من المجلة - المقــــــــــــالات

البعد الاقتصادى فى الحوار الوطنى

طباعة

 تُعد الدعوة للحوار الوطني الشامل فرصة حقيقية لإرساء ركائز ودعائم ثابتة لما يعرف بالجمهورية الجديدة، وتوضح الخبرات والتجارب الدولية منذ الثورة الصناعية الأولى وحتى الآن أن الأبعاد الاقتصادية تمثل الركيزة الأساسية لأي مرحلة جديدة فى تقدم المجتمعات وتعزيز فرص النمو. لذا, لا بد من التركيز وإلقاء الضوء على النواحي الاقتصادية المطلوبة لانطلاقة جديدة تحدد مسار التنمية فى المستقبل، وهذا لا يعني التقليل من شأن الجوانب والأبعاد الأخرى للتقدم, خاصة الأبعاد السياسية, والاجتماعية, والثقافية، حيث إن تلك الركائز تمثل صمام الأمان لتحقيق التقدم الاقتصادي المستدام، فلا يمكن أن نتصور حدوث نهضة اقتصادية بدون استقرار اجتماعي من خلال السياسات التى تضمن التوزيع العادل لثمار النمو على جميع فئات المجتمع. كذلك, لا يمكن تصور هذه النهضة الاقتصادية فى ظل سيادة ثقافة لا تعلى قيم الإنتاج والعمل المنتج وصيانة الأصول العامة التى تم تراكم الاستثمار فيها عبر فترات سابقة. والحفاظ على منظومة القيم التي تمثل لب الهوية الوطنية.

ويواجه العالم حالياً العديد من المتغيرات والأزمات التي ترتبت على أزمة جائحة كورونا، ووفق العديد من القراءات الاستراتيجية، فإن ذلك سيؤدي إلى الكثير من التغيرات التي ستطال الوضع الدولي ممثلاً فى الدولة ودورها، والبنوك المركزية ووظائفها، وذلك بالإضافة إلى التغيرات الأخرى الناجمة عن الصراع الاقتصادي الصيني الأمريكي المتنامي، وتدشين العديد من التكتلات الإقليمية الاقتصادية الجديدة، والتي من المؤكد أنها تمثل إرهاصات لبداية تشكل عالم وربما عوالم اقتصادية مختلفة عما نعرفه حالياً. وبالتالي فإن الاقتصاد المصري لا بد أن يتأثر بما يحدث عالمياً، وقد اتخذت مصر بالفعل بعض الإجراءات التي تتعلق بسعر الصرف وتدابير نقدية ومالية استجابة للمستجدات العالمية السلبية (بما فى ذلك الارتفاع الحاد فى الأسعار وتشديد الأوضاع التمويلية)، التي تفاقمت نتيجة الحرب فى أوكرانيا. كما تعكس هذه الإجراءات التحديات الهيكلية الكامنة التي يواجهها الاقتصاد المصري.
بعبارةٍ أخرى، يمكن القول إن الوضع الاقتصادي الذي يمر به العالم اليوم يشبه إلى حد كبير أحداث الكساد العظيم الذي ضرب العالم فى الفترة (1929-1932)، والذي مثل تهديدًا كبيرًا للنموذج الاقتصادي السائد فى ذلك الوقت، وتمثلت عظمة الاستجابة لتلك الأزمة فى تطور سريع وملموس فى الفكر الاقتصادي الذي حاول جاهدا أن يقدم حلولا عملية للخروج من الأزمة وإرساء أسس وركائز التقدم فى فترة ما بعد الأزمة. وقد قاد هذا الاتجاه الاقتصادي البريطاني كينز الذي ركز على أهمية السياسات فى الأجل القصير التي تستهدف إعادة النشاط للحياة الاقتصادية.
