كتب - كتب أجنبية

"قواعد القوة":| كيف ينقذ الاتفاق الجمعي السياسة الخارجية الأمريكية؟

طباعة

عرض : عمرو عبد العاطي

Leslie H. Gelb، Power Rules: How Common Sene Can Rescue  American Foreign Policy، Harper Collins، March 2009.


مع تولي إدارة جديدة سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية برئاسة "باراك أوباما" بعد سنوات ثمان من تراجع القوة والمكانة الأمريكية علي الصعيد الدولي، صدر كتاب "ليسلي جيلب" المعنون ب- "قواعد القوة .. كيف ينقذ الاتفاق الجمعي السياسة الخارجية الأمريكية?" في عام 2009، مناقشا مبادئ وقواعد القوة الأمريكية، وكيفية استعادتها واستخدامها بفاعلية في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية في ظل نظام دولي لم تتشكل ملامحه بعد.

يأتي هذا الكتاب ضمن الإطار العام الذي ميز الكتابات الأمريكية الصادرة خلال السنوات الخمس الأخيرة للعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي تناولت مستقبل القوة والدور والمكانة الأمريكية علي المسرح الدولي، في وقت تتزايد فيه قوة قوي منافسة للولايات المتحدة علي المكانة الدولية، وساعية للإحلال محل واشنطن في مناطق تراجع نفوذها.

وتعد الميزة الأولي لهذا الكتاب في كونه دليلا ومرشدا ل "أوباما" ولفريقه للسياسة الخارجية في كيفية استعادة القوة الأمريكية واستخدامها بصورة كفء في تحقيق أهداف السياسة الخارجية، ولهذا يقارنه "جيلب" في رسالته للرئيس الأمريكي "باراك أوباما" بكتاب "الأمير" ل- "نيكولا ميكيافلي" الذي كتبه منذ خمسة قرون مضت.

يهدف الكتاب إلي تحقيق هدفين رئيسيين، يتمثل أولهما في استعادة القوة الأمريكية لتكون أكثر فاعلية مع التطورات الحادثة علي المسرح الدولي خلال القرن الحادي والعشرين. أما الأخير، فتمثل في استعادة الاتفاق الجمعي بين الأمريكيين (ساسة ومواطنين) حول القوة الأمريكية واستخداماتها، وكذلك التوافق حول صناعة السياسة الخارجية الأمريكية.

في حين تتمثل الميزة الثانية للكتاب في كاتبه، فهو خبير متمرس في العمل السياسي الأمريكي بمستوياته الرسمية وغير الرسمية لمدة تقرب من أربعة عقود. فقد اشتغل "جيلب" بوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) بإدارة "ليندون جونسون" ووزارة الخارجية الأمريكية بإدارة "جيمي كارتر"، ناهيك عن كونه مستشارا ل- "هيلاري كلينتون" خلال حملتها الانتخابية الرئاسية لعام 2008، بالإضافة إلي كونه مراسلا وكاتبا لعمود بصحيفة "نيويورك تايمز"، كما عمل بعدد من مراكز الفكر والرأي الأمريكية وهي: مؤسسة بروكينجز كارنيجي للسلام الدولي، ومجلس العلاقات الخارجية الذي يرأسه، وهي مراكز  لها كبير الأثر علي صانع القرار الأمريكي.

انعكست تلك الخبرة الطويلة بالعمل السياسي في تحليلاته وتفسيراته لكثير من الإخفاقات والإنجازات التي حققتها السياسة الخارجية الأمريكية خلال العقود الماضية التي حفل بها الكتاب. فالكتاب غزير بتحليل عديد من الإخفاقات الأمريكية علي الصعيد الدولي، بداية من الهزيمة الأمريكية في فيتنام، مرورا بأزمة الرهائن الأمريكيين في إيران، وصولا إلي الحربين اللتين تخوضهما الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق.

