عرض : محمد محمود السيد - باحث في العلوم السياسية
Jacob N. ShapiroThe Terrorist’'s Dilemma: Managing Violent Covert Organizations, (New Jersey: Princeton University Press, 2013)
انخرطت المنظمات الإرهابية في بداية تسعينيات القرن الماضي في دراسة الطرق المثلي لإدارة مثل تلك التنظيمات،والتغلب على الأزمات الهيكلية التي تواجه عملية إدارتها، وهو الأمر الذي مكن هذه التنظيمات من تحقيق نجاح واستقرار نسبي في تلك الفترة، خاصة في ظل عدم اهتمام الحكومات الغربية المعنية بمحاربة الإرهاب بدراسة عملية إدارة التنظيمات الإرهابية.
ففي بيشاور، في أوائل التسعينيات، ألقي أبو مصعب السوري-المفكر الجهادي المنتمي لتنظيم القاعدة- سلسلة من المحاضرات الشهيرة في الأوساط الجهادية حول اللامركزية في إدارة المنظمات الجهادية، ودورها في تعزيز قدرة المنظمات على التهرب في مواجهة أجهزة الأمن الغربية. وبحلول الحادي عشر من سبتمبر، رأي أبو مصعب السوري أن"تنظيم القاعدة" لم يصبح مجرد جماعة،وإنما هو دعوة ومرجعية ومنهاجية، من شأنها أن تبقي على قيد الحياة حتي لو تم القضاء على قياداتها، وهو ما توقعه حينئذ.
وفي هذا الصدد، يستكشف جاكوب شابيرو، أستاذ العلوم السياسية والشئون الدولية المساعد في جامعة بريستون الأمريكية، في دراسة فريدة من نوعها، عملية إدارة المنظمات الإرهابية، بدءا من المنظمات الروسية في القرن التاسع عشر، مرورا بمنظمتي فتح وحماس في فلسطين،والجيش الجمهوري الأيرلندي، وصولا إلى تنظيم القاعدة،وذلك من خلال تحليل المعضلات الداخلية التي تعانيها مثل هذه الجماعات، والتي تبرز جوانب ضعفها.
ديناميات استخدام الجماعات الإرهابية للعنف كما وكيفا:
يرى شابيرو أن تبني المنظمات الإرهابية للعنف الزائد وقتل المزيد من المدنيين يستنزف الدعم الشعبي للمنظمة.كما أن تراجع معدلات العنف قد يصرف اهتمام الحكومة عن تلك المنظمة،ويدفعها لرفض التفاوض معها، كما أنه قد يخلق حالة من التمرد والانشقاق بين كوادرها.
وقد كان الجيش الجمهوري الأيرلندي بارعا في تحديد كم ونوع العنف المستخدم لتحقيق أهدافه السياسية. فبعد أن شن عدة هجمات كبري في ايرلندا الشمالية، انتقل بعد ذلك في هجماته ليطول أهدافا اقتصادية في لندن.وبعد ذلك،بدأ في شن هجمات بقذائف الهاون على مطارات بريطانية مثل"مطار هيثرو".
طور الجيش الجمهوري الأيرلندي من طبيعة هجماته وأماكنها المستهدفة في إطار تعزيز موقفه التفاوضي مع الحكومة البريطانية، في سبيل دفعها لتقديم المزيد من التنازلات لمصلحة الجيش الجمهوري الأيرلندي.
ولكن بعد توصله إلى تسوية سلمية في صراعه مع الحكومة البريطانية، فقد الجيش الجمهوري الأيرلندي حساسيته في استخدام العنف في عملياته. حيث إن أول عملية قام بتنفيذها عقب تلك التسوية قد أودت بحياة29مدنيا، مما أدي إلى نفور الرأي العام عنه،وتراجع فاعليته للسنوات الثلاث التالية.
سلسلة التحديات الإدارية داخل الجماعات الإرهابية:
يجادل شابيرو بأن ظاهرة العنف الزائد في الجماعات الإرهابية هي ظاهرة هيكلية،فغالبا ما تكون معظم الرتب الصغيرة في المنظمات الإرهابية أكثر حماسة ورغبة في استخدام المزيد من العنف بشكل أكبر مما يخطط له قادتها. والمشكلة الأعمق التي تعانيها المنظمات الإرهابية في هذا الصدد هي أن معظم المتطوعين في هذه المنظمات لا يشعرون بالتزام سياسي أو عقائدي تجاه أفكار هذه الجماعة أو المنظمة، وإنما كان التحاقهم بها نابعا من الرغبة في الشعور بالتمكين، وهو الشعور الذي يتعزز مع كل عملية إرهابية يقومون بها.
ويؤكد شابيرو أن مثل هذا النوع من المتطوعين قد يكون لديهم ميل للاستيلاء على أموال المنظمة، وهي معضلة تواجهها كافة المنظمات الإرهابية حول العالم، بداية من منظمات روسيا فيما قبل الثورة،وصولا إلى غزة،وهو الأمر الذي يدفع القادة في هذه المنظمات إلى محاولة بسط سيطرتهم على مرءوسيهم،وعلى أموال المنظمة.
وهنا،تبرز معضلة أخري،هي طبيعة الآليات التي يحاول من خلالها القادة السيطرة على المنظمة. فغالبا ما يلجأ القادة إلى اتباع إجراءات شبه قضائية في إنزال العقوبة على الأعضاء المتمردين أو الخارجين على سياسة المنظمة، بالإضافة إلى اللجوء إلى استخدام الأوراق والمستندات التي يتعهد من خلالها الأعضاء الجدد بالالتزام بسياسة المنظمة وقادتها. هذا الأمر -في مجمله- يجعل المنظمة أكثر ضعفا،لأن تلك الملفات والوثائق الإلكترونية قد تساعد أجهزة الأمن على الكشف عن هوية قادة وأعضاء المنظمة، وبالتالي تسهل عملية القبض عليهم.
تنظيم القاعدة نموذجا:
يعتقد شابيرو أن تنظيم القاعدة هو النموذج الأمثل من بين كافة المنظمات الإرهابية التي يستعرضها هذا الكتاب لدراسة المعضلات التنظيمية داخل الجماعات الإرهابية.
فقد كان تنظيم القاعدة هو الأكثر فاعلية على مستوى العالم حتي قبل عام2001،وهو الأمر الذي أرجعه شابيرو إلى توافر بيئة أمنية مواتية له. حيث اتخذ تنظيم القاعدة من أفغانستان مقرا له، وذلك في ظل حكم حركة طالبان، التي تركت الحرية لتنظيم القاعدة في تجنيد وتدريب وتجهيز الآلاف من المقاتلين. فقد أطلقت أجهزة الأمن الأفغانية العنان لتنظيم القاعدة، الذي كان يعمل بحرية لدرجة أنه كان يقوم بتحرير عقود عمل لأعضائه،توضح المهام المكلفين بها،وسياسة العطلة الخاصة بهم. ولكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وبعدما أظهر تنظيم القاعدة مقاومة كبيرة للقوات الأمريكية في العراق، أصبح على تنظيم القاعدة أن يواجه معضلات العمل في بيئة أمنية معادية.
وفي عام2004 ،أي بعد عام على حرب العراق، أسس أبو مصعب الزرقاوي، الجهادي الأردني في تنظيم القاعدة، جماعة"التوحيد والجهاد" في العراق.وبعد مناقشات مع قيادة تنظيم القاعدة في باكستان، تم تغيير اسم الجماعة ليصبح"تنظيم القاعدة في العراق". وقد كان الزرقاوي يكن كراهية شديدة للشيعة في العراق، لاعتقاده بأنهم سوف يقاتلون ضده في نهاية المطاف، لذلك عمد إلى التوسع في عمليات قتلهم، وغالبا عن طريق قطع الرءوس، وهو ما كان يتم تصويره ونشره على موقع"يوتيوب"، وكان يهدف من ذلك إلى زيادة قاعدة دعمه على مستوى السنة في العراق.
ولكن قيادة التنظيم في باكستان أدركت خطورة ما يقوم به الزرقاوي، وفطنت إلى أن قيام التنظيم بالتوسع في عمليات القتل الجماعي للمدنيين العراقيين يزيد من احتمالات إثارة حرب أهلية هناك، وهو ما دفعهم إلى التأكيد على الزرقاوي بضرورة التركيز على مهاجمة القوات الأمريكية في العراق بدلا من المدنين العراقيين. هذا الأمر أظهرته رسالة، استولت عليها القوات الأمريكية، بعث بها الظواهري إلى الزرقاوي،ولكن الزرقاوي لم يعبأ بتوجيهات قيادة التنظيم في باكستان. ومع استمرار العنف الطائفي من جانب تنظيم القاعدة في العراق، بدأ السنة يشعرون بالاشمئزاز تجاه التنظيم، وهو ما دفعهم في مرحلة لاحقة إلى استهداف أعضاء التنظيم أنفسهم.
وختاما، يؤكد شابيرو ضرورة عدم تركيز الحكومة الأمريكية فقط على محصلة ما تقوم به المنظمات الإرهابية من عمليات، وإنما يجدر بها التركيز على الأنماط السلوكية التي يتم اتباعها في إدارة مثل تلك المنظمات، لأنه لا يمكن مواجهة تنظيمات لا نفهم طبيعتها جيدا.