تحليلات

الذكاء الاستراتيجي والخداع العملياتي.. قراءة في دروس حرب أكتوبر 73

طباعة

في صباح السادس من أكتوبر عام 1973، كان المشهد على ضفتي قناة السويس يوحي بسكونٍ خادع، كأن الزمن تجمّد عند لحظةٍ رماديةٍ بين الحرب والسلام. الجنود الإسرائيليون في مواقعهم يراقبون المجرى المائي بطمأنينةٍ مسترخية، فيما كانت الصحف في تل أبيب تُكرّر ثقةً مفرطة بأن العرب لا يملكون الجرأة ولا القدرة على خوض حرب جديدة. وفي المقابل كانت القاهرة تعيش يوما عاديا من أيام رمضان، تمتلئ شوارعها بإيقاع الحياة الهادئة، غير مدركة أن خلف هذا الهدوء كانت تُدار أعقد عملية تخطيط استراتيجي في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي.

ذلك السكون الظاهري كان يخفي خلفه عاصفة فكرية وعسكرية غير مسبوقة، إذ كانت العقول المصرية تعمل في صمتٍ بالغ لإعادة تعريف معادلة القوة في المنطقة. لم تكن حرب أكتوبر مجرد مواجهة عسكرية محدودة، بل كانت تحولًا نوعيًا في الفكر الاستراتيجي العربي، حيث أصبح العقل والمعلومة عنصرين متكاملين مع المدفع والدبابة، وأصبح القرار السياسي والعسكري ثمرة عملٍ استخباراتي طويل المدى، لا نتيجة انفعالٍ آني. لقد نجحت القيادة المصرية في تحويل الحرب من صدامٍ تقليدي إلى معركة وعيٍ وإدراك، تُدار فيها المعركة على مستوى العقول قبل أن تبدأ على مستوى الجبهات.

وما يجعل تجربة أكتوبر فريدة في تاريخ الحروب المعاصرة، أنها قدّمت نموذجًا متكاملًا في توظيف الذكاء الاستراتيجي والخداع العملياتي كأداتين متداخلتين لا يمكن الفصل بينهما. الذكاء الاستراتيجي هنا لم يكن مجرد جمعٍ للمعلومات أو تحليلٍ للوقائع، بل كان إدارةً ذكية للمعرفة تُترجم المعلومة إلى رؤية، والرؤية إلى قرارٍ يُعيد صياغة الواقع. أما الخداع العملياتي فكان الوجه الميداني لتلك العبقرية الفكرية، فنٌّ يُخفي الحقيقة بقدر ما يُظهر الوهم، ويُضلّل الخصم دون أن ينطق بالكذب، حتى يُقنعه أن ما يراه هو الواقع ذاته.

لقد أعاد المصريون في حرب أكتوبر تعريف مفهوم النصر ذاته. فالنصر لم يعد يُقاس بعدد الكيلومترات المحرّرة أو حجم الخسائر في صفوف العدو، بل بمدى قدرتك على إدارة المفاجأة الاستراتيجية وإرباك وعي خصمك. كانت المفاجأة لا في توقيت الحرب فقط، بل في فلسفة إدارتها: كيف يُخدع عدوٌ يظن أنه يعرف كل شيء؟ وكيف تُدار معركةُ استعادة الأرض بوسائل العقل قبل وسائل السلاح؟

وهكذا تحوّلت حرب أكتوبر إلى مدرسة استراتيجية متكاملة، امتزج فيها الإعداد العسكري بالتحليل الاستخباراتي، والتمويه الميداني بالدهاء السياسي، حتى أصبحت نموذجًا يدرس بالأكاديميات العسكرية في الشرق والغرب على حدٍّ سواء. إنها تجربة أكدت أن التفوق لا يُبنى على القوة المجردة، بل على حسن توظيف المعرفة في خدمة الإرادة الوطنية.

