من المجلة - المقــــــــــــالات

مدخلان لقراءة الحوار الوطنى فى مصر

طباعة

 دون مقدمات مترفة، ثمة مدخلان لقراءة الدعوة إلى الحوار الوطني فى مصر عام ٢٠٢٢؛ أحدهما الخطر والآخر الفرصة. الخطر: فمن جهة، تبدو النقاشات الراهنة للعديد من الأحزاب السياسية والشخصيات العامة المندرجة فى إطار الحركة المدنية الديمقراطية أو القريبة من النقابات والمنظمات غير الحكومية التي تعبر فى المجمل عن اليسار المصري، تبدو نقاشاتهم أسيرة لسردية خطر متعددة المضامين.
تتواتر فى ثنايا أحاديث اليسار عبارات من شاكلة «مصر فى خطر»، «الوطن يمر بمنعطف شديد الدقة»، «نجتاز مرحلة فارقة»، «نقود السفينة فى بحر هائج مليء بالعواصف»، «مجتمعنا وحياتنا واقتصادنا تحت التهديد»، «الوضع السياسي لا يحتمل التأجيل»، وغيرها الكثير من العبارات التي تنقل إدراكا عاما بمرور مصر بلحظة أزمة فى تاريخها المعاصر تستدعي الشروع الفوري فى حوار وطني حول أولويات بلادنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.


مثل هذه العبارات، وإن كانت ليست بالغريبة عن القاموس السياسي لليسار المصري، يتعين التوقف أمامها بسبب عمومية استخدام رمزية الخطر والربط التبريري بينها وبين حتمية إدارة حوار وطني يستهدف البحث فى تحصين البلاد. والسؤال المركزي هنا هو: هل يقربنا الدفع بالخطر من صناعة الانفتاح السياسي الذي يبتغيه اليسار من المشاركة فى الحوار الوطني؟ أم هل يتطلب الانفتاح السياسي سياقا مجتمعيا بخصائص مغايرة؟
والحقيقة أن الدفع بسردية الخطر كمفسر لدعوة رئيس الجمهورية إلى الحوار الوطني وكمبرر لمشاركة اليسار يصطنع لمصر مواطنين ومجتمعا ودولة حالة من الاستثناء تتناقض جذريا مع الانفتاح السياسي والأهداف الإصلاحية المرتبطة به. إزاء الخطر، تستحيل مسألة الانفتاح مجرد استراتيجية مؤقتة لخروج مصر من أزماتها الراهنة. بعدها، يمكن العودة إلى البيئة المغلقة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا التي سادت خلال السنوات الماضية. المفارقة هنا هي أن هذه الاحتمالية، احتمالية النكوص إلى الوراء فى أعقاب الخروج من الأزمة، تمثل الخوف الأكبر لدى اليسار المصري الذي لا يريد للحكومة أن تتلاعب به بالتوظيف المؤقت لمشاركته بغرض اصطناع واجهة إصلاحية إلى أن تحلحل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية (بأبعادها المتعلقة بالدين الخارجي وخدمته والسيولة المالية والأمن الغذائي ومعدلات التضخم المرتفعة)، وتفكك بعض الملفات السياسية (كالحبس الاحتياطي ومعتقلي الرأي) ثم يتم إقصاؤه كما حدث فى مراحل سابقة فى العلاقة الطويلة والمعقدة بين حكومات مصر ويسارها منذ ١٩٥٢.
المفارقة، إذً، هي أن مدخل الخطر الذي يقارب به اليسار الحوار الوطني يجعل من احتمالية التلاعب الحكومي بمشاركة اليسار أشبه بالنبوءة ذاتية التحقق. بل هو يباعد بيننا فى مصر وبين التأسيس لمبادئ الحوار والانفتاح والإصلاح فى الوعي العام كمقومات النهج العقلاني لإدارة شئون بلادنا وتصحيح مسارات حركتها فى الحاضر والمستقبل.
