مقالات رأى

صناعة الدم: كيف صنع رجال الدين آلة القتل الصهيونية؟

طباعة

في كل حرب تخوضها إسرائيل، يظهر الخطاب الديني العبري ليعلو على أصوات السياسة والميدان، حاملاً رايات الرب وشرائع التوراة، ومعللًا كل رصاصة أو قذيفة بأنه تنفيذ لأمر إلهي. لكن خلال الحرب الأخيرة على غزة، التي اندلعت عقب عملية "طوفان الأقصى" في أكتوبر 2023، وحرب إيران الأخيرة 2025، وصل هذا الخطاب إلى مستوى غير مسبوق من التحريض الديني الممنهج.
 من المعروف أن إسرائيل يحكمها الحاخامات. ولكن خلال الحروب الأخيرة، كان هناك عنف وتطرف في العقيدة العسكرية للجنود غير مسبوق، وتحول من ثوب المظلومية إلى ثوب القتل عن عمد وبكل اقتناع.

ومن المعروف عن اليهودي المتطرف أنه يحتكر "الجوييم" الأغيار أو الغرباء، كل من هو غريب أو ليس من رحم يهودي، ويستخدم ذلك المعنى  أيضاً في السياقات العنصرية بالأخص للعرب والفلسطينيين. ففي الداخل المحتل، توجد بعض المناطق التي تجمع بين الفلسطينيين واليهود يكون مكتوبا على جدرانها "الموت للعرب". إن تلك الأحداث لم تأت مصادفة، فرجال الدين لهم دور محوري في تلك التصرفات التي تحولت إلى فتاوى من الرب لشعب الله المختار.
فقد  خرجت خطب الحاخامات من جدران المعابد لتصبح أدوات تعبئة جماهيرية وشرعنة عسكرية للقتل الجماعي "اقتلوا عمالين غزة"، هذه الجملة كانت الإشارة الأولى دينياً لربط الشريعة اليهودية بالحرب، وتشبيه معارك الجنود في غزة بمعركة يوشع بن نون في حربه مع العماليق وأن جنود جيش الاحتلال هم جنوب الرب.
ومن طهران إلى تل أبيب، ومن المفاعلات النووية الإيرانية إلى ديمونا، تمضي إسرائيل في حروبها مدفوعة ليس باعتبارات استراتيجية، بل بخطاب ديني متشدد، يضفي على القتل بعداً مقدساً، ويحول المعركة إلى وصية توراتية. وقدكشفت الحرب التي خاضتها إسرائيل مؤخراً على الجبهتين أن المشروع الصهيوني بات أكثر اعتمادًا على "العقيدة"، وأقل انضباطا ضمن حدود القانون الدولي.
وفي ظل هذا المشهد، يبدو أن الحاخامات لا يقفون في الصفوف الخلفية للحرب، بل يتقدمونها، يفتون، ويباركون، ويشرعنون، بل ويحددون أهدافها الروحية، فيما يشبه الخطاب التعبوي الديني" الذي عرفته أوروبا في الحروب الصليبية، وحاولت داعش الإرهابية أن تفعل مؤخراً وفشلت.
وفي خضم هذه الحرب، خرج الحاخام شموئيل إلياهو، الحاخام الأكبر لمدينة صفد، على أتباعه بخطبة نارية قال فيها: علينا أن نبيد غزة كما أمر الرب يشوع بإبادة أريحا. لا تتركوا فيها لا طفلًا ولا شيخًا، هذه وصية الرب، كما دعا إلى إلقاء قنبلة نووية على غزة، وأنه خيار قابل للتطبيق، حتى تركيا وسوريا عندما أصابهما زلزال صرح بأن هذا انتقام إلهي.
لم تكن كلمات إلياهو شطحات دينية فردية، بل كانت انعكاسا للتيار الديني الصهيوني الذي يرى في كل حرب على غزة استكمالًا لحروب بني إسرائيل في أرض كنعان. 
ولم يتوقف خطابه عند الدعاء، بل تحول إلى فتوى علنية بوجوب القتل الجماعي، مدعوما بنصوص توراتية، وموجهة للجمهور الإسرائيلي وجنود الاحتلال.

تتسم خطابات تتسم بسمات بلاغية شعبوية، حتي الطرق التي يستخدمها في الرد علي أسئلة الجمهور اليهودي، يستخدم فيها مفردات توراتية مثل عماليق، وأعداء الرب، وإرهابيين، وتطهير الأرض.

من ناحية أخرى، نرى حاخاما متطرفا ولكن بزي عسكري،  إيال كريم، وهو الحاخام العسكري الأعلى في جيش الاحتلال منذ عام 2016، ووجهت له انتقادات عديدة بسبب تصريحاته السابقة حول اغتصاب النساء في زمن الحرب، ويعد الآن المرجع الديني الأعلى للجنود، وله تأثير مباشر في قرارات الجيش فيما يتعلق بالقيم والتقاليد اليهودية. ومن المعروف عنه حرصه على إلقاء الخطابات على الجنود قبل الذهاب إلى الاشتباكات.

واستطاع "إيال" أن يقدم خطابا مؤسسيا دينيا عسكريا، بل أصبح فريضة دينية بالنسبة للجنود، وأسهم هذا في خلق حالة من "التحصين النفسي"، حيث يتحول القتل إلى واجب مقدس، لا ذنب فيه ولا ندم، وهو خطاب تجلى في الحرب ضد غزة وإيران، التي وصفها بأنها معركة بين "الحق التوراتي" و"الفرس الأعداء".
وقد صرح أفيهرام يتسحاق يوسف، الحاخام الأكبر للسفارديم، خلال حرب طهران، بأن نجاح إسرائيل في صد صواريخ إيران وحزب الله وحماس يرجع إلى طلاب التوراة، لا إلى الجيش الإسرائيلي، وقال بالحرف: إنهم يحمون جميع الجنود، إنهم يحمون شعب إسرائيل بأكمله، والفضل يعود لهم، وأي شخص لا يصدق ذلك فهو كافر.
كل هذه الخطابات والتصريحات كانت السبب الرئيسي في نشأة مستوطن متطرف من الدرجة الأولى، وكأن القتل أصبح مكافأة لليهودي، بدلاً من الندم على إراقة الدم. لقد أصبح قتل الأطفال والحوامل المتعمد من جنود فتوى "يُقتل الآن أفضل من أن يكبر ويقاتلني"؛ كل هذا كان صناعة للصهونية الدينية بشكل أكثر تحريضاً وعنفاً تبرر الحرب وتجرم السلام. ويهتم الحاخامات في الداخل المحتل بتنشئة الطفل اليهودي، وأن يتعلم الدروس الدينية بالشكل الذي يناسب الصهيونية الدينية من خلال القصص القصيرة التي تحاكي كفاح اليهودي، حتى يصل إلى أرض المعاد هرباً من الهولوكوست قديماً أو الوصول إلى أرض إسرائيل الكبرى، وأن هذا هو واجب مقدس على كل يهودي. وقد أكد الجيل الأخير منهم هذه المعلومات، كما رأينا في عقيدته المتطرفة خلال حربي "غزة - إيران"؛ ويشرف الجيل الحالي من  الحاخامات على نشأته، وأن يكبر ويستمر هذه العقيدة، ورأينا هذا في زياراتهم لروضات الأطفال أو زيارات عسكرية للجنود، ولن تُنسى مباركة نتنياهو على قراراته المتطرفة.

طباعة

    تعريف الكاتب

    إنجي بدوي

    إنجي بدوي

    باحثة ماجستير في الشأن الإسرائيلي