مقالات رأى

إزاحة مركز الثقل البحري وتجاوز نموذج الحرب التقليدية .. إطار ما بعد كلاوزفيتز

طباعة

في زمن تتآكل فيه الحدود بين الدولة والفواعل من دون الدول، وتتفكك فيه ثوابت الردع العسكري، يشهد البحر الأحمر تحولات دراماتيكية فرضت إعادة النظر في مفاهيم السيطرة البحرية وموازين القوى.

لم تعد القوة البحرية حكرا على حاملات الطائرات والأساطيل النظامية، بل أضحت الطائرات المسيرة، والغواصات المفخخة، والتهديدات غير المتوقعة أدوات لصياغة معادلات جديدة. في صدارة هذا التحول تقف جماعة أنصار الله (الحوثيون)، التي أزاحت مركز الثقل التقليدي، وفعّلت على نحو غير مألوف نظرية "الرجل المجنون" كسلاح ردع غير متكافىء، يتحدى منظومات الردع الكلاسيكية الموروثة من كلاوزفيتز.

ليست جماعة أنصار الله مجرد ميليشيا محلية، بل فاعل استراتيجي جديد يعيد تعريف القوة في المنطقة. منذ تدخل التحالف في اليمن عام 2015، تطورت الجماعة من قوة برية متمركزة في الجبال إلى لاعب متكامل في الصراع البحري، عبر تطوير ترسانة من الصواريخ المضادة للسفن، والألغام البحرية، والطائرات المسيرة، والغواصات المفخخة. لكن ما يميزها ليس فقط تنوع أدواتها، بل استخدامها غير الخطي لتلك الأدوات ضمن تكتيك يعتمد على الإرباك والغموض، بعيدا عن الأنماط المتوقعة.

في ظل هذا التحول، لم يعد البحر الأحمر مجرد ممر تجاري عالمي، بل مسرحا لتجريب أدوات حرب جديدة لا تخضع لمنطق التماثل أو الصدام المباشر، بل لمنطق "اللايقين" الذي يجعل من كل سفينة محتملة هدفا، ومن كل ساعة زمن محتملة نقطة إشعال. إن ما فعله الحوثيون هو إعادة هندسة ساحة المعركة عبر التحكم بالإيقاع، لا بالميدان فقط.

يشير كلاوزفيتز إلى أن مركز الثقل (Centre of Gravity) هو العنصر المحوري الذي إن تم ضربه تنهار قدرة العدو على المقاومة. في الحروب الكلاسيكية، يكون هذا المركز عادة هو العاصمة، أو الجيش النظامي، أو القيادة السياسية. لكن في الحرب البحرية، يصبح الممر المائي، أو الأسطول البحري، أو حتى تدفق التجارة الدولية، هو مركز الثقل.

من هذا المنظور، لم يهاجم الحوثيون الأساطيل الغربية مباشرة، بل أعادوا تعريف المركز ذاته، من خلال نقل مركز الثقل إلى تهديد متحرك وغير ثابت: كل سفينة ممكن أن تُهاجم، وكل نقطة عبور قابلة للنسف، وكل ممر مائي مرشح لأن يتحول إلى كمين. بذلك، لم يعد مركز الثقل البحري في باب المندب على سبيل المثال، بل في "الاحتمال الكامن للضربة"، أي في الخوف من المفاجأة نفسها. وهذا بحد ذاته تحول استراتيجي نوعي.

نشأت نظرية "الرجل المجنون" في ذروة الحرب الباردة، عندما سعى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى إقناع خصومه السوفييت بأنه غير عقلاني، وقد يقدم على استخدام الأسلحة النووية دون تحذير. كان الهدف خلق حالة من الردع الغامض، تقوم على الخوف من اللايقين، وليس من الحسابات العقلانية.

في السياق الحوثي، تم تفعيل هذه النظرية دون إعلان، ولكن بتطبيق شديد الحرفية: هجمات عشوائية التوقيت، غير منتظمة المكان، بلا نمط ظاهر، ودون تحمل علني للمسئولية دائما. هذا المزيج من الفوضى والانضباط، من الغموض والتهديد، يصنع صورة لفريق قادر على كل شيء، وغير خاضع للردع بالمفهوم الكلاسيكي. فكما أن الرجل المجنون لا يُردَع لأنه غير عقلاني، فإن الفاعل هنا لا يُردَع لأنه لا يتصرف ضمن منطق الردع ذاته، بل يعيد تعريفه وفق شروطه الخاصة.

في عالم ما بعد كلاوزفيتز، لم تعد الحرب مجرد "امتداد للسياسة بوسائل أخرى"، بل أصبحت وسيلة لخلق سياسة موازية من رحم الفوضى. الحرب لم تعد مجالا محصورا بالجيوش، بل أصبحت تقنية تواصل استراتيجي عبر الأفعال والرموز والصدمات الإعلامية. الجماعات غير الدولية، وعلى رأسها الحوثيون، تجاوزت نموذج الحرب التقليدية، ودخلت حقل الحرب النفسية والهندسة الإدراكية للخصم.

إن السلوك الحوثي في البحر الأحمر هو جزء من هذه المنظومة: كل هجوم على ناقلة نفط هو رسالة استراتيجية لا تقل خطورة عن ضربة صاروخية تقليدية. الألغام البحرية في البحر الأحمر لم توضع فقط لتعطيل السفن، بل لتعطيل يقين النظام التجاري العالمي. بتعبير آخر: الردع لم يعد يقوم على القدرة، بل على "إمكانية الفعل".

تُجبر تلك الهجمات المتكررة الولايات المتحدة والدول الغربية على استنزاف استجاباتها في حماية السفن التجارية، مما يؤدي إلى إعادة تموضع قواتها في المنطقة، وربما في المستقبل إعادة النظر في مفهوم الهيمنة البحرية ذاته. لم تعد القواعد العسكرية أو حاملات الطائرات كافية، فالمعارك الجديدة تخاض ضد خصم لا يسعى للنصر، بل للشلل. خصم لا يريد احتلال البحر، بل تحويله إلى خطر دائم.

في المقابل، تبدو الصين وروسيا في وضع ترقّب. فالصين، المعتمدة بشكل رئيسى على حركتها التجارية عبر البحر الأحمر، تخشى من استنساخ هذا النموذج في مضيق ملقا أو بحر الصين الجنوبي. أما روسيا، فقد ترى في الحوثيين مختبرا مثاليا لتكتيكات عدم التماثل التي سبق أن استعملتها.

ما يقوم به الحوثيون ليس مجرد تهديد تكتيكي، بل هو انقلاب استراتيجي على مفهوم السيطرة البحرية. لقد أزاحوا مركز الثقل من السفن الى الغموض، من القوة إلى الاحتمال، ومن الردع العقلاني الى "الردع المجنون". وهم بذلك يقدمون نموذجا لما يمكن أن تصبح عليه الحروب المستقبلية: لا جيوش، لا قواعد، لا معارك فاصلة، بل هندسة مستمرة للاشتباك على إيقاع الفوضى المنظمة.

في ظل هذا الواقع، تحتاج الاستراتيجيات العسكرية الغربية إلى مراجعة جذرية، لا في أدواتها فقط، بل في منطقها ذاته. فخصمك القادم قد لا يريد النصر، بل فقط أن تبقى متأهبا للأبد.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    أنغام عادل حبيب

    أنغام عادل حبيب

    مدرس مساعد- جامعة النهرين، العراق