ومن هذا المنطلق، تأتي هذه الدراسة لتقدّم قراءة تحليلية في دروس حرب أكتوبر من زاوية الذكاء الاستراتيجي والخداع العملياتي، بوصفهما ركيزتين أساسيتين في تحقيق المفاجأة والنصر. فالغاية ليست مجرد استعادة لحظةٍ من الماضي، بل فهم كيفية تشكّل تلك اللحظة لتغدو مرجعًا فكريًا في إدارة الصراع وصناعة القرار الأمني، في عالمٍ باتت فيه المعلومة سلاحًا، والخداع أداةً من أدوات تحقيق الردع والمفاجأة.

المحور الأول: مفهوم الذكاء الاستراتيجي والخداع العملياتي:

حين نتأمل تجربة حرب أكتوبر من منظورٍ استراتيجي، ندرك أن النصر الذي تحقق لم يكن وليد اللحظة، بل ثمرة تراكمٍ معرفي وتخطيطٍ استخباراتي طويل الأمد. فقبل أن تتحرك الدبابات وتعلو أصوات المدافع، كانت العقول المصرية قد خاضت معركة من نوعٍ آخر، معركة الفهم العميق للعدو، وتقدير الموقف بدقة، وإدارة المعلومات بوعيٍ واحتراف. ومن هنا تتجلى أهمية الذكاء الاستراتيجي كأحد الأعمدة الرئيسية في بنية النصر.

الذكاء الاستراتيجي، في جوهره، هو القدرة على تحويل المعلومة إلى رؤيةٍ شاملة، تُسهم في صياغة القرار السياسي والعسكري بصورةٍ متكاملة. إنه ليس مجرد نشاطٍ لجمع البيانات أو رصد التحركات، بل هو منظومة تفكيرٍ تتفاعل فيها المعلومة مع التحليل والتقدير، ليُعاد إنتاجها على هيئة استراتيجية متكاملة. وقد برز هذا المفهوم بوضوح في الإعداد المصري لحرب أكتوبر، حيث تمكّن صانع القرار من فهم البيئة الإقليمية والدولية بدقة، واستثمار المعطيات الاستخباراتية لتحديد التوقيت، وتقدير ردود الأفعال المحتملة، وبناء الخطط على أساس علمي لا عاطفي.

أما الخداع العملياتي فهو الامتداد الطبيعي لهذا الذكاء، والوجه التنفيذي للدهاء الاستراتيجي في ميدان الصراع. فحين يكون الهدف من المعلومة هو بناء الرؤية، فإن الهدف من الخداع هو إرباك رؤية الخصم وتقييد قدرته على اتخاذ القرار الصحيح. الخداع ليس كذبًا أو تضليلًا فوضويًا، بل هو فنٌّ منضبط يقوم على توجيه وعي العدو نحو مسارٍ خاطئ دون أن يشعر بأنه خُدع. إنه إدارةٌ دقيقة للظاهر والباطن: ما يُرى وما يُخفى، ما يُعلن وما يُضمر.

في المفهوم العسكري الحديث يُنظر إلى الخداع العملياتي باعتباره جزءًا من منظومة القيادة والسيطرة، لا مجرد تكتيكٍ ميداني. فنجاحه يعتمد على تزامن الجهد السياسي، والإعلامي، والاستخباراتي، والعسكري، ضمن إطارٍ موحدٍ يخدم هدفًا استراتيجيًا واحدًا. وقد برع المخطط المصري في حرب أكتوبر في تحقيق هذا التناغم، إذ تداخلت الإجراءات الميدانية،كالمناورات والتعبئة الجزئية،مع الرسائل السياسية والإعلامية الموجهة، لتشكّل معًا صورةً مموّهة تُقنع العدو بأن خيار الحرب غير وارد.

إن العلاقة بين الذكاء والخداع هي علاقة تكاملٍ لا تضاد. فالذكاء هو من يقرأ الواقع، والخداع هو من يعيد تشكيله في وعي الخصم. الأول يزرع البذور في أرض المعلومة، والثاني يحصد ثمارها في ميدان الوهم. ومن هنا جاءت عبقرية التخطيط المصري في الجمع بينهما، إذ أُحكمت السيطرة على تدفق المعلومات إلى الداخل والخارج، ورُسمت بدقةٍ الحدود بين ما يُقال وما يُخفى، حتى أصبح العدو يرى دون أن يُدرك، ويستنتج دون أن يُصيب.

لقد قدّمت حرب أكتوبر درسًا خالدًا في أن الذكاء الاستراتيجي والخداع العملياتي ليسا مجرد أدواتٍ عسكرية، بل منظومة فكرية لإدارة الصراع. فالنصر لا يتحقق فقط بتفوّق القوة، بل بقدرة القيادة على استثمار المعلومة، والتحكم في وعي الخصم، وصياغة بيئةٍ من الإدراك الموجّه. وهكذا تَحوّل الخداع من حيلةٍ ميدانية إلى سلاحٍ استراتيجي، وأصبح الذكاء أداة لإنتاج القوة وليس مجرد تابعٍ لها.

بهذه الرؤية يمكن القول إن العقل المصري، قبل أن يعبر القناة، كان قد عبر حاجز المفهوم العسكري الإسرائيلي، وانتصر في معركة الإدراك قبل أن تبدأ معركة النيران. وهذا ما جعل أكتوبر لحظةً فارقة في الفكر العسكري العالمي: نموذجًا لما يمكن أن تصنعه المعرفة حين تُدار بإرادةٍ وطنيةٍ واعية.

المحور الثاني: التخطيط المصري للخداع العملياتي:

لم يكن الخداع في حرب أكتوبر مناورةً جانبية، بل ركيزةً مركزية في البناء الاستراتيجي المصري. فحين قررت القيادة السياسية والعسكرية خوض الحرب، كان الهدف مزدوجًا: تحقيق المفاجأة الاستراتيجية وكسر ثقة العدو في قدرته على التنبؤ. ولأن إسرائيل كانت تمتلك جهازًا استخباراتيًا متطورًا يعتمد على الرصد الدقيق للمؤشرات، كان لا بد أن يُواجه هذا التفوق بتخطيطٍ أكثر تعقيدًا، قائمٍ على إدارة الوعي قبل إدارة النيران.

بدأت عملية الخداع في مراحلها الأولى من داخل مؤسسات صنع القرار المصري، حيث جرى تحديد الأهداف والمستويات المطلوبة للتضليل: من إخفاء النوايا الاستراتيجية، إلى تضبيب التحركات الميدانية، وصولًا إلى خلق بيئةٍ من "الاطمئنان الزائف" داخل العقل الإسرائيلي.

لقد أدرك المخطط المصري أن الخداع لا يقوم على اختراع الأكاذيب، بل على ترسيخ أنماطٍ من السلوك الظاهري المتكرر تجعل العدو يرى كل جديدٍ امتدادًا لما اعتاده سابقًا. فالمناورات العسكرية التي أجريت بين 1972 و1973، رغم أنها كانت استعدادًا حقيقيًا، عُرضت باعتبارها تدريبات روتينية. أما حشد القوات على الجبهة، فقد تم في إطارٍ مألوفٍ تكرّر مراتٍ عدة، حتى ترسخت في الذاكرة الإسرائيلية كأنها جزء من "روتينٍ تدريبي موسمي".

وفي المستوى السياسي والإعلامي، تم بناء سردية موازية تُطمئن العدو وتُضلّل المراقب الدولي. فقد صدرت تصريحات رسمية تؤكد التزام مصر بخيار السلام، وتكثفت اللقاءات الدبلوماسية مع أطرافٍ غربية لتكريس صورة القيادة المصرية المعتدلة.

