أثارت القمة الأخيرة لمنظمة شنغهاى للتعاون فى تيانجين بالصين والتى عقدت بتاريخ 31 أغسطس 2025، مخاوف واسعة فى المعسكر الغربى، خصوصا بعد إطلاق الرئيس الصينى شى جين بينغ مبادرة حول الحوكمة العالمية، وتركزت المخاوف من الدعم الصينى المطلق لإيران إن هى تعرضت -كما هو مرتقب- لحملة موسعة من العقاب على المستويين الاقتصادى والعسكرى.
وتأتى هذه المبادرة امتدادا للمبادرات التى طرحتها بكين فى مجالات التنمية العالمية، والأمن، وحوار الحضارات، وتهدف إلى معالجة التحديات المشتركة عبر بناء منظومة عالمية للحوكمة أكثر عدالة وعقلانية، والسعى نحو ترسيخ مجتمع المصير المشترك للبشرية.
الصين وإيران وشعار المصير المشترك:
شعار "مجتمع المصير المشترك" استخدمته الصين كثيرا فى سياق سياساتها الخارجية، خاصة ضمن مبادرة "الحزام والطريق" ومبادرات الحوكمة العالمية، ويشير إلى تعزيز التعاون بين الدول لحل التحديات العالمية المشتركة، وتحقيق مصالح متبادلة بدل الصراع الأحادى، مع تأكيد الاعتماد المتبادل لتعزيز الاستقرار الدولى.
ويعكس إطلاق المبادرة، بالتزامن مع إدانة قادة المنظمة بشدة الهجمات العسكرية الإسرائيلية والأمريكية على إيران واعتبارها انتهاكا صارخا للأصول والمقررات الدولية وميثاق الأمم المتحدة، وعمليات تفعيل الترويكا الأوروبية للعقوبات، تصاعد التوتر بين قوى الشرق والغرب، ويؤكد التوجه الاستراتيجى للصين، وإيران، وروسيا نحو تعزيز التكامل السياسى، والعسكرى، والاقتصادى ضمن أوراسيا، خارج إطار الهيمنة الغربية الأحادية.
فمنذ تأسيس مجموعة شنغهاى الخماسية عام 1996 من خلال توقيع الصين، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وروسيا، وطاجيكستان على معاهدة لتعميق الثقة العسكرية على الحدود، ركزت المنظمة على تعزيز الأمن والتعاون الإقليمى وتنسيق السياسات الدفاعية والسياسية بين الدول الأعضاء.
ومع انضمام إيران وبلاروس فى شهر سبتمبر من عام 2022، اتسع النفوذ العالمى للمنظمة، لتصبح منصة مهمة لتعزيز الاستقلال الاستراتيجى فى أورآسيا والعمل على منع تدخل دول الغرب (أوروبا وأمريكا) فى كثير من الملفات الدولية ذات الاهتمام الشرقى على الأقل فى اللحظة التاريخية الراهنة..
مواجهة العقوبات بالتحرك نحو الشرق:
فى أعقاب حرب الاثنى عشر يوما بين إيران وإسرائيل، وتصاعد ضغوط الترويكا الأوروبية (بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا) الرامية إلى إعادة العقوبات الأممية على إيران، اتجهت إيران مؤخرا لتعزيز علاقاتها مع روسيا، والصين، والهند ضمن إطار التعاون الإقليمى فى أوراسيا.
ويهدف هذا التوجه إلى دعم المشاريع التجارية والاقتصادية وممرات النقل الدولى، للحيلولة دون العزلة الدولية، ضمن استراتيجية توفير بدائل للتأثيرات الغربية، ومواجهة العقوبات الأممية المرتقبة، مع التركيز على تطوير مشاريع مشتركة مع شركاء استراتيجيين فى قارة آسيا لاسيما الثلاثة الكبار وهم الصين، وروسيا، والهند.
من أجل هذا، تهدف الدبلوماسية الإيرانية الأخيرة إلى مواجهة العدوان العسكرى والعقوبات الدولية من خلال تعزيز العلاقات مع روسيا، والصين، والهند، بما يضمن حماية السيادة الوطنية وتعزيز النفوذ الإقليمى ضمن المنظمات الأوراسية، بالإضافة إلى تثبيت اقتصاد البلاد فى ظل التحديات الجيوسياسية الراهنة، مع تمكينها من الوصول إلى أسواق ضخمة، وتصدير النفط والبتروكيماويات لأعضاء المنظمة.
فضلا عن ما سبق يأتى تأمين احتياجات إيران التقنية، والمالية، والصناعية من هذه الدول على رأس الأهداف من التوجه الإيرانى نحو الشرق بكل هذا الثقل، كما ستمنح مبادرة الحوكمة العالمية إيران فرصة التموضع ضمن مبادرة الصين الكبرى "الحزام والطريق"، وتقوية روابطها مع دول آسيا الوسطى.
إذا تعتبر عضوية إيران فى شنغهاى مكملة لعضويتها فى منظمة البریکس، حيث يعد الأعضاء فى هاتين المنظمتين حلفاء استراتيجيين لإيران، ولهم دور فاعل فى صياغة النظام العالمى الجديد وفق مصالح الدول الأعضاء وموازين القوى الآسيوية والدول الصاعدة.
كما أن تعزيز حضور إيران فى شنغهاى وبریکس، بالتوازى مع مبادرة الحوكمة العالمية، يعزز قدرتها على مواجهة محاولات الولايات المتحدة والغرب لعزلها، ويزيد تكلفة أى تحرك عسكرى محتمل ضد برنامجها النووى الذى تعرض لضربات موجعة فى يونيو 2025.
وتوضح الأمثلة الأخيرة على سياسات الولايات المتحدة تجاه الهند وروسيا بجلاء كبير حجم الضغوط التى تمارسها واشنطن للسيطرة على سلاسل الطاقة والتجارة العالمية، والتى يمكن أن تؤثر بشكل مماثل على إيران التى تقع فى القلب من ممرات التجارة العالمية التى تحمل تلك السلاسل المهمة.
فقد فرضت الولايات المتحدة مؤخرا تعريفة جمركية بنسبة 50% على السلع الهندية، بسبب شراء الهند للنفط الروسى، مع تهديد بزيادة إضافية بنسبة 10%، وبالرغم من لقاء ترامب وبوتين فى ألاسكا، لم تخفف الولايات المتحدة أو أوروبا العقوبات المفروضة على روسيا، بل فرضت أوروبا عقوبات جديدة.
فى هذا السياق ذهبت صحيفة كيهان المحافظة فى صدر مقالة لها بعنوان: "نشستشانغهای فرصت بزرگ خنثیسازیتحریمها"، أى "اجتماع شنغهاى فرصة كبيرة لإحباط العقوبات"، إلى أن إيران تواجه أيضا سياسة "الضغط الأقصى" من واشنطن، مع فرض قيود على صادرات النفط والقطاعات المالية، واللوجستية، والطيران، إلى جانب مراجعة مشاركة الشركات الصينية والهندية فى مشاريع البنية التحتية.
ومن وجهة نظر الصحيفة المقربة للغاية من بيت القيادة فى طهران، فإن كل ذلك يبرز أهمية تحالفات إيران ضمن منظومتى شنغهاى وبریکس، لتخفيف تأثير هذه الضغوط الغربية القصوى وتعزيز قدرة إيران على الصمود أمام العقوبات السابقة والعقوبات المرتقبة.
البعد العسكرى والأمنى لعضوية شنغهاى:
يكتسب البعد العسكرى والأمنى لإيران فى إطار منظمة شنغهاى للتعاون أهمية استراتيجية خاصة، إذ تمثل العضوية منصة لتعزيز الردع وحماية المصالح الحيوية على المستويين الداخلى والخارجى، لاسيما وأن طهران تستفيد من المشاركة فى التدريبات العسكرية المشتركة مع روسيا، والصين، ودول آسيا الوسطى، وهذا بلا شك يزيد من جاهزيتها لمواجهة التهديدات المحتملة، ويسمح بتبادل الخبرات والتقنيات الدفاعية، بما فى ذلك أنظمة الإنذار المبكر والدفاع الصاروخى ومكافحة الطائرات المسيرة.
علاوة على أن المنظمة توفر لإيران فرصة التعاون الاستخباراتى، لمراقبة ومنع نشاط الجماعات المسلحة والإرهابية على طول حدودها الشرقية والشمالية، مع التركيز على تهديدات داعش والفصائل المرتبطة بالقاعدة فى آسيا الوسطى، وتنسيق جهود الدول الأعضاء لمكافحة تهريب الأسلحة والمخدرات، والجريمة، المنظمة، بما يعزز الاستقرار الداخلى والخارجى، ويزيد من قدرة إيران على الصمود أمام التهديدات الأمريكية والإسرائيلية.
بعبارة أخرى تمنح عضوية إيران فى شنغهاى غطاء جماعيا من الدعم الدبلوماسى والعسكرى، بما يحد من محاولات عزلتها على المستوى الدولى.
النقطة الجوهرية الأخرى فى هذا السياق تتعلق بأهمية تأمين الحدود الشمالية وممرات التجارة الحيوية مع أوراسيا، لا سيما حماية ممر الشمال-الجنوب، الذى يربط روسيا والهند عبر أراضى إيران، والحضور الأمريكى فى ممر زنجزور الاستراتيجى الرابط بين أرمينيا وأذربيجان، وتأثيراته على الأمن الإقليمى ومبادرة الحزام والطريق، بحيث يسهم هذا التأمين فى حماية الممرات البحرية ومصادر الطاقة، وضمان صادرات النفط والغاز والسلع الاستراتيجية، خاصة فى ظل العقوبات الغربية.
وبذلك لا تقتصر فوائد عضوية إيران فى شنغهاى على البعد العسكرى والأمنى فحسب، بل تتكامل مع المكاسب الاقتصادية والدبلوماسية، خصوصا مع إعلان مبادرة الحوكمة العالمية، التى تحد من الضغوط الأمريكية على دول أوراسيا، وتقلل من حجم التهديدات الأمريكية فى الممرات الاستراتيجية بأوراسيا، بما يعزز قدرة الدول الأعضاء، ولا سيما إيران، وروسيا، والصين، على حماية مصالحها الاقتصادية والأمنية ومواجهة العقوبات والتهديدات الخارجية.
السياسة الأمريكية التجارية ضد تحالفات دول الجنوب:
لا تزال الولايات المتحدة تتبنى سياسة ردعية تجاه تعزيز التعاون بين الفاعلين غير الغربيين فى مجال التجارة العالمية والاقتصاد، وفى المقابل يتبع الاتحاد الأوروبى نهجا حذرا وصارما، نظرا لتشابك بنيته التحتية الاقتصادية مع ما وراء الأطلسى، فى التعامل مع وجود وعمل كل من منظمة شنغهاى للتعاون ومنظمة بريكس.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن وجود دونالد ترامب على رأس السلطة التنفيذية والسياسية فى الولايات المتحدة شكل عائقا أمام تحقيق أهداف اقتصادية مشتركة للدول الأعضاء فى شنغهاى وبريكس، إلا أن هذا الافتراض يبطل عند النظر إلى عاملين أساسيين:
أولا- سياسات ترامب الجمركية، التى جاءت فى مواجهة جميع دول العالم، قد عززت عنصر "المطلق" فى صنع القرارات التجارية، أى إزالة النسبية فى ممارسات التجارة وفرض خيار التكتلات الاقتصادية الجديدة، فاضطرار الدول للتموضع بين "اللعب فى ملعب أمريكا" أو "الانضمام للتكتلات الاقتصادية الجديدة" جعل من الصعب وجود حل وسط.
ثانيا- قبل تولى ترامب الرئاسة، كانت منظمتا شنغهاى وبريكس تدفعان ثمن وجودهما فقط، من دون الحاجة إلى إعادة تعريف وظائف التعاون الجماعى، لتعزيز التكامل التجارى، لكن وجود ترامب منح هذه الهيئات بعدا عمليا ملموسا، إذ أجبر التهديد الواقعى من الولايات المتحدة الدول الأعضاء على تسريع بلورة السياسات ومتطلبات تطوير نماذج التعاون التجارى الجماعى، بما فى ذلك الالتزام بقواعد منظمة التجارة العالمية التى تأثرت بسياسات الدعم والحماية الأحادية الأمريكية.
وبلا شك أصبح هذا النهج العملى نقطة ضعف اقتصادية للولايات المتحدة، وهو ما يدركه حتى بعض الاستراتيجيين الاقتصاديين فى الحزب الجمهورى والمقربين من ترامب، ويثير لديهم القلق والارتباك، ومن المتوقع أن يزداد تأثير هذا الواقع فى المستقبل مع تصاعد توجه الدول نحو الهياكل الاقتصادية الجديدة على المستوى العالمى.
خاتمة:
باختصار يمثل إطلاق الصين مبادرة الحوكمة العالمية خلال قمة شنغهاى فرصة لإيران لإعادة بلورة تحالفاتها مع الصين وروسيا، للخروج من دائرة العقوبات الأممية المرتقبة، وإقامة مشاريع اقتصادية ودعم لوجستى خارج إطار الأحادية القطبية.
كما تعزز المشاركة الفاعلة لإيران فى المنظمة دورها فى صياغة سياسات الأمن الجماعى فى أوراسيا، بما يزيد من نفوذها الدبلوماسى والعسكرى، وتمنح عضويتها أدوات مهمة لتعزيز الردع العسكرى واللوجستى لحماية مصالحها الحيوية، وتأمين مكانتها كقوة إقليمية مستقلة، إلى جانب دعم المشاريع الاقتصادية والدبلوماسية التى تعزز تأثيرها الإقليمى والدولى.
وبالتأكيد فإن مساعى المنظمة لتعزيز التكامل الاقتصادى والسياسى بين الدول الأعضاء تثير قلق واشنطن، خاصة مع توجه بعض الدول لاستخدام العملات المحلية فى التجارة، وتطوير مسارات لوجستية بديلة، وإقامة شراكات فى مجال الطاقة، مما يشكل تحديا جزئيا لنظام الدولار والنفوذ الأمريكى.