تحليلات

إيران بين عامين.. رؤية استشرافية شاملة (2025 - 2026)

طباعة

واجهت الجمهورية الإسلامية في عام 2025، اختبارات وجودية على الجبهات العسكرية، والدبلوماسية، والاقتصادية، والبيئية، مما شكل عامًا مليئًا بالتحديات على جميع الأصعدة. يسعى هذا التقرير إلى تقديم قراءة بانورامية لأبرز الأحداث الداخلية والخارجية لإيران خلال 2025، وتحليل تأثيرها على التوقعات الاستشرافية للعام 2026، الذي يبدو أكثر تعقيدًا ومشحونًا بالمخاطر والفرص من أي وقت مضى.

أولًا- المشهد البانورامي الإيراني لعام 2025:

يكشف هذا التقرير عن سبعة محاور رئيسية تمثل المشهد البانورامي لإيران لعام 2025، موضحًا الأحداث والتحولات الكبرى التي شكلت هذا العام على الأصعدة المختلفة.

1- الضغط العسكري الإسرائيلي والتحولات الدفاعية الإيرانية:

شهدت إيران في يونيو 2025، حدثًا غير مسبوق قلب قواعد اللعبة الاستراتيجية في المنطقة، إذ تحولت حرب الظل مع تل أبيب إلى مواجهة علنية كاملة.فبينما كانت تتجه نحو جولة خامسة من المفاوضات غير المباشرة مع الولايات المتحدة، فوجئت بعملية "الأسد الصاعد الإسرائيلية" التي أسفرت عن اغتيال أبرز القادة العسكريين والنوويين، إلى جانب اختراقات أمنية مكنت من استهداف المنشآت النفطية والنووية والمؤسسات الحكومية.

ردًا على ذلك اضطر نظام الجمهورية الإسلامية إلى إعادة ترتيب أولوياته الدفاعية، عبر تعزيز شبكة الصواريخ الباليستية قصيرة ومتوسطة المدى، وحماية مواقع الإطلاق تحت الأرض، ورفع تكلفة أي هجوم محتمل. هذه الإجراءات منحته قدرة أكبر على الردع الاستراتيجي، ورفع عتبة الرد على أي اعتداء، إلى جانب تعزيز الثقة الداخلية في قدراته الدفاعية.

2- بزوغ الفكر المعتدل الثوري في إيران لإدارة مرحلة ما بعد الحرب:

على الرغم من الانقسام الظاهري للداخل الإيراني بين الأصوليين والإصلاحيين، تكشف قراءة أعمق عن تحول براجماتي متنامٍ يعيد تشكيل الخريطة السياسية داخل النظام. فقد برز تيار يمكن توصيفه بـ"المعتدل الثوري"، يجمع بين الحفاظ على الشرعية الثورية والانفتاح التكتيكي المشروط على النظام الدولي، وهو تيار تشكل تدريجيًا منذ مرحلة ما بعد الاتفاق النووي عام 2015، داخل أوساط النخبة السياسية والتكنوقراطية، لكنه احتل صدارة المشهد السياسي عقب حرب الإثني عشر يومًا، ولا سيما مع انقسام الأصوليين والإصلاحيين حول مقاربة مستقبل البلاد بعد الحرب. في هذا السياق برز "المعتدل الثوري" بوصفه خيارًا توافقيًا لإدارة المرحلة المقبلة، دون المساس بجوهر الثوابت السيادية للنظام.

بالمقابل ينطلق هذا التيار من قناعة مفادها أن الصدام المطلق مع الغرب لم يعد مجديًا، تمامًا كما أن الانفتاح غير المشروط أثبت فشله في تحقيق مكاسب استراتيجية لإيران. ومع دخول العقوبات الأممية حيز التنفيذ، وتصاعد الضغوط الغربية، برزت الحاجة إلى مقاربة وسطية تتجاوز ثنائية التشدد والانفتاح، وتعيد تعريف البراجماتية بوصفها أداة لخدمة المصلحة الوطنية لا تنازلًا عن الثوابت.

وقد تجلى هذا التحول بوضوح في مواقف وزارة الخارجية الإيرانية، لا سيما مع إعلان وزير الخارجية عباس عراقجي تعليق المسار التفاوضي مع الترويكا الأوروبية، وربط أي انخراط دبلوماسي بوقف سياسة الإكراه والعقوبات. كما انعكس هذا التوجه في مقاطعة قمة شرم الشيخ للسلام، وفي التصريحات الرسمية لوزارة الخارجية الإيرانية، التي أكدت انتهاء القيود المفروضة بموجب القرار 2231، واعتبار الحقوق السياسية لإيران غير قابلة للمساومة.

ورغم ما يبدو على هذا الخطاب من تشدد، إلا أن جوهره يعكس تكتيكًا هادئًا قائمًا على إدارة الصراع لا تصعيده، ويستند إلى مفهوم "المرونة الثورية" (نرمش قهرمانانه) الذي رسّخه القائد الأعلى علي خامنئي منذ 2015. وقد حظي هذا التوجه بدعم شخصيات بارزة من داخل المؤسسة، شملت الرئاسة (رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان)، ووزارة الخارجية (عباس عراقجي والمتحدث الأسبق باسم وزارة الخارجية عباس موسوي)، ومراكز القرار الأمني (عضوي مجمع تشخيص مصلحة النظام،ناطق نوري، ومحمد باهنر،وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي لاريجاني)، مما يمنحه وزنًا مؤسسيًا متزايدًا.

في المحصلة لا يمثل هذا التيار تحولًا في جوهر القرار السيادي الإيراني، بقدر ما يعكس إعادة توزيع محسوبة للأدوار داخل النظام، بما يسمح لإيران بدخول عام 2026، بعقيدة سياسية أكثر مرونة في الشكل، وأكثر صلابة في الجوهر، مع الحفاظ على توازن دقيق بين الردع، والدبلوماسية، وإدارة الأزمات.

3- التحديات الاقتصادية والاجتماعية في الداخل الإيراني:

أحدثت حرب الإثني عشر يومًا تبعات داخلية كبيرة، تزامنت مع استئناف القرارات الأممية لمجلس الأمن الدولي رقم 2231 يوم الأحد 28 سبتمبر 2025، إلى جانب انخفاض قيمة الريال، واحتجاجات شعبية بسبب تفاقم أزمة الجفاف، والانقطاعات المتكررة للكهرباء، والطوابير الطويلة في محطات الوقود.

دفع هذا الوضع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات لتخفيف الغضب الشعبي، شملت إعفاء المعلمين و70٪ من موظفي الدولة من ضريبة الرواتب لعام 2026، وزيادة رواتب المتقاعدين بنسبة 36٪، والموظفين بنسبة 25٪، وفق إعلان رئيس المنظمة الإيرانية للتخطيط في 24 ديسمبر 2025.

في الوقت نفسه تعزز الخطاب الداخلي حول الهوية الوطنية، مع التأكيد على أن الصراع لم يعد بين النظام والقوى الغربية فقط، بل أصبح يهدد الدولة نفسها. وقد لاقى هذا الخطاب تأييدًا شعبيًا واسعًا وجدد شرعية النظام، مخالفًا توقعات غالبية التقارير الغربية مثلForeign Policy التي توقعت انفجارًا شعبيًا قد يؤدي إلى انهيار النظام.

مع ذلك لم تُنهي الإجراءات الاقتصادية القلق بين الشباب في المدن الكبرى، إذ لا تزال البطالة والتضخم يضغطان على الحياة اليومية. وفي الوقت نفسه ساهم الخطاب القومي في استعادة شرعية مؤقتة، لكن تأثيره طويل المدى يبقى مرتبطًا بتحسن الأداء الاقتصادي والخدماتي.

في المقابل تواجه إيران لليوم الثاني على التوالي (28–29 ديسمبر 2025) احتجاجات كبيرة لقطاع من التجار، اعتراضًا على تدهور الوضع الاقتصادي والانخفاض السريع في قيمة العملة الوطنية. وأفادت وكالة أنباء "إيلنا"، نقلاً عن صحافييها، أن الاحتجاجات شملت أسواقا عدة في وسط العاصمة طهران، حيث طالب المحتجون "بتدخل فوري للحكومة للحد من تقلبات سعر الصرف ووضع استراتيجية اقتصادية واضحة".