لا يقل أهمية فى باب تفكيك مدخل الخطر المسيطر على قراءة اليسار للحوار الوطني تحليل خبرة عدد من المجتمعات المعاصرة فى شرق ووسط أوروبا وأمريكا اللاتينية والقارة الإفريقية والتي تظهر بجلاء حقيقة تزامن بدء عمليات الانفتاح السياسي والإصلاح، بل والتحول الديمقراطي، مع ذيوع رؤية إيجابية وتفاؤلية للحاضر والمستقبل فى المجتمعات المعنية. مثل تلك الرؤية تركز على إمكانات التغيير لحياة أفضل، ليس درءا للأخطار أو تعاملا مع الأزمات فحسب، بل لحاقا بروح العصر وأملا فى التقدم.
فلم تكن لحظة نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين فى أوروبا الاشتراكية السابقة، على سبيل المثال، معبرة عن انتفاضات مفاجئة لشعوب خشيت على وجودها بحكم عوامل خارجية (الصراع مع الغرب) أو داخلية (الجمود المجتمعي والسياسي الشامل)، بل عن دينامية قوى وتنظيمات مجتمعات رغبت فى المزيد من الرقي من خلال إصلاح مسار تطورها السياسي (الحريات المدنية)، والاقتصادي (التحول من سيطرة الدولة على الاقتصاد إلى اقتصاد السوق والقطاع الخاص). وكذلك كان حال مجتمعات أمريكا اللاتينية فى ثمانينيات القرن العشرين وبعض مجتمعات شرق إفريقيا (كينيا مثالا)، وغربها (غانا نموذجا) التي نظرت إلى المستقبل آملة فى حياة أفضل واقتصاد حر وسياسة تعددية، ولم تقع أسيرة سردية الخطر واللحظات الاستثنائية التي لم تنتج تاريخيا إلا بدايات أو ردَّات غير ديمقراطية.
وللتدليل، يمكن فى هذا السياق، استدعاء أفكار الفيلسوف وعالم القانون الألماني (كارل شميت ١٨٨٨-١٩٨٥) الذي شكلت كتاباته خاصة كتاب «اللاهوت السياسي» (الصادر فى ١٩٢٢) تبريرا معرفيا لوصول النازية إلى سدة الحكم فى ألمانيا ثلاثينيات القرن الماضي وانقلابها على نظام جمهورية فيمار الديمقراطي الذي نهض عقب الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٨)، ودام بين ١٩١٩ و١٩٣٣. يتحدث شميت فى اللاهوت السياسي عن لحظة استثنائية هي «لحظة تهديد لوجود الدولة وللنظام المجتمعي على أرضية اختلال الأنساق القيمية والأخلاقية والدينية»، ويرى أن جوهر فقه لحظة الاستثناء يكمن فى حتمية الإدارة الشمولية للمجتمع وإعادة التأسيس الديكتاتوري لمعنى القانون والصالح العام دون الرجوع إلى أحزاب سياسية أو قوى اجتماعية أو نقابات ومجتمع مدني. أهذا ما يتصوره يريده ويبحث عن اليسار المصري من خلال مشاركته فى الحوار الوطني فى مصر ٢٠٢٢؟
ليس مدخل الخطر بمقدمة للانفتاح السياسي أو للإصلاح والتحول الديمقراطي، بل هو عنوان خوف وضعف وتشاؤم بحال البلاد والعباد لا يصلح فى ظني لبناء الجمهورية الجديدة التي نريدها تنموية وعادلة وقوية وتقبل الرأي والرأي الآخر.
