من المجلة - ملحق تحولات إستراتيجية

‬الارتداد إلى الإقليم‮:‬| هل يعيد العالم العربي اكتشاف ذاته جيوسياسيا ؟

طباعة
في‮ ‬11‮ ‬سبتمبر‮ ‬1990، كشف الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، خلال جلسة مشتركة للكونجرس عن أمل بلاده في تأسيس نظام دولي جديد عقب الانفراجة الكبيرة في العلاقات مع الاتحاد السوفيتي السابق وهدم جدار برلين في إعلان فعلي علي نهاية عصر الحرب الباردة‮. ‬حدد بوش الأب ثلاث ركائز لهذا النظام‮: ‬أولها، تجاوز حالة الصراع والانقسام التي سادت قمة النظام الدولي طوال قرون ممتدة‮. ‬ثانيا، الانتقال من نمط المباراة الصفرية في إدارة العلاقات الدولية إلى نمط المباريات الإيجابية لطرفيها تأسيسا على قواعد‮ "‬عادلة‮" ‬للتعاون الدولي‮. ‬وأخيرا، تعزيز قيم الحرية وحقوق الإنسان بحسب ما تجلت في الخبرة المجتمعية الغربية‮.‬
 
وفي الواقع، فإن تلك الرؤية كانت تستند إلي ثلاثة افتراضات أساسية‮:‬
 
1- ‬أن تفجر قضايا الصراع في النظام الدولي مرتبطة أساسا بالصراع بين القوي الدولية الكبري، وبالتالي،‮ ‬فإنه يمكن ضبط تلك الصراعات تلقائيا من خلال توافقات تتم علي مستوي قمة النظام الدولي وفرضها علي أطراف الصراع المباشرة‮.‬
 
2- ‬أنه يمكن دمج أنساق المصالح والقيم الإقليمية والمختلفة حول العالم في أنظمة تفاعلات عالمية ومأسسة إدارتها،‮ ‬استنادا إلى خبرة النموذج الغربي وقيمه‮.‬
 
3- ‬أن الولايات المتحدة بعَدّها القائد الدولي المنتصر يمكنها توفير أدوات الضبط لمجمل التفاعلات الدولية والسيطرة عليها‮.‬
 
وشرعت الولايات المتحدة بالفعل في اتخاذ سلسلة إجراءات خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين بهدف تأسيس ما يمكن تسميته‮ "‬عصر سلام أمريكي‮". ‬وشملت تلك الإجراءات‮:‬
 
1- ‬محاولة فرض تسويات لبعض الصراعات التاريخية بدءا بالصراع العربي‮-‬الإسرائيلي،‮ ‬مع إطلاق عملية مدريد عام‮ ‬1991‭.‬
 
2- ‬تطوير دور حلف الناتو ليكون بمنزلة‮ "‬شرطي العالم‮" ‬من خلال مد نطاق عمله خارج حدود الدول الأعضاء،‮ ‬حيث أقر في قمته في أبريل‮ ‬1999،‮ ‬التي شهدت أول مشاركة لأعضائه الجدد آنذاك‮ (‬المجر،‮ ‬وجمهورية التشيك،‮ ‬وبولندا‮)‬، تعديل‮ ‬غايته من الدفاع عن حدود دوله الأعضاء للدفاع عن مصالح هذه الدول‮. ‬وتمثل أول تجليات هذا التطور في تدخل الناتو في أزمة كوسوفو في مارس‮ ‬1999‮ ‬دون‮ ‬غطاء أممي، ثم إطلاق عدد من مبادرات الشراكة حول العالم‮.‬
 
3- ‬محاولة صياغة عدد من الاتفاقات ذات الصبغة العالمية لتنظيم شئون الاقتصاد،‮ ‬والتجارة الدولية،‮ ‬بل وشئون المجتمع والأسرة‮.‬
 