وقد سجلت العملة الوطنية الريال مستوى قياسيًا مقابل الدولار، وفقًا لسعر السوق السوداء غير الرسمية، حيث بلغ سعر الدولار الواحد أكثر من 1,4 مليون ريال مقارنة بـ820 ألف ريال قبل عام. يؤدي انخفاض قيمة العملة إلى تضخم مفرط، وارتفاع الأسعار بشكل يومي، مما يعرقل نشاط التجارة ويجعل من الصعب على المواطنين تلبية احتياجاتهم الأساسية. ونقلت "إيلنا" عن أحد المتظاهرين قوله: "مواصلة أي نشاط مهني في ظل هذه الظروف أصبح أمرًا مستحيلًا". من جانبها حذرت وكالة "فارس" للأنباء من خطر استغلال هذه التجمعات لزعزعة الاستقرار الداخلي.

تظهر هذه التطورات أن استمرار الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، مثل التضخم وارتفاع أسعار السلع الأساسية، قد يهدد الاستقرار الداخلي على المدى الطويل إذا لم تُتخذ سياسات إصلاحية فعّالة لإدارة الأزمة الاقتصادية وتحسين القدرة الشرائية للمواطنين.

4- الأمن المائي وتأثيراته الاستراتيجية:

أعادت أزمة الجفاف وسوء إدارة الموارد المائية صدارة المشهد السياسي الإيراني، بعدما كشف رضا حاجي كريم، رئيس اتحاد قطاع المياه، في 8 نوفمبر 2025، أن طهران تواجه أسوأ أزمة مياه في تاريخها. وقد أبرزت مقالات تحليلية، مثل مقالتي المنشورة في مجلة السياسة الدولية قبل ثلاثة أشهر بعنوان (محددات الهيدرو دبلوماسية الإقليمية في رسم الاستراتيجية المائية: إيران نموذجًا)، أن تداعيات أزمة المياه بعد حرب الإثني عشر يومًا دفعت الدبلوماسية المائية الإيرانية لتتجاوز الإدارة المحلية، لتصبح قضية جيوسياسية وأمنية كبرى.

على الصعيد الإقليمي لم يعد الملف المائي مع أفغانستان، وتركيا، والعراق، وأذربيجان مجرد قضية بيئية أو إدارية، بل تحول إلى عنصر أمني واستراتيجي. ويبدو أن طهران استلهمت تجربة القاهرة في التعامل مع أزمة سد النهضة، حيث تُستخدم المياه كأداة للضغط السياسي وحماية الحصص الوطنية. وفي ظل الضغوط الأمريكية المتصاعدة منذ ولاية ترامب الثانية، وسياق الحرب مع إسرائيل، لا يُستبعد أن تستخدم واشنطن الملف المائي للضغط على إيران عبر التأثير على أفغانستان وخلق أزمة في حصص مياه نهرى هلمند وهريرود، لتحويل المياه إلى ورقة تفاوضية.

بالتوازي تفاقمت الأزمة المائية بين إيران وأفغانستان، إذ تتهم طهران كابول بحجز مياه هلمند عبر التحكم بسد يكجکیو كمال ‌خان، بينما تصر السلطات الأفغانية على أن إيران تحصل على حصتها القانونية، وأن أزمة سيستان تعود إلى سوء الإدارة الداخلية، والضخ المفرط من الآبار، والري غير الفعال، وزراعة محاصيل مستنزفة للمياه. والمفارقة أن كلا الطرفين عاجز عن تقديم إثبات قاطع يدعم روايته. أما خزانات "چاه‌نیمه" الأربعة التي شيدت في الثمانينيات لتأمين احتياطي استراتيجي من مياه هلمند، فقد أصبحت شبه جافة، مما فاقم الاختلالات الداخلية ورفع منسوب التحذيرات الرسمية بشأن دخول إيران حالة طوارئ مائية وطنية.

ومع ذلكتجاوزت تداعيات الأزمة المجال البيئي لتشمل السياسة والاقتصاد، إذ أسهمت ندرة المياه في تسريع الهجرة من سيستان وبلوچستان وأجزاء أخرى من البلاد، مما أدى إلى انخفاض الإنتاج المحلي وزيادة الاعتماد على الاستيراد الغذائي. هذه التطورات تزيد الضغوط الاقتصادية وتشكل خطرًا على الاستقرار الداخلي، خاصة إذا استمرت أزمة المياه دون حلول استراتيجية طويلة المدى.

5- تحول الاستراتيجية الأمنية لإيران:

منذ السابع من أكتوبر 2025، ومن خلال عمليات "الوعد الصادق 1 و2 و3"، وبالتوازي مع سياسة حسن الجوار ومساعي التقارب مع القاهرة، بلورت إيران ما يمكن وصفه بـ "استراتيجية الردع الوطني"، التي أصبحت محور خطاب المؤسسة الأمنية القومية. انتقلت إيران عمليًا من نموذج الردع غير المتماثل التقليدي إلى ما يشبه الردع المتماثل غير التقليدي، في وقت تصعد فيه إسرائيل جهودها لتثبيت هيمنتها الإقليمية بدعم غربي مستمر.

تمثلت هذه الاستراتيجية في ثلاثة محاور رئيسية:

أ‌- الردع النووي:برز التحول الجوهري في العقيدة النووية الإيرانية بوضوح في خطاب القائد الأعلى علي خامنئي، قبيل، وأثناء، وبعد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر سبتمبر 2025. فقد شدد خلالها على استمرار تخصيب اليورانيوم كحق سيادي وتقني، معتبرًا الصناعة النووية جزءًا من رصيد الردع الوطني، مع إبقاء خيارات الردع مفتوحة في مواجهة أي تهديد وجودي، بما يقترب من منطق سياسة "حافة الهاوية" (Brinkmanship).

ب- الردع بالحرمان الاستخباراتي: يقوم هذا المنهج على حرمان الخصم من اليقين بشأن القدرات والنوايا الإيرانية، من خلال إخفاء المعلومات أو توظيف التضليل الاستخباراتي.

ج- التحول نحو زيادة تكلفة المواجهات المحتملة: في يوم السبت 18 أكتوبر 2025، عرضت القوة الجوفضائية التابعة للحرس الثوري لقطات من داخل "مدينة الصواريخ" تُظهر صواريخ متوسطة المدى مطورة (عماد وقدر)، ومثبتة على ناقلات إطلاق  (TELs)، ومرافقة ضمن بنية تحت أرضية محمية، ومصحوبة بتدابير مضادة للحرب الإلكترونية. وقد كان لهذا البث رسالة مزدوجة، وهي داخليًا لتعزيز ثقة الجمهور، وخارجيًا لبيان القدرة على البقاء وسرعة التموضع، وهذا بلا شك يصعب مهام الخصم ويزيد من تكلفة أي اعتداء.

وينبثق عن هذا التطور الصاروخي أثران استراتيجيان مباشران، هما:

·  مضاعفة البقاء: عبر شبكة أنفاق وخلايا إطلاق متكررة تفرض على المهاجم إنفاقًا هائلًا لضرب كل الخلايا.

· تقصير فترات التحذير:لأن خروج الصواريخ من مواقع محمية وعبورها لمسافات قصيرة قبل الإطلاق يضيق هامش الاستجابة أمام نظم الاستطلاع والاعتراض.

بهذه المقاربة فرضت إيران تكلفة استراتيجية باهظة تجعل أي هجوم على أراضيها رهانًا مكلفًا سياسيًا، وعسكريًا، واقتصاديًا على إسرائيل والولايات المتحدة، مما يثنيهما عن التفكير في عمليات واسعة النطاق. كما تعكس هذه الاستراتيجية تحولًا مدروسًا في ترتيب أولويات إيران الأمنية، حيث تسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين القوة العسكرية، والردع النووي، والأدوات الدبلوماسية، مع الإبقاء على خيارات الردع مفتوحة وضبط المخاطر الناتجة عن سوء التقدير أو الحسابات الخاطئة.

- أمننة أنشطة حزب الله اللبناني:

تزامنًا مع توقف العمليات العسكرية في غزة، وسع الجيش الإسرائيلي نطاق ضرباته لتطال أهدافًا مرتبطة بمحور المقاومة من لبنان إلى اليمن. وفي الوقت نفسه شرعت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وعلى رأسها الاستخبارات العسكرية "أمان" والموساد، في حملة مركزة تستهدف قيادات بارزة في المقاومة. وأسفرت إحدى هذه العمليات عن اغتيال رئيس أركان حرب حزب الله، هيثم طبطبائي، في غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت، مما يعكس انتقال تل أبيب إلى مستوى أكثر اندفاعًا لإعادة استهداف البنية القيادية للحزب.

موازاةً مع التصعيد العسكري ظهرت محاولات إعلامية إسرائيلية لإعادة إنتاج نموذج مشابه لما جرى مع حكومة فنزويلا، عبر ربط عناصر من حزب الله بأنشطة إجرامية عابرة للحدود. فقد ذكرت تقارير، منها صحيفة إسرائيل هيوم، أن نوح زعيتر، الملقب بـ"بابلو إسكوبار لبنان"، اعتقلته الأجهزة الأمنية اللبنانية في البقاع، وأن له صلات بجماعة سورية تعمل في تصنيع الكبتاجون ونقله إلى الأسواق الخارجية. وعلى الرغم من أن ملف زعيتر ليس جديدًا في السجال اللبناني، إلا أن إعادة توظيفه إعلاميًا تُقرأ كجزء من محاولة منهجية لـ "أمننة" أنشطة حزب الله وإعادة صياغتها ضمن سرديات تهدف إلى نزع الشرعية عنه.

كما أن تصنيف جزء من أنشطة الحزب المالية كغسيل أموال وفق معايير اتفاقية باليرمو – إحدى ركائز مجموعة العمل المالي(FATF) – مرتبط بالضغط الأمريكي المتصاعد، الذي دفع الحزب إلى تبني أساليب شبيهة بالنهج الإيراني للالتفاف على العقوبات وإدارة التمويل في بيئة مقيدة بشدة.

وفي إطار هذا التصعيد اتهمت إسرائيل الحكومة اللبنانية بعدم تنفيذ التزاماتها تجاه القرار 1701، ملوحة بتوسيع عملياتها حتى شمال نهر الليطاني. وجاء ذلك بالتزامن مع زيارة وفد من وزارة الخزانة الأمريكية إلى بيروت، ومنح السلطات اللبنانية مهلة لا تتجاوز 60 يومًا لاتخاذ إجراءات ملموسة لقطع التمويل عن حزب الله. تعكس هذه الإجراءات مستوى غير مسبوق من التشدد الأمريكي، وتضع لبنان وحزب الله تحت ضغط متصاعد، في محاولة لتقويض أدوات النفوذ الإيراني داخل البلاد في لحظة إقليمية بالغة الحساسية.

- تقويض دبلوماسية الطاقة الإيرانية في القارة الآسيوية:

شهدت منطقة القوقاز الجنوبي تحولات استراتيجية مهمة، تمثلت في مبادرة جديدة بين أرمينيا، وأذربيجان، وتركيا في مجال الطاقة، امتدادًا لمبادرات سابقة، مثل ممر زنغزور ومحور الطاقة الأوسطي. ويشير هذا التحالف الثلاثي إلى تحديات مباشرة أمام دور إيران التقليدي في القوقاز الجنوبي، ويضغط على نفوذها الترانزيتي نحو أوروبا.

جاء هذا التحول عقب حروب قره باخ الأخيرة وتراجع الدور الروسي كضامن لأمن أرمينيا، مما جعل إيران غير قادرة على الاعتماد على التوازن التقليدي الذي توفره موسكو، وأصبح أي قرار إيراني مرتبطًا بقدرتها على التفاعل مع القوى الإقليمية الجديدة دون دعم خارجي تقليدي، خاصة بعد دخول عقوبات مجلس الأمن حيز التنفيذ. هذا الواقع قيد خيارات إيران في منطقة غرب آسيا، التي تضم أكثر من 70٪ من احتياطي النفط العالمي وأكثر من 40٪ من الغاز الطبيعي، مما يجعلها "النطاق الجغرافي الاستراتيجي للطاقة".

وفي بيئة تنافسية مقيدة تحاول القوى الإقليمية والدولية ضمان بقائها والسيطرة على مسارات الطاقة، مما يضع حدودًا لقدرة إيران على استثمار موقعها الاستراتيجي ومصادرها الطاقوية. ومن الأمثلة العملية على ذلك العقوبات وحصار خطوط الطاقة، التي تحد من خيارات الترانزيت والتصدير، خاصة في القوقاز والخليج.