الفرصة:
أما المدخل الثاني لقراءة الدعوة إلى الحوار الوطني فهو مدخل الفرصة الذي أتمنى أن يتبناه الليبراليون المصريون رابطين بين الحوار وبين انطلاق بلادنا إلى آفاق إيجابية جوهرها التنمية المستدامة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
تدور الصياغات الراهنة للليبراليين المصريين، وبعضهم قريب من النخب الحكومية وبعضهم الآخر فاعل فى تشكيلات سياسية معارضة، وبعضهم الثالث حاضر فى الفضاء العام بكتابات صحفية وإسهامات إعلامية، فى فلك البحث عن سبل تعظيم مساحات الحرية السياسية واحترام حقوق الإنسان والحد من سطوة الدولة على المجتمع دون تهديد لتماسك مؤسسات وأجهزة الدولة الوطنية. كذلك يربط الليبراليون بين معالجة الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للحالة المصرية الراهنة وبين استكمال التحول نحو الحرية الاقتصادية واقتصاد السوق وحتمية تراجع دور الدولة وتخارجها من ملكيتها الواسعة للأصول الاقتصادية والتوجه نحو خصخصتها (وثيقة ملكية الدولة نموذجا). ويعني التراجع الاقتصادي للدولة تغير مسئولياتها تجاه المواطنين والمجتمع بحيث تقتصر على مد شبكات الأمان والضمان الاجتماعي (ممثلة حاليا فى برنامج تكافل وكرامة وبرنامج حياة كريمة)، وسياسات التشغيل فى مشروعات البنية التحتية ومشروعات العصرنة والرقمنة ورسمنة الاقتصاد غير الرسمي التي لا تستطيع سوى الدولة القيام بها. ينتظر الليبراليون المصريون من الدولة أيضا، وفيما خص مسئولياتها الاجتماعية تجاه المواطنين، التركيز على قضايا نوعية وقطاعية ذات صلة بتحديث البنى المجتمعية، مثل تمكين المرأة والمساواة بينها وبين الرجل، وإصلاح النظم التعليمية وخلق مجتمع المعرفة، والإصلاح الديني. أما كل ما يتجاوز هذه المسئوليات الاقتصادية والاجتماعية، إن المتعلق بالتخلص من معضلات الفقر والتهميش والبطالة أو تقليل الفجوات الفاصلة بين الفقراء ومحدودي الدخل وبين الأغنياء وميسوري الحال وتسريع معدلات الحراك الاجتماعي حماية لتماسك الطبقة الوسطى، فيرى الليبراليون حتمية تركه لاقتصاد السوق وآليات عمله الكثيرة.
وإذا ما اعتمد الليبراليون المصريون مدخل الفرصة فى مقاربتهم للحوار الوطني ودفعوا إلى الواجهة بسردية أمل فى الحاضر والمستقبل، حينها سيستطيعون الربط بين الانفتاح السياسي والإصلاح الضامن للحقوق والحريات وبين تراجع الدولة اقتصاديا واجتماعيا، لما يعنيه التراجع من استعادة المجتمع من قبضة الدولة المسيطرة وتنشيط لأدوار القطاع الخاص والمجتمع المدني وفئات المواطنين ومبادراتهم الأهلية. فالدولة الأب التي ينتظر منها كل شيء، ويفترض أن تبسط شباك أمنها المجتمعي الشامل على رعاياها؛ تلك الدولة هي دولة تجرد هؤلاء، فرادى وجماعات، فى اللحظة ذاتها التي تبسط بها شباكها الشاملة من المبادرة الخاصة ومن الحريات السياسية والمدنية.
