مقالات رأى

فى الأصول المتجددة للمسألة المصرية

طباعة
مع نهاية عام منصرم وبداية عام جديد يروق للمرء أن يتأمل حاله فى العام الذى مضى، ما أنجزه فيه، وأن يتطلع إلى ما يريد تحقيقه فى العام الجديد، وينبغى أن يكون ذلك هو حال الشعوب، وخصوصا من يهتم بشئونها من بين مفكريها وقادتها، وسوف تتحقق الفائدة من هذا التأمل أولا لو وضع من يقوم به أصابعه على الجذور الصحيحة لأزماتها، ولو أعقب ذلك ثانيا انصراف جهود الدولة والمجتمع لعلاج هذه الجذور. ويحضر صاحب هذا المقال فى هذه المناسبة ذلك الكتاب الكاشف الذى ألفه المرحوم الدكتور صبحى وحيدة فى سنة 1950 والذى اقتبست منه بتصرف عنوان هذا المقال.
 
أرجع صبحى وحيدة الذى كان سكرتيرا لاتحاد الصناعات المصرية فى كتابه «فى أصول المسألة المصرية» جذور أزمة مصر فى منتصف القرن العشرين إلى أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية الموروثة منذ قرون، ونحى المعتقدات الشائعة فى ذلك الوقت عن تقبل المصريين للحكم المستبد وعن انتشار الخرافات فيما بينهم، مثلما يجب أن نفعل اليوم مع ما تنشره بيننا أدوات الإعلام عن المؤامرات الخارجية على مصر وما يقال إنه دور لطابور خامس.
 
ومع مضى أكثر من ستة عقود على كتاب صبحى وحيدة، لا شك أنه قد طرأت عناصر جديدة على أصول المسألة المصرية بحكم التغيرات التى عرفها العالم وعرفتها مصر خلال هذه الفترة التى توصف بأنها شهدت تسارعا فى حركة التاريخ بسبب التقدم العلمى والتكنولوجى المذهل وآثاره على الاقتصاد والمجتمع وأوضاع السياسة فى كل الدول. فما هى إذن الأصول المتجددة للمسألة المصرية فى العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين؟ هناك فى رأى كاتب هذه السطور أصلان أساسيان لأزمة مصر فى الوقت الحاضر يتعلق أولهما بالتحدى الذى يواجه الدولة، ويتعلق الثانى بالتحدى الذى يواجه النظام السياسى، وعلى حين أن الذى يشغل الرأى العام هو التحدى الثانى إلا أنه لا أمل فى حل التحدى السياسى بدون التعبئة الرشيدة والحازمة للجهود للتصدى للتحدى الأول الذى يهدد تماسك الدولة وقدرتها على التعامل مع محيطيها الإقليمى والدولى.
 
التحدى الذى يواجه الدولة فى مصر ثقيل وهائل، ومما يزيد من فداحته أنه، وبكل الصراحة والوضوح، لا يبدو أن أيا من الذين يتصدرون المشهد السياسى فى الوقت الحاضر، ويتطلعون لقيادة الدولة، يملك رؤية واضحة ومسئولة عن كيفية مواجهة هذا التحدى بل وأنه مشغول به. دعونا من أزمة العجز الهائل فى موازنة الحكومة وعدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها أو عجز ميزان المدفوعات والذى يعنى استمرار مديونيتنا للعالم الخارجى وارتباط إشباعنا لحاجاتنا الأساسية من مأكل ومشرب وكساء برضا بعض القوى فى محيطنا الإقليمى أو فى المحيط الدولى عن سياسات حكومتنا، وهو أمر لا يمكن له أن يطول كثيرا بحكم تغير الأوضاع لدينا أو لدى غيرنا ممن يمدون لنا يد المساعدة فى الوقت الحاضر.
 
ولكن فلنذكر أن حلم صبحى وحيدة بأن تصبح الصناعة هى باب خروجنا من أزماتنا الاقتصادية لم يتحقق، ومع أن اقتصادنا لم يعد يعتمد على الزراعة مثلما كان الحال فى عهده، إلا أنه من الواضح أن مصادر الدخل القومى الأساسية الجديدة فى مصر من سياحة وتحويلات العاملين بالخارج وإيرادات قناة السويس هى رهن باستقرار الأوضاع السياسية فى بلدنا وفى الإقليم الذى نعيش فيه، وقد عرفنا ثمن الاعتماد على هذه المصادر وخطورته مرات عديدة فى الماضى، فى منتصف الثمانينيات وفى التسعينيات من القرن الماضى وبعد ثورة يناير فى سنة 2011، فضلا على أننا لم ننجح فى مجاراة ما أنجزته دول أخرى كانت أوضاعها الاقتصادية أسوأ من أوضاعنا ولكنها عرفت بجهود أبنائها كيف تنتقل إلى مصاف الدول الصناعية الجديدة وتصبح أطرافا مؤثرة فى الاقتصاد العالمى مثل كوريا الجنوبية والصين والهند والبرازيل
 
وينعكس هذا التحدى فى إخفاقنا فى التخفيف من حدة الفقر الذى يصيب على الأقل ربع السكان (أكثر من عشرين مليون من المصريين) وفى توفير وظائف، أى وظائف لأكثر من ثلاثة ملايين مواطن، ثلاثة أرباعهم من الشباب. ويقلل من قدرتنا على النهوض بالاقتصاد للتخفيف من الفقر أو لتوفير العمل اللائق تردى أوضاعنا التعليمية ببقاء أكثر من ربع القوة العاملة أسرى للأمية، ولأن مدارسنا المكتظة بالتلاميذ هى الأسوأ فى العالم، وأن مستويات معرفة الرياضيات والفيزياء، وهى الضرورية لأى تقدم فى عصر اقتصاد المعرفة، أدنى من تونس والأردن، وبالطبع كثير من دول العالم.
 
لا تملك الدولة فى مصر تجاهل هذا التحدى لأن إخفاقها فى التصدى له يعنى اهتراء شرعيتها، وفى ظل اهتراء الشرعية، فكل التطورات السيئة محتملة بل ومؤكدة، من موجات ثورية جديدة، وعدم استقرار سياسى، فضلا عن عجزها عن توفير الموارد اللازمة لقيامها بوظائفها، وازدياد تبعيتها لقوى إقليمية أو دولية تربط مساعدتها لها بانتهاجها للسياسات الداخلية والخارجية التى ترضى عنها.
 
والتحديات التى تواجه النظام السياسى فى مصر أمرها معروف، ولكن الخروج منها ليس سهلا. المواجهة الملتهبة بل والدامية بين حكومة ما بعد 30 يونيو والقوى السياسية التى تنسب نفسها للإسلام ليست مجرد صراع على السلطة بل هى قبل ذلك صراع بين رؤيتين للمجتمع فى مصر، إحداهما تريده مجتمعا يتسع لكل من يعيش على أرضه أيا كانت عقيدته، بلا خوف على تدين مواطنيه لأنهم بالفعل الأكثر تدينا فى العالم كله، ورؤية أخرى تريد أن تفرض عليه تصورها الغامض لما هو إسلامى دون أن تملك أى تفاصيل تطمئن المواطنين أن ما تريده يضمن لهم حياة كريمة وخروجا من متاعب الحياة اليومية التى يعانونها. وفى مجتمعات أخرى كان مثل هذا الخلاف يحسم بالحرب الأهلية، وقد كان البديل عن الحرب الأهلية فى مصر هو تحمل القوات المسلحة وأجهزة الأمن مسئولية الدفاع عن الرؤية الأولى بما يترتب على ذلك من الآثار المألوفة فى حالات عسكرة الصراع السياسى.
 
لا يعرف تاريخ الإنسانية مخرجا ثالثا لمثل هذا الصراع، فإما أن يقضى طرف على الطرف الآخر، وهو مستحيل فى الحالة المصرية بسبب التوازن المرعب القائم بينهما، قوة تدميرية فى جانب وكثرة الأعداد والقدرة على الحشد على الجانب الآخر، وإما أن يصل الطرفان إلى تسوية تحفظ ماء الوجه لكل منهما، وهو احتمال مستبعد فى اللحظة الراهنة على الأقل لأن مطالب كل طرف تتطلب الاستسلام الكامل من الطرف الآخر. وقد لا تكون هذه التسوية مستحيلة فى الأجل المتوسط، ولكنها ستحدث عندما يدرك أحد الطرفين أن استمرار المواجهة يفرض عليه أعباء لا يقدر على تحملها بسبب الخسائر البشرية والمعنوية التى تلحق به.
 
من الواضح أن هناك ارتباطا قويا بين هذين المستويين من التحديات التى تواجه مصر فى الوقت الحاضر. تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية يلقى أعباء متزايدة على أجهزة الأمن، ويقلل من تأييد أقسام من المواطنين لأى حكومة، وقد يوفر أنصارا لمن يصرون على الثأر ممن يملكون زمام السلطة فى المجتمع. ولذلك فإن الجهاد الأكبر هو فى مواجهة هذا التحدى الأول، ولاشك أن حسم التحدى الثانى يسهل من تعبئة الجهود وراء برنامج طموح للتنمية الإنسانية فى مصر. ولن يكون ذلك مستحيلا إذا ما ارتضى طرفا الصراع تسوية تقوم على قبولهما الاحتكام إلى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان التى صدقت عليها الحكومة المصرية، وهى ملزمة بتطبيقها. ويمكن أن يمر ذلك عبر فترة من التهدئة من الطرفين يعقبها أن يعود الطرف الثانى للحياة العامة فى مصر حزبا مدنيا يتخلى عن مهام الدعوة لجمعيات مدنية لا سيطرة له عليها.
 
------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الإثنين، 6/1/2014.
طباعة

تعريف الكاتب

مصطفى كامل السيد

مصطفى كامل السيد

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة.