مقالات رأى

إفريقيا والمحاكمة التاريخية لإسرائيل بين إرهاصات التغيير وإشعال المنطقة

طباعة

قامت دولة جنوب إفريقيا بخطوة تاريخية وغير مسبوقة برفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، تطالب بوقف عاجل لعمليتها العسكرية، وتقر الدعوى بقيام إسرائيل بارتكاب أفعال إبادة جماعية، وهو ما جاء فى اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية التى وقعت عليها إسرائيل عام 1948 فى ضوء الفظائع التى ارتكبت ضد الشعب اليهودى خلال الهولوكوست، وترقب العالم جلسات العدل الدولية بكل شغف على مدى يومين من الأسبوع الماضى؛ حيث إنها خطوة تاريخية أن تمثل إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية لأول مرة وخاصة أن المحكمة غير مسيسة (حق النقض فى مجلس الأمن الدولى) وأعلى هيئة قانونية  تابعة للأمم المتحدة.

خطوة إفريقية لها أهميتها فى هذا التوقيت الحاسم فى ظل ما يشهده قطاع غزة من تدمير؛ حيث تجاوز عدد القتلى فى فلسطين بعد أن دخلت الحرب شهرها الرابع إلى 23.500 ألف و59 ألف جريح، ونزوح أكثر من 80% من سكان غزة.

 المحكمة بين اتخاذ القرارات وصعوبة التنفيذ:

على الرغم من أن قرارات المحكمة نهائية فإنها غير تنفيذية، فالمحكمة لا تملك صلاحية  تنفيذها، ولكن صدور حكم بحق إسرائيل سيكون له صداه عالميا وسابقة تاريخية ضد إسرائيل قبل كونها سابقة قانونية، وكما يرى خبراء القانون فإنه لا بد من أن تتخذ المحكمة قرارات سريعة وعاجلة لوقف الانتهاكات التى تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى، وخاصة أن المادة 41 للمحكمة تخول لها صدور أوامر باتخاذ تدابير مؤقتة لحماية حقوق أطراف النزاع، وتهدف لمنع وقوع الضرر بصورة لا رجعة فيها، ومن شأن هذه التدابير المؤقتة الوقف الفورى لما تقوم به إسرائيل من جرائم بحق سكان غزة. وقامت جنوب إفريقيا باتخاذ هذه الخطوة لوقف العملية العسكرية للحرب الوحشية ضد سكان غزة.

خطوة هى الأولى من نوعها وغير مسبوقة أن تحاكم إسرائيل وخاصة من دولة إفريقية؛  فجنوب إفريقيا عانت أيضا الفصل العنصرى ما شجعها ذلك على الوقوف ضد جرائم الإبادة الجماعية، فرغم التكهن أن تستمر القضية لسنوات مع صعوبة التنفيذ الفورى من قبل المحكمة فإن مذكرة جنوب إفريقيا تتضمن طلبا من المحكمة بصدور قرارات ملزمة قانونيا عاجلة لإسرائيل بوقف حربها على غزة، وخاصة أن الحرب على غزة الآن تشهد منعطفا تاريخيا؛  حيث تشهد المنطقة أحداثا مهمة، منها الحل الدبلوماسى من قبل القمة الثلاثية فى الأردن وزيارة وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن للمنطقة، والضربات التى نفذتها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد الحوثيين، فهذه الضربات فى هذا التوقيت قد تشعل المنطقة بأكملها أو لصرف النظر عن محاكمة إسرائيل والقضية الفلسطينية.

محاكمة مزلزلة لإسرائيل:

أحدثت دعوى جنوب إفريقيا خللا وزلزلة فى إسرائيل، وعلى إثره قامت بالدفاع عن نفسها، واختارت الرئيس الأسبق للمحكمة العليا فى إسرائيل أهارون باراك، واستعانت أيضا بالخبير البريطانى فى القانونى الدولى مالكوم شو؛ لأن إسرائيل لم تعتد التعامل مع محكمة العدل الدولية. لذا، أرسلت الخبراء القانونيين لمواجهة اتهامات ارتكاب إبادة جماعية بحق سكان غزة  وإفشال هذه الدعوى.