عكست هذه الجهود جميعا محاولة الولايات المتحدة وحلفائها إقامة‮ "‬حكم عالمي‮" ‬يركز آليات صنع القرار في تلك الهياكل التي‮ ‬يؤُسسها المعسكر الغربي‭ ‬، ويعلي من أنساق المصالح والقيم الخاصة بهذا المعسكر‮. ‬وبدا بجلاء أن هذا النظام الدولي الجديد يتجاهل بدرجة كبيرة التباينات الإقليمية،‮ ‬ومصالح الأطراف‮ ‬غير المنضوية ضمن منظومة مصالح وقيم المعسكر الغربي‮. ‬بعبارة أخري، بدا أن هذا النظام يتجاهل تباينات الجغرافيا السياسية،‮ ‬وما تطرحه من ضغوط وتطلعات ومطالب لا تتسق مع منظومات مصالح وقيم القائد الدولي الجديد‮. ‬وقي ظل هذا النظام،‮ ‬جرت محاولة تحويل‮ "‬الدولة‮" ‬عبر العالم إلي مجرد‮ "‬وكيل‮" ‬لتنظيم حضور متطلبات وشروط هذا النظام الدولي الجديد وتجسدها في المجتمعات والدول والأقاليم التي لا تنضوي في إطار أنساق مصالح القائد الدولي وقيمه‮.‬
 
كشفت خبرة النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين أن محاولة تأسيس نظام دولي جديد قوامه بناء قانوني،‮ ‬ومؤسسي،‮ ‬وقيمي يرسخ‮ "‬حكم الولايات المتحدة عالميا‮"‬، أو ما اصطلح علي تسميته بـ‮ "‬الأمركة‮"‬، ويتجاهل التباينات الناتجة عن الخصوصيات الإقليمية والثقافية لم يسر علي هوي الإدارة الأمريكية،‮ ‬ولا منظري نهجها هذا‮. ‬وواجهت محاولة تنميط العالم عبر إطار تشريعي عالمي معارضة قوية من قبل كثير من القوي الدولية التي تقع‮ -‬بدرجة ما أو بأخرى- ‬خارج دائرة الاتساق التام مع منظومة قيم ومؤسسات وآليات‮ "‬نهاية التاريخ الأمريكي‮". ‬برز ذلك في خلافات واسعة مع قوي‮ ‬غير‮ ‬غربية فيما يتعلق بإدارة التغير المناخي والانبعاثات الغازية، كما برز في العديد من التشريعات المتعلقة بالأخلاق الاجتماعية ونظام الأسرة، والأخطر كان في الفشل في فرض تسويات نهائية للصراعات الإقليمية سواء التاريخية منها،‮ ‬مثل الصراع العربي‮ - ‬الإسرائيلي، أو المستجدة،‮ ‬مثل الصراعات في الدول المنهارة والفاشلة،‮ ‬مثل الصومال أو أفغانستان،‮ ‬أو في تخوم الإمبراطورية الروسية المأزومة آنذاك، وذلك بالرغم من النجاح النسبي الذي تحقق في يوغسلافيا السابقة،‮ ‬والذي لم يتكرر لاحقا، مما يؤكد أنه كان الاستثناء وليس القاعدة‮.‬
 
وبالرغم من عدم بروز قوي دولية‮ "‬مراجعة‮" ‬حقيقية آنذاك، فقد أفضي تعثر مسعي‮ "‬أمركة‮" ‬النظام الدولي الجديد،‮ ‬وبروز معارضة دولية متزايدة له إلي ثلاثة تداعيات كبري تحدد شكل النظام الدولي في اللحظة الراهنة، وتعيد الاعتراف بأهمية الجغرافيا السياسية كعامل حاكم في بنية العلاقات الدولية‮. ‬ويمكن إجمال هذه التداعيات الثلاثة فيما يأتي‮:‬
 
1- ‬تخلي الولايات المتحدة بدرجة كبيرة عن خطاب النهج متعدد الأطراف الذي حاولت خلال حقبة الرئيس الأسبق،‮ ‬بيل كلينتون،‮ ‬الترويج لاعتمادها عليه من أجل شرعنة السياسات والقيم التي حاولت تمريرها كقواعد حاكمة في نظامها الدولي الجديد‮. ‬وبدأ يبرز ارتكان الولايات المتحدة بدرجة أكبر منذ أواخر ولاية كلينتون الثانية إلي اعتماد نهج أحادي الجانب،‮ ‬وإغفال أطر الشرعية الدولية التقليدية‮.‬
 
