مقالات رأى

الانقسامات الدينية فى أمريكا

طباعة

قضى أمر معركة الانتخابات الرئاسية فى الولايات المتحدة. فالمعركة أصبحت محصورة الآن بين مرشحين. الرئيس باراك أوباما عن الحزب الديمقراطى والسيناتور ميت رومنى عن الحزب الجمهورى.

ولكن هناك الملايين من الأمريكيين الذين يطعنون بصحة إعلان أوباما أنه مسيحى انجيلى، بحجة أن والده حسين كان مسلما، وأنه هو شخصيا قضى سنوات طويلة من طفولته فى أندونيسيا، أكبر دولة إسلامية فى العالم.

أما منافسه رومنى فهو ينتمى إلى كنيسة المورمون، وهى كنيسة حديثة نسبيا، يؤمن معظم الأمريكيين من كاثوليك وانجيليين أنها خارجة عن المسيحية. بل إنها ليست مسيحية فى الأساس والجوهر.

فى الانتخابات الرئاسية السابقة التى جرت فى عام 2008 حصل «المرشح» أوباما على ما نسبته 54 بالمائة من أصوات الناخبين الكاثوليك. أما الآن فإنه معرّض لخسارة هذه الأصوات أو معظمها. ذلك أنه طرح مشروعا جديدا للضمان الصحى الإلزامى. يشمل هذا المشروع تغطية رسوم تحديد النسل، وحتى عمليات إجهاض. وبموجب هذه الإلزامية، فان على كل مواطن ومواطنة تسديد الرسوم المتوجبة على ذلك بموجب نظام التأمين الصحى الإلزامى. ولقد اعترضت الكنيسة الكاثوليكية على هذا الإجراء بشدة، وبررت معارضتها له بأنه مخالف للعقيدة المسيحية التى ترفض من حيث الشكل والجوهر أى شكل من اشكال تحديد النسل أو منع الحمل. واعتبرت الكنيسة أن إلزام المواطن الأمريكى الكاثوليكى تسديد رسوم تشمل هذا الأمر فى إطار الضمان الصحى الإلزامى، هو بمثابة إكراه له من خلال حمله على الإقرار بقبول ما يرفضه إيمانه الدينى.

 لم يأت أوباما فى التشريع الجديد بأمر جديد. فهناك 28 ولاية أمريكية تفرض هذا النظام وتعمل به منذ سنوات. ولكنها المرة الأولى التى يطرح فيها هذ النظام على مستوى اتحادى، بحيث يصبح إلزاميا فى كل الولايات ولجميع المواطنين. ومن هنا كان تحرك الكنيسة الكاثوليكية التى تضم 70 مليون كاثوليكى على الأقل.

 ولقد ازداد عدد الكاثوليك فى الولايات المتحدة نتيجة الهجرة من المكسيك ومن دول أمريكا اللاتينية الأخرى. ففى الوقت الذى تمكنت فيه الكنائس الانجيلية الأمريكية من الانتشار والتوسع فى هذه الدول من خلال ما تقدمه من خدمات اجتماعية واقتصادية وصحية وتعليمية، فان الهجرة اللاتينية إلى الشمال غيّرت من المعادلات الديموغرافية الأمريكية، فباتت الكاثوليكية كدين، أكثر تشددا، والإسبانية كلغة أوسع انتشارا.

 ومن سوء حظ الرئيس أوباما ان نسبة كبيرة من الناخبين الكاثوليك هم من الملونين السود أو السمر الذين تعاطفوا معه فى الانتخابات السابقة على خلفية عنصرية أيضا. وهو معرض الآن لخسارتهم بسبب موقف الكنيسة المعارض لأى إجراء يشرّع تحديد النسل ولو بصورة غير مباشرة، أو ينتزع من المواطن الأمريكى الكاثوليكى الموافقة على هذا التشريع.

ويعرّض هذا الواقع الكنيسة الكاثوليكية للاختيار بين مرشحين للرئاسة أحلاهما مرّ. المرشح الأول ـ أوباما ـ وهو مسيحى انجيلى ولكنه يحاول تمرير مشروع تعارضه الكنيسة الكاثوليكية من حيث المبدأ. والمرشح الثانى ـ رومنى ـ هو ينتمى إلى كنيسة المورمون التى لا تستطيع الكنيسة الكاثوليكية أن تقول عنها أو أن تصفها بأنها كنيسة. فالفاتيكان وخاصة فى ظل البابا الحالى بنديكتوس السادس عشر، يعتبر الكنائس غير الكاثوليكية «حركات» مسيحية. وعنده لا توجد سوى كنيسة واحدة لا عدة كنائس (بمعنى التعريف اللاهوتى للكنيسة). وأن هذه الكنيسة الواحدة هى الكاثوليكية.

فالمورمون مثلا، خلافا للكنائس المسيحية الأخرى، يحرّمون المشروبات الكحولية والتدخين، ويبيحون تعدد الزوجات. ويرفعون مكانة مؤسس الحركة ـ سميث ـ إلى مستوى النبوة، ويؤمنون بأن تنزيلا أوحى اليه من خلال ألواح مماثلة لألواح موسى.. الخ.. ولذلك اضطهدوا طويلا، وعزلوا واعتزلوا. وتكونت لديهم من جراء ذلك ثقافة التعاون الداخلى والثقة المطلقة بالمنتمين إلى كنيستهم. وهذه المرة الأولى فى تاريخ الولايات المتحدة التى يصل فيها واحد منهم إلى ما وصل إليه ميت رومنى مرشحا منافسا فى الانتخابات الرئاسية. وإذا فاز فى الانتخابات فسوف يكون ظاهرة تاريخية، تماما كما شكل الرئيس أوباما ظاهرة وصول أول رئيس من أصل أفريقى إلى البيت الأبيض.

يتعاطف رومنى مع موقف الكنيسة الكاثوليكية ـ التى لا تعترف بمسيحيته ـ ليس حبا بالكنيسة ولكن انسجاما مع عقيدته المورمونية التى تعارض هى الأخرى تحديد النسل من حيث المبدأ. ولذلك فان الكنيسة الكاثوليكية تجد نفسها فى حيرة من أمرها تجاهه. فهى ليست معه لمورمونيته، ولكنها معه لتأييده موقفها فى معارضة مشروع الرئيس أوباما بتمرير تشريع الحد من النسل من بوابة خلفية. أى من بوابة الضمان الصحى الإلزامى.

وتتعاطف مع رومنى أيضا الكنائس الانجيلية اليمينية العديدة الأخرى التى تشكل الثقل الانتخابى فى الحزب الجمهورى. فهى أيضا ضد مشروع الرئيس أوباما لأنها ضد تحديد النسل، وضد الإجهاض، وضد قبول المثليين فى القوات المسلحة.

من هنا، يجمع رومنى بين الأضداد الثلاثة الكبيرة: المورمون، والكاثوليك والانجيليين، ويشكل نجاحه فى ذلك خطرا جديا على فرص الرئيس أوباما فى أن يشق طريقه مرة ثانية إلى الرئاسة الأولى.

 على أن أهم مظهر تكشفه وقائع هذه المعركة الانتخابية هو دور الدين. فالدستور الأمريكى يقول بفصل الدين عن الدولة. ولكن الواقع يؤكد التداخل العميق بينهما. كما يؤكد ان الشعار شىء والواقع السياسى شىء آخر.

قبل وفاته بعدة أشهر، صدر للمفكر الأمريكى صموئيل هاتنغتون، صاحب نظرية صراع الحضارات، كتاب تحدث فيه عن صراع الحضارات داخل الولايات المتحدة. وذكر فى كتابه ان الصراع بات حتميا نظرا للتغيير الذى تتسارع خطواته فى أساس المعادلات الدينية بين الكاثوليك والانجيليين، والمعادلات العنصرية بين البيض والملونين، والمعادلات الثقافية بين اللغتين الانكليزية والاسبانية.

ورأى هاتنغتون ان المجتمع الأمريكى يسير نحو الصراع الداخلى على خلفية هذه المتغيرات. غير أن كتابه عن الداخل الأمريكى لم يلق الرواج الذى لقيه كتابه الأول عن العالم الخارجى حيث وضع الإسلام فى مواجهة مع الحضارة الغربية. فقد جاءت جريمة 11 سبتمبر 2001 لتجمع بين الأضداد ولتوحد بينها، ولكن بعد انقشاع غبار تلك الجريمة وبعد أن نأى المسلمون بأنفسهم عن أصحابها، استعادت عملية الفرز الداخلى ديناميتها من جديد.

ولعل المواقف المتباينة من مشروع الرئيس أوباما على خلفية دينية وثقافية تشير إلى صحة نظرية هاتنغتون حول طبيعة التحديات التى تواجه المجتمع الأمريكى.

-------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية الأحد، 6/5/2012.

طباعة

تعريف الكاتب

محمد السماك