عند التفكير فيما يسمى اتفاقية "سايكس–بيكو" تُفتح نافذة لفهم أنماط ثابتة في السلوك الدولي تجاه المنطقة العربية، حيث تتكرر أدوات الهيمنة بأشكال عديدة، بينما يبقى الهدف واحدًا، إدارة التفكك بدلًا من بناء الدولة، وتوزيع النفوذ بدلًا من احترام الإرادة الوطنية.
توقيع الاتفاقية عام 1916، جاء في لحظة ضعف تاريخي للإمبراطورية العثمانية، واستند إلى منطق القوة لا منطق الجغرافيا أو الاجتماع السياسي، فكانت النتيجة كيانات مصطنعة وحدودًا لا تعكس الواقع الاجتماعي أو الثقافي، هذا الميراث لم يتوقف عند رسم الخرائط، بل أسس لمسار طويل من عدم الاستقرار، إذ زرعت الاتفاقية بذور النزاعات التي لا تزال المنطقة تدفع ثمنها حتى اليوم.
اللافت أن الحديث عن "سايكس-بيكو جديدة" لا يعني بالضرورة إعادة رسم الحدود بالقلم والمسطرة، بل الانتقال إلى نمط أكثر تعقيدًا من التفكيك، ليس تفتيتًا جغرافيًا فقط، وإنما سياسي، واقتصادي، وأمني، دول قائمة شكليًا، لكنها مجزأة فعليًا، مناطق نفوذ، وجماعات مسلحة، واقتصاديات تابعة، وتحالفات تُدار من الخارج.
الآن تبدو القوى الدولية والإقليمية وكأنها تعيد إنتاج منطق 1916، لكن بأدوات القرن الحادي والعشرين، اللاعبون الجدد لا يسعون إلى احتلال مباشر، بل إلى التحكم في الموارد، والممرات الاستراتيجية، وقرارات السلم والحرب، أما الكيانات العربية، فتوضع في موقع التابع أو الوكيل، ضمن ترتيبات أمنية وسياسية غير معلنة، تؤدي عمليًا دور الأحلاف دون أن تحمل اسمها.
التحول الأهم مقارنة بالمرحلة الأولى من "سايكس-بيكو" هو أن التفكيك يتم هذه المرة من الداخل، مستفيدًا من أزمات الدولة الوطنية، والانقسامات الطائفية، وفشل مشروعات التنمية، وهو ما يمنح التدخل الخارجي غطاءً محليًا، ويجعل إعادة التشكل أقل كلفة وأكثر استدامة.
خطورة المشهد الراهن لا تكمن فقط في إعادة توزيع النفوذ، بل في غياب مشروع عربي جامع قادر على مواجهة هذا المسار، فبينما أدركت القوى الاستعمارية مبكرًا أهمية التخطيط طويل المدى، لا تزال الاستجابة العربية في كثير من الأحيان أسيرة رد الفعل، لا الفعل الاستراتيجي.
خلاصة القول إن "سايكس–بيكو" لم تكن اتفاقية عابرة في التاريخ، بل نموذجًا متجددًا لإدارة المنطقة. والرهان اليوم لا يجب أن يكون على كشف النوايا الدولية فقط، بل على معالجة الشروط الداخلية التي تسمح بتكرار السيناريو ذاته، بأسماء جديدة وخرائط غير مرئية.
وتكشف التفاصيل المرتبطة بمحادثات سايكس-بيكو، وما أفضت إليه من رسم خط الكاف–الكاف، جوهر العقلية الاستعمارية التي حكمت لحظة التقسيم، بساطة مدهشة في رسم الخرائط، مقابل تعقيد بالغ في النتائج، خط مرسوم بين عكا وكركوك، لم يكن مجرد فاصل جغرافي، بل إعلانًا صريحًا بأن مستقبل المنطقة يحدد على موائد التفاوض الأوروبية، بمعزل تام عن شعوبها، وتاريخها، وتركيبتها الاجتماعية.
هذا التقسيم لم يقم على اعتبارات الهوية أو المصالح المشتركة، وإنما على منطق الغنيمة بعد الحرب، بريطانيا وفرنسا تعاملتا مع المشرق العربي بوصفه "ميراثا" قابلا للتوزيع، فلسطين، والعراق، والخليج وُضعت ضمن الحسابات البريطانية لاعتبارات استراتيجية تتعلق بالممرات البحرية والطاقة، فيما حصلت فرنسا على الشام والمغرب العربي في إطار سعيها لترسيخ حضورها الثقافي والسياسي في المتوسط.
الأخطر في هذه اللحظة التاريخية أن التقسيم لم يكن فقط اقتسام أراضٍ، بل إعادة هندسة للمنطقة بما يخدم مصالح طويلة الأمد، فالحدود التي رُسمت بالقلم، تحولت لاحقًا إلى خطوط توتر وصراع، وأنتجت دولًا تعاني منذ نشأتها من هشاشة بنيوية، مما جعلها قابلة للاختراق والتوظيف في كل منعطف دولي لاحق.
وعند إسقاط هذه التجربة على الواقع الراهن، يتضح أن "سايكس-بيكو" لم تنتهِ فعليًا، بل تغيرت أدواتها، لم يعد الخط يُرسم بين عكا وكركوك، بل بين مناطق نفوذ داخل الدولة الواحدة، ولم تعد الخرائط تُكتب بالحبر، بل تُفرض عبر الوقائع الميدانية، والضغوط الاقتصادية، والتحالفات الأمنية، والتدخلات غير المباشرة.
الوثائق الملحقة باتفاقية "سايكس-بيكو" عن مستوى صادم من البراجماتية السياسية، يصل حد الفجاجة، في إدارة أخطر قضايا الشرق العربي، فمحضر جلسة "لانكستر" عام 1917، لا يقدم مجرد حوار دبلوماسي عابر، بل يعري العقل الاستعماري وهو يتعامل مع الأرض، والتاريخ، والمقدسات باعتبارها أوراق تفاوض، تُمنح وتُسحب وفق ميزان المصالح.