ويعكس الكتاب بما يقدمه من تفسيرات لإخفاقات السياسة الخارجية الأمريكية ولاستخدامها للقوة خلال العقود الماضية والنصائح التي يقدمها لإدارة "أوباما" انتماء "جيلب" إلي التيار الواقعي في السياسة الخارجية الأمريكية الذي يولي أهمية أكثر إلي المصالح الذاتية، باعتبارها المحرك الأول للسياسات الخارجية، وهي واقعية برجماتية ممزوجة برصانة أكاديمية وخلفية تكنوقراطية بالعمل السياسي.

ينطلق الكاتب في تحليله من أن المشكلة التي تواجهها الولايات المتحدة، والمتعلقة بالأمن القومي الأمريكي، ليست في القوة الأمريكية في حد ذاتها، ولكنها في كيفية استعادة واستخدام تلك القوة بعد اختطافها من قبل الليبراليين والمحافظين الذين ظلوا لسنوات طويلة وإلي يومنا هذا يحاصرون القادة الأمريكيين ويجبرونهم علي اتخاذ قرارات خاطئة، وأيضا علي تقديم تنازلات وتعهدات غير قادرين علي الإيفاء بها، مما جعل القوة الأمريكية أحد محاور الجدل الأيديولوجي علي الساحة السياسية الداخلية الأمريكية - بل وعلي الصعيد العالمي أيضا - أكثر من كونها أداة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية.

ويتبني "جيلب" المفهوم الكلاسيكي للقوة، وهو "القدرة علي جعل الشعوب (الدول) تفعل مالا تريد أن تفعله". والقوة عنده مصدرها سيكولوجي وضغط سياسي، ومكوناتها قوة عسكرية اقتصادية دبلوماسية وأخلاقية، والتي تعد أدوات الضغط لتحقيق القوة الأمريكية أهدافها. والقوة -حسب "جيلب"- تفقد فاعليتها عند استخدامها بطريقة غير حكيمة، كما أن الاستخدام غير الحكيم لها يؤدي إلي الحروب.

وللدور الجلي للقوة الاقتصادية علي المسرح الدولي بما تمنحه للدولة من قدرات علي ممارسة دور دولي، وأنها تحقق مكاسب وفاعلية أفضل من القوة العسكرية في كثير من الأحيان، أضحت تتقدم علي الأخيرة في وقت لم تعد فيه القوة العسكرية تتحكم في ميزان القوي بين الدول وبعضها بعضا.

هذا لا يعني أن "جيلب" ينكر أهمية التفوق العسكري الذي لا يزال العنصر الرئيسي في عناصر القوة الأمريكية، كما أن "جيلب" ضد التخفيض في ميزانية الدفاع الأمريكي. ولكن يجب أن تكون القوة العسكرية في خدمة السياسة الخارجية والدبلوماسية، وليست هي المسيطرة، حيث إنها بمفردها لا يمكن أن تحقق أهدافها إلا نادرا. وفي هذا السياق، ينتقد إدارة "بوش الابن" لاقتصار تعريفها للقوة علي مكونها العسكري وعسكرتها للسياسة الخارجية الأمريكية.

وينتقد الكتاب عديدا من الأفكار والأطروحات التي احتوتها الكتب الأكثر رواجا داخل الولايات المتحدة، مثل فكرة "عالم ما بعد أمريكا" ل- "فريد زكريا"، و"العالم مسطح" ل- "توماس فريدمان". حيث يري "جيلب" أن العالم هرمي الشكل من حيث توزيع القوة، وأن الولايات المتحدة تأتي علي قمته، وتليها في المرتبة الثانية دول خصها بالاسم وهي: الصين، واليابان، والهند، وروسيا، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، والبرازيل. ويلي تلك الدول طبقات أخري من دول وكيانات وشعوب تملك من مقاليد القوة (التأثير والنفوذ) ما يمكنها من مقاومة نفوذ الدول الكبري. ولكن موقع الولايات المتحدة علي قمة هرم القوة لا يعني أنها القوة المهيمنة، وأن تلك القوة لا تمكن الولايات المتحدة من فرض وجهة نظرها علي الآخرين.

وينتقد أيضا مفهوم عالم السياسة بجامعة "هارفارد" "جوزيف ناي" ل "القوة الناعمة"، حيث يري "جيلب"  أن القيم الجيدة والإقناع لن تدفع قيادات الدول الأجنبية لعمل ما تريده الولايات المتحدة، ولذا ف "القوة الناعمة" ليست الأساس في تحقيق السياسة الخارجية الأمريكية وليست شيئا حقيقيا، ولكن لابد أن يصاحبها الجانب العسكري للقوة. وهو بذلك يقلل من أهمية الدعم الأمريكي للقيم والمبادئ الغربية وحقوق الإنسان والديمقراطية واقتصادات السوق التي تبنتها الولايات المتحدة، والتي شجعت الملايين من الأوروبيين في دول أوروبا الشرقية علي الثورة علي الهيمنة السوفيتية عام 1989.

ويخلص إلي أن قوة الولايات المتحدة المستقبلية مبنية علي مبدأ "الحاجة المتبادلة" بينها وبين دول المجتمع الدولي، بمعني أن الولايات المتحدة هي القادرة علي حشد التحالف الدولي وقيادته لحل المشكلات الدولية الرئيسية، في وقت تدرك فيه دول العالم ذلك، وأنها في حاجة أكبر لدور أمريكي. ولذا، فعلي واشنطن أن تحدد مواضع التقاء المصالح المشتركة في الوقت الذي تسعي فيه إلي استعادة مكانتها ودورها الذي تراجع خلال سنوات حكم "بوش الابن" الثماني.

وأفضل طريقة، من وجهة نظر "جيلب"، لأن تمارس الولايات المتحدة قوتها، هي أن تتحالف مع القوي التي هي بالقرب منها في هرم القوة الذي صاغه. وقبل أن تمارس واشنطن قوتها، فإن عليها صياغة استراتيجية شاملة لتعظيم قوتها، يكون من أولوياتها فهم موضوعي وعميق لمشاكل وقضايا الدول الأخري، وأن تعلم حقيقة العلاقة بين القوة والسياسة، مع عدم التهويل من قدرات الخصم. مشيرا في هذا الصدد إلي التهويل الأمريكي من القدرات الصاروخية السوفيتية، وأنها تتقدم علي الولايات المتحدة بأشواط كبيرة في مجال القذائف الصاروخية، علي عكس حقيقة الأمر، حسبما يري "جيلب".

وينتهي إلي أنه ليس من استراتيجية لدي الولايات المتحدة لتعظيم قوتها ومكاسبها في الوقت الراهن، ولكن يمكن النظر إلي استراتيجية الأمن القومي التي أصدرتها الإدارة في السابع والعشرين من مايو 2010 علي أنها الاستراتيجية التي تستعيد القوة والمكانة الأمريكية، والتي أكدتها الوثيقة التي تبنت النهج الذي دعا إليه "جيلب" في كتابه.

ويكمن مفتاح نجاح الاستراتيجية الأمريكية في الاتفاق الجمعي عليها وتضمينها أهدافا قابلة للتحقيق. فنجاحات السياسة الخارجية الأمريكية في مجالات شتي استطاعت -في رأيه- أن تمتص عوامل الإخفاق التي صاحبت السياسة ذاتها خلال سنوات ماضية. وفي هذا السياق، انتقد سياسات إدارة "جورج دبليو بوش" لافتقادها القدرة علي تحويل العراق إلي دولة ديمقراطية ذات نظام اقتصادي قائم علي اقتصادات السوق، وإهدار الطاقة الأمريكية في "أضغاث أحلام" حسب تعبير الكاتب. ويري أن تبني أهداف غير قابلة للتحقيق، مثل نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، ينال من مصداقية القوة الأمريكية. ويرفض كذلك تبني الإدارات الأمريكية نشر الديمقراطية في بلدان لا تتوافر فيها أساسيات الحياة كتوافر مياه نظيفة للشرب علي سبيل المثال.

ويرجع إخفاق الساسة الأمريكيين في صياغة استراتيجية للقوة الأمريكية يتوافر إجماع جمعي عليها داخل الولايات المتحدة إلي ثلاثة أسباب رئيسية. يتمثل أولها في تحويل المبادئ إلي عقيدة تفرض علي الآخرين لاتباعها دون مناقشة. ثانيها: ضغوط السياسة الخارجية. وآخرها: توهم الولايات المتحدة قدرتها علي فعل أي شيء.

وفي التحليل الأخير، يلاحظ المتابع للسياسة الخارجية الأمريكية، خلال العامين المنصرمين علي تولي إدارة "أوباما" وفريقه سدة الحكم في الولايات المتحدة، أن سياساتها الخارجية جاءت مترجمة لكثير من النصائح التي ذهب إليها "جيلب" في كتابه هذا. فعلي الصعيد الدولي، انطلقت سياسة "أوباما" الخارجية من قناعة بأنه ليست هناك قوة مهما بلغت قوتها - في إشارة إلي الولايات المتحدة - قادرة علي حل المشكلات الدولية بمفردها، ولذا توجه للعمل الدولي التعاوني لحل المشكلات الدولية المستعصية علي الحل، مثل قضية الاحتباس الحراري.

وفي قضايا مثل البرنامج النووي الإيراني، لم يستخدم أوباما حتي يومنا هذا القوة العسكرية، أو لوح بها بصورة جدية، ولكن عمل علي تهيئة الساحة الدولية للعمل الدبلوماسي بجعل الروس أقل استعدادا للتعاون مع إيران في برنامجها النووي، وفك أواصر التحالف الاستراتيجي بين طهران ودمشق، والتواصل المباشر مع الشعب الإيراني في رسائله له بعيد "النيروز" الإيراني. وهي سياسة يري البعض أنها قد تحد من المساعي الإيرانية إلي امتلاك تكنولوجيا نووية غير سلمية، رغم انتقاد كثير من أقطاب المحافظين والمتشددين لهذا النهج الدبلوماسي.

وكان هذا أيضا جليا في التعامل مع الملف الأفغاني. فبجانب تعزيز القوة العسكرية العاملة في أفغانستان، سعي أوباما إلي صوغ تحالف دولي لمواجهة تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان"، ومساعي عقد صفقات مع القبائل البشتونية الجنوبية، وإبعادها عن التحالف مع "القاعدة" و"طالبان"، والعمل علي إشراك دول الجوار كالهند وباكستان وروسيا، والتي توفر الحد الأدني من الدعم الخارجي لبقاء الدولة الأفغانية.

وأخيرا، عكست سياسات أوباما تجاه قضايا المنطقة ما ذهب إليه "جيلب" في كتابه بخصوص منطقة الشرق الأوسط وقضية الصراع العربي - الإسرائيلي، حيث طرح أوباما في جامعة القاهرة في يونيو 2009 محاور السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة، واستراتيجيتها الجديدة تجاه دول المنطقة، ورؤيته للصراع العربي - الإسرائيلي بالضغط علي إسرائيل لتتوقف عن توسيع المستوطنات القائمة، أو بناء مستوطنات جديدة، باعتبار أن هذه أشد النقاط حساسية واستفزازا للفلسطينيين، إلي جانب وقف الهجمات الفلسطينية التي تهدد أمن الإسرائيليين وتثير حفيظتهم. ولكن الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة لم تنجح حتي يومنا هذا للتحولات الحادثة علي صعيد السياسة الداخلية والخارجية الأمريكية، بعد انتخابات الكونجرس في نوفمبر 2010، وقبلها التعنت الإسرائيلي، والتي أدت في فترة إلي توتر العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية.

طباعة

    تعريف الكاتب

    ليزلي جليب