سيدفع مدخل الفرصة الليبراليين إلى البحث عن دولة قوية وتنموية تشبه دولة الحقبة التاتشرية فى بريطانيا ثمانينيات القرن العشرين، ودولة الحقبة الميركلية فى ألمانيا العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، ودولة ما بعد الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي فى بعض دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية فى ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، ودولة الإنجار الاقتصادي وشرعية الاستقرار المجتمعي فى بعض دول شرق وغرب إفريقيا خلال العقود الماضية. بعبارة أخرى، سيدفعنا مدخل الفرصة إلى البحث عن دولة قوية وتنموية تتراجع لكي ينطلق المجتمع سوقا خاصة ومجتمعا مدنيا وحياة سياسية ومواطنين ذوي حقق وحريات ومبادرات فردية وجماعية. سيدفعنا مدخل الفرصة إلى البحث فى قضايا الحقوق والحريات والمساواة والعدالة التوزيعية وتكافؤ الفرص وشبكات الأمان والضمان الاجتماعي من بوابة البحث عن توازن توافقي بين حتمية إخلاء الدولة لعدد من مساحات الفعل السياسي والقبول بتعددية فاعليها وتراجع دورها الاقتصادي والاجتماعي واستناده إلى النخب التكنوقراطية المستنيرة وبين تقدم القطاع الخاص والمجتمع المدني والمبادرات الأهلية لشغل الفراغات الناشئة عن تراجع الدولة فى ظل شراكة وطنية وتنموية مع الدولة وتكنوقراطييها يمكن لها أن تضطلع بتحديات بناء الجمهورية الجديدة.
كيف أقرأ كليبرالى دعوة الرئيس للحوار الوطنى:
جاءت دعوة السيد رئيس الجمهورية إلى إجراء حوار وطني حول أولويات مصر الداخلية والخارجية دون استبعاد إلا للمتورطين فى الدم والعنف أو فى التحريض عليهما فى لحظة فارقة. جوهر هذه اللحظة هو العمل الجماعي بين الدولة والمجتمع والمواطنين على بناء الجمهورية الجديدة. مجتمعيا، شعرت أغلبية مواطني مصر بكون بناء الجمهورية الجديدة يستدعي حشد طاقات المجتمع المدني والمواطنين للعمل المشترك مع الدولة والمؤسسات والأجهزة الرسمية على إنجاز المهام التنموية دون تقليل من شأن ما تم، وعلى صناعة انفتاح مستدام فى الحياة السياسية والفضاء العام دون خوف من الغد، وعلى تحقيق تقدم حقيقي فى ملفات الحقوق المدنية والحريات السياسية.
نحن أمام رئاسة مصرية تدعو للمرة الأولى منذ ٢٠١٤ إلى حوار مع المعارضة والأصوات المستقلة حول الأولويات الوطنية، وتعلن قبولها للتنوع والاختلاف فى الرأي. نحن أيضا أمام معارضين وممثلي مجتمع مدني مصري يطالبون بضمانات لجدية الحوار. ومن بين هذه الضمانات تأطير الحوار مؤسسيا على نحو يضمن استقلاليته واستمراريته، الاستعداد الحكومي للتعامل بإيجابية مع مخرجات الحوار، وقبل هاتين الضمانتين بوادر حسن نية من جانب الحكومة تتمثل فى حلحلة بعض ملفات الحقوق والحريات العالقة.
فى ربيع وصيف ٢٠٢٢، أنتج التفاوض بين الحكومة من جهة، والمعارضة والمستقلين والمجتمع المدني من جهة أخرى تشكيل أمانة عامة للحوار واختيار منسق عام وإعلان عن أن جلسات الحوار ستمتد لعدة أشهر وأن الحكومة وأجهزتها ستتعامل مع مخرجاتها بجدية. أنتج التفاوض أيضا الطرح العلني لبعض قضايا الحقوق والحريات، ومن بينها تركيز المعارضة والمجتمع المدني على أولوية تقصير مدد الحبس الاحتياطي وأهمية إطلاق سراح المسلوبة حريتهم على خلفية قضايا رأي.
كليبرالي، قرأت دعوة الرئاسة المصرية للحوار، أولا، باعتبارها فرصة ممكنة لصناعة شيء من الانفتاح السياسي ولدمج شيء من تعددية الآراء فى المجال العام.ثانيا، رأيت فى الحوار والتفاوض بين الحكومة والمعارضة مقدمة ممكنة لكي تشرح الحكومة أولوياتها الراهنة والمستقبلية فى الاقتصاد والاجتماع والسياسة، وتفصل استنادا إلى معلومات وحقائق كلفة ومردود مشروعات البنية التحتية (الطرق والكباري والموانئ والمطارات وغيرها)، والبنية العمرانية (المدن الجديدة)، ومشروعات العصرنة (مصر الرقمية)، وتطوير شبكات الضمان الاجتماعي التي صارت تصل إلى ما يقرب من ١٧ مليون مصرية ومصري، وتفصل أيضا فى السبل المقترحة لمواجهة غلاء الأسعار ومعدلات التضخم المرتفعة وأزمة الدين الخارجي ورفع إنتاجية القطاعات الاقتصادية الرئيسية والتعامل مع التهديدات الواردة على الأمن الغذائي بفعل تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، والأمن المائي بفعل التعنت الإثيوبي فى إدارة ملف سد النهضة. ولا يقل أهمية فى هذا السياق إدارة حوار بين الحكومة والمعارضة حول مستقبل الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة الذي تؤطره وثيقة ملكية الدولة التي أطلقت فى صيف ٢٠٢٢. ثالثا، رأيت فى الحوار والتفاوض بين الحكومة والمعارضة سياقا ممكنا لكي تشرح المعارضة رؤاها بشأن الملفات الاقتصادية والمالية والاجتماعية وتوجهات الإنفاق العام وتقدم سياساتها البديلة للرأي العام دون حصار ولكي تطرح علنا ملفات الحقوق والحريات التي تهتم بها دون إسكات. رابعا وأخيرا، قرأت دعوة رئاسة الجمهورية إلى الحوار الوطني، وإلى مشاركة المعارضة والمستقلين والمجتمع المدني بكونها مقدمة ممكنة لإضفاء شيء من الطبيعية تدريجيا على دور هذه المجموعات والفئات والمنظمات فى الحياة السياسية والعامة فى مصر بعد سنوات من التهميش، وكذلك لتشجيع المواطنات والمواطنين على اعتياد وجود الصوت والصوت الآخر، وعلى اتساع البلاد للجميع.
لا تبتدع مصر آلية الحوار لصناعة انفتاح فى السياسة وفى المجال العام دون سوابق تاريخية ذاتية وخبرات مقارنة مهمة. فمن جهة، نظمت فى مصر حوارات وطنية فى الماضي البعيد والقريب كان أهمها الحوار الاقتصادي الذي عقدته حكومة الرئيس الأسبق حسني مبارك فى ثمانينيات القرن العشرين، وهدف إلى البحث فى الأولويات الاقتصادية والاجتماعية بعد صدمة السنوات الأولى لسياسة الانفتاح الاقتصادي التي كان الرئيس محمد أنور السادات قد نفذها بين عامى ١٩٧٤ و١٩٨١. آنذاك، أحدث الحوار الاقتصادي تقاربا بين الحكومة والمعارضة والمستقلين أسفر عن ترشيد السياسات الحكومية باتجاه مراعاة محدودي الدخل والفقراء وأعطى لرئاسة مبارك فى عقدها الأول شرعية مجتمعية. من جهة أخرى، أديرت حوارات بين الحكومات ومجموعات المعارضة والمستقلين والمجتمع المدني فى العدد الأكبر من البلدان التي نجحت فى صناعة انفتاح سياسي مستقر وفى حماية مسارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ودوما ما كانت شروط فاعلية آلية الحوار هي تأطيرها مؤسسيا على نحو مستقل ومستمر، والاتساع التدريجي لنطاق ونوعية القضايا المعالجة فى الحوار، وقناعة الأطراف المشاركة حكومية وغير حكومية بحتمية العمل المشترك وكارثية المعادلات الصفرية وضرورة تقديم التنازلات المتبادلة، من الحكومة ومن المعارضة.