كما أُطلقت إشارات إعلامية مدروسة عن الإعداد الاقتصادي الداخلي وعن تركيز الدولة على التنمية لا الحرب. كل ذلك أسهم في صناعة مناخٍ إدراكي يُقلل من احتمالية الإقدام المصري على عملٍ عسكري، وهو ما كان يُعيد إنتاجه الإعلام الإسرائيلي ذاته في خطابه اليومي، مدفوعًا بارتياحٍ زائف.

أما على الصعيد العملياتي فقد برعت القيادة العسكرية في تمويه الجبهة وإدارة الصورة البصرية أمام أجهزة الرصد الإسرائيلية.فالمعدات الثقيلة نُقلت في وضح النهار، والكباري التدريبية أُقيمت ثم فُككت عدة مرات، والجنود منحوا إجازاتٍ منتظمة في الأيام الأخيرة قبل الحرب، حتى بدت التحركات المصرية طبيعية تمامًا. هذا الاستخدام الذكي للروتين والاعتياد جعل لحظة التحول الحقيقية في السادس من أكتوبر تبدو خارج كل التوقعات المنطقية.

ولم يكن الخداع الميداني معزولًا عن الخداع السياسي، فقد صُمم إطار مؤسسي موحّد للرسائل المضللة، تتكامل فيه أدوار القيادة السياسية، والمخابرات العامة، والإعلام الرسمي، والسفارات المصرية في الخارج. بل وصل التنسيق إلى حدّ تسريب معلوماتٍ محددة عبر قنوات دبلوماسية أجنبية لتأكيد انشغال مصر بالتسوية السلمية، في الوقت الذي كانت فيه الجيوش تتأهب للعبور. وهكذا تحولت "الشفافية المقصودة" إلى غطاءٍ ذكيٍّ للسرية المطلقة.

وقد اتّسم التخطيط المصري بالخداع بدرجةٍ نادرة من الانضباط المؤسسي، إذ لم يُترك أي عنصرٍ للصدفة أو الارتجال.كانت كل رسالة تُرسل، وكل حركةٍ تُنفّذ، وكل تصريحٍ يُذاع جزءًا من منظومةٍ أشمل تهدف إلى تحقيق الغاية الكبرى: إقناع إسرائيل بأن "الحرب غير ممكنة". ومن المدهش أن هذا الإقناع لم يُبنَ على كذبةٍ واحدة، بل على تراكمٍ من الحقائق الجزئية المُوجَّهة التي رسمت لوحةً كاملة من الوهم الواقعي.

لقد أثبتت خطة الخداع المصرية أن الحروب الحديثة لا تُحسم فقط بالعتاد أو الشجاعة، بل بإدارةالوعي الجمعي للعدو.فالمعركة لا تدور فقط في الميدان، بل في إدراك الخصم لما يجري في الميدان.وبهذا المعنى فإن السادس من أكتوبر لم يكن لحظة عبورٍ عسكري فحسب، بل نقطة انتصارٍ استخباراتي على مستوى الإدراك.لقد هُزمت إسرائيل في عقلها قبل أن تُهزم في خنادقها، لأن المصريين نجحوا في إقناعها أن ما سيحدث مستحيل، حتى لحظة حدوثه.

وهكذا تبرهن التجربة المصرية أن الخداع العملياتي، حين يُخطط له بعقلٍ استراتيجي وبمشاركة مؤسسية شاملة، يمكن أن يتحول من وسيلةٍ تكتيكية إلى أداةٍ استراتيجيةٍ لتغيير مسار التاريخ.

المحور الثالث: إخفاق الاستخبارات الإسرائيلية وبنية "المفهوم" الذهنية:

في أسس صناعة القرار الاستخباراتي تكمن افتراضاتٌ تعمل كعدساتٍ يرى من خلالها المحلّل العالم، تلك العدسات قد تكون صالحة لتفسير جزءٍ من الواقع، لكنها قد تتحوّل إلى قيد كلما تشبّثت بها أجهزة التقدير. لدى المؤسسة الاستخباراتية الإسرائيلية تشكّل مثل هذا الإطار المرجعي فيما عُرف بـ "المفهوم" مجموعة من الفروض التي فرضت بأن الدول العربية، وبخاصة مصر وسوريا، لن تخوضا حربًا شاملة ما لم يُتحقق لهما تفوق جوي أو قدرة مشتركة تقوّض التفوق الإسرائيلي. هذا "المفهوم" لم يَكُن مجرد نتيجة تحليل منفصل، بل أصبح أيديولوجية استخباراتية تهيمن على عملية القراءة والتفسير، فتنهك المرونة الذهنية الضرورية للتعامل مع مؤشراتٍ شاذة أو متناقضة.

إنّ أولى مظاهر فشل الاستخبارات الإسرائيلية ليس في عجزها عن مشاهدة المؤشرات، بل في عجزها عن ترجمتها خارج سياق "المفهوم". فالأقمار الصناعية رصدت تدريبات مكثفة، وتحركات لوجستية غير نمطية، واستدعاءات للاحتياط، ومع ذلك فسّرت هذه المؤشرات في إطار الروتين التدريبي والمناورات الاعتيادية، لأن الإطار المرجعي جعل من تفسير التحرّكات خارج الفرضية عملا نَادِرًا ومشبوهًا. هنا يبرز دور الانحياز التأكيدي(confirmation bias) تمّ انتقاء الفروض التي تؤكد "الثبات" ورفض أو تقليل قيمة الأدلة التي تنبئ بمتغيرات جوهرية. ولعلّ ما عمّق هذه المشكلة هو تداخل العوامل السياسية والثقافية مع التحليل الاستخباراتي، حيث عزّزت حالة اليقين القومي الإسرائيلية من وقع "المفهوم" على صانعي القرار.

ثانيًا- أتى الخداع المصري ليس عبر كذبةٍ واحدة، وإنما عبر بناء سردية كلية أتقنت استغلال نقاط الضعف المعرفية في "المفهوم". فبتكرار إجراءات اعتيادية،نقل معدات في وضح النهار، إقامة كبارٍ تدريبية تُفكّ وتُعاد، وتصريحات دبلوماسية تؤكّد الانشغال بالسلام،قدّم التخطيط المصري مجموعةً من دلائلٍ تبدو منفصلة لكنها تُجمع في عقل المراقب الإسرائيلي إلى "برهان" على عدم النيّة العدائية. لقد غذّت هذه الحقائق الجزئية فرضية السلام والروتين، فحوّلت إشارات الخطر إلى شذوذٍ غير مهم، ومن ثم أوقعت المؤسسة الاستخباراتية فيما يمكن وصفه بـ "عمى المفهوم": رؤيةٌ كاملة لا ترى نفسها تسيء الفهم.

ثالثًا- إنّ الانحراف لم يكن فرديًا بل مؤسسيا. فالبنية التنظيمية للاستخبارات الإسرائيلية، من طرق جمع المعلومات إلى آليات تمريرها وتحليلها، كانت منظمة حول فرضية مركزية واحدة، مما أدّى إلى تآكل قنوات النقد الداخلي وإضعاف آليات إعادة التقييم. وفي لحظة الحسم لم تتوقّف المؤسسة عن العمل تقنيًا بروزًا فحسب، بل توقفت عن ممارسة أداةٍ أساسية للاستخبارات الفاعلة: المرونة الفكرية. لقد ثبت أن الأجهزة باهرة في التكنولوجيا ولكن عاجزة عن تحرير نفسها من نموذج ذهني ملزم، فانبسطت أمامها مفاجأة مدروسة.

وأخيرًا- الدرس الاستراتيجي من إخفاق الأمانة الاستخباراتية الإسرائيلية يمتد إلى الحاضر: ليست المسألة جمعًا أكثر للمعلومة فحسب، بل إنشاء آليات تحليلية قادرة على التشكيك بالافتراضات المؤسسة، وإدراج احتمالات المفاجأة في حسابات السياسات. إن مرونة الفهم، والقدرة على اختبار الفرضيات، والحوكمة التي تشجّع على نقد الفروض الأساسية، هي التي تحمي الدولة من "هزيمة المفهوم" قبل هزيمة الخطوط الأمامية. وإذا كان أولئك الذين خططوا لأكتوبر قد نجحوا في كسر يقينيات العدو عبر إدارة الوعي، فإن على الأجهزة الاستخباراتية الحديثة أن تتعلّم كيف تحصّن نفسها ضد تحوّل يقينياتها إلى أصفاد تحجب عنها رؤية الحقيقة.

المحور الرابع: الدروس المستفادة للأمن القومي:

حين نقرأ حرب أكتوبر بعين الباحث في الأمن القومي، لا تبدو مجرد لحظة انتصار عسكري، بل تحول في العقل الاستراتيجي العربي. لقد مثّلت تلك الحرب نقطة انطلاقٍ لفكرٍ جديد في إدارة الصراع، قوامه أن المعلومة قد توازي المدفع في القوة، وأن الإدراك الاستراتيجي هو سلاح الردع الأذكى. وإذا كانت نتائج الحرب قد تجلّت في استعادة الأرض والكرامة، فإن إرثها الأعمق ظلّ فيما علّمته من دروس دائمة عن بناء القوة الوطنية وتحصين الدولة من الداخل والخارج.

أول هذه الدروس أن القوة الحقيقية لا تُقاس بما تملكه الجيوش من سلاح، بل بما تمتلكه العقول من وعيٍ بالمعلومة. فالتجربة المصرية برهنت أن الذكاء الاستراتيجي حين يُدار بتكاملٍ مع القرار السياسي والعسكري، يصبح قوةً مضاعفة تفوق أثر أي ترسانة تقليدية. لقد استطاعت مصر، من خلال التناغم بين مراكز التحليل الاستخباراتي وغرف القيادة، أن تجعل الدولة تعمل كجسدٍ واحد، تُوجّه فيه الإرادة السياسية القرار العسكري، ويستند القرار إلى معرفةٍ دقيقة بالعدو والسياق الدولي. وهكذا وُلد مفهوم جديد للأمن القومي العربي: الأمن بوصفه نتاجًا لتفاعل العقول والمؤسسات، لا مجرد امتلاكٍ للأدوات.

وثاني الدروس أن الإرادة الوطنية الواعية هي الوقود الحقيقي لأي نجاح استراتيجي. فقد أثبتت حرب أكتوبر أن الخداع العملياتي لم يكن ليتحقق لو لم تكن الأمة كلها، من القيادة إلى المواطن، جزءًا من منظومة السرّ والانضباط. التزام الصمت، وكتمان النوايا، والانصياع التام للسرية، كانت تعبيرًا عن وعي جمعي يرى في النصر مهمة وطنية لا عملا عسكريًا فحسب. تلك الحالة من الانصهار بين الإرادة الشعبية والعقل المؤسسي هي التي منحت مصر القدرة على مفاجأة خصمٍ ظنّ نفسه محصنًا ضد المفاجآت.

أما الدرس الثالث فيكمن في أن الجمود الذهني أخطر على الأمن القومي من نقص الموارد. فحين تتحول الفرضيات إلى مسلمات لا تُراجع، يصبح الجهاز الأمني نفسه عُرضة للانهيار من الداخل، كما حدث في الحالة الإسرائيلية. ومن ثم فالتحدي الحقيقي أمام الدول الحديثة ليس فقط في تطوير أدوات جمع المعلومات، بل في تطوير آليات تحليلها بشجاعةٍ نقدية، تُراجع الثابت وتختبر الممكن وتُعيد تعريف الخطر في ضوء متغيرات الواقع. الأمن القومي لا يُبنى على الثقة العمياء، بل على الشك المنهجي والإدراك الديناميكي.

ثم يأتي الدرس الرابع، وهو أن الخداع لم يعد حكرًا على الميدان العسكري. فكما استخدم المصريون الخداع العملياتي لتضليل العدو في ساحة القتال، تُستخدم اليوم تقنيات الخداع المعلوماتي في ساحاتٍ جديدة: الفضاء الرقمي، والإعلام، والاقتصاد، والسياسة. لقد انتقل ميدان الحرب إلى فضاءاتٍ لا تُرى، تُدار فيها المعارك بالبيانات والصور والروايات أكثر مما تُدار بالدبابات والطائرات. ومن ثم فإن روح أكتوبر، القائمة على المفاجأة الذكية وإدارة الوعي، تظل صالحة لتوجيه استراتيجيات الأمن في عصر "الذكاء الاصطناعي" والحروب الهجينة.

إن ما فعله المصريون في أكتوبر كان أكثر من عبورٍ جغرافي، كان عبورًا ذهنيًا من ثقافة الانفعال إلى ثقافة التخطيط، ومن ردّ الفعل إلى المبادرة. لقد أثبتوا أن الدفاع عن الأمن القومي لا يبدأ من الجبهة، بل من المدرسة التي تُخرّج العقول المفكرة، ومن مؤسسات الدولة التي تُحسن قراءة التهديدات في بعدها الشامل، السياسي، والاقتصادي، والإعلامي، والتكنولوجي. بذلك تحوّلت أكتوبر إلى نموذجٍ للتكامل بين أدوات الدولة: من الاستخبارات إلى الإعلام، ومن السياسة الخارجية إلى الجيش، في منظومةٍ متماسكة تُدير المفاجأة لا تتلقّاها.

وفي النهاية، يتجلى جوهر الدرس الأكبر: أن إدارة الصراع ليست فنًا في استخدام القوة فحسب، بل فنٌّ في استخدام المعرفة لتوجيه القوة. وأنّ الدولة التي تُتقن صناعة المفاجأة قادرة على تحصين أمنها، لأنّها لا تسمح للعدو بأن يعرف متى ولا كيف تُفكّر. حرب أكتوبر لم تكن فقط استعادة للأرض، بل تأسيس لمدرسة فكرية في إدارة الوعي الاستراتيجي وصياغة الإرادة الوطنية، مدرسةٍ لا يزال على الأجيال العربية أن تواصل التعلم منها في زمنٍ تتغيّر فيه أدوات الحرب، لكن تظل فيه الفكرة،كما كانت دائمًا، هي السلاح الأقوى.

الخاتمة:

ليست حرب أكتوبر مجرد حدثٍ عسكري عبر الزمن، بل نقطة تحوّل في الوعي الاستراتيجي العربي، وميلاد مدرسة فكرية كاملة في إدارة الصراع. فقد أثبتت تلك الحرب أن الأمم لا تُقاس بعتادها، بل بقدرتها على تحويل الفكر إلى قوة، والمعلومة إلى سلاحٍ صامت يحسم المعركة قبل أن تبدأ. كان السادس من أكتوبر لحظة انتصارٍ مزدوج: انتصار الإرادة على الخوف، والعقل على الغرور، والتخطيط على المفاجأة.

لقد كشفت التجربة المصرية أن الذكاء الاستراتيجي والخداع العملياتي ليسا أدواتٍ ظرفية، بل فلسفة حكمٍ وإدارةٍ وسيادة. فمن يُحسن قراءة الواقع يستطيع أن يعيد تشكيله، ومن يُتقن إخفاء مقصده يملك زمام المبادرة في كل ميدان. لقد كان الخداع في أكتوبر ضربًا من العبقرية الأخلاقية، إذ لم يكن غايةً في ذاته، بل وسيلةً لتحقيق عدالةٍ مغتصبة، واستعادة كرامةٍ مهدورة. ومن ثمّ أصبح درسًا خالدًا في أن الصدق في الغاية لا يناقض الحيلة في الوسيلة، وأن الدفاع عن الوطن يقتضي أحيانًا أن تُضلّل العدو لتُعيد الحقيقة إلى مسارها.