ويمكن تحديد أبرز وأهم المحاور والقضايا الاقتصادية التي يشملها الحوار الوطني من واقع بعض المشكلات التي تواجه الاقتصاد المصري فى الوقت الراهن، ويتمثل أهمها فيما يلي:
• اختلال الموازين الاقتصادية الداخلية (عجز الموازنة العامة بنسبة 6٫8% من الناتج المحلى الإجمالي فى عام 2020/2021)، والخارجية (عجز الميزان التجاري بنسبة 4٫6% من الناتج المحلى الإجمالي فى  عام 2020/2021 ).
• تفاقم الدين العام الذي أصبح يمثل نحو 86% من الناتج المحلى الإجمالي فى 2020/2021، وهو ما يتطلب تخصيص (32% من الإنفاق العام) لخدمة هذا الدين.
• تجاوز نمو القوى العاملة الطلب عليها بما يؤدى إلى استمرار مشكلة البطالة بالإضافة إلى عدم المواءمة بين مخرجات نظم التعليم والتدريب واحتياجات سوق العمل، وكذلك تنامي حجم القطاع غير المنظم الذي أصبح يمثل نحو 35% من إجمالي قوة العمل و50% من التشغيل فى الحضر. هذا بالإضافة إلى ما ترصده الدراسات الخاصة بالتنافسية حول ضرورة الارتقاء بمهارات القوى العاملة كشرط لمواجهة التطور التكنولوجي الناجم عن الثورة الصناعية الرابعة.
• رغم الجهود المبذولة لتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية (الدعم، والقضاء على العشوائيات، وبرنامج تكافل وكرامة، وحياة كريمة .. إلخ)، إلا أن التحولات الاقتصادية الخارجية والداخلية قد أدت إلى استمرار ظاهرة الفقر واللا مساواة (نسبة الفقر نحو 30% فى عام 2019/2020)(1).
بالتالي، فإن معالجة هذه الاختلالات ومواجهة تلك التحديات بناءً على ما تم تحقيقه فى الماضي ليس أمرًا عسيرًا، والمقترح هو تبنى برنامج وطني لانطلاق الاقتصاد المصري يشمل حزمة متسقة من السياسات قصيرة الأجل (2022 إلى 2030) على أن تضمن، بالطبع، الاستمرارية فى الأجل الطويل.
وقد شملت أولويات العمل ضمن المحور الاقتصادي فى الحوار الوطني عددًا من القضايا المهمة، وفيما يلي نعرض أسباب وأهمية تضمين هذه القضايا وذلك بمزيدٍ من التفصيل:
أولًا- التضخم:
يعزى الاهتمام بإدراج قضية التضخم ضمن أولويات المحور الاقتصادي فى الحوار الوطني إلى خطورة التأثير السلبي للارتفاع المستمر فى المستوى العام لأسعار السلع والخدمات التي تهم شریحة واسعة من المواطنین، على المستوى الجزئي، على القوة الشرائیة للمواطنین والحد من قدرتهم المادیة على تلبیة احتياجاتهم المعیشیة. وعلى المستوى الكلي، تؤثر مستویات المعدلات المرتفعة من التضخم بشكل سلبي على الاستهلاك، والاستثمار، والصادرات، وعلى القوة الشرائیة للعملة المحلیة، ومن ثم على النشاط الاقتصادي. لذا، تعتبر ظاهرة التضخم من بین أهم الموضوعات الاقتصادیة التي تشغل صناع السیاسات الذین ینصب تركیزهم على تحقیق استقرار المستوى العام للأسعار والحد من ظاهرة التضخم وآثارها السلبیة على مختلف القطاعات الاقتصادیة.