انعكس ذلك بجلاء سواء في التوسع في بناء تحالفات دولية محدودة لاستخدام القوة خارج نطاق مشروعية قرارات أممية،‮ ‬خاصة خلال‮ ‬غزو العراق عام‮ ‬2003،‮ ‬أو في اتخاذ مواقف منفردة خارج نطاق التوافق الدولي،‮ ‬والمنظمات والاتفاقيات الدولية متعددة الأطراف،‮ ‬إجمالا،‮ ‬مثل عدم انضمامها إلي مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة،‮ ‬أو انسحابها من اتفاقية حظر الصواريخ الباليسيتة،‮ ‬وعدم توقيعها علي اتفاق كيوتو المناخي، فضلا عن امتناعها عن سداد جزء من المستحقات الأممية‮.‬
 
2- ‬تنامي نزعة مراجعة لقواعد النظام الدولي الأمريكي من قبل عدد من القوي الإقليمية الكبري، خاصة روسيا،‮ ‬والصين،‮ ‬وإيران، التي عانت تحديين طرحتهما هذه القواعد،‮ ‬وأدوات فرضها أمريكيا‮:‬
 
أ‮- ‬عدم مراعاة النظام الدولي الإقليمي للمصالح الحيوية لبعض القوي في نطاقها الإقليمي المباشر،‮ ‬أو تهديد هذه المصالح، كما برز في حالة تمدد نفوذ الناتو،‮ ‬والاتحاد الأوروبي إلي تخوم الإمبراطورية الروسية، أو في حالة محاصرة الوجود العسكري الأمريكي لحدود إيران الشرقية في أفغانستان،‮ ‬ثم الغربية في العراق‮. ‬وبدأ يزداد الأمر،‮ ‬في الوقت الراهن،‮ ‬مع تهديد التداعيات التقكيكية للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط منذ‮ ‬غزو العراق، خاصة بعد‮ "‬الربيع العربي‮" ‬لمصالح عدد من الدول العربية الرئيسية،‮ ‬خاصة في مصر،‮ ‬ودول مجلس التعاون الخليجي‮. ‬ورغم ذلك يبدو أن الدول العربية لم تتخذ موقفا مراجعا صريحا وجذريا من الوجود الأمريكي في المنطقة‮.‬
 
ب‮- ‬اصطدام قواعد النظام الدولي الأمريكي لتطلعات بعض القوي الإقليمية الصاعدة ونزعتها لمد نفوذها إقليميا‮. ‬برز هذا العامل في حالتي الصين وروسيا اللتين لجأتا إلي انتهاج سياسات للتوسع في تطوير قوتهما العسكرية،‮ ‬وبناء شبكات تحالف اقتصادية وعسكرية لمواجهة الضغوط الأمريكية في جوارهما الإقليمي‮. ‬ولعل الأزمة في أوكرانيا وتداعياتها،‮ ‬والتقارب الاقتصادي الروسي‮ - ‬الصيني يمثلان اختبارين حيويين للنفوذ والقدرة الأمريكيين‮. ‬أما في الشرق الأوسط، فقد برز هذا العامل في حالة إيران منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين، وإن بدت مؤشرات تحول في هذا الموقف منذ نهاية عهد جورج بوش الابن تقريبا،‮ ‬من خلال طرح إمكانية التفاوض مع إيران،‮ ‬وهو التوجه المتسارع حاليا‮. ‬وسعت إيران لبناء محاور إقليمية تهدد المصالح الأمريكية في المنطقة كإحدي أدوات تجاوز الحصار الذي فرضته عليها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، وكذلك كإحدي أوراق المساومة في مواجهتها‮.‬
 
3- ‬أضحت القوة الأمريكية في اختبار حقيقي أمام تحدي نظام دولي مناوئ لسيطرتها بشكل متزايد، ومعقد بدرجة تفوق قدرة مواردها علي ضبطه،‮ ‬وضبط تحولاته‮. ‬وفاقم هذا الوضع من حدة وخطورة تداعيات ما بات يبدو عجزا قياديا أمريكيا عن ضبط التطورات السياسية في دوائر انخراطها‮. ‬ويبرز في هذا الإطار تداعيان أساسيان‮:‬
 
أ‮- ‬اعتماد الولايات المتحدة علي دعم إطلاق قوي عديدة متنافسة في مناطق تدخلها للعب علي حبل انقسامها والتنافسات فيما بينها، وخفض حدة المناوءة لسياساتها، وهي السياسة التي وصفتها وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق،‮ ‬كوندوليزا رايس،‮ ‬بـ‮ "‬الفوضي الخلاقة‮".‬
 
ب‮- ‬سعي قوي المراجعة لتعزيز نفوذها في أقاليمها المجاورة للحد من التأثير الأمريكي، ولتعبئة موارد قوة في مواجهتها‮. ‬إلا أن ذلك التوجه فتح الباب أمام مواجهات إقليمية أخري، لعل أبرزها مواجهات الصين مع دول جوارها، والمواجهة بين إيران ودول الخليج العربية‮.‬
 
وإجمالا، فإنه يمكن القول إن النظام الدولي الأمريكي بات يطرح تهديدات متزايدة أمام العالم العربي، أبرزها‮:‬
 
1- ‬عدم استجابته لمتطلبات مشاركة قوي عربية نامية مهمة في هيكل صنع القرار الدولي،‮ ‬وهو الأمر الذي تجلي في المعارضة التي ثارت داخل الولايات المتحدة لبعض الاستثمارات الخليجية في الأراضي الأمريكية، وكذلك في عدم دعم الإدارات الأمريكية المتتابعة تعزيز الوزن النسبي لدول الخليج العربية، خاصة المملكة العربية السعودية، في آليات صنع القرار في إطار النظام الاقتصادي العالمي‮.‬
 
2- ‬عدم إتاحته فرص تطور داخلي منصفة في ظل تكريس انقسامات طبقية/سياسية ناتجة عن ظاهرة الدولة‮ "‬الوكيل‮"‬،‮ ‬وهي الانقسامات التي كانت أحد أسباب تفجر الانتفاضات الثورية العربية‮.‬
 
3- ‬فتحه المجال أمام منافسات إقليمية واسعة علي النفوذ باتت تداعياتها وأدواتها تلقي بآثار سلبية،‮ ‬ليس علي مصالح الدولة العربية فحسب،‮ ‬بل وعلي وجودها أيضا
 
4- ‬أخيرا، يبدو أن السياسة الأمريكية التي تتجه بشكل متزايد إلي تعديل موقفها من إيران تطرح تهديدات جيوسياسية حقيقية لحلفاء الولايات المتحدة من الدول العربية في منطقة الخليج‮.‬
 
يتضح مما سبق،‮ ‬أن عجز القيادة الأمريكي،‮ ‬فضلا عن عدم عدالته،‮ ‬أعاق بشكل جوهري فرص النمو السليم والعادل والمنصف للقوي العربية وحضورها في النظام الدولي، وأعاد إلي واجهة السياسة الإقليمية أعباء وتحديات جيوسياسية تعجز قواعد الضبط الأمريكية وأدواتها عن الحد من مخاطرها علي الدول العربية،‮ ‬وعلي ما بقي من أبعاد نظمية تحكم علاقاتها وتفاعلاتها البينية‮. ‬ورغم أن سياسات الدول العربية‮ -‬فرادي أو كمحاور في طور التشكل‮- ‬لم تعكس حتي اللحظة توجها حقيقيا لكي تصبح قوي مراجعة، فإننا نظن أن التهديدات الإقليمية المتصاعدة التي تواجهها فد تدفعها إلي هذا السبيل، لكن المؤكد أنها ستعيد إلي صدارة أولوياتها حسابات الجغرافيا السياسية كمصدر تهديدات وجودية، وكفضاء فرص لا بديل عنه في ظل انسداد فرص الالتحاق بمركز النظام الدولي المأزوم حاليا‮. ‬ويواجه العالم العربي بالتالي،‮ ‬تحدي إعادة قراءة محيطه واكتشاف قدراته الجيوسياسية الذاتية التي تمكنه من إدارة عملية تحول هذا المحيط،‮ ‬والمخاطر الناجمة عنها‮. ‬يحاول هذا الملحق دراسة هذه الفرضيات بالنسبة لعدد من الأنظمة الإقليمية الفرعية العربية،‮ ‬ومصر‮. 
 
 
طباعة

    تعريف الكاتب

    مالك عوني

    مالك عوني

    مدير تحرير مجلة السياسة الدولية، كاتب وباحث مصري في العلاقات الدولية، مؤسسة الأهرام