الحوار بين لويد جورج وكليمنسو يختزل فلسفة التقسيم كلها: لا حديث عن شعوب، ولا اعتبار لحقوق، ولا إدراك لتداعيات ما يجري تقريره. العراق، وفلسطين، والقدس، والموصل.. أسماء ثقيلة بالمعنى والدلالة، لكنها حضرت على الطاولة كطلبات شخصية، تُلبّى في إطار "تفاهم بين صديقين"، هذه اللغة تكشف أن الاستعمار لم يكن فقط احتلالًا عسكريًا، بل ممارسة ذهنية ترى العالم العربي مساحة مفتوحة للمساومة.
اللافت في هذا المشهد أن القدس لم تكن في البداية ضمن المطالب المعلنة، لكنها ظهرت لاحقًا باعتبارها "طلبًا إضافيًا"، وكأنها امتياز خاص، لا مدينة ذات مكانة دينية وسياسية استثنائية، قبول كليمنسو بالتنازل عنها يعكس إدراكًا مبكرًا للأهمية الاستراتيجية والرمزية التي أولتها بريطانيا لفلسطين، تمهيدًا لمسارات لاحقة ستغيّر تاريخ المنطقة بأكمله.
أما الموصل فتكشف قصتها منطقًا أكثر خطورة: منطقة "معلقة" في انتظار نهاية الحرب، لكنها تحسم في جلسة مغلقة بقرار فردي، هنا يظهر بوضوح كيف ارتبطت الجغرافيا العربية باكتشافات الطاقة والحسابات الاقتصادية، وكيف تحولت الولايات إلى أوراق مقايضة بين القوى الكبرى، بعيدًا عن أي اعتبارات سيادية.
سياسيًا لا يمكن قراءة هذا الحوار بمعزل عن الحاضر، ما جرى في قصر لانكستر (لندن) يعيد التأكيد أن الأزمات الكبرى في المنطقة لم تكن نتاج صدفة تاريخية، بل نتيجة قرارات واعية، اتخذت في غرف مغلقة، وأسست لمسار طويل من الصراعات، والأخطر أن هذا النمط لم ينتهِ، بل لا يزال يتكرر بصيغ مختلفة، حيث تُدار ملفات القدس، والموارد، والممرات الاستراتيجية، بالمنطق ذاته، وإن تغيرت الوجوه والعناوين.
"سايكس–بيكو" لم تكن مجرد اتفاقية حدود، بل ثقافة سياسية كاملة، ثقافة تقاسم النفوذ، وتجزئة المجال العربي، وتفريغ القضايا الكبرى من بعدها الأخلاقي والإنساني. ومن هنا فإن استحضار هذه الوثائق اليوم ليس تمرينًا تاريخيًا، بل تحذيرًا سياسيًا صريحًا من تكرار السيناريو، حين تغيب الرؤية العربية الموحدة، ويُترك مصير المنطقة مرة أخرى لصفقات تُدار باسم "التفاهمات الدولية".
تجربة سايكس–بيكو عام 1916، لم تكن مجرد اتفاقية لترسيم الحدود، بل شكلت نموذجًا استراتيجيًا لإدارة النفوذ والسيطرة على المنطقة العربية، استند إلى القوة والهيمنة السياسية والاقتصادية، بعيدًا عن إرادة الشعوب أو التوازن الاجتماعي والثقافي في المجتمعات المحلية، الاتفاقية أرست مبدا تاريخيًا مفاده أن القوى الخارجية يمكنها إعادة ترتيب المصالح وتحديد السيادة على أساس موازين القوة وليس على أساس الواقع الاجتماعي أو التاريخي.
اليوم يمكن ملاحظة استمرار هذا النموذج بصيغ جديدة، تتكيف مع التحولات الجيوسياسية وأدوات القرن الحادي والعشرين، حيث لم يعد الاحتلال المباشر هو الهدف الأساسي، بل أصبح التفكيك الداخلي والسيطرة غير المباشرة هو الأسلوب الأكثر فعالية، الدول العربية، نتيجة أزمات سياسية عميقة، وانقسامات داخلية، وضعف مؤسسات الدولة، أصبحت أكثر عرضة لاستغلال النفوذ الخارجي، هذه الأزمات تتراوح بين صراعات سياسية، وانهيار اقتصادي، ونزاعات طائفية، وفشل مشروعات التنمية، في هذا السياق يمكن للقوى الدولية والإقليمية ممارسة الضغط والتحكم في السياسات الداخلية، دون الحاجة لاستخدام القوة العسكرية المباشرة، هذا الأسلوب يقلل التكلفة على القوى الخارجية ويزيد من استدامة نفوذها.
الجماعات المسلحة، والاقتصادات التابعة، والتحالفات السياسية غير الرسمية، أصبحت آليات فعالة لإعادة إنتاج التجزئة السياسية ضمن الدولة الواحدة، هذه الممارسات تسمح للقوى الخارجية بالتحكم في مناطق استراتيجية دون إعلان سيطرة مباشرة، وتجعل الدولة تبدو رسميا ككيان موحد، بينما في الواقع تتفكك السلطة الفعلية بين مؤسسات وطنية ضعيفة وكيانات محلية ذات نفوذ محدود لكنها حيوية.
المرحلة الحديثة من "سايكس–بيكو" لم تعد تتعلق برسم الحدود على الورق، بل بتحكم القوى الخارجية في الطاقة، والموانئ، والممرات البحرية، والبنية التحتية الحيوية، هذا التحكم يسمح للقوى الكبرى بإعادة إنتاج النفوذ السياسي والاقتصادي من خلال أدوات غير عسكرية، مثل العقوبات الاقتصادية، والتمويل الانتقائي، ودعم فصائل محددة داخل الدولة، النتيجة هي دولة قائمة شكليًا، لكنها مرنة للتأثير الخارجي وقابلة للاستغلال في أي مفاوضات إقليمية أو دولية.