ویؤثر الارتفاع فى المستوى العام للأسعار فى القوة الشرائیة للمستهلكين، لأنه یعني انخفاض القوة الشرائیة للعملة المحلیة، أي انخفاض كمیة السلع والخدمات التي یمكن لوحدة واحدة من النقود شراءها فى فترة زمنیة محددة مقارنة بالفترات السابقة، ویؤدي كذلك إلى انخفاض قیمة العملة المحلیة مقابل العملات الدولیة الرئیسية. كما یؤثر أیضًا على قرارات الاستثمار لأن الارتفاع الكبیر فى معدل التضخم یعني ارتفاع مستوى التكالیف التي سیتحملها المستثمر وبالتالي انخفاض مبیعاته المتوقعة. وتعكس ظاهرة التضخم بشكل عام، اختلالات وضغوط يشهدها الاقتصاد، بما قد يعكس ارتفاع مستوى النقود (عرض النقد) فى المجتمع مقارنة بمستوى المعروض من السلع والخدمات. كما قد یعكس الضغوط التي تتعرض لها قیمة العملة المحلیة مقابل العملات الأجنبیة، وبالتالي ارتفاع كبیر فى أسعار السلع المستوردة(2).  ویمكن علاج التضـخم من خلال الســـیاســـات التي تؤثر على جـانـب الطلـب الــكــلــي أهمها الســــیــاســــتان النقــدیـة والمـالیـة.
وفيما يتعلق بتطور معدل التضخم فى الاقتصاد المصري ؛ فقد تذبذبت معدلات التضخم فى مصر بین انخفاض وارتفاع، حیث بدأ من ٢٫٦٨% عام ٢٠٠٠ و٢٫٣% عام ٢٠٠١ وارتفع إلى أن وصل إلى ١١٫٢٧% عام ٢٠٠٤ ثم وصل إلى ١٨٫٣١% عام ٢٠٠٨، ویمكن إرجاع  ذلك إلى التخفیضات المتكررة فى قیمة العملة وتزاید التعرض للصدمات الخارجیة والتراجع عن السیاسة الانكماشیة والسماح لنسبة العجز فى الموازنة إلى الناتج المحلى الإجمالي بالتزاید حتى بلغت ٩٫٢% عام ٢٠٠٥، بالإضافة إلى إعادة هيكلة الدور الاقتصادي والاجتماعي للحكومة. كذلك، فإن أسباب التضخم یمكن إرجاعها إلى الصدمات  من جانب العرض التي تمثلت فى زیادات أسعار الغذاء واللحوم وأسعار النفط المحلیة بسبب أزمة الغذاء العالمیة وانتشار أنفلونزا الطیور (خلال العقد الأول من الألفية الجديدة)، وتعدیلات أسعار النفط فى تلك الفترة وبلغت توقعات التضخم نحو ٨٠% من التغیرات فى التضخم فى هذه  الفترة. وبعد ذلك تراجعت معدلات التضخم بفعل الأحداث السیاسیة التي تعرضت لها مصر ما بين (٢٥ ینایر ٢٠١١ و٣٠ یونیو ٢٠١٣) وما تبعها من كساد وركود، ثم واصلت بعد ذلك معدلات التضخم ارتفاعها إلى أن وصلت إلى ٢٩٫٥% عام ٢٠١٧ بسبب تحریر أسعار الصرف فى نوفمبر ٢٠١٦، ثم انخفضت إلى ١٣٫٨٧% عام ٢٠١٩ و٥٫١% عام ٢٠٢٠(3).
وقد يتم انتهاج استهداف التضخم كإطار للسياسة النقدية، ويقوم البنك المركزي بخطوات جادة نحو تبني سياسة استهداف التضخم فى ضوء برنامج الإصلاح المصرفى. ويقوم البنك المركزى المصرى من خلال إدارته الناجحة للسیاسة النقدیة باحتواء الضغوط التضخمیة من جانب الطلب والآثــار الثانویــة لصدمات العرض(4).
ثانيًا- الدين العام وعجز الموازنة:
يأتي أيضًا على رأس أولويات وقضايا المحور الاقتصادي فى الحوار الوطني بند الموازنة العامة للدولة باعتبارها بيانا تقديريا تفصيليا معتمدا يحتوي على الإيرادات العامة التي يتوقع أن تحصلها الدولة، والنفقات العامة التي يلزم إنفاقها خلال سنة مالية مقبلة؛ فالموازنة تعتبر بمثابة البرنامج المالي لخطة الدولة عن سنة مالية مقبلة من أجل تحقيق أهداف محددة فى إطار الخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وبعبارةٍ أخرى فالموازنـة هـي بيـان يوضـح كل الإيـرادات المتوقـع أن تحصـل عليهـا الدولـة خـلال العـام المالـي وخطـة الحكومـة فى إعـادة إنفاقهـا لتحسـين جـودة حيـاة المواطـن وذلـك فى مجـالات الحمايـة الاجتماعيـة وكافــة الخدمــات الحكوميــة، ومنهــا الصحــة، والتعليــم، والإســكان، والتمويــن، والدفــاع، والأمــن القومــي، وحمايـة البيئـة وغيرهـا.
