من المجلة - ملحق تحولات إستراتيجية

الاقتراب الحذر:| هل تعيد الحركات الإسلامية الصاعدة هيكلة "الدولة العربية"؟

طباعة

هل يمثل الصعود الإسلامي في عديد من الدول العربية إلى الحكم، عبر آليات ديمقراطية، أو سياسيا، ضمن الحركات الثورية أو الاحتجاجية، مؤشرا على بدء مرحلة في تاريخ المنطقة، تصطبغ السياسة فيها بهيمنة حركات ذات مرجعية إسلامية، وسياسات تنطلق من المرجعية نفسها؟ بناء على تحليل خطاب تلك القوى والحركات الصاعدة، ومنطلقاتها الفكرية، ومعطيات الواقع المحيطة، هل يمكن توقع نمط استجابة واحد، أم أنماط استجابة متعددة، من قبل تلك القوى والحركات الإسلامية بالنسبة للدولة ومفهومها ونظامها السياسي؟.

تحاول هذه الورقة الإجابة على هذين التساؤلين، من خلال دراسة صعود تيار الإسلام السياسي في الحالتين المصرية والتونسية، عقب الثورتين اللتين أطاحتا بالنظامين التسلطيين في البلدين. ويلاحظ أن السياق الذي تعود به القوى الإسلامية إلى صدارة المشهد هذه المرة يختلف جذريا عن تجربتي الجزائر عام 1991؟ وفلسطين عام 2006؟ حيث حدث ذلك في ظل أنظمة تسلطية حاولت أن تتجمل أمام العالم بعقد انتخابات نزيهة، بينما يأتي صعود الإسلاميين هذه المرة في ظل ثورات شعبية، لم يكن للإسلاميين فضل إطلاق شرارتها، ولم يتضح بعد حدود دورهم في تحديد نتائجها النهائية، وإن باتوا مشاركين في صياغة تلك النتائج بشكل كبير.

ولا يعني ذلك أن الإسلاميين لم يكن لهم دور في ثورات الربيع العربي، بل إن وجودهم مع بقية الفصائل السياسية والأغلبية غير المسيسة في الميادين قد أعطي زخما للثورات، وقطع الطريق على الأنظمة التي كانت تحاول البحث عن طوق نجاة يلقيه إليها تيار سياسي أو آخر. إلا أن ما حدث يعني أولا أن الإسلاميين ليس في مقدورهم الزعم بأنهم هم الذين خلصوا شعوبهم من طغيان الأنظمة التي استذلتهم لعقود طويلة، تماما كما أنه ليس في مقدور أي فصيل سياسي آخر تبني هذا الزعم. ويعني ثانيا أن الإسلاميين التقوا وجها لوجه مع حقيقة تنوع المشارب السياسية لشعوبهم واختلافها، وشعروا بأن مشروعهم السياسي هو أحد المشاريع السياسية المطروحة على الساحة، وأنهم لا يلونون بمفردهم لوحات أوطانهم، وإنما هم فقط جزء من الصورة، وعليهم احترام بقية الأجزاء. كما أن عليهم - إذا ما كان لهم أن يصلوا إلى الحكم ويستمروا فيه - أن يحققوا إنجازات مادية ترضي طموح مواطنيهم في الرخاء والتقدم، وألا يكتفوا بتقديم المشروعات الأخلاقية فحسب.

ومن أجل الإجابة على هذه التساؤلات، تركز الورقة على محورين أساسيين، المحور الأول: هو الخاص بالبرامج الحزبية التي قدمتها التيارات الإسلامية في كل من تونس ومصر. ولتحليل النصوص بعض المزايا، إلا أنه لا يخلو أيضا من عيوب. تتمثل المزايا في أن النص المكتوب كيان ثابت يمكن دائما الرجوع إليه، والمحاسبة على أساسه، كما أنه لا يمكن في أغلب الأحوال التنصل منه، أو الادعاء بأنه لم يكن مقصودا، أو الالتفاف على معانيه إلا قليلا. وأما العيوب، فتكمن في أن النصوص تستغرق وقتا في صياغتها بما يسمح بالتدقيق في اختيار الكلمات والجمل، الأمر الذي يجعل صانع النص قادرا على إخفاء وإظهار ما يريد من الأفكار والمعاني. وبعبارة أخرى، فإن مشكلة النصوص أن الاعتماد علىها وحدها غير كاف لاستنباط التوجهات الحقيقية لصانعها. من أجل ذلك، كان لابد من الاعتماد على نقطة ارتكاز أخرى من أجل التحقق من طبيعة توجهات التيارات الإسلامية الصاعدة في الوطن العربي إزاء الدولة الحديثة ونظامها السياسي. تتمثل هذه النقطة في تحليل السلوك اللفظي والفعلي للشخصيات البارزة في الأحزاب الإسلامية فيما يتعلق بالنظم السياسية لدولهم.

أولا- البرامج السياسية:

- الحرية والعدالة (مصر):

يعبر حزب الحرية والعدالة عن جماعة الإخوان المسلمين، أهم وأقدم جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي. ويلاحظ أن برنامج الحزب يتعاطى بشكل إيجابي مع فكرة الدولة الحديثة التي تنهض على فكرة الكيان السياسي الذي يحكمه دستور ينظم العلاقة بين سلطات ثلاث، تشريعية وتنفيذية وقضائية، وكذا العلاقة بين الدولة والمواطن، من حيث إن الأخير يتمتع بحقوق أساسية في مواجهة الأولي في مجالات الحياة المختلفة، حيث يجب على الدولة أن تحمي وتصون هذه الحقوق، وفي مقابل ذلك فالمواطن مطالب بألا يخل بالمنظومة القانونية للدولة، وإلا فإنه يتعرض للعقاب.

