كيف يفكر العالم

الحرب الروسية الأوكرانية .. قراءة في الخطاب الأكاديمي الأمريكي

طباعة

لا يزال العالم يعيش على وقع الحرب الروسية-الأوكرانية التي بدأت في الثالث عشر من فبراير 2022 ولا تزال مستمرة إلى يومنا هذا. حرب بدأتها روسيا بنية أن تكون عملية عسكرية محدودة المدة ومحددة الأهداف على حد تعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي قال عند إعلان بدء العمليات العسكرية -بعد شرح طال حول أسباب اتخاذ روسيا هذا القرار- "قررت إطلاق عملية عسكرية خاصة"[1].

لقد اتسعت ساحات هذه الحرب وامتدت ميادينها وتشعبت تداعياتها وأصبحت معقدة بفعل عوامل داخلية وأخرى خارجية لعبت دورا جعل الطرفين المنخرطين في القتال يعيشان مرحلة اللاعودة، وأصبحت آفاق الوصول لتسويات بجهود سياسية شبه معدومة في الوقت الراهن. كما أصبح التنبؤ بنهاية وشيكة لهذه المواجهة شبه مستحيل في ظل المعطيات الماثلة على الأرض. لا، بل يذهب الكثير من المراقبين والمختصين للقول إنها قد تكون حرب طويلة الأمد قد تستمر لسنوات عديدة. حيث يصف بروفيسور جون ميرشايمر في جامعة شيكاغو الحرب في أوكرانيا بأنها "كارثة متعددة النواحي"، وهي مرجحة لأن تنحدر للأسوأ على حد تعبيره، وهذا ما شهده العالم ويشهده من تواتر للأحداث وزيادة في التصعيد العسكري من قبل طرفي النزاع. هذا المقال سيعرض قراءة مفصلة لآراء نخبة من أهم الأكاديميين الأمريكيين المختصين بشئون العلاقات الدولية، وتحديدا الشأن الروسي-الأوكراني وما إذا كان موقف إدارة بايدن من هذا النزاع العسكري يصب في المصلحة الأمريكية أم لا؟ وهل كان التدخل الأمريكي في هذا الشأن مضيعة للوقت والجهد والموارد في وقت يجب التركيز فيه على حشد الدعم والتحضير لصعود التنين الصيني، الذي يرى فيه الكثير من الأكاديميين الأمريكيين التحدي الأهم لأمريكا في المرحلة القادمة وليست روسيا. ستتطرق القراءة أيضا لرأي هؤلاء الأكاديميين فيما إذا جاء قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كرد فعل متوقع ومشروع وطبيعي على محاولة ضم أوكرانيا للناتو؟ وهل كانت أمريكا ستتصرف بنفس المنطق والأسلوب عندما تواجه بنفس التحدي في السياق المحيط بها وما يمس أمنها القومي؟ كما سنوجز ما خسرته أمريكا من وجهة نظر هؤلاء الأكاديميين في جعل أوكرانيا مثالا يحتذى به عندما يراد الاعتماد على أمريكا كداعم وحليف في الحرب والسلام؟

يتفق العديد من الأكاديميين الأمريكيين على أن جذور النزاع الروسي- الأوكراني تعود لانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1989-1990، حيث كان هناك مفاوضات بين الرئيس جورج بوش وجيمس بيكر وميخائيل جورباتشوف حول آلية التعامل مع القضايا التي اتصلت بتفكك الاتحاد السوفيتي وكان على رأسها مصير حلف شمال الأطلسي الذي كان الهدف من إنشائه هو حماية أوروبا الشرقية من الامتداد الروسي. وكان مما اتفق عليه حينها بأن الناتو " لن يتحرك بوصة واحد نحو الشرق" وبهذا الشرط الذي لقي قبولا لفظيا فقط عند الأمريكان ولم يكتب بشكل رسمي سارت الأمور بناء على هذا الترتيب حينها. هنا، يرى الكثير من الأكاديميين الأمريكيين، وعلى رأسهم نعوم شومسكي ومرشايمر، أن الروس لم يكونوا موفقين بقبولهم هذا الترتيب دون تدوينه في وثيقة رسمية[2]. واليوم تواجه روسيا معضلة محاولة ضم أوكرانيا لحلف الناتو، ويرى شومسكي بأنه ليس من المنطقي لأي رئيس روسي أيا كان في سدة الحكم قبول انضمام أوكرانيا لحلف الناتو لأسباب جيوسياسة وأمنية واقتصادية كثيرة. لذلك، كان مجرد التلويح بفكرة توسيع حلف الناتو بضم أوكرانيا كفيلا بأن يشعل فتيل هذه الحرب المستعرة إلى اليوم. هنا، نحاول الإجابة عن بعض الأسئلة من خلال وجهة نظر الأكاديميين الأمريكيين الذين تحدثوا في هذا الشأن قبل اندلاع الأزمة بسنوات وعلى مشارفها وخلالها. ولعل السؤال الأكثر إلحاحا مفاده: هل كان بإمكان أمريكا منع المواجهة العسكرية؟ وهنا، من المهم الإشارة إلى أن العديد من الأكاديميين الأمريكيين المختصين بشأن العلاقات الدولية وسياسة أمريكا الخارجية حذروا منذ سنوات عدة من تفاقم التوتر المحتدم بين روسيا وأوكرانيا وتدخل أمريكا المباشر وغير المباشر الذي كان من شأنه إيصال الوضع إلى ما هو عليه الآن. ولعل ذلك كان جليا في محاضرة ألقاها بروفيسور جون ميرشايمر في جامعة شيكاغو عام 2015 حول مسئولية الغرب عن استثارة العدوان الروسي على أوكرانيا. بل يذهب لأبعد من ذلك بتصريحه بأن "أمريكا هي المسئولة عن الأزمة الأوكرانية" على حد تعبيره، وبأن أمريكا وحلفاءها في الناتو هم من صعدوا الأحداث التي أوصلتنا إلى الحرب الحالية. لكنه لا يعفي في ذات الوقت الرئيس الروسي بوتين من مسئوليته عن بدء الحرب، وعن تحميله مسئولية الأعمال التي تقوم بها القوات الروسية في الأراضي الأوكرانية.