النموذج الحديث لـ "سايكس–بيكو" يظهر أن النفوذ لا يحتاج لتدخل مباشر، بل إدارة أزمات الدولة الوطنية من الداخل تكفي لتحقيق أهداف القوى الكبرى، أدوات التفكيك اليوم متعددة الأبعاد سياسي، واقتصادي، وأمني، واجتماعي، مما يجعل الاستجابة العربية أصعب وأكثر تعقيدًا، الدول العربية التي تتجاهل بناء مؤسسات قوية، وتحسين الإدارة الداخلية، تصبح أكثر عرضة لتكرار نموذج "سايكس–بيكو" الحديث، تحت مسميات جديدة وأدوات معاصرة، لكنها تحمل الجوهر نفسه: إدارة التفكك وتوزيع النفوذ على حساب السيادة الوطنية.
تجربة "سايكس–بيكو" تؤكد أن الفراغ السياسي هو المفتاح الاستراتيجي لإعادة ترتيب المنطقة وفق مصالح القوى الكبرى، وأن الدول التي تعاني من ضعف مؤسساتها أو انقسامات داخلية تصبح أكثر عرضة للتدخل الخارجي، هذا الدرس التاريخي ينعكس بوضوح على واقع المنطقة العربية، فالدول التي تعاني من صراعات داخلية، أو انقسامات سياسية، أو نزاعات مسلحة، أو انهيار مؤسسات الدولة، مثل سوريا، وليبيا، واليمن، والعراق، تصبح بمثابة ساحات مفتوحة للقوى الإقليمية والدولية لإعادة إنتاج التجزئة السياسية والاقتصادية، في هذه البيئات يصبح التدخل الخارجي مقنعًا تحت مسميات "إدارة الأزمات"، أو "حفظ الأمن"، أو "تسوية النزاعات"، بينما الهدف الحقيقي غالبًا هو فرض النفوذ غير المباشر والتحكم في السيادة الوطنية.
وفي غياب رؤية عربية موحدة واستراتيجية مشتركة، تتحول أي مبادرة دولية إلى فرصة لتثبيت النفوذ الخارجي، القوى الإقليمية والدولية تستغل هذا الفراغ لتفرض ترتيبات سياسية وأمنية لا تعكس مصالح الشعوب، بل مصالحها الاستراتيجية، سواء عبر دعم فصائل محلية، أو إنشاء تحالفات غير رسمية، أو التدخل في مؤسسات الدولة، التدخل في بيئات الفراغ السياسي لم يعد يحتاج إلى احتلال مباشر، بل يكفي التلاعب بالفراغ السياسي والاقتصادي لإنتاج كيانات هشة أو مناطق نفوذ داخل الدولة الواحدة، هذا النهج يقلل التكاليف المباشرة للتدخل ويزيد من استدامة النفوذ، مما يعكس تطور أدوات "سايكس–بيكو" التقليدية إلى نموذج حديث أكثر تعقيدًا وفعالية.
أحد الاستنتاجات الاستراتيجية هو أن قوة الدولة الوطنية ومؤسساتها تشكل حاجزًا ضد هذا النوع من التدخل، أي دولة عربية تتمتع باستقرار سياسي، ومؤسسات قوية، ووجود مشروع وطني شامل، تكون أقل قابلية للاستغلال والتفكيك، وهذا ما جعل دور مصر مركزيًا في مواجهة سيناريوهات التفكيك في ليبيا، وسوريا، والقضية الفلسطينية، حيث ساعدت القاهرة على تعزيز مؤسسات الدولة ومنع الفراغ السياسي من خلق بيئة خصبة للتدخل الخارجي.
الفراغ السياسي ليس مجرد ضعف داخلي، بل أداة استثمار من قبل القوى الكبرى لإعادة توزيع النفوذ السياسي والاقتصادي، الدول العربية التي لا تتبني استراتيجيات موحدة قادرة على سد الفراغ الداخلي معرضة لتكرار تجربة "سايكس–بيكو"، بصيغ معاصرة.
المرحلة الحديثة من نموذج "سايكس–بيكو" لم تعد تعتمد على رسم الخرائط بالقلم كما كان عام 1916، بل على التحكم الاستراتيجي في الموارد والممرات الحيوية، وهو ما يعكس تطور أدوات الهيمنة من القوة العسكرية المباشرة إلى أدوات نفوذ أكثر تعقيدًا وفعالية، السيطرة على حقول النفط والغاز، وشبكات النقل، ومرافق الإنتاج الحيوي، أصبحت أداة رئيسية لإعادة إنتاج النفوذ السياسي والاقتصادي من خلال التحكم بهذه الموارد، تستطيع القوى الكبرى فرض شروط اقتصادية وسياسية، وخلق اعتمادية للدول المحلية على الدعم أو التمويل الخارجي.
الممرات البحرية والموانئ مفاتيح النفوذ الإقليمي، فالممرات الاستراتيجية، مثل قناة السويس، والبحر الأحمر، والخليج العربي، والبحر المتوسط، تمثل نقاط قوة حيوية، السيطرة أو التأثير على هذه الممرات يسمح للقوى الدولية بتوجيه التجارة العالمية، والتحكم في تدفقات الطاقة، وضبط ميزان القوة الإقليمي، دون الحاجة لاحتلال مباشر.
البنية التحتية الحيوية كأداة ضغط سياسي، فالتحكم في شبكات النقل، والاتصالات، والطاقة، والمرافق الحيوية يمكن أن يوفر قوى ضغط داخل الدولة، حيث يمكن استخدامه للتأثير على السياسات الداخلية، دعم أو إضعاف أطراف محددة، وضمان التبعية الاقتصادية والسياسية دون تدخل عسكري مباشر.
اليوم القوى الخارجية تعتمد على أدوات متعددة لإعادة إنتاج السيطرة، والعقوبات الاقتصادية والمالية الانتقائية لفرض سياسة محددة، والتمويل الانتقائي للمؤسسات أو الفصائل المحلية لتعزيز موالاة معينة أو إضعاف المنافسين، والتحكم في الاستثمار والمساعدات الدولية لخلق الاعتماد على الدعم الخارجي.
نتيجة هذا التحكم تصبح الدولة العربية قائمة على الورق، لكنها مرنة للتأثير الخارجي، حيث يمكن إدارة سياساتها، واقتصاداتها، وأمنها بطريقة تخدم مصالح القوى الكبرى، هذا يجعل الدول أدوات مفاوضات إقليمية ودولية، وهو ما يعكس استمرارية نموذج "سايكس–بيكو" بصيغ حديثة.
السيطرة على الموارد والممرات الحيوية تمثل الوسيلة الحديثة لتكرار تجربة "سايكس–بيكو" دون الحاجة للاحتلال العسكري المباشر، الدول العربية التي لا تمتلك استراتيجيات حماية لهذه الموارد والبنية التحتية معرضة لأن تصبح مناطق نفوذ أو أدوات ضغط لصالح القوى الكبرى، والحل يكمن في تعزيز السيادة الوطنية، وأمن الموارد، واستقلالية القرارات الاقتصادية، وتطوير البنية التحتية بطريقة تقلل التبعية الخارجية.
الفراغ السياسي لا يُنظر إليه كضعف داخلي عابر، بل كأداة استراتيجية قابلة للاستثمار من قبل القوى الدولية والإقليمية، التجربة التاريخية تُظهر أن أي ضعف في الدولة، سواء في المؤسسات أو في القدرة على إدارة الأزمات، يصبح مدخلًا لإعادة توزيع النفوذ السياسي والاقتصادي على حساب السيادة الوطنية.
الكيانات العربية التي تعاني من انقسامات سياسية، أو نزاعات مسلحة، أو هشاشة مؤسساتية، تمثل بيئات خصبة لإعادة إنتاج التجزئة بأساليب حديثة، ودعم فصائل محلية أو اقتصادات موازية لتأليب الداخل، وخلق تحالفات غير رسمية تسمح للقوى الخارجية بإدارة الدولة بشكل غير مباشر، وفرض سياسات اقتصادية أو أمنية تخدم مصالح الخارج دون احتلال مباشر.
وفي ظل عدم وجود رؤية استراتيجية عربية موحدة، يصبح أي تدخل خارجي مقبولًا أو مبررًا باسم إدارة الأزمات، الهدف الحقيقي غالبًا ليس حل الأزمة، بل السيطرة على القرار الوطني، والموارد، والتحكم في مسارات التنمية والسياسة الداخلية.
والمفتاح لوقف استغلال الفراغ السياسي يكمن في إعادة بناء الدولة الوطنية ومؤسساتها، وتعزيز استقرارها الداخلي، مع تطوير التنسيق الإقليمي لمنع أي جهة خارجية من استخدام الفراغ لصالح نفوذ غير مشروع، وتعزيز مؤسسات الدولة الأمنية، والقضائية، والإدارية لضمان قدرة الدولة على إدارة أزماتها، وبناء شبكات تعاون إقليمي لمواجهة أي محاولات للتدخل الخارجي، وتبني سياسات وقائية تمنع انتقال الأزمات أو انتشار النفوذ غير المشروع.
الفراغ السياسي هو الساحة الأكثر أهمية لتكرار نمط "سايكس–بيكو" الحديث، حماية الدولة الوطنية وتعزيز التنسيق الإقليمي يمثلان خط الدفاع الأول ضد محاولات التفكيك والتدخل الخارجي، وعدم الاستجابة الاستراتيجية يترك المجال مفتوحًا لإعادة إنتاج النفوذ بصيغ معاصرة، حيث تصبح الدول أدوات لإدارة مصالح القوى الكبرى بدلًا من كونها فاعلًا مستقلًا في تحديد مصيرها.
وفي مواجهة سيناريوهات التفكيك وإعادة إنتاج "سايكس–بيكو 2"، برز الدور المصري بوصفه أحد أهم عوامل الكبح الاستراتيجي في الشرق الأوسط، فمصر، بحكم ثقلها التاريخي والجغرافي والسياسي، لم تتعامل مع ما جرى في المنطقة باعتباره أزمات منفصلة، بل قرأته ضمن سياق واحد يستهدف تفتيت الدولة الوطنية العربية، وتحويلها إلى كيانات هشة قابلة للإدارة الخارجية.
منذ تصاعد موجات الفوضى الإقليمية، تبنت القاهرة مقاربة واضحة تقوم على أولوية الحفاظ على الدولة ومؤسساتها، ورفض إسقاط الجيوش الوطنية أو استبدال كيانات موازية بها، هذا الموقف لم يكن نظريًا، بل تُرجم إلى سياسات عملية في أكثر من ساحة، انطلقت من قناعة مفادها أن انهيار أي دولة عربية يفتح الباب أمام إعادة رسم الخرائط، حتى وإن لم يُعلن ذلك صراحة.
الدور المصري في ملفات، مثل ليبيا، وسوريا، والقضية الفلسطينية، كشف عن رؤية ثابتة ترفض منطق التقسيم، وتتصدى لمحاولات فرض وقائع جديدة على الأرض، ففي ليبيا كان الدعم المصري لمسار الدولة الموحدة ومؤسساتها الوطنية جزءًا من معركة أوسع لمنع تحويل البلاد إلى نموذج دائم للتجزئة الجغرافية، وفي الملف السوري تمسكت القاهرة بوحدة الأراضي السورية، باعتبارها خطًا أحمر لا يمكن فصله عن أمن الإقليم ككل.
أما في القضية الفلسطينية فتبرز مصر كطرف مركزي في إفشال مخططات تصفية القضية أو تفكيكها إلى ملفات إنسانية وأمنية معزولة، فالتحرك المصري المستمر للحفاظ على مركزية القضية، ومنع تمرير حلول تنتقص من الحقوق الفلسطينية أو تفرض واقعًا تقسيميًا دائمًا، يندرج ضمن مواجهة مباشرة لأحد أخطر تجليات "سايكس–بيكو الجديدة".
سياسيًا تقوم الاستراتيجية المصرية على استعادة مفهوم الدولة الوطنية كإطار جامع، في مواجهة مشروعات تقوم على تفكيك المجتمعات على أسس طائفية، وتدرك القاهرة أن منع التقسيم لا يتحقق بالشعارات، بل ببناء توازن إقليمي يحول دون انفراد القوى الدولية أو الإقليمية برسم مستقبل المنطقة.
