. الدفاع الجوى.. سيادة على الأرض وريادة فى الجو. الأهرام اليومي. https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsPrint/917648.aspx

 * الجمهورية أون لاين. (التاريخ غير متوفر). في ذكرى إنتصارات أكتوبر.. سلاح "المهندسين العسكريين" المفاجأة التي أذهلت العدو. https://www.gomhuriaonline.com/Gomhuria/1142172.html

 * أ.د. رضا عوض، روز اليوسف اليومي. (2024، 16 أكتوبر). حائط الصواريخ المنيع ونصر أكتوبر العظيم.

https://daily.rosaelyoussef.com/434578/%D8%AD%D8%A7%D8%A6%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D9%8A%D8%B9-%D9%88%D9%86%D8%B5%D8%B1-%D8%A3%D9%83%D8%AA%D9%88%D8%A8%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B8%D9%8A%D9%85

* محمد إبراهيم، صدى البلد. مفاوضات الحرب والسلام.. كيف استردت مصر سيناء كاملة من إسرائيل؟https://www.elbalad.news/6716699

* محمد ابراهيم (2024، 2 أكتوبر). بطولات الدفاع الجوي في حرب أكتوبر.. إسقاط طائرات العدو وتحطيم أسطورته على قناة السويس. صدى البلد. https://www.elbalad.news/6333945

 * دينا العناني، الجمهورية أون لاين. خبراء: مكاسب سياسية غير مسبوقة لمصر من نصر أكتوبر.

https://www.gomhuriaonline.com/Gomhuria/1529663.html

* مؤسسة الدراسات الفلسطينية. وثائق: القرار 338.

https://digitalprojects.palestine-studies.org/ar/resources/documents/?field_doc_keywords_tid=%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1%20338

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. محمد منير غازى

    د. محمد منير غازى

    باحث فى الدراسات السياسية والاتصال السياسى