وتُعد الموازنة العامة للدولة الأداة الرئيسية لوزارة المالية لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المرجوة للدولة. كما أنها تعرض خطط وبرامج وزارة المالية التي أعدتها للاستجابة للتحديات الراهنة، ولتمهيد الطريق أمام تحقيق مستقبل أفضل، وذلك من خلال الوصول للحد الأقصى من الإيرادات، وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق من أجل خدمة المجتمع على نحو أفضل، كما تُعد موازنة الدولة بمثابة أداة للمراجعة والمساءلة، التي من خلالها يتمكن المواطنون من التحقق مما إذا كانت خطط الإنفاق التي وضعتها الحكومة تتوافق مع أولوياتهم أم لا(5).
بالتالي، تتضح أهمية الموازنة العامة للدولة من خلال كونها تعكس رؤية وزارة المالية المستهدف تحقيقها التي تتضمن:
• دعم مبـادرات محـددة وإجـراءات تعمل علـى تعزيـز مجـالات التنمية البشـرية، لاسيما قطاعـات الصحة والتعليم وكذلــك مســاندة بعــض المشــروعات القوميــة، مثــل رفــع كفــاءة وتحســين جميــع خدمــات البنيــة التحتيــة بالقــرى.
• رفــع كفــاءة وإعــادة ترتيــب أولويــات الإنفـاق العـام لصالح الفئـات والمناطق المهمشـة والأقـل دخلاً، واتباع سياسـات توزيعيـة أكثـر كفـاءة وعدالـة، والتوســع التدريجــي فى برامــج الدعــم العينــي الموجــه للفئــات المســتحقة والأماكـن المسـتهدفة.
• الحفــاظ علــى اســتدامة الانضبــاط المالــي والاســتمرار فــى جهــود مسـاندة ودعـم النشـاط الاقتصـادي وتحفيــزه دون الإخلال باســتدامة مؤشــرات الديــن.
• التنســيق مــع مؤسســات التقييــم الدوليــة وإظهــار الجهــود المبذولــة لتعديــل درجــة التصنيــف والجــدارة الائتمانية.
• دعــم ومســاندة القطاعــات الإنتاجيـة خاصة الأنشـطة الصناعية والتصديــر والاســتمرار فى سياســة التســعير الســليم للســلع والخدمــات لضمــان كفــاءة تخصيــص المــوارد والاســتخدامات(6).
وتتسق الموازنة العامة مع الأجندة الوطنية للتنمية المستدامة، وتـم وضـع موازنـة 2021/2022 فـى ضـوء اسـتراتيجية الدولة لرؤيـة مصـر 2030، التى تواكـب تحقيق أهـداف الأمم المتحدة للتنمية المسـتدامة بعد إتمام التركيز على الإصلاحات الهيكلية والتى من شـأنها ضمان اسـتمرارية اســتقرار مؤشــرات الاقتصــاد الكلــي وبمــا يُمكــن المؤسســات الحكوميــة مــن الاســتغلال الأمثــل للمــوارد.
ثالثًا- أولويات الاستثمارات العامة وسياسة ملكية الدولة:
شـهد دور الدولـة علـى مـدى العقود الماضيـة العديد من التحولات بمـا يتـلاءم مـع طبيعـة التغيـرات الاقتصادية والاجتماعيـة والفكر الاقتصادي السائد فى كل عصر من العصور، وتراوح هذا الدور مـا بـين دعـاة حصـر دور الدولـة فى تهيئـة السـبل الكفــيلة بنجـاح  النظـم الليبراليـة القائمـة علـى الحريـة الاقتصاديـة، وما بين دعاة تدخـل الدولـة المباشـر فى النشـاط الاقتصـادي بمـا يفرضـه ذلك من مشاركتها فى أنظمة الإنتاج والتوزيع. وفى ظل التطورات المتعاقبة التي شـهدها العالم والاقتصاد المصـري علـى مـدى السـنوات الأخيـرة، بات مـن الضـروري إلى جانـب أهميـة وجـود حكومـات تتمتـع بأعلـى مسـتوى مـن الكفـاءة والاسـتجابة لاحتياجـات مواطنيهـا، أن تتمتـع كذلـك بالمرونـة فى مواجهـة الأزمـات والصدمـات الاقتصاديـة، مـا يبـرر التحـول نحو دور جديد للدولة تقاس فــيه كفاءة الحكومات بمدى قدرتها علـى تقـديم خدمـات عامـة عاليـة الجـودة لمواطنيها، وسـعيها نحو تعزيـز مسـتويات البنيـة الأساسـية الداعمـة للاسـتثمار المحلـي والأجنبـي، وتبنيهـا لأطـر تشـريعية وتنظيميـة تكفـل دعم بيئات الأعمال، وقدرتها على تأسيس شبكات أمان اجتماعي قادرة على كفالة الحماية للفئات الهشة(7).
واسـتنادًا لتمكـين القطـاع الخـاص وتعزيـز دوره فى النشـاط الاقتصـادي، وخلـق البيئـة الاقتصاديـة الداعمـة والجاذبـة للاسـتثمارات، كان مـن الضـروري تحديـد «خريطـة وجود الدولة فى النشـاط الاقتصـادي»، و«سياسـة ملكيـة الدولـة للشـركات العامـة» التـي تحـدد منطـق الدولـة لملكيـة مشـروعاتها العامـة؛ لذا فقـد تم ّ توجيـه الجهـات والـوزارات المعنية بوضع المعاييـر المحِّددة لماهية القطاعات أو الأنشـطة التي يجب على الدولة التخارج منها، أو تلـك التـي يتعـين الإبقـاء علـى وجود الدولـة فــيها؛ بنـاء علـى المعاييـر التـي تراعـي القيمـة الاقتصاديـة والاجتماعيـة لهـذه القطاعات والأنشطة(8).
وقد قامت الحكومة المصرية منذ عام 2016 بتنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي جرئ لتحقيق الاستقرار الاقتصادي واستعادة الثقة. وتمثلت أهم الإصلاحات فى تحسين مناخ الأعمال، وجذب الاستثمارات الخاصة، وإجراء الإصلاحات التشريعية، ومن بينها إقرار قوانين الاستثمار، وإعادة الهيكلة.  وترتكز الموجة التالية من الإصلاحات الاقتصادية على استقرار الاقتصاد الكلي، وإتاحة المزيد من الفرص لمشاركة أوسع للقطاع الخاص فى الاقتصاد، وتزويد القوى العاملة بالمهارات اللازمة لممارسة النشاط الاقتصادي بشكل أفضل. ما ينعكس بالإيجاب على القدرة التنافسية للبلاد والأهم من ذلك توفير المزيد من فرص العمل، وتحسين ظروف معيشة السكان(9).
رابعًا- الأمن الغذائي:
الأمن الغذائي: هو ذلك الوضع الذي يُتاح فيه لجميع الناس فى جميع الأوقات القدرة المادية، والاجتماعية، والاقتصادية للحصول على كميات كافية من الطعام الآمن والمغذي، وتحقق لهم حياة ناشطة وصحية، وذلك وفقًا لتعريف منظمة الأغذية والزراعة.  
