أنشطة السياسة الدولية - مؤتمرات وندوات

مؤتمر ميونخ.. تحديات الثورات والأمن العالمي

طباعة

هيمنت قضايا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا علي أعمال مؤتمر ميونخ للأمن والسلام العالمي في نسخته السابعة والأربعين - الذي عقد خلال الفترة من 4 إلي 6 فبراير 2011   بمدينة ميونخ عاصمة ولاية بافاريا- نظرا لما تموج به من ثورات شعبية وتحولات سياسية قد تفضي إلي تغييرات حقيقية نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان.

إذ اعتبر المؤتمرون أن المنطقة تعزف حاليا علي وتر تحولات سياسية تستدعي إجراء تغييرات حقيقة نحو الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وهو ما دعت إليه وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في كلمتها أثناء المؤتمر، حين أشارت إلي أنه "لا يمكن الإبقاء علي الوضع الراهن". وبالتالي، وفقا لكلينتون، فإنه "لزاما علي الحكومات في العالم العربي إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية".

المؤتمر الدولي الذي حضره نخبة من الساسة والخبراء، كونه يعد الأهم لمناقشة السياسات الأمنية علي مستوي العالم. فقد ناقش المؤتمرون عديدا من القضايا الأمنية الرئيسية التي تمثل تحديات أمنية. فبجانب اضطرابات الشرق الأوسط وعملية السلام، كانت هناك قضايا رئيسية من قبيل، تأثيرات عواقب الأزمة المالية العالمية في الأمن والاستقرار العالميين، وتعزيز الأمن الأوروبي، وعدم انتشار الأسلحة النووية، وكذلك مستقبل أفغانستان التي كانت حاضرة علي أجندة المؤتمر. ولعل جديد هذا العام هو عقد جلسة خاصة عن الأمن الإلكتروني (الأمن السيبراني) Cyber Security متماشيا مع الثورة الصناعية الثالثة بروافدها الاتصالاتية والمعلوماتية السريعة.

 

وبجانب هذه القضايا التي تمثل تحديات أمنية للسلم والاستقرار العالميين، كان هناك حدث ذو قوة رمزية شهدته أروقة المؤتمر، والمتمثل في تبادل وزيرة الخارجية الأمريكية، "هيلاري كلينتون"، ووزير الخارجية الروسي، "سيرجي لافروف"، لوثائق التصديق علي معاهدة ستارت الجديدة. وهي نتاج للنهج الجديد القائم علي الفهم المشترك الأمريكي - الروسي لتدابير بناء الأمن والثقة، وبالتالي للالتزام المشترك بالحفاظ علي الأمن والاستقرار الاستراتيجي العالمي.

أولا - الأزمة المالية العالمية وتأثيراتها

تعد الأزمة المالية العالمية بتداعياتها الحالية من الأزمات الكبري التي يشهدها النظام المالي العالمي منذ عام، بل اعتبرها البعض الأزمة المالية الأسوأ منذ قرن مضي، وهو ما دفع المؤتمر لوضعها علي جدول أعماله. وكان الهدف الرئيسي من طرح هذه القضية هو الحيلولة دونتحول الأزمة المالية إلي أزمة أمنية، وأيضا تبيان تأثيرها السلبي في سبل تحقيق الاستقرار.

وفي هذا السياق، قدم الأمين العام لحلف شمال الأطلنطي "أندرس فوغ راسموسن" مداخلة عن تأثير الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في الأمن والاستقرار العالميين، أوضح خلالها قلقه من خفض نفقات الدفاع والموازنات العسكرية في معظم البلدان الأوروبية كنتاج عن الأزمة، مشيرا إلي أن نظم الدفاع الصاروخي مهمة من أجل إيجاد توازن بين الأسلحة الهجومية والدفاعية. وأعرب كذلك عن قلقه من القدرة النووية الصينية والتطوير المستمر من جانب إيران للأسلحة النووية. ومن ناحية أخري، أكد المجتمعون  التأثير السلبي لارتفاع أسعار المواد الغذائية وارتفاع تكاليف المعيشة في تحقيق الاستقرار العالمي المنشود.

ثانيا- قضية الأمن الإلكتروني:

كانت قضية الأمن الإلكتروني (الأمن السيبراني) إحدي أهم القضايا التي تمت مناقشتها خلال المؤتمر، فالمجتمعون أشاروا إلي أن ثمة خطرا إلكترونيا يهدد المعلومات الشخصية والمؤسساتية وحتي الحكومية، حيث أضحي الخوف متأصلا من هجمات يومية محتملة في إطار ما يسمي بالحرب الإلكترونية ضد الحكومات والمنشآت العسكرية والاقتصادية والصناعية وإمدادات الطاقة والنظم المعرفية. وقد أشار المؤتمرون في هذا الصدد إلي حالات سابقة كانت البداية لهذه الحرب الإلكترونية الجديدة، فاتحة أفق الحذر من اختراق أنظمة المعلومات، مثلما حدث في أستونيا عام 2006، وهجمات قراصنة سيبريين في جورجيا 2008، وأخيرا هجوم فيروس "ستاكس نت" للمنشآت النووية في إيران، وهو ما جذب انتباه الخبراء الأمنيين، ليتوصلوا عبر ذلك إلي قناعة بأنها مخصصة لاستهداف البني الحساسة وأنظمة الكمبيوتر.

ومن الواضح كما أشار المجتمعون أنه لا توجد استراتيجية واضحة من جانب دول حلف الناتو لمواجهة أي هجوم محتمل عبر الشبكة العنكبوتية.

ثالثا - الاضطرابات في الشرق الأوسط:

ألقت الاضطرابات والثورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، خاصة ثورة 25 يناير في مصر، ظلالها علي مناقشات المؤتمر. فقد تبوأت هذه القضية مكانا بارزا علي جدول أعمال المؤتمر، والذي طالب الحكومة المصرية "بإجراء إصلاحات فورية واحترام حق المواطنين في التظاهر والتعبير عن رأيهم". كما أجمع المؤتمرون علي ضرورة عدم التدخل المباشر في شئون مصر الداخلية ونبذ العنف كطريقة لحل النزاع. وفي هذا السياق، أكدت المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" -خلال المؤتمر- أن "ضمان الحريات في مصر أمر له أهمية مطلقة"، مضيفة "أن هناك تغييرا سيحدث ويجب أن يتم تشكيله، وأن يسير بصورة سلمية وعاقلة، كما أن أوروبا مستعدة لدعم هذه العملية من خلال شراكة جديدة".

وحول حالة التحول الديمقراطي في المنطقة، قالت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إن "هناك حاجة ملحة إلي إصلاحات سياسية في الشرق الأوسط، ويجب علي جميع الدول الإسراع في الإصلاح،  فالغالبية تحت سن الثلاثين وليس لديهم عمل. الوضع الراهن غير مستدام، وأيضا هناك فجوة بين هذه الشعوب وحكوماتها". وأضافت أنه لا يمكن الإبقاء علي الوضع الراهن، داعية الحكومات العربية لإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية.

ومن المعلوم أن الولايات المتحدة الأمريكية أقامت شراكات أمنية متينة مع بلدان عدة في الشرق الأوسط لإشاعة السلام بين إسرائيل وجاراتها، ولوضع حد للطموحات النووية الإيرانية المحفوفة بالأخطار، ولدعم التنمية الاقتصادية، ووقف انتشار الإرهاب، وهو ما كان يراه الجانبان الأمريكي والأوروبي مهما لأمنهما.

ومن جانبه، أكد الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون"، في كلمته خلال فعاليات اليوم الأول للمؤتمر، أن "الاحتجاجات في العالم العربي نابعة في الأساس ليس فقط من الاضطراب الإنساني والفقر، ولكن أيضا من الفساد وعجز الديمقراطية".

ولذا، أكد المؤتمرون تحقيق معادلة الشرق الأوسط الصعبة، وهي التقاء رافدي الأمن والتحول الديمقراطي. فهناك ضرورة استراتيجية تدعو إلي إحراز تقدم ملموس من جانب الدول الشرق أوسطية باتجاه إرساء نظم سياسية منفتحة وخاضعة للمحاسبة، وإلا فإن الفجوة بين الشعوب ستتسع، مما يؤدي إلي زعزعة الاستقرار والأمن العالميين.

رابعا - عملية السلام في الشرق الأوسط:

طالبت اللجنة الرباعية الدولية المعنية بعملية السلام في الشرق الأوسط خلال المؤتمر بدفع عملية السلام إلي الأمام، والعودة الفورية إلي مائدة المفاوضات ووقف الاستيطان كشرط لمواصلة التفاوض، مؤكدة أن "استمرار الركود في عملية السلام يضر بفرص السلام والاستقرار في المنطقة". وقد أصدرت الرباعية الدولية بيانا جاء فيه، أن أي تأخير في استئناف المحادثات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي سيكون ضارا باحتمالات السلام والأمن الإقليمي.

كما أن المجموعة تأسف لعدم استمرار توقف النشاط الاستيطاني الذي استمر عشرة أشهر من جانب إسرائيل.

وأكدوا أن الأعمال المنفردة من جانب أي من الجانبين لا يمكنها أن تحدد مسبقا نتيجة المفاوضات، ولن يعترف بها المجتمع الدولي، في إشارة إلي حملات الجانبين لتحديد حدود خاصة بهما تمثل خطوطا حمراء قبل التفاوض.

خامسا - التعاون الأمريكي - الأوروبي لتحقيق الأمن العالمي:

تعتبر العلاقات الأمريكية - الأوروبية حجر الزاوية في العمل الدولي، وحافزا للتعاون العالمي، وهو ما جعلها تحتل حيزا لا بأس به في مناقشات مؤتمر ميونخ هذا العام التي تطرقت إلي أشكال هذا التعاون، ومنها:

- العمل معا لمحاربة الفقر والمرض والجوع، فالولايات المتحدة وأوروبا مسئولتان عما يقرب من 80% من مساعدات التنمية الدولية، وهو ما يشكل عنصرا دافعا للأمن المشترك.

- التعاون الأمريكي - الأوروبي تحت مظلة حلف الناتو في أفغانستان.

- الاتفاق بين الطرفين فيما يخص البرنامج النووي الإيراني في إطار مجموعة ( 5+1)، لتحديد مسارات طهران في الفترة القادمة، ما بين إثبات كون البرنامج الإيراني للأغراض السلمية أو مواجهة العزلة الدولية المصحوبة بعقوبات رادعة وخيارات مطروحة علي الطاولة.

- التعاون في مناطق مختلفة من العالم، منها - علي سبيل المثال- منع حدوث العنف خلال استفتاء جنوب السودان في يناير 2011، والحد من أعمال القرصنة قبالة سواحل القرن الإفريقي. وأيضا اتخاذ موقف موحد حول بيلاروسيا في دعمها لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وتعزيز المجتمع المدني بها. كذلك التعاون الامريكي - الأوروبي لتعزيز التنمية الاقتصادية، والحكم الديمقراطي في غرب البلقان، والعمل معا لدمج المنطقة بدرجة أعمق مع الاتحاد الأوروبي.

في حين طالبت وزيرة الخارجية الفرنسية "ميشيل اليوت ماري" خلال المؤتمر بتحديث أنظمة الدفاع الأوروبية لمواجهة تحديات الأمن في المستقبل، مؤكدة أن "غطاء الولايات المتحدة ليس كونيا أو أبديا".

سادسا- الناتو وأفغانستان .. نهج إقليمي:

تركزت مناقشات اليوم الأخير للمؤتمر ( 6 فبراير 2011) حول محاولة التوصل إلي استراتيجية مناسبة لتحقيق الاستقرار في أفغانستان،  وهو ما دعا إليه وزير الخارجية الألماني فيشر فيله من خلال ضرورة وجود: نهج إقليمي يكون بديلا عن الالتزام العسكري لحلف الناتو من خلال حث كل من الصين والهند علي لعب دور حيوي في تعزيز العلاقات الاقتصادية، والارتقاء إلي مستوي المسئولية المترتبة علي قدرتهما الاقتصادية علي الخريطة العالمية، ناهيك عن الدور السياسي المتنامي دوليا لهما. كما أن هذا النهج الإقليمي لن يتحقق دونما إدماج لمختلف الأطياف السياسية الأفغانية في العملية السياسية، بما فيها حركة طالبان.

واقترح أن تتحمل الحكومة الأفغانية المسئولية كاملة من قوات حلف الناتو بحلول عام 2014، وهو ما أكده الرئيس الأفغاني "حامد كرزاي" خلال المؤتمر (طبقا لمقررات قمة الحلف في لشبونة)، والذي أعلن أنه سيتم الإعلان في 21 مارس 2011 عن المرحلة الأولي من خطة انتقال الاختصاصات من فرق إعادة الإعمار والقوات التنفيذية للناتو إلي قوات محلية أفغانية يصل قوامها حاليا إلي 270 ألف فرد علي كفاءة عالية. لكن هذا الانتقال يكون بالتوازي مع النجاح في تحقيق الاستقرار في الدولة. وقد طرح مصطلح "الهياكل الموازية في أفغانستان"، القادرة علي تحقيق التنمية الاقتصادية، كخطوة أولية في طريق تحقيق الاستقرار السياسي.

ومن ناحية أخري، حمل المؤتمر في ثناياه العديد من الأفكار والقضايا الفرعية التي تطرق إليها بعض المسئولين. فقد طرح رئيس الوزراء البريطاني "ديفيد كاميرون" وجهة نظره حول ما سماه "جذور التطرف الإسلامي"، عند حديثه عن الإرهاب، مؤكدا أن هذا التطرف ما هو إلا "نسخة ضارة بالفكر الإسلامي"، وأنه أيديولوجية سياسية تدعمها أقلية. وأضاف أن هذا التطرف بعيد كل البعد عن فكر الإسلام الصحيح والسمح. وأشار "كاميرون" إلي وجوب حظر دعاة الكراهية، وتعزيز التسامح والاحترام المشروع لشبكة الأمن الدولي. وفيما يتعلق بالتحرك البريطاني لتحقيق الأمن العالمي، أشار إلي ضرورة مواصلة الدعم البريطاني لمهمة حلف الناتو في أفغانستان، وتعزيز القدرة العسكرية البريطانية، حيث تمتلك لندن رابع أكبر ميزانية للدفاع العسكري في العالم.

وشهد المؤتمر أيضا طرحا مميزا من جانب الأمين العام للأمم المتحدة الذي دعا إلي ضرورة تجنب الأعمال العسكرية المكلفة ماديا وبشريا، والاتجاه نحو القوة الناعمة لتحقيق السلام العالمي.

وعلي الرغم من تنوع وتعدد القضايا علي جدول أعمال المؤتمر، والتي تمثل تحديات أمنية تهدد أمن واستقرار العالم، فإن هناك طائفة أخري من التحديات الأمنية والسياسية التي لم يتطرق لها المؤتمر، مثل الأمن البحري، أو الدور المستقبلي للصين علي المسرح الدولي.

طباعة

    تعريف الكاتب

    أحمد سعيد تاج الدين