إن ما ميّز حرب أكتوبر هو أنها نصرت الوعي على المفاجأة، فبينما ظنّ العدو أنه يرى كل شيء، كانت القيادة المصرية تُدير ما لا يُرى، حرب عقولٍ باردةٍ تسبق الحرب الساخنة على الأرض. ولذا فإن الانتصار لم يكن عبور القناة فحسب، بل عبور من الهزيمة النفسية إلى الثقة الكاملة بالذات، ومن التبعية الفكرية إلى القدرة على المبادرة والتصميم.

وإذا كان التاريخ يُقاس بما يتركه من أثرٍ في الوجدان والسياسة معًا، فإن أكتوبر تظلُّ أكثر من ذكرى نصر، إنها تجربة وعيٍ استراتيجي تؤكد أن من يملك الفكرة يملك المستقبل. فالدول لا تُهزم حين تُخترق حدودها، بل حين تُخترق عقولها، وحرب أكتوبر كانت إعلانًا أن العقل العربي لا يزال قادرًا على إنتاج المفاجأة وصياغة معادلات القوة من جديد.

اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، تبقى تلك الحرب مدرسةً مفتوحةً لكل من يريد أن يفهم كيف تُصاغ المعادلات الكبرى بين السياسة، والأمن، والمعلومات. إنها تذكّرنا بأن النصر الحقيقي لا يُقاس بعدد الأمتار المحرَّرة، بل بعدد المفاهيم التي جرى تحريرها من الخوف والجمود. لقد أنهت أكتوبر احتلال الأرض، لكنها أيضًا أنهت احتلال الفكرة، فكرة أن العدو لا يُهزم، وأن القدر لا يتبدّل.

إنها قصة أمةٍ آمنت بأن العقل هو الميدان الأول للنصر، وأن من يُحسن إدارة وعيه لا يُهزم مهما تبدّلت أدوات الحرب. وهكذا تبقى أكتوبر شاهدًا على أن الانتصار بالعقل أمتن من الانتصار بالسلاح، وأن الخداع حين يُدار بالذكاء والهدف النبيل يصبح أسمى صور الحكمة الاستراتيجية.

وفي النهاية، عاشت مصر، وعاشت قواتها المسلحة درع الأمة وسيفها، ورمز العزة والصمود، الحارسة لبوابة الوطن، وصاحبة البصمة الخالدة في صفحات تاريخه المجيد. تحيةٌ خالصة إلى شهدائنا الأبرار الذين كتبوا بدمائهم فجر النصر، فصاروا وجدان الوطن الحيّ الذي لا يشيخ، ونبض الكرامة الذي لا يخبو. ستبقى حرب أكتوبر شاهدًا خالدًا على أن مصر لا تُهزم ما دامت عقول أبنائها تفكر، وقلوبهم تؤمن، وسواعدهم تعمل، فالإيمان يصنع الإرادة، والإرادة تصنع التاريخ. وستظل مصر،  بما قدّمت من فكرٍ وتضحيةٍ وإيمان، منارةً للأمة، تُذكّرها بأن النصر يولد دائمًا من رحم الإرادة، وأن الشعوب التي تعرف قدر أوطانها لا تعرف الانكسار، لأن في قلبها روحًا لا تُقهر، وفي ذاكرتها نصرًا لا يُنسى.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. محمد إبراهيم حسن فرج

    د. محمد إبراهيم حسن فرج

    دكتوراه العلوم السياسية- كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،جامعة القاهرة