وتعد قضية الغذاء وتحقيق الأمن الغذائي من القضايا الاستراتيجية المهمة فى العالم، فالأمن الغذائي من أهم الأهداف الإنمائية المنشودة للأمم المتحدة لعام 2030. ومع التزايد المضطرد فى أعداد السكان قد لا تستطيع الدولة توفير الاحتياجات الغذائية الأساسية للمواطنين، وتحقيق الاكتفاء الذاتي لمثل هذه السلع المهمة، لذلك تتجه إلى تقليل الفجوة بين الطلب والعرض لهذه السلع عن طريق الاستيراد من الخارج، مما يتسبب فى زيادة العبء على كاهل الموازنة العامة للدولة ويزيد من عجز الميزان التجاري(10)، بالإضافة إلى حدوث فجوة غذائية؛ أي أن تكون النسبة السنوية بين نمو زيادة الطلب على المنتجات الغذائية أكبر من معدل إنتاجها محليًا.
كما تعد زيادة إنتاج المحاصيل الزراعية لتلبية احتياجات الاستهلاك المحلي من السلع الغذائية إحدى المقومات الرئيسية للأمن الغذائي. وقد تمكنت الدول العربية من تحقيق الاكتفاء وفائض تصديري فى بعض السلع الغذائية كالخضراوات والأسماك. ورغم تحقيق زيادة فى إنتاج الحبوب والمحاصيل الأخرى، إلا أن قيمة الفجوة للسلع الغذائية الرئيسية استمرت فى الارتفاع، ومن هنا تتجلى أهمية قطاع الزراعة كأحد أهم القطاعات فى أي دولة تحاول تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليص الفجوة الغذائية لديها(11).
كما تعتبر قضية الموارد المائية من القضايا الشائكة فى مصر، فهي المحرك الرئيسي لجميع القطاعات الاقتصادية وتعتبر محركا أساسيًا فى عملية التنمية الاقتصادية، وفى ظل التحديات المائية الأخيرة، أصبحت هذه الأزمة تهدد أمن مصر المائي والغذائي كليهما، حيث إن القطاع الزراعي هو القطاع المستهلك الرئيسي للموارد المائية والمهيمن عليها فى مصر، فحين نتحدث عن أن القطاع الزراعي يستهلك نحو 77% من الموارد المائية فى مصر يتضح لنا خطورة الأثر البالغ لنقص المياه على الأمن الغذائي المصري(12).
خامسًا- العدالة الاجتماعية وترتيب أولويات الإنفاق العام:
يتضح ذلك من خلال جهود الحماية الاجتماعية وتحسين مستوى معيشة المواطنين، حيث إن توظيف أدوات السياسات المالية كالإنفاق على برامج دعم أنظمة الحماية الاجتماعية يعزز رأس المال البشري والإنتاج، ويحد من أوجه عدم المساواة، ويبني القدرة على مواجهة الأزمات، ويسهم فى إنهاء حلقة الفقر المتوارثة من جيل لآخر. وهذه الأنظمة والأدوات قادرة على إحداث التحول؛ فهي تساعد الفئات الفقيرة والأكثر احتياجاً على التخفيف من حدة الصدمات الاقتصادية والمالية. فى هذا الصدد، تبذل الحكومة المصرية جهودًا كبيرةً لحماية الفقراء وتخفيف العبء عن محدودي الدخل بدعم السلع والخدمات الأساسية وتوفيرها بأسعار مناسبة، مما يساعد على الارتقاء بمستوى المعيشة وتحسين نوعية الحياة وتحقيق التكافل الاجتماعي(13).
وقد شهدت السنوات الأخيرة تحولات جوهرية فى توجه الحماية الاجتماعية من التوجه الإغاثي الذي كان يقتصر على مجرد مساعدة الفئات الأكثر احتياجًا فى المجتمع إلى التوجه الحقوقي، الذي يعد الحماية الاجتماعية جزءًا أساسيًا لا يتجزأ من الحق فى التنمية، بحسبانه أحد أهم حقوق الإنسان وفقًا لإعلان الأمم المتحدة بخصوص الحق فى التنمية لسنة 1986، إذ تعتبر الحماية الاجتماعية حقا يجب كفالته لكل البشر طوال حياتهم. وقد جاءت منصة الحماية الاجتماعية التي طرحتها منظمة العمل الدولية فى 2012 بموجب القرار الصادر عنها رقم 202 تعبيرًا واضحًا عن هذا التحول فى توجه الحماية الاجتماعية. وبناء على هذا التوجه، أصبح من المنطقي اعتبار الحماية الاجتماعية أحد مسارات تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. فقد أشار تقرير منظمة العمل الدولية عن الحماية الاجتماعية عام 2017 إلى أن الحماية الاجتماعية حق، وتعرف بأنها مجموعة السياسات والبرامج التي تم تصميمها للحد من أو منع الفقر والتهميش. من ثم، فهي تشمل المزايا والمنافع المقدمة للأطفال، والأسر، والبطالة، وإصابات العمل، والإعاقة، فضلًا عن الرعاية الصحية العامة والشاملة للجميع. ومن ثم فالحماية الاجتماعية تتقاطع مع كل مجالات السياسات العامة(14).
بعبارةٍ أخرى، تعد الحماية الاجتماعية عنصر هام فى سياسات دول العالم لتحقيق جودة الحياة لمواطنيها وتخفيف الآثار الناجمة عن الفقر والبطالة والتفاوت فى توزيع الدخول. فى ضوء تلك الأهمية تم إدخال واستحداث تدابير للحماية الاجتماعية كغاية رئيسية لتحقيق الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة العالمية 2030 والمتمثل فى القضاء على الفقر(15).
وتتسم خريطة الحماية الاجتماعية فى مصر بالتشعب والتنوع، ويمكن تقسيمها إلى قسمين أساسيين: القسم الأول يتمثل فى  نظم الحماية الاجتماعية وبرامجها التي لا تستند إلى مساهمات المستفيدين المالية، ولكنها تقع فى إطار الدور الرعائي والحمائي للدولة والتي تتمثل فى شبكات الأمان الاجتماعي، مثل معاشات الضمان الاجتماعي وبرنامج تكافل وكرامة، وكذا البرامج المكملة لها، مثل فرصة وحياة كريمة وغيرها. بالإضافة إلى الدعم العيني والمتمثل فى بطاقات التموين، وكروت الخبز، وبرنامج التغذية المدرسية، أما القسم الثاني، فيتمثل فى نظم الحماية الاجتماعية وبرامجها التي تعتمد على مساهمات المستفيدين المالية واشتراكاتهم، مثل التأمينات الاجتماعية والتأمين الصحي(16).
وتمثل شبكات الأمان الاجتماعى إحدى سياسات الحماية الاجتماعية، وتتضمن التحويلات النقدية والعينية سواء المشروطة أو غير المشروطة. وقد ركزت السياسات الاقتصادية والاجتماعية فى مصر فى أعقاب تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادى فى عام 2014 على زيادة الدعم الموجه لشبكات الأمان الاجتماعى، منها زيادة الدعم المقرر على البطاقة التموينية للسلع الغذائية وانطلاق برنامج تكافل وكرامة. وجاءت تلك السياسات بهدف تخفيف الآثار الناجمة عن ارتفاع معدل التضخم والخفض التدريجى لدعم الطاقة.
ولضمان توجيه الدعم لمستحقيه من الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل فقد حددت وزارة التموين والتجارة الداخلية معايير استحقاق البطاقة التموينية للسلع الغذائية، كما وضعت وزارة التضامن الاجتماعى معايير للحصول على مساعدات برنامج تكافل وكرامة(17).