رغم هذه القيود تمتلك إيران مزايا كبيرة تتمثل في عمقها الاستراتيجي واحتياطياتها الضخمة من الوقود الأحفوري، مما يمنحها نفوذًا في موازنة القوى الإقليمية. مع ذلك تشير تحليلات مثل مقال مجلة (The National Interest) القريبة من دوائر صنع القرار الأمريكية، يوم الأربعاء 26 نوفمبر 2025، في مقال مثير للجدل بعنوان: Why Iran Missed Out on Central Asian(لماذا خسرت إيران موقعها في شبكات الربط في آسيا الوسطى؟)، إلى أن العقوبات الاقتصادية وضعف موثوقية الإطار التنظيمي الإيراني أسهما في تراجع موقع طهران داخل شبكات التجارة المتنامية في آسيا الوسطى، مما يعكس محدودية قدرتها على استثمار موقعها الاستراتيجي بالكامل.

ثانيًا- قراءة استشرافية لإيران عام 2026:

استنادًا إلى التحولات الكبرى التي شهدتها إيران في عام 2025، من المتوقع أن يستمر عام 2026، في كونه عامًا حاسمًا على الصعيدين الداخلي والإقليمي، مع تزايد تعقيد المشهد الاستراتيجي ومخاطر متشابكة. داخليًا ستظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية، مثل التضخم المرتفع، وانخفاض قيمة الريال، وأزمة المياه، من أبرز العوامل التي تؤثر على الاستقرار الداخلي، مع استمرار الضغوط على الشباب في المدن الكبرى وقطاعات الأعمال، مما يستلزم من الحكومة سياسات إصلاحية عاجلة للحفاظ على الشرعية الشعبية.

وتعتمد هذه القراءة على بعض بيانات وتوقعات التقرير السنوي للمجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية (CFR)، الذي يحدد أبرز الصراعات العسكرية والأزمات المحتملة في العام المقبل.

ففي تقرير تناول توقعات 30 حربًا وأزمة عسكرية في عام ،2026 أعدته مجموعة من خبراء السياسة الخارجية في المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية المعروف باسم (Council on Foreign Relations)، وتحديدًا في استطلاع المخاطر السنوية بعنوان“Preventive Priorities Survey”الذي تقوم به وحدة (Center for Preventive Action)، أُجري هذا الاستطلاع في نوفمبر 2025، وجُمعت آراء نحو 620 من الخبراء والمسئولين الأمريكيين لتحديد أكثر 30 صراعًا قد يؤثر على المصالح الأمريكية. وقد خلص التقرير بشأن إيران ومحور المقاومة إلى التالي:

1- احتمال عالٍ لتصاعد الاشتباكات الفلسطينية-الإسرائيلية خاصة في الضفة الغربية:يمثل هذا التوتر تهديدًا لاستقرار المنطقة وقد يزيد من حدة الأزمات الإنسانية. ومن المتوقع أن يؤدي قرار السلطات الإسرائيلية إقامة 19 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية المحتلة إلى تعطيل المرحلة الثانية من اتفاق ترامب للسلام، مما قد يعيد إشعال النزاع في قطاع غزة، ويفاقم الأزمة الإنسانية ويزيد حالة عدم الاستقرار الإقليمي.

2- احتمال متوسط لتجدد النزاع بين إيران وإسرائيل: يشير هذا السيناريو إلى احتمال مواجهة عسكرية مباشرة بين الطرفين، قد تؤثر على الأمن الإقليمي.إلى جانب استمرار نشاط شبكة جماعات إيران الإقليمية المناهضة لإسرائيل، واحتمال تنفيذ هجوم سيبراني مدمر يعتمد على الذكاء الاصطناعي ضد البنية التحتية الحيوية للولايات المتحدة، من جهة حكومية أو غير حكومية.

3- احتمال متوسط عودة هجمات الحوثيين على إسرائيل والملاحة الدولية إلى الواجهة: إذ سيسفر عن ردود انتقامية ويضعف قدرة الحكومة اليمنية على التحكم بالأوضاع. بالإضافة إلى استمرار الهجمات الإسرائيلية في لبنان والفشل في نزع سلاح حزب الله، مما قد يؤدي إلى تصعيد طائفي أوسع ويضعف الحكومة المركزية.

4- الردع النووي والضغوط الدولية: تؤكد الغرف الإيرانية المغلقة، أن طهران لن تعود إلى المفاوضات إلا بعد تنازل الولايات المتحدة عن مطالبها الأساسية، مع توقع استمرار تأثير العقوبات الاقتصادية على السياسات الإيرانية خلال عام 2026.ويتوافق ذلك مع تأكيدات وزير الخارجية الإيرانية، عباس عراقجي 26 ديسمبر 2025، بأن وزارة الخارجية الإيرانية لا تغفل عن السعي لرفع العقوبات، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر مفاوضات حقيقية وعادلة ومشرّفة، قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، لا على الإكراه والتهديد والابتزاز.

5- إعادة بناء النفوذ ومحور المقاومة:يبدو أن إيران مصممة على استعادة نفوذ محور المقاومة، وضخ الدعم اللوجستي والتسليحي، مع تطوير القدرات الصاروخية، والحفاظ على دورها الاستراتيجي في ظل حالة من عدم اليقين.ويستند هذا التوجه إلى ترسانة صواريخ باليستية تقدر بنحو 2000 صاروخ ثقيل بعد حرب يونيو 2025، وفقًا لموقع (Al-Monitor)، وقد نقلت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية هذا التقييم للولايات المتحدة لتسريع الرد الأمريكي، خاصة مع الاعتقاد السائد في تل أبيب بأن إيران "لم تخسر" حرب الإثني عشر يومًا، مما يزيد احتمالية المواجهة.

بالتوازي يشير أحدث تقارير(Middle East Monitor&MEMO) إلى أن إيران تعمل على تطوير صواريخ باليستية خارقة للتحصينات، قادرة على اختراق الملاجئ الدفاعية الإسرائيلية. وقد صُممت هذه الصواريخ هندسيًا لتعظيم الطاقة الحركية والاختراق، مما قد يغيّر حسابات الأمن الإسرائيلي. وفي حال نجاح إيران في نشر هذه الصواريخ، قد يضع هذا نتنياهو أمام خيار صعب يتطلب اتخاذ قرار الحرب ضد إيران حتى دون موافقة الإدارة الأمريكية، بما يعكس تعقيد التوازنات الاستراتيجية في المنطقة.

6- استراتيجيات التكيف في القوقاز:يرجح أن تعزز إيران علاقاتها الثنائية مع أرمينيا لتأمين طرق بديلة للنفوذ الطاقوي، وتطوير شبكات نقل داخلي وخارجي، بهدف الاعتماد على الممرات التقليدية مثل زنغزور، واستغلال الاحتياطيات النفطية والغازية داخليًا لتقوية موقفها التفاوضي. كما قد تستخدم أدوات دبلوماسية واقتصادية للضغط على الدول المجاورة، مع مراقبة أي تدخل أجنبي قد يغير توازن القوى الإقليمي.

7- إدارة الموارد المائية:ستظل أزمة المياه أحد أهم التحديات للحكومة الإيرانية، إذ سيكون نجاحها أو فشلها مؤشرًا مباشرًا على قدرة النظام على التوازن بين الضغوط الداخلية، والصراعات الإقليمية، والتهديدات الدولية. وتبقى الأزمة المائية عنصرًا حاسمًا في استقرار إيران وقدرتها على الصمود، نظرًا لتداعياتها على الأمن الغذائي، والهجرة الداخلية، والإنتاج المحلي.

8- تقرير مصير القيادة الإيرانية: من المقرر أن يبلغ المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي عامه الـ 87 في 19 إبريل 2026، وقد يشهد عام 2026 حسمًا في ملف "اللجنة الثلاثية"، المسئولة عن إعداد خطة انتقال القيادة في حال وفاة المرشد وضمان استقرار مؤسسات النظام، لا سيما الحرس الثوري والقوى الأمنية.

9- تعميق العلاقات مع الحلفاء الاستراتيجيين التقليديين:وخاصة روسيا والصين، لتعزيز موقفها الاقتصادي والدبلوماسي، وضمان دعم استراتيجي محتمل في مواجهة الضغوط الغربية والإقليمية. في الوقت نفسه قد تحاول إيران توطيد علاقاتها مع بعض الدول العربية الكبرى، مثل مصر والسعودية، عبر التعاون الاقتصادي والدبلوماسي، بهدف تقليل العزلة الإقليمية، وتخفيف التوترات الإقليمية، وفتح قنوات لحوار إقليمي أكثر مرونة، دون المساس بنفوذها في محور المقاومة.

وفي ضوء هذا التعقيد يقدّم الجدول التالي تلخيصًا مقارنًا للسيناريوهات الأكثر ترجيحًا، مع تقدير احتمالاتها وتأثيراتها المباشرة على إيران والإقليم.

السيناريو

الاحتمالية

التأثير على إيران

التأثير على الإقليم

تصاعدالاشتباكات الفلسطينية-الإسرائيلية

عالية

دعم حركة حماس دبلوماسيًا وعسكريًا.

ضغط إنساني واجتماعي متزايد، ومخاطر هجرة قسرية للفلسطينيين، والضغط على القاهرة ودول الجوار للاحتواء.

تجدد النزاع بين إيران وإسرائيل

متوسطة

توتر داخلي، وزيادة الإنفاق العسكري، مع تصاعد مخاطر الأزمة الاقتصادية التي قد تؤدي إلى انفجار شعبي من الصعب احتوائه.

مواجهة عسكرية مباشرة وتأثير على الأمن الإقليمي

هجمات الحوثيين على إسرائيل والملاحة الدولية في البحر الأحمر

متوسطة

تأثير محدود داخليًا وضغط على النقل البحري.

تصعيد طائفي، وعودة الضربات الأمريكية على صنعاء وثكنات جماعة الحوثي، وبالتالي ضعف الحكومة اليمنية، وتهديد الملاحة الدولية.

الضغط الدولي على الردع النووي الإيراني

 

 

 

متوسطة

تماسك مؤسسي مقابل ضغط اقتصادي طويل الأمد، مع استمرار عقوبات مجلس الأمن.

توتر مع الغرب، واستمرار حالة الانغلاق الدبلوماسي للتفاوض.

إعادة بناء النفوذ ومحور المقاومة

متوسطة إلى عالية

تعزيز القوة العسكرية والقدرات الدفاعية.

تزويد حركة حماس وحزب الله اللبناني والحوثي بصواريخ من الترسانة الصاورخية الإيرانية لتحدي النفوذ الإسرائيلي.

استراتيجيات التكيف في القوقاز

 

متوسطة

تحسين شبكة الطاقة الداخلية، وتعزيز موقف تفاوضي.

تأثير على علاقات إيران مع أرمينيا، وأذربيجان، وتركيا، وتحديات نفوذ إقليمي

إدارة الموارد المائية

متوسطة

استقرار أو هزات مؤسسية محتملة

تأثير على العلاقات مع أفغانستان، وتركيا، والعراق، وأداة ضغط إقليمي.

تقرير خليفة القيادة الإيرانية

متوسطة

استقرار أو هزات مؤسسية محتملة.

تأثير على استقرار النظام، وازدياد الخلاف في مجلس خبراء القيادة مما يحسم القرار.

تعميق العلاقات مع الحلفاء الاستراتيجيين

متوسطة إلى عالية

فرص اقتصادية جديدة تساعد في تهدئة التوترات الشعبية وحل أزمة النقد الأجنبي.

مزيد من الضغط الأمريكي والإسرائيلي على الدول الفاعلة، خاصة مصر والسعودية، لتحييد موقفهما تجاه إيران.

 

وفيما يتعلق بالسيناريوهات المستقبلية المتشابكة وعوامل عدم اليقين، فتشمل تصعيدًا كبيرًا بين إيران وإسرائيل، واستمرار المواجهات في لبنان وفلسطين، واستخدام ملف المياه والضغط الإقليمي كورقة استراتيجية. أما عناصر عدم اليقين الكبرى فتتضمن السياسة الأمريكية المقبلة، نتائج الانتخابات الإسرائيلية، وقدرة إيران على صيانة شبكة الردع النووي والصاروخي، ومدى استقرار الداخل الإيراني، وتأثير العوامل الاقتصادية، مثل الجفاف والعقوبات. هذه المتغيرات تجعل أي توقع قابلًا للتغيير بسرعة، مما يضع الجمهورية الإسلامية أمام تحديات متعددة الأبعاد.

في المحصلة لا تواجه إيران في عام 2026، خطر الانهيار بقدر ما تواجه اختبار القدرة على الإدارة الذكية لتراكم الأزمات.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. شيماء المرسي

    د. شيماء المرسي

    الخبيرة فى الدراسات البينية الإيرانية