وتتضح معالم الدولة التي يعلن الحزب إيمانه بها في الجزء الذي يتناول "خصائص الدولة" داخل البرنامج. تتمثل هذه الخصائص في أن الدولة: تقوم على مبدأ المواطنة، أنها دولة دستورية، تقوم على الشوري (الديمقراطية)، يحكمها القانون، وأخيرا أنها دولة مدنية. (برنامج حزب الحرية والعدالة، ص11-15.

ويلاحظ أن كافة هذه المبادئ تتسق مع فكرة الدولة الحديثة، وبخاصة القول إن "الأمة هي مصدر السلطات، وأساس تولي الوظائف المختلفة فيها الكفاءة والخبرة والأمانة، والأمة كما هي صاحبة الحق في اختيار حاكمها ونوابها، فهي أيضا صاحبة الحق في مساءلتهم وعزلهم". أيضا، فإن الدولة - وفقا لتصور الحزب - تقوم على أساس المواطنة، بمعنى أنه لا تمييز بين مواطن وآخر بسبب العقيدة أو الجنس أو غير ذلك، فالجميع متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات.

إلى ذلك، فإن البرنامج يعلن انحيازه الكامل للديمقراطية، حيث يساويها بالشوري في المفهوم الإسلامي. ويذهب البرنامج إلى أنه مادام الإسلام لا يعين نموذجا محددا للشوري، فإنه يصبح من الملزم "أن نأخذ بأحسن ما وصلت إليه المجتمعات الإنسانية في ممارستها الديمقراطية من أشكال وقواعد وطرق إجرائية وفنية لمعرفة إرادة الأمة، وتحسين ممارسة السلطة، وضمان تداولها سلميا، وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية فيها، وتفعيل المراقبة عليها".أيضا، ففكر البرنامج يحترم مبدأ سيادة القانون، بما في ذلك أن تنضبط السلطات العامة به، وتخضع له، وتكون مسئولة في حالة الإخلال به، من خلال آليات الرقابة والمحاسبة التي يكفلها الدستور الذي تنهض عليه الدولة.

الدولة في تصور الحزب هي دولة مدنية، والمدنية هنا ينصرف معناها إلى أنها ليست عسكرية ولا دينية "ثيوقراطية"، بمعنى أن الحكم يجب ألا يتولاه العسكريون، لأن حكم هؤلاء يقوم على الانقلاب لا الانتخاب. كما أن الدولة يجب ألا يحكمها رجال الدين، حيث لا وجود من الأساس لهذا المصطلح في الخبرة الإسلامية، على حد قول البرنامج، بل هناك فقط متخصصون في الدين. وإنما الأمة هي مصدر السلطة، تنتخب بمحض إرادتها، من خلال انتخابات حرة ونزيهة، من يحكمها ومن ينوب عنها في المجالس التشريعية.

يذهب البرنامج أيضا إلى أن النظام البرلماني هو أفضل أنظمة الحكم، لأنه يقوم - كما يقول البرنامج - على أساس الفصل المرن بين السلطات، ويضمن الرقابة والمحاسبة من جانب السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية.

يشدد البرنامج أيضا على التعددية السياسية، ويري ضرورة كفالة سبل المشاركة في العملية السياسية لكل من يريد ذلك. ولتحقيق هذه الغاية، لابد من إطلاق حق تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية. لأن احترام التعددية هو الذي يكفل التعبير عن مصالح الأطراف المختلفة، وبالتالي يتيح التوصل لحلول فيما يتعلق بتنظيم الأولويات.

التطور من برنامج الجماعة إلى برنامج الحزب:

يتضح من هذا العرض أن جميع الخصائص الأساسية التي يجب أن تتسم بها الدولة، وفقا لتصور برنامج حزب الحرية والعدالة، لا تتصادم مع المبادئ الرئيسية التي تنهض عليها الدولة المدنية الحديثة. ولكن ما هو موقع المرجعية الدينية التي يستند إليها الحزب من هذا التصور؟ وما هي خصائص هذه المرجعية؟ وهل تتصادم هذه المرجعية مع مبادئ الدولة الحديثة التي يعلن عنها الحزب؟ هذه التساؤلات قد تثير قدرا من الجدل بحسب المنظور المستخدم في الإجابة عليها. ولنبدأ أولا بطرح رؤية الحزب فيما يتعلق بهذه المرجعية.

بطبيعة الحال، ينطلق حزب الحرية والعدالة من قناعات تستند إلى تصورات الشريعة الإسلامية عن المجتمع الأمثل. يتضح ذلك في سرد الحزب للأهداف الأساسية الكلية التي يسعى إلى تحقيقها في المجتمع، والتي هي بالأساس ما استنبطه علماء الشريعة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وأطلقوا عليها مقاصد الشريعة، وهي حماية وصيانة كل من: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال.

يري الحزب أيضا أن المرجعية الإسلامية يجب أن تطبق من خلال الرؤية التي يتوافق عليها الأغلبية البرلمانية في المجلس التشريعي المنتخب من قبل الشعب انتخابا حرا ونزيها (برنامج حزب الحرية والعدالة، ص8). إذن فعلى الرغم من إيمان الحزب بضرورة تفعيل مرجعية الشريعة، فإنه يسند هذا الدور التشريعي لا إلى رجال الدين "أو المتخصصين في الدين"، وإنما إلى أعضاء البرلمان المنتخبين انتخابا شعبيا حرا.

يري الحزب أيضا أن وجه الاختلاف بين الدولة الديمقراطية ذات المرجعية الإسلامية والدول الأخرى يكمن في أن الشريعة كما أنها تنظم أمور العبادات، فإنها أيضا تنظم شئون المعاملات في جميع نواحي الحياة، سواء بالنسبة للعلاقات بين المسلمين، أو بين المسلمين ومن يشاركونهم في الوطن من أصحاب الديانات الأخرى. غير أن البرنامج يعود، فيقول إن هذه النصوص المنظمة لهذه العلاقات هي قليلة العدد، وتتحدد فقط في النصوص قطعية الثبوت والدلالة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن هذه النصوص منها ما هو أقرب إلى كونه مبادئ عامة وقواعد كلية، بحيث إن المجال يظل مفتوحا أمام الاجتهاد والتشريع. إضافة إلى ذلك، يعطي الحزب لغير المسلمين الحق في الاحتكام إلى شرائعهم فيما يتعلق بمجال الأسرة وغيرها من المجالات ذات الخصوصية الدينية (برنامج حزب الحرية والعدالة، ص15

وإذا كانت هذه هي رؤية الحزب فيما يتعلق بمكانة المرجعية الدينية في بناء الدولة، فإنه يمكننا أن نورد بعض الملاحظات أو الأفكار على هذه الرؤية:

- إن البرنامج لم يفصل في مسألة النصوص قطعية الثبوت والدلالة، واكتفي من الأمر بالإشارة، كما أنه حاول أن يعطي انطباعا بأن هذه النصوص أقرب إلى المبادئ العامة من الأحكام الجزئية التفصيلية، وأن الفرصة الممنوحة للاجتهاد البشري في أمور التشريع هي فرصة عريضة للغاية. إن ذلك يحمل هدفا واضحا يتمثل في أن الحزب لا يريد أن يظهر بمظهر الحزب الديني المتشدد، وذلك من أجل هدف مفهوم يتمثل في كسب ود الناخبين، وهدم فكرة الخوف من الإسلاميين التي كان النظام السابق يحرص دوما على تنميتها في عقول المواطنين. ولكن من ناحية أخرى، فإن هذا القول المقتضب يحمل أيضا كل معاني الالتزام بالنصوص الشرعية.

- لم يعين برنامج الحزب جهة دينية يناط بها التأكد من تطابق التشريعات التي يسنها البرلمان مع الشريعة، بل إنه ذهب إلى أن "المحكمة الدستورية العليا هي الرقيب على هذه التشريعات" (برنامج حزب الحرية والعدالة، ص 15). ويعد هذا في حد ذاته تطورا كبيرا للفكر السياسي للجماعة، حيث يعبر عن تقبل أكبر لفكرة الدولة المدنية ذات المؤسسات التي تستند إلى الإرادة الشعبية. يتضح ذلك التحول النوعي بشكل جلي، إذا عدنا لـ "للإصدار الأول" لبرنامج الإخوان المسلمين الذي خرج إلى النور في 25 أغسطس 2007.

فقد كان البرنامج الأول ينص على تشكيل هيئة من كبار علماء الدين، يقتصر حق انتخابها على المتخصصين في علوم الدين، ويعاونها في العمل عدد من المتخصصين في الشئون الحياتية المختلفة، على أن يأخذ البرلمان رأيها في كافة المسائل التشريعية، ويكون رأيها ملزما في كافة القضايا التي تتعلق بالنصوص قطعية الثبوت والدلالة. أما فيما عدا ذلك من أمور، فيحق للبرلمان أن يتبني بأغلبيته المطلقة رأيا يختلف عن رأي الهيئة (برنامج حزب الإخوان المسلمين، ص10).  أما الآن، فإن حذف هذا الجزء من برنامج حزب الحرية والعدالة ينصرف معناه إلى أن المحكمة الدستورية قد أصبحت (في رأي الحزب) هي وحدها صاحبة الحق في الفصل فيما إذا كان التشريع يخالف الشريعة أم لا، وذلك من باب تطبيق نصوص الدستور التي تنص على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع".

- جدير بالذكر أيضا أن الصياغة الأخيرة هي التي يتبناها الحزب للمادة الثانية من الدستور، ويأتي ذلك في الفصل الأول من البرنامج تحت عنوان "الأسس والمنطلقات" (برنامج حزب الحرية والعدالة، ص7). وبالتإلى، فالحزب قد تماشي مع الصياغة التي لا تثير جدلا كبيرا بين التيارات السياسية المختلفة، وبين المسلمين والأقباط، واختار كلمة "المبادئ" وليس "الشريعة" مباشرة، وإن كان تفسيره الخاص لكلمة المبادئ يعود إلى فكرة "الأحكام قطعية الثبوت والدلالة".

- لم يتطرق برنامج الحزب إلى ديانة رئيس الدولة، على خلاف الحال مع النص الأول لبرنامج الجماعة. فقد اشترط الأخير أن يكون رئيس الدولة مسلما، وعلل ذلك بأن للدولة "وظائف دينية" ينبغي أن يقوم بها رئيس الدولة أو رئيس الوزراء (في الأنظمة التي تمنح الأخير السلطة التنفيذية الفعلية)، تتمثل هذه الوظائف في حراسة الدين، وحماية شئونه. وبناء عليه، "يعفي" غير المسلم من القيام بهذه الواجبات، لأنها تختلف مع عقيدته.

نستنتج من هذه الملاحظات السريعة أن برنامج حزب الحرية والعدالة يحاول أن يوفق بين نموذج الدولة الدينية الذي تمليه عليه قناعاته الفكرية، وبين نموذج الدولة المدنية الحديثة كثيرا ما طالبت به مختلف القوى السياسية والنخبة المثقفة من أجل النهوض بالبلاد، والدخول بها إلى القرن الحادي والعشرين، في محاولة للحاق بشعوب العالم المتقدم. هذا، وقد ساعدت الثورة المصرية على خلق الأجواء الضاغطة على الحزب، كي يعدل من أفكاره السابقة التي كانت تميل إلى التشدد.

- حزب النور (مصر):

أما الحزب الآخر، الذي يمثل الجناح الثاني للحركة الإسلامية الحالية في مصر، فيتمثل في حزب النور المعبر عن التوجه السلفي. وقد أنشئ الحزب عقب ثورة 25 يناير من أجل أن يكون معبرا عن صوت الحركة السلفية في عالم السياسة. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يقرر فيها السلفيون دخول معترك الحياة العامة في مصر، حيث استقر أمرهم دوما على الاكتفاء بالدعوة والوعظ والإرشاد، مع اجتناب كل ما يتعلق بأمور السياسة، حيث كان رأيهم الشرعي يرتكز على تأثيم الخروج على الحاكم المسلم. وقد انعكس هذا التوجه على موقف السلفيين من ثورة يناير في البداية، حيث انتقدها شيوخ السلفية بشدة، على أساس أن الشرع لا يقر فكرة الخروج على الحاكم. وقد جذب هذا الموقف المعادي للثورة انتقاد الكثيرين للتيار، عندما أعلن عن نيته في تأسيس حزب سياسي، بعد أن كان يرفض هذا الأمر تماما. إلا أن رد المؤسسين للحزب تمثل في أنه لم تكن هناك من الأساس أي فائدة من المشاركة السياسية في فترة حكم مبارك، وبالتالي قررت الحركة السلفية تجنب العمل السياسي خلال تلك الحقبة. أما الآن، فلابد أن يكون للحركة دور في صياغة مستقبل البلاد.

ومنذ البداية، اكتنفت أفكار الحزب وتصريحات قيادات الحركة الكثير من التناقضات. فمجرد فكرة ممارسة العمل السياسي لم تكن مطروحة من الأساس لدي التيار السلفي قبيل الثورة، بل إن الثورة ذاتها كانت محل استهجان من التيار، كما سبق القول. إضافة إلى ذلك، فقد أصابت تصريحات العديد من قيادات الحركة المجتمع بالصدمة، إذ لم يأل هؤلاء جهدا في تكفير الديمقراطية، وفي الهجوم على التيارات السياسية غير الإسلامية، وبخاصة الليبرالية التي يساوونها بالعلمانية التي هي مرادفة للكفر لديهم.

وقد تمثلت أولى المناسبات التي لعبت فيها الحركة السلفية دورا سياسيا واضحا في أزمة الاستفتاء على تعديلات دستور 1971 الذي أسقطته الثورة، حيث تباري مشايخ الحركة في حشد الجماهير من أجل التصويت لصالح التعديلات، على أساس أن هذا سيحافظ على الهوية الإسلامية لمصر، وأن التصويت في عكس هذا الاتجاه سوف يكون خيانة للدين. وفي هذا السياق، ظهر المصطلح السلفي الشهير "غزوة الصناديق".

ويبدو أن فكرة الهوية قد سيطرت بشكل كبير على الفكر السياسي الوليد للتيار السلفي، حيث يتضح ذلك بجلاء في برنامج الحزب. فالبرنامج يفرد قسما خاصا لموضوع "الثقافة والهوية"، ويعطي أهمية قصوي لضرورة تعميق الهوية الإسلامية لمصر، وضرورة أن تنضبط كافة مناحي الحياة بضوابط الشريعة، مع إعطاء اهتمام خاص لمؤسسة الأزهر، ومحاولة إعادة بعث دوره كمراقب على تنفيذ المرجعية الإسلامية.

هذا، ويظهر البرنامج مدي بساطة الخبرة السياسية للحزب، حيث نجد تكرارا لحديث حزب الحرية والعدالة عن أن الدولة ينبغي ألا تكون ثيوقراطية تحكم بالحق الإلهي، ولا أن تكون دولة "لا دينية".  وتتلخص المبادئ التي ينبغي أن يقوم علىها النظام السياسي - من وجهة نظر الحزب - في حفظ الحقوق الأساسية والحريات العامة، ومراعاة استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية، وضرورة تحقيق الديمقراطية في إطار الشريعة الإسلامية. (برنامج حزب النور، ص46).

- حزب حركة النهضة (تونس):

          ترجع جذور حركة النهضة في تونس إلى عام 1972؟ حيث تم إنشاء ما سمي بـ "الجماعة الإسلامية" بقيادة  المفكر الإسلامي راشد الغنوشي، والمحامي عبد الفتاح مورو. وشأنها شأن جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بدأت هذه الجماعة عملها بشكل غير رسمي في المجال الدعوي. وقد عقدت الجماعة أول اجتماعاتها لتأسيس هيكلها التنظيمي في عام 1979؟ ثم غيرت اسمها في عام 1981 إلى "حركة الاتجاه الإسلامي".  في بداية الأمر، لاقت الجماعة سماحا من الحزب الحاكم، الحزب الاشتراكي الدستوري (حزب الرئيس الحبيب بورقيبة). حاولت الجماعة إنشاء حزب سياسي في عام 1983؟ إلا أن السلطات قررت الانقلاب عليها، واعتقال مؤسسيها، ومحاكمتهم بتهمة الانتماء إلى تنظيم غير شرعي، حيث حصل مؤسسها راشد الغنوشي على حكم بالسجن لفترة طويلة، تم تخفيفها فيما بعد.

رحبت الجماعة بإطاحة زين العابدين بن علي لبورقيبة في 1987؟ حيث حدثت انفراجة مؤقتة بينها وبين السلطة. غيرت الجماعة اسمها للمرة الثانية في عام 1989 إلى "حركة النهضة"، ودخلت في الانتخابات البرلمانية في العام نفسه في قوائم مستقلة، وحصلت على 13؟ من الأصوات. عاد الصدام مرة أخرى بين الحركة وبين زين العابدين، حيث تم حظر كافة أنشطة الحركة منذ بداية التسعينيات، وقبض على المئات من أعضائها، وخرج راشد الغنوشي إلى المنفي في الجزائر، ثم إلى لندن، ولم يعد إلا مع اندلاع الثورة التونسية التي أطاحت بـ "بن على" ونظامه في يناير2011 ("حركة النهضة التونسية")

في الأول من مارس 2011، تم الاعتراف بالحركة كحزب رسمي من قبل حكومة رئيس الوزراء المؤقت، محمد الغنوشي. وعلى إثر ذلك، دخل حزب حركة النهضة في انتخابات الجمعية التأسيسية للدستور الجديد، والتي عقدت في 23 أكتوبر 2011، وحصل على 37 من الأصوات، مكنته من الحصول على 89 مقعدا من أصل 217 مقعدا (41 من عدد المقاعد).

ويمثل برنامج "حزب حركة النهضة" نموذجا فريدا في الفكر السياسي للحركات الإسلامية في الوطن العربي. فالبرنامج يعتز بالقيمة الحضارية للإسلام، وينص على أنه دين الدولة التونسية، وعلى أن اللغة العربية هي لغتها، ولكنه في الوقت نفسه يعترف برصيد الخبرات الوطنية لتونس، بل وبالخبرة الإنسانية للعالم. إنه يري الدين مصدرا للإلهام، ويسعي إلى عدم فصل مجالات الحياة عن فلك القيم والأخلاق، بل إنه يقوم على فكرة استخدام "تعاليم الإسلام" كأساس لنهضة البلاد.

من اللافت للنظر أن البرنامج يعترف صراحة بالدولة المدنية، ويحدد وظائفها، وذلك في المادة العاشرة منه: "تتبني حركة النهضة نموذج الدولة المدنية التي ترعي الشأن العام، وتحمي السلم الاجتماعي، وتعمل من أجل الرقي الاقتصادي، وتسعي إلى ترسيخ الحريات العامة والخاصة، وتحترم قواعد الديمقراطية والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات". (برنامج حركة النهضة، ص8).

برنامج الحركة يتبني النظام البرلماني الخالص كنظام حكم للبلاد، حيث الحزب الحائز على أغلبية المقاعد هو الذي يشكل الحكومة التي تكون مسئولة أمام البرلمان. أما الرئيس، فإنه يختار من خلال البرلمان، وليس من خلال انتخابات شعبية، وذلك في تطبيق أمين للنظام البرلماني الكلاسيكي. أما القضاء، فإنه مستقل عن السلطة التنفيذية، وتحدد محكمة دستورية عليا مدي دستورية القوانين التي يصدرها البرلمان. البرلمان ذو غرفة تشريعية واحدة، والبرلمان هو الذي يعين رئيس المحكمة الدستورية.

برنامج الحزب منفتح على المجتمع المدني، ويدعم مؤسساته بقوة، حيث ينص في المادة 13 على أن الحركة تعمل "على قيام مجتمع مدني منظم ومستقل يسعي إلى تحرير طاقات الأفراد، وإشراكهم في الشأن العام، وتوحيد جهودهم، درءا للاستبداد، وتغول وطغيان الدولة أو رأس المال على المجتمع". هذا بالإضافة إلى العمل على إلغاء القوانين القمعية، التي تحد من الحقوق والحريات.

يلاحظ على البرنامج بشكل عام أنه لا يدخل في تفاصيل بخصوص علاقة الإسلام بالدولة، وأنه لا يتحدث كمن يريد أن يقيم توازنا حرجا بين الإسلام والدولة المدنية، وهذا يدل على أن التيار الإسلامي في تونس لديه قدرة أكبر على التعايش مع فكرة الدولة بمعناها الحديث، بل إنه لا يجد أية غضاضة في قبول آلياتها ومؤسساتها وإجراءاتها. وبعبارة أخرى، فإن المرء لا يشعر وهو يقرأ البرنامج بأن حركة النهضة تعاني التمزق النفسي ذاته الذي يعانيه الإخوان المسلمون، وحزبهم الحرية والعدالة في مصر، بين الالتزام بمبادئ النموذج الديني الذي نشأوا علىه، ومحاولة التكيف مع كيان ثقيل لا يجدون بديلا عن التعامل وفقا لآلياته، واسمه الدولة الحديثة. هذا الكيان الذي ينظم العلاقة بين المواطنين الذين يعيشون على أرضه، على أساس من المساواة التامة بينهم جميعا، بغض النظر عما قد يكون بينهم من اختلافات تتعلق بالنوع، أو العقيدة، أو اللون، أو الطائفة، أو الخلفية الاجتماعية، أو غيرها من مظاهر الاختلاف بين البشر، والذي يقف على مسافة واحدة من الجميع، فلا يحابي بعضهم على حساب بعض، والذي يكفل لهم حرياتهم وحقوقهم الأساسية، والذي يعتمد الحكم فيه على الرضاء الشعبي، ويكون فيه الشعب مصدر السلطات كافة.

ثانيا- ما بعد البرامج .. السلوك القولي والفعلي:

تحاول الورقة في هذا الجزء المتبقي أن ترصد بعض التصريحات التي أطلقت من قيادات حركات التيار الإسلامي في مصر وتونس في مناسبات مختلفة، خلال الفترة التي أعقبت ثورتي البلدين بخصوص طبيعة النظام السياسي الجديد الذي تفكر هذه الحركات في تدشينه.

-1 الموقف من الدولة المدنية:

حاولت قيادات جماعة الإخوان المسلمين دائما تأكيد أن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية، وأن الدولة في الإسلام كانت دائما وستظل دولة مدنية. والواقع أن هذه المصطلحات لا تحمل المعني نفسه لدي كافة التيارات السياسية. فالإخوان يعرفون الدولة الدينية بشكلها المتطرف الذي كان يوجد في أوروبا في العصور الوسطي، والذي كان يقوم على أن شرعية الملك تأتي من الحق الإلهي المقدس في الحكم، والذي يمنحه له البابا. بينما التيارات السياسية غير الإسلامية تري أن الدولة الدينية هي التي تميز بين مواطنيها بسبب عقائدهم الدينية. أما الدولة المحايدة أو التي تفصل بين الدين والدولة، فهي دائما دولة محل انتقاد من جانب الإخوان، على أساس أنها تخالف الإسلام. ذلك لأن الإسلام ليس فقط دينا فرديا ينظم العلاقة بين العبد وربه، وإنما هناك عدد كبير من آيات القرآن الكريم تخاطب "جماعة المسلمين"، وبالتالي لا بديل عن أن يكون الإسلام دينا ودولة. وقد كان القيادي الإخواني صبحي صالح، عضو لجنة تعديل الدستور، من أشهر وجوه جماعة الإخوان التي طرحت رؤية الجماعة لقضية الدولة المدنية والدولة الدينية إعلاميا. وفي مناظرة أستاذ العلوم السياسية والعضو الحالي في مجلس الشعب، د. عمرو حمزاوي، في جامعة الإسكندرية في أبريل 2011 قال صالح: "إن التساؤل عن ماهية العلاقة بين الدين والسياسة صياغة خاطئة لا تتماشي مع الإسلام الذي يعد دينا ودولة، وفصلهما يعني عدم تطبيق الأحكام التي وردت في 600 آية قرآنية، مثل آيات القتال والقصاص وغيرها من آيات الأحكام الشرعية".

يرتبط بهذه المسألة أيضا فكرة الموقف من ديانة رئيس الدولة. فقبيل ثورة يناير، أعلن الإخوان المسلمون بوضوح في برنامجهم أن المنصب لا بد أن يقتصر على المسلم دون غيره، وعلى الرجل دون المرأة. أما في برنامج ما بعد الثورة، فقد تم تجاهل الحديث عن هذا البند. ويبدو أنه قد تم التوصل إلى توافق داخل الجماعة حول هذا الأمر، مفاده أن الجماعة والحزب لن يعترضا على ترشيح المرأة أو غير المسلم للمنصب، ولكنهم لن يؤيدوا إلا رجلا مسلما.

وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين تحاول التوفيق بين مصطلح الدولة المدنية والإسلام، فإن حزب النور السلفي قد أعلن صراحة أنه لا يقبل مصطلح الدولة المدنية من الأساس، لأن الدولة المدنية في رأي قادته تساوي الدولة العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة. وقد صرح المتحدث الإعلامي للحزب في يناير 2012؟ بأن حزبه، مثل التيار السلفي عموما، "لن يقبل بدولة مدنية، لأن المقصود بها العلمانية"، وطالب بدولة ذات مرجعية إسلامية كاملة في الأحكام والمبادئ والأهداف.

وبطبيعة الحال، فإن الموقف بالنسبة لديانة ونوع رئيس الدولة محسوم بالنسبة لحزب النور، حيث لابد أن يكون ذكرا مسلما. ولكن حزب النور يتميز هنا عن جماعة الإخوان بأنه يريد أن ينص على ذلك صراحة في الدستور.

أما بالنسبة لحزب النهضة في تونس، فإن مؤسس الحركة، راشد الغنوشي، قد أوضح - في حوار نشرته جريدة الأهرام المصرية بتاريخ 4 فبراير 2012 - أن حركة النهضة "أكدت فيما يتعلق بعلاقة الدولة بالدين التزامها بمقومات الدولة المدنية الديمقراطية التي لا سند لشرعيتها غير ما تستمده من قبول شعبي تفصح عنه صناديق الاقتراع، عبر انتخابات تعددية نزيهة، كما أكدت قاعدة المواطنة والمساواة بين الجنسين أساسا لتوزيع الحقوق والواجبات، كتأكيدها لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان". ولكنه عاد، فأكد أن هناك توافقا واسعا بين القوى السياسية على الهوية الإسلامية لتونس. وأضاف أن تونس ليست في حاجة للعلمانية من أجل إقرار التسامح والتعددية والديمقراطية. كما أشار إلى أنه "لا تناقض بين الإسلام والعقل، ولا تناقض بين الإسلام والعلم والحداثة والديمقراطية".

-2الموقف حول دولة "الخلافة":

كان حلم دولة الخلافة الإسلامية، ولا يزال، هدفا رئيسيا لكافة تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي، بل إنه يمكن القول إن جماعة الإخوان المسلمين قد قامت بالأساس في عام 1928 كرد فعل لقيام كمال أتاتورك في عام 1924 بإعلان انتهاء الخلافة العثمانية، وشروعه في تأسيس الدولة التركية الحديثة على النمط الغربي. ويثير هذا الهدف الكثير من الجدل بين الفرق الإسلامية من جهة، وبين التيارات السياسية غير الإسلامية من جهة أخرى. فدولة الخلافة هي بطبيعة الحال، في نظر الليبراليين واليساريين، هي دولة دينية، وليست مدنية.

وقد جاء أوضح وأقوى تعبير عن هذا الهدف بعد ثورة 25 يناير على لسان د. محمد بديع، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، الذي عبر في آخر رسائله الأسبوعية في عام 2011؟ عن أن إعادة إحياء الخلافة هي الهدف الأعظم لجماعة الإخوان المسلمين، التي تؤهل المسلمين لـ "أستاذية العالم". وأعرب بديع عن اعتقاده في أن ثورات الربيع العربي قد جعلت هذه الغاية العظمي أقرب إلى التحقيق.

أدي الاعتراض الحاد من جانب القوى الليبرالية واليسارية إلى تدخل بعض أعضاء حزب الحرية والعدالة في البرلمان، مثل صبحي صالح وآخرين، ليؤكدوا - بحسب ما نشر موقع " CNN  بالعربية" بتاريخ 29 يناير 2012 - أن حديث المرشد جاء فقط في سياق الحديث عن أن ثورات الربيع العربي وما تلاها من انتخابات أكدت أن الشعوب العربية تتفق على أن يكون مشروعها النهضوي مشروعا إسلاميا، وأن هذا الأمر يزيد التقارب بين دول الوطن العربي. وأضافوا أن الخلافة المقصودة "ليست خلافة بمسماها القديم، ولكن بمنظور آخر يحاكي النظم الحديثة، مثل النظام الفيدرالي في الولايات المتحدة، أو ما يشبه الاتحاد الأوروبي، في وحدة الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولكن دون حكومة مركزية".

وبطريقة مشابهة تقريبا، تحدث حمادي الجبالي، الأمين العام لحزب النهضة الإسلامي ورئيس وزراء تونس الحالي، عن الخلافة الإسلامية، حين خاطب، في منتصف شهر نوفمبر 2011 مجموعة من أنصار حزبه في مدينة سوسة التونسية، قائلا: "يا إخواني، أنتم الآن أمام لحظة تاريخية، أمام لحظة ربانية، في دورة حضارية جديدة إن شاء الله، في الخلافة الراشدة السادسة إن شاء الله". وأعربت التيارات الليبرالية عن بالغ القلق والاستياء من اتجاه حزب النهضة للسعي لتأسيس دولة إسلامية في تونس.

وبنفس طريقة الإخوان في مصر، حاول مدير مكتب الجبالي تدارك الموقف، فصرح لوكالة رويترز للأنباء بأن "الجبالي كان يقصد تطلعه إلى حكم رشيد شفاف يقطع مع الفساد، وليس إقامة نظام إسلامي". وأضاف "نحن حركة مدنية، هذا لا جدال فيه، لكن فئة من النخبة تسعي إلى تلهية الشعب عن اهتماماته الرئيسية".

-3قضايا مجتمعية:

نتناول في هذا الجزء بعض المواقف التي اتخذتها تيارات الإسلام السياسي في مصر وتونس بالنسبة لبعض القضايا الاجتماعية، كالسياحة، والحريات الشخصية.

ويمكن القول إن قطاع السياحة المصري قد شعر بقلق شديد، إثر الفوز الكبير الذي حققه حزبا "الحرية والعدالة" و"النور" في انتخابات مجلس الشعب. وثار الكثير من الجدل حول موقف جماعة الإخوان المسلمين من السياحة، خاصة أن السياحة الشاطئية تمثل العمود الفقري للدخل في هذا القطاع المهم من قطاعات الاقتصاد المصري. وقد تصاعدت المخاوف بسبب الخطاب الإعلامي لبعض رموز التيار الإسلامي، والذي اتسم بطبيعة الحال بتغليب الاعتبارات الأخلاقية والدينية في التعامل مع قضايا قطاع السياحة (رفض تقديم الخمور في الفنادق، رفض رداء البحر للنساء...  إلخ). وحاولت التيارات الإسلامية لاحقا تهدئة المخاوف من خلال الوعد بإعطاء فترة انتقالية، لا يتم خلالها المساس بأي شيء يخص المجال، أو من خلال التعهد باستحداث أشكال جديدة من السياحة تضاعف أعداد السائحين.

وقد حرص د. عصام العريان، القيادي الإخواني البارز، ونائب رئيس حزب الحرية والعدالة، على زيارة مدينة شرم الشيخ، في نهاية شهر سبتمبر 2011 خلال انتخابات مجلس الشعب، وأكد في لقاءات جماهيرية، أن "ما يتردد حول أن وصول الإسلاميين للحكم سيضر السياحة، ويغلق بيوت آلاف الأسر، إنما هي إشاعات من فلول (الحزب) الوطني لضرب حزب الحرية والعدالة والتأثير في الناخبين"، وأكد أن الحزب يسعي لاجتذاب 20 مليون سائح لزيارة مصر. كما أكد العريان، خلال اجتماعه، في 26 سبتمبر 2011؟ بأعضاء الهيئة العليا لائتلاف العاملين بالسياحة والفنادق أن "القطاع السياحي مصدر مهم من مصادر الدخل القومي، ولا يجرؤ أحد على المساس به، أو تشويهه"، لكنه أضاف، في تصريح يبقي قابلا للتأويل، إن السياحة لا يقتصر مفهومها على "مايوه وزجاجة خمر".

ويبدو أن القضية كانت أكثر تعقيدا من رؤية الإخوان المبسطة لها في بادئ الأمر، مما أدي إلى إعلان الأمين العام المساعد المسئول عن القطاعات التنموية في الحزب، في منتصف يناير 2012 أنه لا مساس بالسياحة الشاطئية خلال السنوات الخمس القادمة، مشيرا إلى أن حزبه سوف يعمل على مضاعفة أعداد السائحين إلى 25 مليونا في العام. وأوضح أن الحزب لديه خطط قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل للنمو بالقطاع.

لكن كل تلك التصريحات لم تستطع حسم مسألة الحرية الشخصية في قضية السياحة، إذ تبدو تلك التطمينات جميعها مرحلية، ولكن التحفظات ذات المرجعية الدينية على حرية السائح الشخصية تظل قائمة، وكذلك احتمالات التدخل فيها لاحقا.

أما بالنسبة لحالة تونس، فقد كان حزب النهضة واضحا منذ البداية في تعاطيه مع هذه القضية، إذ أعلن حمادي الجبالي، الأمين العام للحزب، في 26 أكتوبر 2011؟ عقب انتخابات الجمعية التأسيسية التي فاز فيها الحزب بأكثرية المقاعد، أن القطاع السياحي يعد من المكتسبات التي لا مجال للمساس بها". وأضاف: "هل من المعقول أن نصيب قطاعا حيويا مثل السياحة بالشلل بمنع الخمور وارتداء لباس البحر وغيرها من الممارسات؟ هذه حريات شخصية مكفولة للأجانب وللتونسيين أنفسهم".

وفيما يتعلق بموقفه وحزبه من بيع الخمور وارتداء النساء لملابس البحر، قال راشد الغنوشي، مؤسس حركة النهضة، لمجلة المجلة العربية الصادرة في لندن، بتاريخ 3 أكتوبر 2011: "لا أحد يفقه تاريخ التشريع في الإسلام يسمح لنفسه بأن يغير أنماط الحياة من مأكل وملبس ومشرب عن طريق القسر والإكراه والتهديد، فالله خلق الناس أحرارا، ولم يعط لأحد سلطة في أن يقود الناس، حتي للجنة، بالسلاسل".

وفيما يتعلق بملف الحريات الشخصية بشكل عام، نشرت جريدة الأهرام المصرية، في 10 ديسمبر 2011؟ حوارا مع د. سعد الكتاتني، الذي كان حينها أمين عام حزب الحرية والعدالة، حيث سئل الرجل عدة أسئلة تتعلق بموقف الإخوان من الأقباط، والمرأة، وقضية فرض الحجاب، فأجاب: "الأقباط شركاء لنا في الوطن، وحقوقهم  مصونة بحكم الشريعة الإسلامية نفسها وبأمر إلهي، ثم إننا لن نفرض ارتداء الحجاب لا على المسلمات ولا على غيرهن، فللمسلمة علينا حق الدعوة والنصيحة .. وهي تعلم أن الحجاب واجب .. لكن الفرض بقوانين وتشريعات غير وارد ولا مقبول". ورحب الكتاتني بحق الأقباط في سن قانون للأحوال الشخصية، وذكر أنه طلب من أحد الأقباط إعداد مثل هذا القانون في عام 2005؟ عندما كان نائبا في البرلمان، وعرض علىه أن تقدمه الهيئة البرلمانية للإخوان المسلمين، ولكن التشريع لم يعد. وعن الموقف من دور السينما والمسارح والملاهي والإنترنت، والشائعات عن إغلاقها، قال الكتاتني: "لا .. إننا نطالب بالالتزام بالأخلاق، وهذا بالدعوة الطيبة وليس بالقانون". وأخيرا، بالنسبة لتطبيق الحدود، قال: "إنه لا يمكن إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ولكن هذا الأمر ليس على رأس أولويات الحزب الآن"، واستشهد بموقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من حد السرقة في عام المجاعة.

خاتمة:

يكشف التحليل السابق أن تصورات قوى الإسلام السياسي تختلف باختلاف السياق. آية ذلك أن تونس، المعروفة ببعدها قبل الاستقلال وبعده عن الثقافة الإسلامية، ظهرت بها حركة النهضة كلاعب إسلامي معتدل، يبتعد عن التشدد، ويميل إلى التوافق مع الاتجاه العام للمجتمع والدولة. لم تحاول حركة النهضة بعد ثورة 17 ديسمبر أن تفرض على المجتمع التونسي منظومة معينة للقيم، تتصادم مع ثقافة المجتمع، واكتفت في الأغلب، وحتي الآن على الأقل، باستبطان نموذجها الديني، واستلهامه كمحرك للأفعال والمواقف. أما في مصر، فالأمر مختلف. فالثقافة الدينية متجذرة في الشعب المصري، كما كانت مصر أولي الدول العربية التي شهدت إنشاء أول جماعة للإسلام السياسي، متمثلة في الإخوان المسلمين، الذين على الرغم من اعتدالهم منذ النشأة، فإنهم يتبنون مقتربا دينيا تقليديا في التعامل مع مختلف قضايا المجتمع.

إلى ذلك، فقد أسهمت عوامل ارتباط عدة بين المجتمع المصري والمملكة العربية السعودية في تكون تيار سلفي له وجود وحضور وأتباع، حيث عبر هذا التيار عقب الثورة عن رغبته في دخول عالم السياسة للمرة الأولي في تاريخه، وذلك بعد أن كان يرفض الأمر على إطلاقه. أدي ذلك إلى وجود تيار سياسي آخر على يمين الإخوان، الأمر الذي قد يرجح تبني صيغ أكثر تشددا للتعامل مع قضايا المجتمع المختلفة. وقد بدأ ذلك يتضح من خلال مشروعات القوانين التي يقترحها نواب حزب النور السلفي. ومن ثم، فإن قضية تطبيق الشريعة مثلا سوف تسير بوتيرة سريعة في مصر، بينما من المستبعد أن يحدث أمر مشابه في تونس في الأجل المنظور.

أما الدولة المدنية، فإن معناها لدي التيارات الإسلامية في مصر سوف يقتصر على قضايا طفيفة، مثل التسامح مع غير المسلمين في تنظيم شئونهم الخاصة (كالأحوال الشخصية) وفقا لشريعتهم (حيث يتفق كل من السلفيين والإخوان على هذا)، ومثل احترام نزاهة الانتخابات (حيث يتوقعون أن تأتي نتائجها بالإسلاميين دائما نتيجة لتدين المصريين)، ومثل السماح ببعض الحريات الشخصية البسيطة (كعدم فرض زي معين على المرأة)، وكذا السماح للمرأة والأقباط بالتنافس في الانتخابات البرلمانية والرئاسية (لأن احتمال نجاحهم في الأصل يكاد يكون معدوما).

طباعة

تعريف الكاتب

د. أسامة صالح

د. أسامة صالح

قسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.