وقد بلغ عدد المستفيدين من برنامج تكافل نحو 2٫107 مليون مستفيد، وبلغ عدد المستفيدين من برنامج كرامة 1٫264 مليون مستفيد فى عام 2021، كما تم استحداث مجموعة من إجراءات الحماية الاجتماعية فى هذا الصدد، خلال العام الحالي، تمثلت فى زيادة عدد الأسر المستفيدة من برنامج «تكافل وكرامة» بضم مليون أسرة إضافية للبرنامج، ليصبح حجم المستفيدين من المواطنين أكثر من 20 مليون مواطن على مستوى الجمهورية. كذلك شملت حزمة إجراءات الحماية الاجتماعية، التي وجه بها الرئيس السيسي: صرف مساعدات استثنائية إلى 9 ملايين أسرة لمدة 6 أشهر قادمة، بتكلفة إجمالية نحو مليار جنيه شهريا للأسر الأكثر احتياجا، وأصحاب المعاشات الذين يحصلون على معاش شهري أقل من 2500 جنيه، وأيضا العاملين بالجهاز الإداري للدولة الذين يحصلون على راتب أقل من 2700 جنيه شهريا(18). وتعكس هذه الإجراءات حرص الدولة على الوقوف بجانب الأسر الأكثر احتياجًا والتي لم تستطع مواكبة التغيرات التي حدثت نتيجة تداعيات الظروف والأوضاع الاقتصادية على مستوى العالم كارتفاع أسعار السلع والخدمات من جراء ارتفاع أسعار الدولار عالميا بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية.
ختامـــًا:
يمكن القول إن هذا الحوار الوطني يأتي فى ظل الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم، وهي قضايا وتحديات جديدة ومركبة يعاني منها العالم بأسره، فالدعوة للحوار كانت انفتاحا حقيقيا من الدولة المصرية لعرض آراء مختلف الأطراف المشاركة فى الحوار، وهي دعوة جادة من الرئاسة تترجم على أرض الواقع من خلال العديد من المبادرات التي تدعو لمشاركة الشباب والخبراء والمتخصصين والأكاديميين ليكون لهم الكلمة فى الحوار، والتي يمكن للدولة الاستفادة منها ووضعها فى الخطط المستقبلية.

المصادر:
 سمير رضوان، «الحوار الوطنى.. رؤية اقتصادية»،جريدة الشروق، 5 يونيو، 2022.
 رانيا الشيخ، «التضخـم أسبابه، آثاره، وسبل معالجته»، صندوق النقد العربي، 2021، ص6.
أدهم محمد، وفاروق فتحي، «التأثير غير المتماثل لصدمات سعر الفائدة على معدل التضخم: دراسة تطبيقية على الاقتصاد المصري»، المجلة العلمية للدراسات والبحوث المالية والتجارية، كلية التجارة، جامعة دمياط، المجلد الثالث، العدد الأول، يناير، 2022، ص1133.
 البنك المركزي المصري، التقرير السنوي 2019-2020، ص ص4-5.
 وزارة المالية، موازنة المواطن للعام المالي 2021/2022، ص4.
 المرجع السابق، ص5.
 رئاسة مجلس الوزراء، «وثيقة سياسة ملكية الدولة»، جمهورية مصر العربية، مارس، 2022، ص3.
 المرجع السابق، ص4.
 هدى محمد، «تقييم أداء الاقتصاد المصري»، قطاع نظم وتكنولوجيا المعلومات، وزارة التجارة والصناعة، جمهورية مصر العربية، 2020، ص1.
 داليا العجمي، «فجوة المحاصيل الغذائية فى مصر»، دراسات اقتصادية، المعهد المصري للدراسات، نوفمبر، 2021، ص2.
 المرجع السابق، ص ص1-2.
 المرجع السابق، ص7.
 أمنية حلمي، «كفاءة وعدالة سياسة الدعم فى مصر»، المركز المصري للدراسات الاقتصادية، ورقة عمل رقم (105)، نوفمبر، 2005، ص3.
 تقرير التنمية البشرية فى مصر، 2021، ص107.
 United Nations Development Program, The Sustainable Development Goals Report, United Nations, New York, 2016, p.22.
تقرير التنمية البشرية فى مصر، 2021، مرجع سابق، ص110.
 وزارة المالية، البيان المالى عن مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2017/2018، القاهرة، 2017.
- https://www.moss.gov.eg/ar-eg/Pages/default.aspx

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. أمانى فوزى الجندى

    د. أمانى فوزى الجندى

    أستاذ الاقتصاد المساعد، المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية