من المجلة - ملحق تحولات إستراتيجية

سياقات إعادة البناء‮:‬|هل‮ ‬يمكن أن تؤسس الثورة المصرية نموذجًا؟

طباعة

مع صدور العدد الجديد من مجلة السياسة الدولية ( يناير 2012) ،‮ ‬يكون قد مر على سقوط النظام المصري‮ ‬السابق،‮ ‬جراء ثورة‮ ‬25‮ ‬يناير‮ ‬2011،‮ ‬نحو عام كامل،‮ ‬تحديداً‮ ‬أحد عشر شهراً‮. ‬وبالنظر إلى حالة الاستغراق في‮ ‬التفاصيل والتطورات اليومية والمتسارعة عقب تلك الثورة،‮ ‬فقد ارتأت هيئة تحرير مجلة‮ "‬السياسة الدولية‮" ‬أن ذلك أفضى بدرجة كبيرة إلى إغفال علاقة التأثير والتأثر بين تلك الثورة وسياقاتها العالمية والإقليمية‮. ‬

وفي‮ الواقع،‮ ‬فإنه بقدر ما تمثل تلك الثورة استجابة لمعضلات داخلية،‮ ‬فإن تلك المعضلات ذاتها هي‮ ‬في‮ ‬جزء كبير منها نتاج لعمليات تحول كبرى تجري‮ ‬في‮ ‬إطار تلك السياقات‮. ومن هنا،‮ ‬تنبع أهمية دراسة علاقة الثورة المصرية بتلك السياقات،‮ ‬وما‮ ‬يمكن أن تقدمه تلك الثورة من نماذج استجابة‮ ‬–ناجحة كانت أو فاشلة‮- ‬للمعضلات التي‮ ‬تطرحها عمليات التحول الجارية فى هذه السياقات‮. ‬

"المشهد الملتبس"

وفي‮ ‬البدء،‮ ‬فإنه‮ ‬يلزم الإقرار بأنه رغم العديد من الإنجازات التي‮ ‬تحققت في‮ ‬سبيل إحداث تغيير حقيقي‮ ‬في‮ ‬السياسة والمجتمع في‮ ‬مصر،‮ ‬فإنها باتت تختلط بكثير من الفوضى والانقسامات الحادة التي‮ ‬تهدد ليس فقط بتعطيل مسار التقدم باتجاه إعادة تأسيس نظام جديد،‮ ‬بل بالنكوص عن كل ما تم،‮ ‬وإعادة تأويله تأويلاً‮ ‬تآمرياً‮.

‬والخلاصة أن صورة المستقبل باتت تبدو ملتبسة،‮ ‬والمحصلة النهائية لكل ما‮ ‬يعتمل في‮ ‬أرض مصر حالياً‮ ‬من تفاعلات وصراعات متسارعة وكثيفة،‮ ‬لا‮ ‬يمكن الزعم بوجود طرف‮ ‬يستطيع حسمها في‮ ‬اتجاه بعينه،‮ ‬وإلا كان قد فعل‮.

‬بل إنه لا‮ ‬يمكن إنكار أن قدراً‮ ‬كبيراً‮ ‬من حرية التظاهر والاعتصام بات متحققاً،‮ ‬وتكرر مراراً‮ ‬في‮ ‬صورة المظاهرات الحاشدة التي‮ ‬بات‮ ‬يتعارف على تسميتها بالمليونيات،‮ ‬وكذا في‮ ‬العديد من الاعتصامات التي‮ ‬تكررت في‮ ‬مناطق شتى من البلاد،‮ ‬بل وتحدت سلطة الدولة وجهازها،‮ ‬من خلال قطع الطرق والسكك الحديدية،‮ ‬وإغلاق الموانئ،‮ ‬فضلا عن تعطيل الأعمال‮. ‬

وبغض النظر عن تباين التقييمات بشأن تداعيات تلك الأحداث على الاستقرار السياسي‮ ‬والأداء الاقتصادي،‮ ‬وبغض النظر عن مدى رشد وتنظيم ممارستها،‮ ‬فقد بات من المؤكد أن المصريين اقتنصوا حريات واسعة لم تتح لهم بهذا الشكل،‮ ‬منذ نشأة الدولة المصرية الحديثة في‮ ‬مطلع القرن التاسع عشر،‮ ‬باستثناء لحظات الثورات الشعبية العارمة،‮ ‬وهذه كانت في‮ ‬الأغلب لحظات عابرة لم تمتد،‮ ‬فيما عرفته مصر قبل ذلك من احتجاجات وانتفاضات شعبية،‮ ‬عبر ما‮ ‬يقرب من عام كامل متواصل،‮ ‬وباعتبارها حقاً‮ ‬مثلما هو الحال حالياً‮. ‬لكن في‮ ‬الوقت ذاته،‮ ‬لا‮ ‬يمكن الزعم بأن تلك الحريات قد استقرت بشكل نهائي‮ ‬لتصبح خصيصة ثابتة للنظام السياسي‮ ‬المصري،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن حسن تنظيمها،‮ ‬ورشد توظيفها‮. ‬

فقد شهد البعض الآخر من تلك الاعتصامات والتظاهرات صدامات تعد الأعنف،‮ ‬وقمعاً‮ ‬يعد الأكثر جسامة،‮ ‬مقارنة بما شهدته ثلاثون عاماً‮ ‬من حكم الرئيس السابق حسني‮ ‬مبارك،‮ ‬والذي‮ ‬أجمع المصريون على ديكتاتوريته،‮ ‬وباستثناء الثمانية عشر‮ ‬يوماً‮ ‬التي‮ ‬امتدت عبرها ثورة‮ ‬25‮ ‬يناير‮ ‬2011‮ ‬وبالمثل،‮ ‬فقد تباينت بشدة مواقف المصريين من تلك المظاهرات والاعتصامات بين من‮ ‬يراها الأكثر شرعية في‮ ‬كل ما تشهده مصر من تطورات سياسية،‮ ‬وممارسة لحقوق اكتسبها المصريون بتضحياتهم ودمائهم،‮ ‬ومن‮ ‬يراها فوضى تهدد استقرار الدولة،‮ ‬ومسار إعادة بناء نظامها السياسي،‮ ‬بل ومؤامرة تقوم بها قوى داخلية،‮ ‬بدعم من أطراف خارجية،‮ ‬تحاول الانقلاب على الثورة ووأدها‮.

‬بل إن مدى التباين‮ ‬يصل إلى أن البعض بات‮ ‬يمايز بين عناصر الحدث الواحد،‮ ‬ليصنف بعضها في‮ ‬الإطار الأول،‮ ‬وبعضها الآخر في‮ ‬الإطار الثاني‮.‬ وبالمثل،‮ ‬فقد أتم المصريون،‮ ‬حتى كتابة هذا التقديم،‮ ‬جولتين من ثلاث جولات تشتمل عليها أول انتخابات تشريعية تشهدها البلاد بعد ثورة‮ ‬25‮ ‬يناير،‮ ‬بنسب مشاركة‮ ‬غير مسبوقة في‮ ‬أي‮ ‬انتخابات عرفتها مصر في‮ ‬تاريخها الحديث‮. ‬وبرغم كل ما شاب هاتين الجولتين من مخالفات أو عثرات،‮ ‬فإن أحدا من القوى السياسية المشاركة فيها لم‮ ‬يجرؤ على الطعن في‮ ‬نزاهتها،‮ ‬انطلاقاً‮ ‬من أن تلك المخالفات أو العثرات تعكس في‮ ‬جزء كبير منها طبيعة المجتمع المصري‮ ‬وخصائصه الراهنة،‮ ‬التي‮ ‬لم‮ ‬يكن من الممكن،‮ ‬بأي‮ ‬حال،‮ ‬تجاوزها في‮ ‬أي‮ ‬عملية انتخابات‮ ‬يتم تنظيمها حالياً‮. ‬

وبالرغم من ذلك،‮ ‬تتباين المواقف داخل مصر بشدة من تلك الانتخابات ونتائجها،‮ ‬بين من‮ ‬يراها مدخلاً‮ ‬لشمولية دينية تعيد إنتاج استبداد‮ ‬يفوق كل ما ثار المصريون ضده،‮ ‬ومن‮ ‬يرى نتائجها‮ "‬خديعة كبرى‮" ‬استغلت جهل قطاعات واسعة من المصريين وعوزهم المادى،‮ ‬ومن‮ ‬يعارض نتائجها،‮ ‬لكنه‮ ‬يحترم المسار الانتخابي‮ ‬من منطلق احترام المبدأ الديمقراطي،‮ ‬فى حين أن الأغلبية بكل تأكيد تراهن على خيارها فى تلك الانتخابات للخروج بالبلاد من حالة عدم الاستقرار الراهنة،‮ ‬وتأسيس نظام جديد‮ ‬يحقق لها درجة أكبر من إشباع الحاجات،‮ ‬وكرامة العيش‮. ‬وأخيراً،‮ ‬فإن هناك من‮ ‬يحاول الانتقاص من شرعية تلك الانتخابات لمصلحة ما‮ ‬يعده شرعية الثورة وشرعية الميدان‮.‬

‬وبالإضافة إلى تلك التباينات في‮ ‬الموقف من الحقيقة الموضوعية الواحدة،‮ ‬ألا وهي‮ ‬الانتخابات ونتائجها،‮ ‬فإن الموقف‮ ‬يبدو أكثر التباساً‮ ‬بشأن ما‮ ‬يترتب عليها من استحقاقات سياسية تتعلق بصلاحيات البرلمان ودوره وموقعه من السلطة التنفيذية،‮ ‬وعملية صياغة الدستور،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن احتمالات استمراره لدورة برلمانية كاملة‮. ‬والخلاصة أنه حتى تلك الانتخابات التي‮ ‬تعد للناظر من بعيد مؤشراً‮ ‬على عملية بناء نظام ديمقراطي،‮ ‬وانتقال منظم وسلس للسلطة،‮ ‬لا توفر بذاتها ضماناً‮ ‬لأي‮ ‬من هذه الغايات،‮ ‬ولا ضماناً‮ ‬لعدم الانقلاب عليها لاحقاً‮.‬

وبغض النظر عن الإشادة والإعجاب اللذين نالتهما الثورة المصرية عبر العالم،‮ ‬إبان تفجرها،‮ ‬وباستثناء توجس وتحفظ بعض أنظمة الحكم المحيطة،‮ ‬فقد حظيت تلك الانتخابات التشريعية المشار لها بإشادة واسعة كذلك من مختلف دول العالم،‮ ‬وإن كانت الإشادة تتراجع كثيراً،‮ ‬إذا ما ركزنا النظر على الإقليم المحيط بنا،‮ ‬سواء في‮ ‬العالم العربي،‮ ‬أو الشرق أوسط‮. ‬وتتباين التفسيرات داخل مصر بشأن المواقف الإقليمية من الثورة المصرية،‮ ‬بين من‮ ‬يراها تحتذي‮ ‬بتلك الثورة،‮ ‬ومن‮ ‬يراها تترقب ما ستسفر عنه،‮ ‬ومن‮ ‬يراها تتآمر عليها‮.

‬وتنطبق التفسيرات ذاتها على المواقف العالمية،‮ ‬حتى إن البعض،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم ذاته،‮ ‬يربط بين ذلك التفسير التآمري،‮ ‬وما تشهده مصر من اضطرابات،‮ ‬يتحمل هو على الأقل المسئولية عن كيفية التعاطي‮ ‬معها،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن إحباط أي‮ ‬مؤامرة ضد الثورة والبلاد،‮ ‬إن وجدت حقاً‮. ‬لكن المؤكد هو وجود درجة عالية من الإحباط والتوجس لدى الجميع في‮ ‬مصر،‮ ‬شعباً‮ ‬وحكومة،‮ ‬من المحصلة الفعلية والواقعية للمواقف العربية والدولية من مصر وثورتها،‮ ‬وعملية إعادة التأسيس الجارية في‮ ‬البلاد حالياً‮. ‬ويتجلى ذلك واضحاً‮ ‬في‮ ‬التردد منذ انطلاق الثورة في‮ ‬اللجوء إلى الاقتراض الخارجي‮ ‬كوسيلة لتجاوز العجز المتنامي‮ ‬في‮ ‬الميزانية،‮ ‬وربط ذلك في‮ ‬كثير من التصريحات الرسمية برفض شروط خارجية‮. ‬

كما‮ ‬يبرز في‮ ‬تصريحات رئيس الوزراء المصري،‮ ‬الثالث بعد الثورة،‮ ‬د‮. ‬كمال الجنزوري،‮ ‬الذي‮ ‬أكد،‮ ‬في‮ ‬الثاني‮ ‬والعشرين من شهر ديسمبر‮ ‬2011،‮ ‬أنه في‮ ‬مقابل‮ ‬9 مليارات دولار‮ ‬غادرت البلاد منذ انطلاق ثورة‮ ‬25يناير،‮ ‬فإن مصر لم تتلق سوى مليار واحد من مليارات الدولارات التي‮ ‬وعدت بها مصر لدعمها بعد الثورة،‮ ‬في‮ ‬إشارة إلى ما‮ ‬يمكن اعتباره،‮ ‬في‮ ‬أفضل التفسيرات حسنة النية،‮ ‬ترددا وتوجسا عربيا ودوليا تجاه الثورة المصرية‮.‬

سؤال النموذج والسياقات المأزومة

في‮ ‬ظل هذا المشهد شديد الالتباس،‮ ‬يصبح السؤال‮: ‬هل‮ ‬يمكن أن تنتج الثورة المصرية نموذجاً؟ سؤال محوري‮ ‬ليس فقط من منطلق الدور المركزي‮ ‬الذي‮ ‬لعبته مصر تقليدياً‮ ‬في‮ ‬المنطقة منذ مطلع القرن التاسع عشر،‮ ‬باعتبارها المصدر الرئيسي‮ ‬لإنتاج النماذج السياسية والاقتصادية والثقافية التي‮ ‬انتشرت منها لتصبغ‮ ‬الإقليم بتوجهات عامة في‮ ‬كل من هذه الفضاءات،‮ ‬سواء بالتماهي‮ ‬مع هذه النماذج،‮ ‬أو برفضها،‮ ‬والصراع معها،‮ ‬ولكن كذلك بالنظر إلى طبيعة الأزمة التي‮ ‬تمثل الثورة المصرية محاولة للاستجابة لها‮.

إن تلك الأزمة لا تختص فقط بالدولة المصرية في‮ ‬ذاتها،‮ ‬ولكنها تعكس،‮ ‬مثلما أشرنا آنفا،‮ ‬أزمة الدولة المصرية في‮ ‬مواجهة موجات تحول أوسع نطاقاً‮ ‬يشهدها العالم والإقليم‮.‬وفي‮ ‬تفصيل ذلك،‮ ‬يمكن ملاحظة أن الثورة المصرية لم تكن ثورة ضد حكم فرد محدد بعينه،‮ ‬لكنها كانت ضد نظام كامل‮ ‬يعكس نمطاً‮ ‬لبنية الدولة،‮ ‬فى ظل نظام جديد‮ ‬يعمل على بناء تحالف لقوى رأس المال المعولم‮.

في‮ ‬ظل هذا النظام،‮ ‬تعمل الدولة وسياساتها على تيسير عملية اندماج رأس المال الوطني‮ ‬في‮ ‬إطار رأس المال العالمي،‮ ‬باعتبار ذلك هو المدخل الرئيسي‮ ‬للنمو الاقتصادي‮ ‬في‮ ‬المرحلة الحالية‮. ‬بموجب هذا الدور الجديد،‮ ‬يشهد هيكل الدولة والحكم فيها تحولاً‮ ‬جوهرياً،‮ ‬من خلال ما‮ ‬يمكن تسميته عملية‮ "‬خصخصة واسعة للدولة والحكم على السواء‮".

‬فنجد انخراطاً‮ ‬متزايداً‮ ‬لعناصر الرأسمالية الوطنية في‮ ‬مؤسسة الحكم بشكل مباشر كوزراء ومسئولين حكوميين،‮ ‬وكذلك لعناصر الرأسمالية الأجنبية كمستشارين‮ ‬يسهمون في‮ ‬صياغة،‮ ‬ليس فقط السياسات الاقتصادية،‮ ‬ولكن كذلك السياسات الاجتماعية‮. ‬وبالتالي،‮ ‬نلاحظ كذلك أن ما كان‮ ‬يعد سياسات اجتماعية خالصة،‮ ‬أو فضاء فردياً‮ ‬خاصاً،‮ ‬بات جزءاً‮ ‬من سياسة اقتصادية معولمة تستجيب بالأساس لاحتياجات ومعايير خارجية أكثر مما تستجيب لاحتياجات محلية ووطنية‮. ‬وبتحليل النظام السياسي‮ ‬المصري‮ ‬خلال السنوات العشر الأخيرة السابقة على ثورة‮ ‬25يناير،‮ ‬سنجده‮ ‬يمثل نموذجاً‮ ‬جلياً‮ ‬لهذا التحول في‮ ‬دور الدولة وهيكلها‮.

ولا‮ ‬يمكن فصل ثورة‮ ‬25‮ ‬يناير عن هذا النموذج،‮ ‬حيث‮ ‬يمكن اعتبار تلك الثورة،‮ ‬ومن خلال المطالب التي‮ ‬رفعتها،‮ ‬سواء على مستوى التفكيك‮ (‬محاكمة رموز النظام السابق‮)‬،‮ ‬أو على مستوى التأسيس‮ (‬إعادة النظر في‮ ‬السياسات الاجتماعية ودور الدولة‮)‬،‮ ‬تعبيراً‮ ‬عن أزمة هذا النموذج الرأسمالي‮ ‬المعولم،‮ ‬والتي‮ ‬يمكن أن تتكرر في‮ ‬غير مكان من العالم‮.

في‮ ‬ضوء هذا التحليل،‮ ‬يمكن فهم أسباب انسحاب رأس المال الأجنبي‮ ‬الذي‮ ‬شهدته مصر خلال الأشهر الماضية،‮ ‬وكذلك أسباب الترقب والتردد الدوليين لما‮ ‬يمكن أن تنتجه تلك الثورة على هذا الصعيد‮. ‬وكذلك،‮ ‬يمكن فهم كثير من الصراعات الاجتماعية والسياسية التي‮ ‬تعكس محاولة لإعادة هيكلة طبقية تعيد تحديد آلية توزيع قيم الدولة المصرية وكيفية إدارتها‮. ‬وهنا،‮ ‬يصبح ما‮ ‬يمكن أن تنتجه الثورة المصرية اقتصادىا واجتماعيا وسياسياً‮ ‬موضع ترقب واختبار،‮ ‬باعتباره نموذجا للتعاطي‮ ‬مع أزمة هذا المستوى من التحولات العالمية‮.‬

تحول آخر،‮ ‬عالمي‮ ‬وإقليمي‮ ‬هذه المرة،‮ ‬يتضح أن الثورة المصرية وما تلاها‮ ‬يمثلان استجابة له،‮ ‬ألا وهو صعود السياسات الثقافية،‮ ‬وأزمات الهوية،‮ ‬في‮ ‬حركة‮ ‬يمكن وصفها بالعولمة المضادة‮. ‬إذ لا‮ ‬يمكن فهم صعود التيارات الدينية القوي‮ ‬في‮ ‬الانتخابات التشريعية في‮ ‬مصر،‮ ‬وفي‮ ‬أكثر من دولة عبر الإقليم،‮ ‬إلا باعتباره‮ ‬يندرج في‮ ‬إطار هذا التحول‮. ‬موجة العولمة الواسعة،‮ ‬وما تضمنته من فرض نموذج تغريب،‮ ‬بل‮ -‬وحسب كثير من التحليلات‮- "‬أمركة‮"‬،‮ ‬لكثير من مناطق العالم المتمايزة ثقافياً‮ ‬وقيمياً،أفرزت أزمات داخلية في‮ ‬كثير من الدول التي‮ ‬إما تعارضت أنساقها القيمية والمجتمعية مع هذا النموذج المعولم،‮ ‬أو افتقرت إلى أدوات وإمكانيات التعاطي‮ ‬مع متطلبات هذا النموذج بشكل كلي‮ ‬وشامل،‮ ‬فشهدت انقسامات اجتماعية،‮ ‬وحالات اغتراب حادة‮.

وهنا،‮ ‬يصبح ما قد‮ ‬ينتجه هذا الصعود للتيارات الدينية مؤشراً‮ ‬على مستقبل ما عد في‮ ‬لحظة من اللحظات‮ "‬صداماً‮ ‬للحضارات‮"‬،‮ ‬وتجسيداً‮ ‬لمدى صدق هذه المقولة أو نفيها‮. ‬كان محور هذا الصدام تقليدياً،‮ ‬خلال السنوات العشر التي‮ ‬تلت هجمات الحادي‮ ‬عشر من سبتمبر‮ ‬2001 هو الصدام بين الولايات المتحدة وحلفائها عبر العالم،‮ ‬وتنظيمات سرية،‮ ‬أغلبها إسلامية،‮ ‬وصفت بـ‮ "‬الإرهابية‮"‬،‮ ‬أو بين هذا التحالف ذاته وأنظمة اتهمت بدعم الإرهاب،‮ ‬أو بالديكتاتورية‮. ‬هنا،‮ ‬يصبح هذا الصعود السياسي‮ ‬للتيارات الدينية،‮ ‬في‮ ‬ظل أجواء ديمقراطية بدرجة كبيرة،‮ ‬معياراً‮ ‬مهماً‮ ‬للحكم على الشكل المحتمل للعلاقة بينها وبين الطرف القائد لعملية العولمة‮. ‬

هل‮ ‬يمكن أن نجد نموذجاً‮ ‬عولمياً‮ ‬رحباً‮ ‬يتسع لفكر ديني‮ ‬سياسي‮ ‬ينتمي‮ ‬إلى الإطار الحضاري‮ ‬الإسلامي،‮ ‬وينعكس عبر هذا الحضور السياسي‮ ‬في‮ ‬فضاءات مختلفة جتماعية وثقافية واقتصادية،‮ ‬بل وحتى على مستوى السياسات الخارجية والسياسات الدولية؟‮. ‬وكذلك،‮ ‬هل‮ ‬يمكن أن‮ ‬يعيد هذا التيار الديني‮ ‬الإسلامي‮ ‬إعادة إنتاج منهجه وخطابه ليصبح بدوره أكثر انفتاحاً‮ ‬وقبولاً‮ ‬للاختلاف والتعدد العالمي،‮ ‬استناداً‮ ‬إلى المشترك الإنساني‮ ‬العقلاني؟‮.‬
أخيراً،‮ ‬فعلى مستوى الإقليم،‮ ‬فقد بات من الجلي‮ ‬أن الموجتين الأولى والثانية من ثورات الربيع العربي‮ ‬كشفتا عن تحول عميق سيغير طبيعة الحكم والسلطة في‮ ‬المنطقة،‮ ‬مع تباين المسار إلى التغيير،‮ ‬وحدوده‮.

‬وخلال العام الماضي،‮ ‬شهدت المنطقة ثورات شبه بيضاء في‮ ‬بعض الحالات‮ (‬مصر وتونس‮)‬،‮ ‬وصدامات عنيفة بلغت حد الحروب الأهلية في‮ ‬حالات أخرى‮ (‬ليبيا،‮ ‬واليمن،‮ ‬وسوريا،‮ ‬والبحرين‮)‬،‮ ‬وانفتاحا سياسيا نسبيا،‮ ‬وإعادة توزيع اقتصادي‮-‬اجتماعي‮ ‬في‮ ‬حالات ثالثة‮ (‬دول الخليج العربية والمغرب‮). ‬أما نتاج التغيير،‮ ‬سواء كان شاملا وجذريا،‮ ‬أو إصلاحيا توافقيا،‮ ‬أو فشلاً‮ ‬يتمثل في‮ ‬انهيار لدول أو إعادة إنتاج للاستبداد،‮ ‬فلا‮ ‬يزال‮ ‬غير مكتمل،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن كونه موضع اختبار حالياً‮ ‬وفي‮ ‬المستقبل المنظور‮.

‬في‮ ‬هذا الإطار،‮ ‬يمثل ما قد‮ ‬ينتج عن الثورة المصرية،‮ ‬مرة أخرى،‮ ‬نموذجاً‮ ‬لما‮ ‬يمكن أن‮ ‬ينتشر عبر الإقليم،‮ ‬حيث‮ ‬يمكن أن نشهد موجة محاكاة لمسار التغيير في‮ ‬مصر أو توجهاته،‮ ‬في‮ ‬حال أنتجت الثورة المصرية نموذجاً‮ ‬إيجابياً‮ ‬في‮ ‬الفضاءات المختلفة،‮ ‬سياسية،‮ ‬أو اقتصادية،‮ ‬أو اجتماعية،‮ ‬أو حتى ثقافية‮. ‬وبالعكس،‮ ‬فقد نشهد عزوفاً‮ ‬عنه في‮ ‬حال كان نموذج الاستجابة فاشلاً،‮ ‬مع اختلاف مظاهر هذا الفشل وأسبابه‮. ‬ولعل هذا‮ ‬يفسر بدرجة كبيرة الجدل حول وجود تدخلات خارجية لإفشال الثورة المصرية‮.‬

في‮ ‬ظل هذه التساؤلات الواسعة والمحورية،‮ ‬تصبح الثورة المصرية،‮ ‬وما‮ ‬يمكن أن تنتجه،‮ ‬في‮ ‬موضع بناء النموذج بالفعل،‮ ‬نجاحاً‮ ‬أو فشلاً،‮ ‬ليس فقط للدولة المصرية،‮ ‬وليس فقط لإقليمها،‮ ‬ولكن للعالم‮. ‬وفي‮ ‬هذا الإطار،‮ ‬يأتي‮ ‬هذا الملحق لمحاولة طرح رؤى أولية تبحث في‮ ‬العوامل الحاكمة الكبرى التي‮ ‬يمكن أن تشكل مستقبل ما‮ ‬ينتج عن ثورة‮ ‬25‮ ‬يناير في‮ ‬المديين المتوسط والبعيد‮.‬

(*) تقديم  ملحق " تحولات استراتيجية" ، مجلة السياسة الدولية ، العدد 187 ، يناير 2012

طباعة

    تعريف الكاتب

    مالك عوني

    مالك عوني

    مدير تحرير مجلة السياسة الدولية، كاتب وباحث مصري في العلاقات الدولية، مؤسسة الأهرام