في محاضرة بعنوان "أسباب وتبعات الحرب على أوكرانيا قال جون ميرشايمر إن "أمريكا دفعت أوكرانيا لتبني سياسات والقيام بخطوات شكلت خطراً وجودياً على روسيا"[3]. ويرى الكثير من الأكاديميين الأمريكيين بأن أمريكا كان بوسعها تجنيب الطرفين هذه الحرب إن كانت استجابت للمطالب الروسية التي يرى الكثيرون من المختصين بالشأن الروسي الأوكراني بأنها مطالب موضوعية تضمن لروسيا أمنها القومي، ألا وهو تحويل أوكرانيا لدولة محايدة وعدم ضمها لحلف شمال الأطلسي. ويرى العديد من الأكاديميين الأمريكيين بأن أمريكا تجاهلت دعوات روسيا المتكررة لتحييد أوكرانيا لتجنب تأجيج الموقف لما وصل إليه اليوم. ويرى أولئك الأكاديميون بأن روسيا لم تطلب شيئا غريبا في عُرف الدول، بل ذهبوا لأبعد من ذلك متسائلين عن تبعات تطبيق سيناريو شبيه في جوار الولايات المتحدة حال ما دخلت المكسيك في تحالف مع الصين على حدود أمريكا. فبالرغم من كون المكسيك دولة ذات سيادة واستقلال لكن هذا لا يمكنها من الانضمام لأي تحالف يشكل تهديدا لأمن أمريكا! وبهذا يرى العديد من الأكاديميين الأمريكيين بأن روسيا كانت تود أن ترى في أوكرانيا ما ترغب وتحرص أمريكا على رؤيته في المكسيك من حيادية تضمن أمنها. لكن أمريكا لم تمنع إشعال فتيل الحرب فحسب، بل يرى ميرشايمر بأن أمريكا ذهبت لأبعد من ذلك بفرض عقوبات أججت الموقف وزادت من التعنت الروسي وقللت من فرص الدبلوماسية التي لم تنتهجها طريقا منذ اليوم الأول لبدء العمليات الروسية العسكرية في أوكرانيا. وهذا يرجح بحسب تقديره استمرار الحرب لأشهر، بل لسنوات عدة. ويضع سيناريو أكثر قتامة يتنبأ باستخدام أسلحة نووية، حال تورط دول حلف شمال الأطلسي في هذه الحرب[4].

ومن المهم الإشارة إلى أن الكثير من الأكاديميين الأمريكيين يفندون ما تحاول أمريكا وحلفاؤها في الغرب من ترويجه حول مسئولية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الحرب المشتعلة في أوكرانيا، ضاربين عرض الحائط بكل الأحداث والمواقف التي قادت روسيا برئاسته لإعلان الحرب. كما عملت أداة الإعلام الأمريكية والغربية المتحالفة معها على الترويج لوجود "طموح استعماري توسعي" لدى بوتين مبني على احتلال أوكرانيا وغيرها من الدول لخلق روسيا العظيمة أو ما شابه الاتحاد السوفيتي، حيث يقول ميرشايمر بأن الغرب روج لكون أوكرانيا الدولة الأولى وليست الأخيرة في طموح روسيا الاستعماري، ويرى أن هذا الطرح غير واقعي، وليس هناك أي دليل على صحته بأي شكل من الأشكال.

وفيما يتعلق بالخطاب الرسمي لإدارة بايدن والتغطية الإعلامية الأمريكية فيما يتصل بالحرب يرى الكثير من الأكاديميين الأمريكيين بأن الخطاب السياسي الرسمي لإدارة بايدن لا يصب في مصلحة إنهاء النزاع، بدءا بالرئيس الأمريكي الذي قال بما لا يساوره شك "هذا الرجل لا يمكن أن يستمر بالحكم" مرورا بتصريحات كثيرة تصب في هذا السياق، فيصرح مستشار الأمن القومي الأمريكي قائلا: "ما نود رؤيته هو أوكرانيا حرة مستقلة، وروسيا ضعيفة ومعزولة وغرب أكثر قوة واستقلالية". كما يرى تشومسكي بأن الإعلام الأمريكي صنع من الرئيس الأوكراني زيلينسكي بطلا يوازي وينستون تشرشل كما يراه الكثير من أعضاء الكونجرس. لكن الرجل كان واقعيا وقدم بأن هدفه إنقاذ أوكرانيا حتى عبر التفاوض.

ويرى بعض الأكاديميين الأمريكيين كذلك أن الإعلام الأمريكي يضلل الأمريكيين فيما يتصل بالحرب وتداعياتها. محاولا تصوير روسيا وما تقوم به في أوكرانيا على أنه جرائم حرب وشيطنة الروس، وعلى رأسهم الرئيس بوتين. ويرجع تشومسكي هذا النهج لما قام به البريطانيون خلال الحرب العالمية الثانية بإنشاء وزارة المعلومات التي عملت على حد تعبيره على نشر "الأكاذيب" التي عملت على شيطنة ألمانيا إبان الحرب العالمية ودفع أمريكا للانخراط في الحرب. وذات المثال يساق على التضليل الإعلامي في جواتيمالا، والحرب على فيتنام، والحرب على العراق، والحرب على أفغانستان، وهو اليوم يحدث في الحرب الروسية-الأوكرانية. فعلى حد تعبير تشومسكي يغذي الإعلام الجمهور الأمريكي بالكذب كي ينساق لما تريده الحكومة.

كما يلجأ العديد من الأكاديميين الأمريكيين للربط بين الغزو الروسي لأوكرانيا والغزو الأمريكي لفيتنام والعراق، حيث يرى ميرشايمر بأن الحروب المعقدة التي تجر ويلات أكثر على البشرية هي الحروب التي تسترعي اهتمام الشعوب لمعرفة أين أخفقت دولها في الحسابات. ويسوق ميرشايمر ما حدث في الحروب الأمريكية على فيتنام والعراق، واللتين -وفقا له- جعلت الشعب الأمريكي يتساءل أين أخطئنا في الحساب[5]. ويرى نعوم تشومسكي أن العقوبات المفروضة على روسيا شرعية إن كان فرض مثلها على أمريكا عند احتلاله للعراق أو أفغانستان على حد تعبيره. ويسوق مثالا للمرة الوحيدة التي فرضت بها عقوبات على أمريكا حين استخدمت القوة بشكل مفرط في نيكاراجوا، لكنها ردت على العقوبات بزيادة العنف. فهدف العقوبات يجب أن يكون للحد من الصراع لا تأجيجه.

من جهة أخرى، يرى تشومسكي أن الدعم العسكري المقدم لأوكرانيا دعم شرعي ومرحب به، لكنه يجب أن يكون دعما مدروسا بشكل دقيق جدا، بحيث يؤدي الغرض المطلوب منه، وهو مساعدة الأوكرانيين، لكن أي دعم غير مدروس من شأنه -على حد تعبيره- أن يقود إلى "تدمير أوكرانيا". والمهم فى نظر تشومسكي التوجه للمفاوضات بهدف إنهاء الحرب التي لن تنتهي فى نظره إلا بأحد سيناريوهين لا ثالث لهما. الأول بأن ينهي طرف من المتحاربين الآخر وهذا فى نظره يعني إنهاء أوكرانيا وتدميرها. أما الطريق الآخر، فهو طريق المفاوضات التي من شأنها التوصل لاتفاقية تقي أوكرانيا من تدمير قادم. ويرى أن أمريكا تقف موقف الرافض بشكل قاطع لأي شكل من المفاوضات بين طرفي النزاع، لكن السياسة المتبعة في واشنطن هي دعم أوكرانيا بغرض ضمها في الناتو، مما جعل المفاوضات تموت في مهدها. ويسوق تشومسكي اقتباسا للسفيرالأمريكي شاس فريمان: "أمريكا ستقاتل لآخر أوكراني".

ختاما، يمكن تلخيص القراءة الأكاديمية الأمريكية للعديد من المختصين بهذا الشأن فيما صرح به نعوم تشومسكي أن أمريكا "أسست لمبدأ أن لها الحق بإحاطة وتطويق أي أحد بأسلحة من شأنها تدميرهم في ثوان، لكن ليس من حق أحد أن يضع أسلحة في أي مكان قربنا"، مضيفا أن هذا جزء من مفهوم "امتلاكنا للعالم، وأن لدينا الحق بفعل ما نشاء، وقتما وأينما نشاء وليس من حق أحد الاعتراض".[6] ولعله من الممكن القول إن الخطاب الأكاديمي الأمريكي ملتبس فيما يتعلق بهذه الحرب مما يتصل بشكل مباشر مع تعقيداتها التي تتشعب وتتوالى بشكل يصعب به قراءة المشهد بوضوح.

الهوامش:

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    ميسا جيوسي

    ميسا جيوسي

    باحثة وكاتبة صحفية