الخارجية المصرية فى العقد الأخير تمثل نموذجًا لاستراتيجية متكاملة تسعى إلى حماية الأمن القومي العربي وتعزيز الاستقرار الإقليمي، من خلال أولويات واضحة ومحددة، تترجم رؤية الدولة المصرية في إدارة الأزمات الإقليمية.
تعتبر مصر أن استقرار الدول العربية المتأثرة بالصراعات الداخلية أو الأزمات السياسية والاقتصادية هو عامل مباشر في أمنها القومي. لذلك تتبنى القاهرة نهجًا متعدد الأبعاد يتمثل فى دعم الحكومات الشرعية ومؤسسات الدولة الوطنية للحفاظ على استقرارها الداخلي ومنع انهيار الدولة، والمساهمة في الحد من انتشار الفوضى، ومكافحة الإرهاب، ومنع امتداد النزاعات إلى دول مجاورة، وتقديم الدعم الفني والاقتصادي، وتشجيع الاستثمار والتعاون الاقتصادي لتعزيز قدرة هذه الدول على الصمود أمام الأزمات.
ولا تقتصر أولويات مصر على الدول المضطربة فقط، بل تشمل أيضًا الدول العربية المستقرة نسبيًا، لضمان عدم انتقال عدم الاستقرار إليها، و يتضح فى تعزيز التعاون الأمني لمنع التهديدات العابرة للحدود، بما في ذلك الإرهاب والجريمة المنظمة، وتبني مبادرات سياسية ودبلوماسية للحفاظ على الاستقرار السياسي، ومنع تفشي الأزمات الإقليمية، وتعزيز التعاون الاقتصادي بين مصر والدول العربية الأخرى، بما يضمن تكامل التنمية الوطنية مع جهود التنمية الإقليمية، ويخلق شبكة متينة من المصالح المشتركة التي تصون الاستقرار.
ومنذ 2014، تبنت مصر مجموعة من المبادئ الأساسية التي ترسم ملامح تدخلها الإقليمي، الحفاظ على سيادة ووحدة أراضي الدول العربية كخط أحمر يمنع التفكك الإقليمي ويصون الأمن الجماعي، ورفض أي تدخل خارجي وهو موقف يعزز الاستقلالية العربية ويحد من النفوذ الأجنبي في القرارات الوطنية، ودعم مؤسسات الدولة الوطنية لضمان قدرة الدولة على إدارة أزماتها الداخلية دون انهيار، وتفادي الفراغ السياسي والأمني حيث تعتبر مصر أن الفراغ يشكل بيئة خصبة للصراعات الإرهابية أو التدخلات الخارجية، وتعزيز الطموحات المشروعة للشعوب العربية، فاحترام الحقوق المشروعة للشعوب مع الحفاظ على استقرار الدولة، يخلق توازنًا بين المطالب الشعبية والحفاظ على الدولة الوطنية.
هذه الأولويات تدل على أن مصر تعتمد سياسة خارجية واقعية واستباقية، تربط بشكل مباشر بين استقرار الدول العربية والأمن القومي المصري، فهي لا تتدخل من منطلق الهيمنة، بل من منطق الوقاية الاستراتيجية، حيث تعمل على منع توسع الأزمات قبل أن تتحول إلى تهديدات عابرة للحدود.
كما أن هذه الاستراتيجية توازن بين القوة والدبلوماسية، فهي تستخدم أدوات سياسية، وأمنية، واقتصادية، لضمان حماية الاستقرار الإقليمي، مع احترام سيادة الدول العربية، مما يعزز من مصداقية مصر كفاعل رئيسي في السياسة العربية والإقليمية.
وتظل القضية الفلسطينية حجر الزاوية في السياسة الخارجية المصرية، حيث يرى صناع القرار في القاهرة أن حل القضية الفلسطينية العادل شرط أساسي لتحقيق الاستقرار الإقليمي والسلام الدائم في الشرق الأوسط، وتشير الوثائق الرسمية والكتاب الصادر عن وزارة الخارجية إلى أن الموقف المصري يتميز بثباته واستمراريته عبر السنوات العشر الماضية، ويقوم على عدة ركائز أساسية، فتؤكد مصر على ضرورة قيام دولة فلسطينية على حدود يونيو 1967، تكون القدس الشرقية عاصمتها، هذا الموقف ليس مجرد شعار دبلوماسي، بل يمثل خطًا أحمر سياسيًا وأمنيًا، يعكس إدراك القاهرة أن أي تصرف خارج هذا الإطار يشكل تهديدًا للاستقرار الإقليمي، ويقوض فرص السلام العادل.
وتستمر مصر في لعب دور الوسيط الفعال بين الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية، خاصة بعد أحداث أكتوبر 2023، فتعمل القاهرة على التوصل إلى وقف إطلاق نار دائم أو هدنة مستدامة، ومنع تحويل النزاع إلى أزمة إنسانية عابرة، تحجب الحلول السياسية الجذرية، وضمان ألا يكون الحل مؤقتًا أو شكليًا، بل أن يعالج جذور الصراع بما يحفظ الحقوق الوطنية للفلسطينيين.
مصر تعمل على منع أي محاولات لتقليص القضية الفلسطينية إلى مجرد ملف إنساني أو ترتيبات أمنية مؤقتة، وتشدد على أن حماية الشعب الفلسطيني والحفاظ على وجوده على أرضه هو جزء من الأمن القومي العربي.
نجحت مصر في تحريك البيئة العربية والإسلامية والدولية لدعم مواقفها الثابتة، وهو ما أسهم في صد محاولات تصفية القضية الفلسطينية أو تهجير سكانها، وتعكس هذه الجهود قدرة القاهرة على قيادة التنسيق الإقليمي والدولي، وتوظيف الدبلوماسية متعددة المستويات لضمان حماية الحقوق الفلسطينية.
الموقف المصري تجاه فلسطين يظهر كاستراتيجية شاملة ومتصلة، لا يقتصر على الجانب السياسي أو الدبلوماسي، بل يشمل الأمن والاستقرار الإقليمي، إذ تعتبر القاهرة أن أي هجوم على القضية الفلسطينية يعني تهديدًا مباشرًا للأمن القومي العربي، بالإضافة إلى أن الاستمرارية والثبات في المواقف يعكسان رؤية طويلة المدى، تقوم على حماية الدولة الفلسطينية وحقوق شعبها، مع منع أي تلاعب خارجي بالقضية.
واتسم موقف مصر تجاه الأزمة الليبية بالثبات، حيث ركزت القاهرة على حفظ وحدة واستقرار ليبيا وسلامة أراضيها، ورفض أي توجهات للتقسيم أو التدخل الخارجي، ودعم المؤسسات الوطنية الليبية، والسعي لتوحيد السلطة التنفيذية والاقتصادية والأمنية، وضمان إجراء انتخابات حرة وشفافة، بما يعكس احترام الإرادة الشعبية، وتأكيد دور الليبيين في تحديد مستقبلهم دون وصاية خارجية، هذا الموقف يؤكد إدراك مصر أن أي تفكك في ليبيا سيؤثر مباشرة على أمنها القومي وعلى توازن منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
كما شهدت العلاقات المصرية-السودانية تطورًا غير مسبوق، تجسد في زيارات متبادلة رفيعة المستوى تعكس أهمية العلاقات الثنائية، واتفاقيات السد الإثيوبي، وافتتاح معبر قسطل التجاري، وتعاون استراتيجي واقتصادي وأمني، التركيز على أن أمن واستقرار السودان جزء لا يتجزأ من أمن مصر والمنطقة، مع دعوة المجتمع الدولي لدعم المرحلة الانتقالية، وتؤكد هذه الاستراتيجية على أن مصر لا تتعامل مع السودان كجوار فقط، بل كشريك استراتيجي حيوي لتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي.
وتقوم السياسة المصرية تجاه الخليج على دعامتين أساسيتين، هما الحفاظ على أمن الخليج كخط استراتيجي حيوي لأمن مصر والمنطقة، والاستعداد لتقديم الدعم عند الحاجة، كما ظهر في مساندة السعودية والإمارات ضد التهديدات الحوثية، وتأمين الملاحة في البحر الأحمر وشرق المتوسط، ويعكس هذا الدور المصري قدرة القاهرة على التنسيق العسكري والسياسي مع حلفائها العرب لضمان استقرار منطقة حساسة عالميًا واستراتيجيًا.
وجاءت العلاقات المصرية مع الأردن وثيقة ومستمرة، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والأزمات الإقليمية، مع معدلات لقاءات قمة عالية تعكس تنسيقًا مستمرًا، و دعمت القاهرة العراق دعمًا مبكرًا لإعادة الدمج في المحيط العربي، واستعادة دوره الإقليمي، بما يعكس رؤية مصر في تعزيز دور الدولة العراقية في منظومة الأمن العربي.
وحرصت مصر على دعم الدولة ومؤسساتها بعد انفجار ميناء بيروت 2020، مع تجنب أي تدخل طائفي أو حزبي، وهو ما يعكس التزام القاهرة بمبدأ حماية الدولة الوطنية، واعتبرت مصر نفسها طرفًا معنيًا بتسوية الأزمة السورية سياسيًا وسلميًا، مؤكدة على أهمية الحوار والحل السياسي، وضمان مشاركة جميع الأطراف لضمان استقرار الدولة ووحدة أراضيها.
وتوضح هذه السياسة أن مصر تتبنى نهجًا استراتيجيًا متكاملًا في الجوار العربي، يقوم على دعم الدول الوطنية ومؤسساتها لضمان الاستقرار الداخلي ومنع التفكك، والتدخل الاستباقي في الأزمات بما يحمي الأمن القومي العربي ويحد من انتشار الفوضى، والتوازن بين القوة والدبلوماسية، حيث تستخدم القاهرة أدوات سياسية، واقتصادية، وأمنية لتعزيز الأمن الإقليمي، مع احترام سيادة الدول العربية، وتعزيز التكامل الإقليمي عبر التعاون الاستراتيجي مع جميع دول الجوار، بما يخلق شبكة حماية جماعية ضد أي تهديدات خارجية أو داخلية.
والآن يتضح أن المنطقة العربية تواجه نموذجًا متكررًا لإدارة النفوذ الخارجي، قائم على تفكيك الدولة وتقسيم الموارد والممرات الاستراتيجية، وليس على احترام السيادة أو الإرادة الشعبية، التاريخ يبرز أن أي ضعف في الدولة أو فراغ سياسي يفتح الباب أمام التدخل الخارجي، وأن أدوات النفوذ تتطور، لكنها لا تغير الهدف الاستراتيجي، السيطرة على المنطقة عبر إدارة أزماتها بدلا من بناء مؤسساتها.
الدرس المستفاد من تاريخ المنطقة واضح، حماية الدولة ومؤسساتها الوطنية هو شرط أساسي لمنع تكرار سيناريو "سايكس–بيكو"، ومصر اعتمدت منذ 2014، استراتيجية استباقية، تقوم على دعم الدول العربية المتأثرة بالأزمات لاستعادة استقرارها السياسي، والأمني، والاقتصادي، القاهرة تؤكد على أن الفراغ السياسي والأمني يشكل بيئة خصبة للتدخل الخارجي، وتعمل على دعم مؤسسات الدولة الوطنية لتعزيز قدرتها على مواجهة الأزمات داخليًا، هذا النهج يعكس وعيًا بأن أي انهيار أو تفكيك لدولة عربية لا يؤثر على الداخل وحده، بل يهدد الأمن القومي العربي بأكمله.
تواجه المنطقة خطرًا متزايدًا من محاولات التدخل الخارجي المتنوعة، وهو ما يفرض على الدول العربية اعتماد سياسات تكاملية بين القوة والدبلوماسية، في ليبيا وسوريا، لعبت مصر دورًا محوريًا في دعم الدولة الموحدة ومؤسساتها الوطنية، ورفض أي محاولات للتقسيم أو التدخل الخارجي، بما يحمي الأمن الإقليمي، في السودان، ساعدت القاهرة على تعزيز الاستقرار السياسي، والاقتصادي، والأمني، معتبرة أن أمن السودان جزء لا يتجزأ من أمن مصر والمنطقة، وعلى مستوى الخليج العربي، كان التركيز على حفظ الأمن الجماعي، مع استعداد لتقديم دعم استراتيجي عند الحاجة، سواء عبر التحالفات العسكرية أو حماية الملاحة الدولية، هذا النهج يعكس قدرة مصر على إقامة شبكة حماية جماعية في المنطقة، تحول دون السماح لأي قوة خارجية بالتحكم الأحادي في مستقبل الدول العربية.
الاستقرار المستدام في المنطقة لا يمكن أن يعتمد على القوة العسكرية وحدها، بل على تنسيق أدوات السياسة والدبلوماسية والاقتصاد، وتعزيز التعاون الاقتصادي بين الدول العربية لتقوية صمودها أمام الأزمات والضغط الخارجي، ودعم التنمية الوطنية والإقليمية لتقليل قابلية استغلال الأزمات الداخلية، واستخدام الوساطة السياسية والدبلوماسية لمنع تفشي الأزمات وتحويلها إلى صراعات مفتوحة أو أزمات عابرة للحدود.
وتظل فلسطين المعيار الرئيسي لقدرة الدول العربية على مقاومة محاولات التفكيك الإقليمي، وتؤكد مصر على ضرورة قيام دولة فلسطينية على حدود يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، تعمل القاهرة على منع تحويل القضية الفلسطينية إلى ملف إنساني أو أمني مؤقت، وضمان عدم تهجير الفلسطينيين أو تصفية حقوقهم، والتحرك المصري المستمر لكبح محاولات التصفية يعكس قدرة الدولة على قيادة تنسيق إقليمي ودولي، بما يحمي الحقوق الوطنية ويصون الاستقرار.
وتتبنى القاهرة مقاربة واضحة تركز على الحفاظ على الحل السياسي كأساس للصراع، مع رفض تحويل النزاع إلى مجرد أزمة إنسانية أو معالجة شكلية، فمصر تعمل على منع أي حلول تقلص الحقوق الوطنية الفلسطينية أو تفكك الدولة الفلسطينية المستقبلية، بما يضمن استمرارية القضية الفلسطينية كمكون أساسي للاستقرار الإقليمي؟، بالإضافة إلى دبلوماسية متعددة المستويات من خلال حشد الدعم العربي والدولي. تحافظ مصر على مركزية دورها في إدارة الصراع، مع منع فرض وقائع جديدة على الأرض قد تؤدي إلى تغييب الحقوق الفلسطينية أو تقويض الأمن القومي العربي.
وفي مواجهة التحديات المعاصرة التي أعادت إنتاج نموذج "سايكس–بيكو" بصيغ أكثر تعقيدًا، برزت مصر كعامل كبح استراتيجي قادر على مواجهة التفكيك الداخلي والسيطرة غير المباشرة على الدول العربية.
فتعتمد الاستراتيجية المصرية على مبدأ أساسي مفاده أن قوة الدولة الوطنية ومؤسساتها هي خط الدفاع الأول ضد التفكيك الخارجي، فالدول التي تنهار مؤسساتها أو تشهد فراغًا سياسيًا تصبح أرضًا خصبة للاستغلال الخارجي، سواء عبر التدخل المباشر أو عن طريق أدوات النفوذ الاقتصادية والأمنية، من هنا ترى القاهرة أن حماية الدولة الوطنية ليست مجرد واجب سياسي، بل ضرورة استراتيجية ترتبط مباشرة بأمن مصر القومي والاستقرار الإقليمي.
تعمل مصر على تقديم دعم عملي وفاعل للحكومات الوطنية القائمة، بما يتيح لها استعادة السيطرة على مؤسسات الدولة وإدارة الأزمات الداخلية، ويشمل هذا الدعم تعزيز القدرات الأمنية والعسكرية لضمان حراسة الحدود، وحماية المؤسسات الحيوية، ومكافحة الجماعات المسلحة.
دعم المؤسسات الاقتصادية لتوفير الخدمات الأساسية، وتقليل الاحتقان الاجتماعي، ومنع انتشار الفوضى الاقتصادية التي قد تُستغل سياسيا، الإطار القانوني والسياسي من خلال دعم المؤسسات التشريعية والقضائية لضمان استمرار عمل الدولة وفق أطرها الدستورية.
فى ليبيا ركزت القاهرة على دعم مؤسسات الدولة الوطنية لمنع تحول البلاد إلى دولة هشة مقسمة، مع العمل على توحيد السلطة التنفيذية، والاقتصادية، والأمنية، التدخل المصري لم يقتصر على دعم أمني فقط، بل شمل الوساطة السياسية والمشاركة في مسارات الحل السياسي لضمان انتخابات حرة وشفافة، بما يحفظ إرادة الشعب الليبي ويمنع الهيمنة الخارجية.
وفى سوريا برغم التعقيدات الميدانية، تبنت مصر سياسة تمنع انهيار الدولة السورية أو تفتيتها، مع التركيز على دعم مؤسسات الدولة الوطنية باعتبارها خط الدفاع عن وحدة الأراضي واستقرار الإقليم، والتأكيد على الحل السياسي الشامل الذي يضمن مشاركة جميع الأطراف.
الدور المصري يعكس وعيًا استراتيجيًا طويل المدى بأن انهيار أي دولة عربية أو تفكيك مؤسساتها يفتح الباب أمام إعادة إنتاج نفوذ خارجي بصيغ حديثة، سواء عبر المحاور الإقليمية أو القوى الدولية الكبرى. من هذا المنطلق فإن تعزيز الدولة الوطنية هو ليس مجرد موقف سياسي، بل استراتيجية وقائية، حماية الأمن القومي المصري، وتأمين الحدود، وحماية الموارد والممرات الحيوية، وضمان عدم تفكيك المنظومة العربية لصالح أجندات خارجية.
في هذه الدول تتضح استراتيجية مصر في منع استغلال الفراغ السياسي لصالح تدخلات خارجية من خلال دعم مؤسسات الدولة الوطنية لمنع انهيار الدولة أو تمكين الجماعات المسلحة، والمساهمة في خلق بيئة سياسية تسمح بالحلول السلمية، والحيلولة دون إعادة إنتاج التجزئة أو النفوذ الخارجي غير المباشر، والتأكيد على أن الاستقرار الداخلي لأي دولة عربية هو خط الدفاع الأول ضد التفكيك الإقليمي.
تدرك القاهرة أن السيطرة على الممرات البحرية، والطاقة، والمناطق الاستراتيجية تمثل أداة محورية في النفوذ الخارجي. لذلك تحرص مصر على حماية قناة السويس والبحر الأحمر كأهم ممرات تجارية واستراتيجية عالمية، والتنسيق مع دول الجوار (السودان، وليبيا، ودول الخليج) لإنشاء شبكة حماية جماعية، تضمن أمن الممرات والموارد الحيوية، ومنع أي تحويل لهذه المناطق إلى أدوات ضغط أو نفوذ خارجي، سواء عبر أدوات اقتصادية، أو عسكرية، أو سياسية.
تركز مصر على حماية الحقول النفطية، والمياه، والبنية التحتية الحيوية من أي سيطرة خارجية، مع التأكيد على أن الأمن الاقتصادي مرتبط مباشرة بالأمن القومي العربي والاستقرار الإقليمي.
القاهرة لا تكتفي برد الفعل أمام النفوذ الخارجي، بل تبني شبكات تحالفات إقليمية شاملة تشمل دول الجوار، والخليج، والشمال الإفريقي، لضمان قدرة الدول العربية على اتخاذ قرارات مستقلة، ومنع أي إعادة إنتاج لتجربة "سايكس–بيكو" بصيغ معاصرة، والسعي لتعزيز قدرة الدول العربية على مواجهة المشروعات الخارجية دون الاعتماد الكامل على القوى الكبرى، وضمان التوازن بين القوة والدبلوماسية، بحيث تكون القدرة على المواجهة مرنة ومتعددة الأبعاد، تشمل الأمن، والسياسة، والاقتصاد.
ومن خلال هذه الاستراتيجية تصبح مصر عامل استقرار إقليمي محوري، يربط بين حماية الدولة الوطنية، وإدارة النزاعات، وحماية الموارد والممرات، مع بناء شبكة إقليمية متماسكة تمنع تفكيك الدول العربية من الداخل أو الخارج.
ويمكن تفصيل السيناريوهات المحتملة للمرحلة المقبلة، فنجاح الدول العربية في تعزيز مؤسساتها الوطنية والتنسيق الاستراتيجي، يخلق مناخًا صعبًا أمام القوى الخارجية لإعادة إنتاج نموذج "سايكس–بيكو" بصيغ حديثة، ويوفر فرصة لتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي، ويحول دون تحويل الدول إلى كيانات هشة تعتمد على التدخل الخارجي لإدارة أزماتها.
أما غياب الرؤية الاستراتيجية فيتيح للقوى الدولية والإقليمية استغلال الانقسامات الداخلية والطائفية، وإعادة إنتاج التفكيك بصيغ أكثر تعقيدًا، مع سيطرة غير مباشرة على الموارد والممرات الاستراتيجية.
تجربة "سايكس–بيكو" لم تنتهِ فعليًا، بل تطورت أدواتها من رسم الخرائط على الورق إلى التحكم الداخلي بالوقائع الميدانية، اليوم لم تعد السيطرة الخارجية تعتمد بالضرورة على الاحتلال العسكري أو الحدود الرسمية، بل على استغلال الهشاشة الداخلية للدول العربية، سواء عبر الانقسامات السياسية، أو الاضطرابات الاقتصادية، أو ضعف مؤسسات الدولة.
القوى الدولية والإقليمية تستخدم الفراغ السياسي الداخلي كأداة فعالة لإعادة توزيع النفوذ، الدول التي تعاني من ضعف مؤسساتي أو أزمة شرعية تصبح حاضنة لإعادة إنتاج التجزئة، سواء عبر جماعات مسلحة، أو تحالفات سياسية غير رسمية، أو تدخلات اقتصادية محددة، هذه الصيغة الحديثة من "سايكس–بيكو" تجعل الدولة قائمة شكليًا لكنها مرنة للتأثير الخارجي، مما يقلل الحاجة للتدخل المباشر ويزيد من استدامة السيطرة.
مواجهة القوى الخارجية وحدها ليست كافية، فالعامل الحاسم هو معالجة الهشاشة الداخلية للدول العربية، من خلال تعزيز مؤسسات الدولة، وبناء قدرة اقتصادية مستقرة، وضمان استقرار سياسي شامل.
تطوير استراتيجيات موحدة على مستوى السيادة الوطنية، والأمن الداخلي، والقدرة الاقتصادية يمثل الخط الدفاعي الأمثل ضد أي محاولات لإعادة إنتاج التجزئة.
مصر تجسد نموذجًا عمليًا للدولة التي تستطيع الجمع بين القوة والدبلوماسية، والوقاية الاستراتيجية، والقيادة الإقليمية، القاهرة لا تعمل على منع النفوذ الخارجي فحسب، بل تعالج الأسباب الداخلية التي تسمح لهذا النفوذ بالتمدد، من خلال دعم الدولة الوطنية ومؤسساتها، وتعزيز الأمن الداخلي، وحماية الممرات والموارد الحيوية، هذا الأسلوب يجعل مصر منصة استقرار، تتحول فيها السياسات الإقليمية من رد الفعل على التفكك إلى إدارة استراتيجية تعزز استقرار المنطقة.
أدوات "سايكس–بيكو" الحديثة تُظهر أن السيطرة ليست بالاحتلال المباشر، بل بالتحكم بالفراغ الداخلي واستغلال الهشاشة، الدولة العربية القوية، القادرة على تعزيز مؤسساتها، ومؤطرة باستراتيجية إقليمية متكاملة، هي وحدها القادرة على تحويل التحديات إلى فرصة لبناء استقرار طويل الأمد، بدلا من الوقوع في فخ التفكيك المستمر.