 يحمل إصرار إسرائيل للمشاركة فى المحكمة وفق الرأى الإسرائيلى الدلالات الآتية:

- منع صدور حكم يجبرها على وقف الحرب ما يمثل ذلك انتصارا لحماس.

-   مكسب تأييد الداخل الإسرائيلى لحكومة نتنياهو.

- تخوف حكومة نتنياهو من صدور قرارات تدفع ثمنها سياسيا.

- قلق إسرائيل أن تصدر المحكمة حكما يعرقل تحقيق أهدافها بتحرير الرهائن والقضاء على حماس.

- المأزق غير المسبوق لإسرائيل فى حال صدور أى قرار، فعدم التزامها بالتنفيذ يتسبب فى عقوبات أممية.

- محكمة العدل الدولية تنظر الدعاوى المقامة ضد الدول وليس ضد الأفراد كما هو الحال فى مجلس الأمن الدولى، ما يعنى أن الدولة الإسرائيلية هى التى ستحاكم وليست الحكومة.

- مثول إسرائيل أمام المحكمة لمعرفتها جيدا أن المحكمة لا يوجد بها حق النقض كما هو الحال فى مجلس الأمن الدولى، ما يعنى عدم وجود أى دول تقف فى صف إسرائيل.

الرد الإسرائيلى على المحكمة:

اعترضت إسرائيل على الدعوى المقدمة من جنوب إفريقيا التى اتهمتها بارتكاب ممارسات إبادة جماعية، وذكرت هيئة الدفاع الإسرائيلى أن هذه الدعوى غير واقعية بل تروج إسرائيل أن دولة جنوب إفريقيا داعمة لحماس وغطاء سياسيا وقانونيا لها، وتمثل دفاع إسرائيل عن نفسها فى الآتى:

- إن الطلب المقدم من جنوب إفريقيا يعد عرقلة لدفاع إسرائيل عن شعبها من اعتداءات الإرهاب.

- إن ما قامت به إسرائيل ضد حركة حماس هو حقها الشرعى فى الدفاع عن نفسها.

- ذكرت هيئة الدفاع الإسرائيلية أن ما قامت به حماس يمثل إبادة جماعية ضد الشعب الإسرائيلى، وهى من بدأت بالحرب.

- عرض الدفاع الإسرائيلى أدلة على قيام إسرائيل بالإبادة الجماعية بمقاطع فيديو على ما قامت به حركة حماس فى السابع من أكتوبر.

- ذكر الدفاع الإسرائيلى مقاطع لاغتصاب وقتل، وأن الرد الإسرائيلى جاء بقدر هذه الهجمات.

- انتقاد الدفاع الإسرائيلى على دعوى جنوب إفريقيا لا يتفق مع توصيف الحرب الحالية بأنها دفاع عن النفس.

الرد الأمريكى:

جاء الرد الأمريكى منحازا لإسرائيل، وتمثل فى الآتى:

- إن دعوى جنوب إفريقيا لا أساس لها من الصحة.

- وصف وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن أن تهمة الإبادة الجماعية لا قيمة لها، وتصرف الانتباه عن منع انتشار الحرب ومعالجة الأوضاع فى غزة.

- عرقلة أمريكا لقرارات المحكمة الدولية ضد إسرائيل بعد رفعها لمجلس الأمن باستخدام حق الفيتو.

دبلوماسية القمم:

القمة الثلاثية بين الرئيس عبد الفتاح السيسى ونظيريه الأردنى الملك عبد الله الثانى والرئيس الفلسطينى محمود عباس جاءت حاسمة وقاطعة تجاه القضية الفلسطينية بالرفض القاطع لمحاولات تصفية القضية الفلسطينية، وضرورة عودة سكان غزة إلى ديارهم، ورفض احتلال أى أجزاء من غزة، وكذلك الرفض التام لأى محاولات لتهجير سكان غزة، وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

 هذه قرارات واضحة وصريحة تبنتها مصر، وعملت عليها منذ اللحظة الأولى من اندلاع الحرب لحفظ أمن واستقرار شعوب المنطقة ووحدة وسلامة فلسطين، واليوم تدعو مصر من أجل التكاتف الدولى لخفض حدة التوتر فى المنطقة بعد اشتعال الوضع فى البحر الأحمر بين تحالف الازدهار والحوثيين وتوجيه الضربات الأمريكية البريطانية إلى الحوثيين، وتوعد الأخيرة بالرد، ما يشعل المنطقة، وهو ما تتخوف منه مصر، وتكرر دعوتها من أجل خفض حدة التوتر.

 زيارة بلينكن للمنطقة:

 جاءت زيارة وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن للمنطقة التى تعد الجولة الرابعة له منذ اندلاع الحرب على غزة، فى ظل توتر غير مسبوق وانتقال الصراع إلى الجنوب اللبنانى باغتيال صالح العارورى نائب رئيس حركة حماس الذى استهدفته إسرائيل فى بيروت، واستهداف القيادى العسكرى وسام الطويل، وتصعيد الحوثيين فى البحر الأحمر والضربات الأمريكية  على الحوثيين والهجوم الإرهابى فى إيران، وتحمل الزيارة دلالات مهمة تتمثل فى:

- العمل على عدم اتساع الحرب على غزة! وسط حالة الدمار والهجمات غير المسبوقة واتساعها.

- لم يتطرق السيد بلينكن من قريب أو بعيد لوقف إطلاق النار رغم اشتغال المنطقة.

- عدم اتساع الحرب، وتستمر أمريكا فى إمداد المساعدات لإسرائيل عسكريا وماليا.

-  لم يتحدث عن حل الدولتين التى من شأنها حل الأزمة وهدوء المنطقة.

- حق النقض الذى تستخدمه أمريكا أمام كل مشروع قرار يقدم للجمعية العامة للأمم المتحدة لمصلحة غزة بوقف إطلاق النار أو حل الدولتين.

- تحرك أمريكا الآن لتأمين البحر الأحمر، ومهاجمة الحوثيين، وهى من رفضت  تصنيفهم سابقا كمنظمة إرهابية!! وهو ما جعل الحوثيين يتحركون ويتوسعون فى هجماتهم فى البحر الأحمر رغم نشر أمريكا قواتها وأسطولها البحرى.

فزيارة بلينكن، جاءت أولا وأخير لخدمة المصالح الأمريكية فى المقام الأول لضمان كسب معركة الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024، وتحسين صورتها أمام الرأى العام العربى بالحديث عن ضرورة الحفاظ على حياة المدنيين فى غزة. زيارة لها رسالتها للأطراف الإقليمية إن لم تضغط على أذرعها وخاصة فى البحر الأحمر فسيكون الرد قويا. زيارة فى المقام الأول بعد تهديد حركة التجارة فى البحر الأحمر للضغط لتشكيل ومعاونة تحالف الازدهار للتصدى المشترك للحوثيين، وطرح فكرة تهجير سكان غزة مرة أخرى.

ختاما، تحية واجبة للرئيس السيسى على موقفه المشرف الصامد تجاه القضية الفلسطينية والشعب الفلسطينى الذى يبذل قصارى جهده على كل الأصعدة منذ بداية الأزمة، ويستمر الموقف المشرف اليوم لمناشدة العالم من أجل التكاتف لخفض حدة التوتر فى المنطقة، فدائما تأتى الحلول الدبلوماسية وفق الطرح والرؤية المصرية.

 وتبقى هذه الأسئلة للدول الكبرى: لماذا توسعون الحرب فى جميع أنحاء المنطقة فى هذا التوقيت، فتتسع دائرة الحرب من غزة إلى لبنان وإلى اليمن؟ هل جاءت هذه الحرب لتغطى على محاكمة إسرائيل؟ هل يكون للدول الكبرى الإرادة لتهدئة المنطقة؟ هذا ما ستسفر عنه الأحداث القادمة.

طباعة

    تعريف الكاتب

    كاترين فرج الله

    كاترين فرج الله

    باحثة دكتوراه فى الاتصال السياسي