وربما كان الشرط الأهم هو عدم التورط فى تجاهل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وفى قصر الحوار على الشئون السياسية، فليست بأمور السياسة وحدها يصنع الانفتاح فى المجتمع والمجال العام أو ليست بها وحدها يصنع ويستقر الإصلاح. وتشهد على هذه الحقائق تجارب إسبانيا، واليونان، والبرتغال فى سبعينيات القرن العشرين، وتجارب البرازيل، والأرجنتين، وشيلي وغيرها فى الثمانينيات وتجارب وسط وشرق أوروبا فى التسعينيات، وتجارب شرق وغرب إفريقيا خلال السنوات الماضية. نحتاج لنقاش حر حول الحقوق والحريات، وكذلك حول مستقبل دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي ومستقبل دور القطاع الخاص واقتصاد السوق فى مواجهة مشكلاتنا.
يسعدني أن أرى بلادي مقبلة على حوار وطني، ويحدوني الأمل فى أن تصير المقدمات والفرص والسياقات الممكنة تدريجيا واقعا معاشا يستفيد منه اقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا كل مواطن فى مصر. والأمل فى صناعة انفتاح فى السياسة وفى المجال العام، مع مواصلة مسارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي أطلقتها الحكومة خلال السنوات الماضية وتحتاج اليوم إلى مواجهة عثراتها، يلزم الليبراليين المصريين الذين أنتمي إليهم بالمشاركة فى الحوار الوطني مع تقديم أربعة أمور رئيسية.
أولا: أن تكون خطواتهم الأولى قبل الإدلاء بالرأي هي الاستماع إلى وجهات نظر الحكومة والمعارضة اليسارية والمجتمع المدني والفهم الموضوعي لحقائق الأوضاع القائمة دون تجاهل لا للتقدم ولا للتعثر. فأمانة العمل العام ومسئولية الرأي الحر والرأي الآخر تعني موضوعية تناول أداء القيادة السياسية والمؤسسات التنفيذية والأجهزة الرسمية وفقا للمعلومات والحقائق المتاحة عن الأوضاع الداخلية: اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وكذلك مجمل الظروف الإقليمية والدولية المحيطة بنا. فإذا كانت أمانة العمل العام تقتضي الحديث عن الظروف المعيشية الصعبة التي يعاني منها عديد المصريات والمصريين والتفكير البناء فى سياسات بديلة تستهدف تقليل معاناتهم، فإن مسئولية الرأي الحر تستدعي التناول الموضوعي للسياسات التي نفذتها الحكومة للحد من الفقر ومد شبكات الأمان الاجتماعي كبرنامج تكافل وكرامة، وكذلك برنامج حياة كريمة، والسياسات التي طبقت لإطلاق فرص التنمية الاقتصادية المستدامة من مشروعات بنية تحتية عملاقة ومشروعات زراعية وصناعية كثيرة.
ثانيا: أن يمتنع الليبراليون عن التورط فى المعادلات الصفرية التي ترى فى الحكومة طرفا لا يمكن الثقة به أو تنظر إلى المعارضة والأصوات المستقلة كمجموعات تضيع الوقت ولا يمكن العمل معها بجدية على رفعة وتقدم الوطن. فالمعادلات الصفرية ليست سوى إلغاء للحوار ولمقدماته وفرصه الممكنة. فأمانة العمل العام تلزم أيضا بالامتناع من قبل القوى والأصوات المختلفة، مؤيدة ومعارضة، عن التورط فى المزايدات التي لا طائل من ورائها والمماحكات السياسية التي تقلق بال المواطنين ولا تدفع عنهم القلق من قادم الأيام، والبعد عن إطلاق الشعارات الفجة التي تتجاهل قيمة المعلومة والحقيقة. فالأهم والحاسم لمصر فى اللحظة الراهنة هو الاشتباك الإيجابي مع المهام التنموية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية المطلوبة وتقييم ما تحقق خلال السنوات الماضية موضوعيا، وتطوير الحلول للأزمات التي تواجهنا ومد النظر إلى المستقبل القريب الذي نريد مصر به قوية وراسخة، وتنموية وعادلة، وتقبل الرأي والرأي الآخر. حدث الكثير الإيجابي خلال السنوات الماضية فى مجالات التنمية المستدامة، والأمان الاجتماعي، واستعادة الأمن، ومكافحة الإرهاب، وتقوية مؤسسات الدولة الوطنية، وتنشيط الدور المصري الإقليمي والدولي. وتراكمت السلبيات فى مجالات أخرى كغياب الحرية عن الفضاء العام، وركود الحياة السياسية، وملفات سجناء الرأي والحبس الاحتياطي. وتواصلت التحديات العديدة التي تحيط بأمن مصر المائي (التعنت الإثيوبي المستمر فيما خص سد النهضة)، وأمنها الغذائي (بسبب تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا)، وأزمة الدين الخارجي الذي تراكم على نحو يثقل كاهل المواطن والمجتمع والدولة.
ثالثا: أن يبتعد الليبراليون عن مقاربة الحوار كساحة لدور فردي أو لادعاء فاسد بتميز المعرفة الشخصية مقارنة بالآخرين بينما جوهر الحوار هو العمل الجماعي والإفادة من كل معلومة وحقيقة ووجهة نظر لتمكين مصر من التقدم والتغلب على تحديات الحاضر والانطلاق إلى آفاق إيجابية فى المستقبل. تلزم المشاركة فى الحوار بالتفكير الجماعي فى كافة القضايا الملحة وبالتفكير بها مع الحكومة والمعارضة اليسارية، مع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات ووسائل الإعلام. وليس هدف التفكير والعمل الجماعيين سوى، من جهة، البحث الموضوعي فى الحلول المثلى لدفع مصر نحو التنمية والعدل والحرية. من جهة أخرى، تنشيط النقاش الموضوعي المستند إلى المعلومات والحقائق، وليس الشعارات والمواقف المسبقة حول السياسات العامة والأدوات الفعلية الممكنة لدفع بلادنا نحو الأفضل. تستحق مصر انطلاقة كبرى نستعيد بها حرية المجال العام وحيوية السياسة ونستفيد منها حكومة ومعارضة ومجتمع مدني باتجاه التقييم الموضوعي للسياسات العامة وتشجيع الإيجابي والفعال منها وترشيد السلبيات والتوقف عن الأخطاء. تستحق مصر فى ظرف إقليمي وعالمي بالغ الدقة أن نفكر معا فى سياستها واقتصادها وأوضاعها الاجتماعية وفى مستقبل دور الدولة ومستقبل أدوار شركاء التنمية فى القطاع الخاص وشركاء العدل فى المجتمع المدني.
رابعا وأخيرا: أن يرفض الليبراليون وللمصلحة العامة محاولات الزج بهم فى معارك جانبية حين يشكك البعض من مدعي المعارضة من الخارج فى نواياهم بادعاء أن مشاركتهم فى الحوار تأتي بحثا عن مصالح شخصية أو حين تسفه مواقفهم الباحثة عن شيء من التوازن والموضوعية فى التعامل مع أداء الحكومة الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي وأداء اليسار والمجتمع المدني فى الملفات ذاتها. لكي ينجح الحوار الوطني فى مصر ٢٠٢٢، لا بديل عن الترفع عن المعارك الجانبية ومواصلة التركيز على القضايا الحاكمة بموضوعية تستند إلى المعلومة والحقيقة جنبا إلى جنب مع التفضيلات الفكرية والآراء السياسية.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د.عمرو حمزاوي

    د.عمرو حمزاوي

    باحث مصري- مدير برنامج الشرق الأوسط بمؤسسة كارنيجى