أنشطة السياسة الدولية - مؤتمرات وندوات

إشكاليات التوظيف:|الخرائط السياسية والفكرية للسلفية في العالم العربي‮

طباعة
في ضوء التطورات التي لحقت بالمجتمعات العربية في الأعوام القليلة الماضية، كان بروز الظاهرة السلفية هو الأكثر مثارا للجدل،‮ ‬نتيجة للغموض الذي يكتنف هذه الظاهرة، والتي لا‮ ‬يزال الكثير من تجلياتها وتفاصيلها مجهولا لدي الكثيرين، بالإضافة إلي انخراط السلفيين عمليا في اللعبة السياسية التي كانوا يحذرون منها قبيل الثورات‮. ‬وقد عقد مركز الجزيرة للدراسات ندوة تحت عنوان‮: "‬السلفية في العالم العربي‮: ‬تصورات، تيارات وجماعات‮"‬، بهدف تسليط الضوء على ظاهرة السلفية بمختلف تجلياتها،‮ ‬عودة إلي تاريخها، واستقراء لحاضرها، واستشرافا لمستقبلها‮.‬
 
إشكالية المصطلح وتجليات الواقع‮:‬
 
أكد عدد من المشاركين أن مصطلح السلفية ليس محل اتفاق،‮ ‬فالبعض يستخدمه للدلالة على كل قوي وتيارات الإسلام السياسي،‮ ‬بما في ذلك حزب التحرير،‮ ‬والإخوان المسلمون، وآخرون يستخدمون المصطلح للدلالة على مفهوم أضيق يتعلق بمجموعات سلفية تصف نفسها بالسلفية،‮ ‬وتعتقد أن‮ ‬غيرها ليس سلفيا، وهذا ما جعل تحديد هذا المصطلح صعبا، فضلا عن المنعرجات التاريخية التي مر بها المصطلح،‮ ‬وكان أبرزها المدرسة الوهابية، والتي برغم أنها كانت بيئة صوفية نقشبندية بالأساس فقد كان لها تأثير في مسار المصطلح، فصعبت من تحديده، فضلا عن علاقة السلفية المعاصرة بالميراث التيمي والحنبلي، والذي كشف الكثير من المعاني والدلالات‮ ‬غير الدقيقة التي لحقت بمفهوم السلفية ولا تزال بحاجة إلي توضيح وتبيين‮.‬
 
وحول تجليات واقع السلفية،‮ ‬أشار المشاركون إلي أن المساحة التي تأخذها ظاهرة السلفية في الفضاء العربي توحي بأن هناك سلفية مشتركة، لكنها في الوقت نفسه بدت أنها سلفيات وليست سلفية واحدة، فكل سلفية تتلون ببيئتها المحلية، فتتخذ أشكالا وأنماطا متعددة، لدرجة أن المراقب لا يكاد يلمس أي ترابط بين الحركات السلفية إلا في الاسم الذي تحمله فقط‮.‬ غير أن ما يجمع العديد من مكونات الشخصية السلفية هو محاربة البدع والأهواء، والتزام منهج أهل السنة في الأسماء والصفات، واتباع الدليل،‮ ‬وعدم التعصب للمذاهب الفقهية‮.‬
 
لذلك،‮ ‬تنقسم الظاهرة السلفية إلي تيارات ثلاثة‮: ‬تيار دعوي مكثف من السلطة الحاكمة بالسماح بحرية التعليم والتوجيه، وتيار ثان يري أن الخروج على الحاكم أولي، وأن الاكتفاء بنشر العقيدة يعد عملا ضئيلا ومحدودا بالنظر إلي حجم الجهد المطلوب لإصلاح وضع الأمة الذي لا يتحقق إلا بإقامة خلافة إسلامية‮. ‬وهناك تيار أخير يري أن استغلال صناديق الاقتراع والدخول في اللعبة الديمقراطية أولي،‮ ‬وهو ما يعرف بالسلفية السياسية‮.‬
 
سمات الخطاب السلفي‮:‬
 
أكد المشاركون أن الخطاب السلفي يتميز بعدة سمات‮: ‬أولاها أنه خطاب طرفي وليس مركزيا،‮ ‬فالأطراف‮ (‬البادية، الريف‮) ‬كانت دائما منطلق‮ "‬السلفيات‮" ‬وليس المركز، وما يؤكد ذلك المفردات التي يقوم عليها الخطاب السلفي التي هي مفردات تنتمي للحقل الاحتجاجي‮. ‬أما ثانية تلك السمات فهي أنه خطاب انتقائي،‮ ‬حيث يتم تكبير جزء من الدين ليغطي الباقي، فابن تيمية الصوفي،‮ ‬وابن تيمية الفيلسوف يغيبان ولا يظهر إلا ابن تيمية السلفي‮.‬ والسمة الثالثة أن الخطاب السلفي خطاب متحول وغير مستقر، تختلط فيه البواعث السياسية والاجتماعية والدينية،‮ ‬حيث يمكن الحديث عن أطوار للخطاب الديني السلفي‮.‬
 
وفي سياق هذا التحول الذي يتصف به التيار السلفي، فإن الخطاب السلفي يمر بمراحل متعددة تجسد هذا التحول، وهي‮: ‬مرحلة التأسيس، التي تختلط فيها البواعث السياسية والاجتماعية لتحفيز مؤسسي الخطاب السلفي، فيولد الخطاب السلفي بداية بوصفه خطابا احتجاجيا إصلاحيا جذريا‮. ‬تليها مرحلة الاستقرار،‮ ‬إذ يتحول الخطاب السلفي بعد تأسيسه إلي إرث فكري له رموزه ومراجعه‮ "‬العلمية‮".‬ وبمرور الوقت يدخل الخطاب في مرحلة ما يعرف بـ‮ "‬نزع السياقات‮"‬،‮ ‬حيث يتحول الخطاب السلفي بالتدريج إلي خطاب ديني صرف يسعي للحفاظ على شرعية الجماعات المستفيدة منه والمؤمنة به‮.‬
 
المشكلات التي تواجه التيارات السلفية‮:‬
 
أما على صعيد المشكلات التي تواجه التيارات السلفية في العالم العربي، فتتمثل في أن تلك التيارات تحصر نفسها في الأمور السياسية في كتب الأحكام الفقهية، وأنهم يعتقدون أن الحوادث التاريخية ملزمة، وهو ما يؤكد أن تلك التيارات منقطعة عن الحاضر‮. ‬كذلك تعاني بعض تلك التيارات خللا فكريا،‮ ‬حيث تدير معارك في ميادين لا عدو فيها، مثل قضية خلق القرآن، وغيرها،‮ ‬وهو ما يؤكد التركيز المفرط لبعض تلك التيارات على قضايا أخلاقية أكثر من تناوله الإشكالات والقضايا التي يطرحها السياق العالمي الراهن كالاقتصاد وأنماط الحكم، والتعددية‮.‬
 
بالإضافة إلي ذلك،‮ ‬توجد تيارات داخل السلف تتناول قضايا علمية،‮ ‬لكنها ليست ذات إلحاح حاضر، متهربة من السياسة ومهتمة بالزي واللباس ولا تعنيه حياة الناس،‮ ‬ولا ممارساتهم، إلي جانب وجود تيارات أخري تتساهل مع فكرة التكفير،‮ ‬واستباحة الدماء،‮ ‬وهو ما يؤثر في صورة الإسلام عموما‮.‬
 
كذلك،‮ ‬أثيرت ضمن المناقشات إشكالية قابلية المجموعات السلفية للتوظيف أمنيا،‮ ‬والتحول إلي رهينة لدي الأنظمة الاستبدادية، وهو الأمر الذي أثاره القيادي السلفي طارق الزمر، منتقدا حزب النور السلفي في مصر، قائلا‮: ‬إنه يمثل أسوأ ظاهرة للمنهج السلفي، فقد كان أتباعه خلال فترة مرسي يرفضون ما يصفونه الدخول في تحالف مع العلمانيين، ثم شاركوا في‮ "‬الانقلاب‮"‬،‮ ‬وأصبحوا موالين لـ‮ "‬الانقلابيين‮".‬
 
كما وصف الزمر الحزب بـ‮ "‬الظاهرة الاستخبارية‮"‬، التي تستخدم لضرب جزء من الظاهرة الإسلامية، مشيرا إلي أنهم كانوا في الأصل مناهضين للثورة‮.‬ وبعد نجاح الثورة،‮ ‬تم استخدامهم لإحداث أول شرخ في الجسم الثوري بطرحهم‮ -‬بشكل فج‮- ‬موضوع تطبيق الشريعة،‮ ‬وهو ما أزعج القوي الليبرالية، وفكك التحالف الثوري، ومهد لاحقا للانقلاب على خيارات المصريين، ووأد تجربتهم السياسية، حسب تعبير الزمر‮.‬
 
مسارات مستقبل السلفية في العالم العربي‮:‬
 
وفيما يتعلق بمستقبل التيارات السلفية في العالم العربي، أشار المشاركون إلي أنه لابد من حدوث نقد للفكر السلفي من داخل التيار نفسه، لأنه إذا استمرت الأمور على ما هي عليه الآن،‮ ‬فلن تصمد إلا السلفية الجهادية‮.‬ أما السلفية التقليدية والعلمية والحركية،‮ ‬فستنهار وتندثر،‮ ‬مؤكدين أنه إذا أرادت التيارات السلفية التي شاركت في العملية السياسية أن تستمر في هذه المسيرة،‮ ‬فعليها أن تحدث قطيعة مع ما يسمي بكتب الأحكام السلطانية القديمة، وأن تولي مزيدا من الاهتمام بفقه الواقع‮.‬
 
كذلك،‮ ‬رأي بعض المشاركين أن المستقبل سيشهد نمو بعض الاتجاهات داخل التيار السلفي،‮ ‬وهي إما القبول بالتدجين،‮ ‬حيث يتحول السلفيون إلي عون للطغاة ينوبون عنهم باسم الدين في تسفيه المخالفين، أو استمرار ممارسة العنف والتكفير، ورفض فكرة الديمقراطية،‮ ‬لأن الأنظمة‮ ‬غيبتهم في السجون،‮ ‬وجعلتهم متشددين في نظرتهم للأمور، أو الاعتدال ومواصلة المسير باتجاه الاندراج أكثر في قضايا المجتمع، بلا مهادنة ولا تبرير‮.‬
 
وقد بدأ المنتمون إلي هذا الاتجاه، طبقا لآراء المشاركين، التصدي لقضايا السياسة،‮ ‬والاقتصاد،‮ ‬ومحاربة‮ "‬شرك القبور،‮ ‬وشرك القصور‮" ‬علي حد سواء‮.‬
طباعة

    تعريف الكاتب

    باسم راشد مطاوع

    باسم راشد مطاوع

    باحث في العلوم السياسية، مصر.