تحليلات

الأمن القومي المصري والتداعيات الاستراتيجية فى القرن الإفريقي والبحر الأحمر

طباعة

يشهد الإقليم الممتد من القرن الإفريقي إلى البحر الأحمر تحولات جيوسياسية متسارعة تعكس إعادة تشكيل عميقة في خرائط النفوذ الإقليمي والدولي، في ظل تصاعد التنافس على الممرات البحرية الاستراتيجية ومصادر التأثير غير التقليدية. ويأتي الاعتراف بإقليم "صوماليلاند"، بما يحمله من دلالات سياسية وقانونية –كحلقة جديدة ضمن سلسلة تحركات تستهدف كسر ثوابت جغرافية استقر عليها النظام الإقليمي لعقود، وفي مقدمتها مبدأ وحدة الدول الوطنية في إفريقيا، وأمن الممرات الملاحية الحيوية المرتبطة بالاقتصاد العالمي.

ولا يمكن قراءة هذا التطور بمعزل عن السياق الأوسع للصراع على البحر الأحمر وباب المندب، باعتبارهما من أخطر نقاط الاختناق الاستراتيجية في العالم، ولا عن تداخل الأزمات الممتدة في اليمن، والسودان، والقرن الإفريقي، والتي تحولت من نزاعات داخلية إلى ساحات صراع بالوكالة وتنافس نفوذ بين قوى إقليمية ودولية. فالبحر الأحمر لم يعد مجرد ممر ملاحي، بل أصبح ساحة صراع مفتوحة تتقاطع فيها المصالح العسكرية، والاقتصادية، والأمنية، بما ينعكس مباشرة على الأمن القومي للدول المطلة عليه، وفي مقدمتها جمهورية مصر العربية.

وفي هذا الإطار تبرز إشكالية جوهرية تتعلق بتداعيات توظيف الكيانات الانفصالية، وشبكات الموانئ، والقواعد العسكرية، كأدوات لإعادة هندسة ميزان القوى في جنوب البحر الأحمر، وما يمثله ذلك من تهديدات مباشرة وغير مباشرة للأمن القومي المصري، سواء عبر الضغط على قناة السويس باعتبارها شريانًا استراتيجيًا للاقتصاد المصري والعالمي، أو عبر الربط غير المنفصل بين أمن البحر وأمن منابع النيل.

تهدف هذه الدراسة إلى تقديم قراءة تحليلية متعمقة لهذه التطورات، من خلال تتبع الخلفيات التاريخية والسياسية، وتحليل أدوار الفاعلين الإقليميين، واستشراف السيناريوهات المستقبلية المحتملة، وذلك في إطار منهج تحليلي يجمع بين الجغرافيا السياسية والدراسات الأمنية، بما يسهم في فهم أبعاد المشهد الراهن وتداعياته على الأمن القومي المصري في المديين المتوسط والبعيد.

الاعتراف بإقليم صوماليلاند وتحولاته الجيوسياسية:

يُعد إقليم صوماليلاند من أكثر قضايا القرن الإفريقي تعقيدًا، إذ يجمع بين استقرار داخلي نسبي وغياب الاعتراف الدولي. فقد أعلن انفصاله عن الصومال عام 1991 عقب انهيار الدولة المركزية، مستندًا إلى حدود الحقبة الاستعمارية البريطانية، ورغم نجاحه في بناء مؤسسات حكم محلية وإجراء انتخابات منتظمة، التزم المجتمع الدولي بمبدأ وحدة الصومال باعتباره ضمانة أساسية لاستقرار الإقليم ومنع تفكك الدول الهشة.

ويستند هذا الموقف إلى اعتبارات قانونية وسياسية، حيث يُقيّد القانون الدولي حق تقرير المصير بمبدأ احترام وحدة الدول القائمة، بينما تبنّى الاتحاد الإفريقي سياسة رافضة للاعتراف بالكيانات الانفصالية خارج إطار التسويات الوطنية الشاملة، خشية خلق سوابق تهدد استقرار القارة.

في هذا الإطار يمثل أي اعتراف خارجي بصوماليلاند كسرًا لإجماع دولي ممتد، تتجاوز دلالاته الشأن الصومالي الداخلي إلى إعادة إدماج الإقليم في معادلات النفوذ الجيوسياسي. فموقعه على خليج عدن وبالقرب من مضيق باب المندب يمنحه قيمة استراتيجية عالية، تجعل الاعتراف به أداة لإعادة توزيع مراكز القوة، لا مجرد موقف قانوني مرتبط بحق تقرير المصير.

ومن منظور استراتيجي يرتبط هذا التطور بالتحولات الجارية في أمن البحر الأحمر، حيث باتت السيطرة غير المباشرة على السواحل والموانئ أحد أنماط إدارة النفوذ. وتُعد صوماليلاند، بموانئها القابلة للتطوير وموقعها الحاكم، نقطة ارتكاز محتملة لقوى تسعى لتعزيز حضورها في جنوب البحر الأحمر دون انخراط مباشر في صراعات مفتوحة.

وعليه فإن الاعتراف بصوماليلاند يُمثل حلقة ضمن مسار أوسع لإعادة تشكيل التوازنات في القرن الإفريقي، بما يفرض انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على الأمن القومي المصري، في ظل الارتباط الوثيق بين أمن البحر الأحمر واستقرار النظام الإقليمي المحيط به.

البحر الأحمر كساحة صراع دولي وإقليمي:

يمثل البحر الأحمر أحد أهم الممرات البحرية الاستراتيجية في النظام الدولي، نظرًا لدوره الحيوي في ربط المحيط الهندي بالبحر المتوسط عبر قناة السويس، ومرور نسبة معتبرة من تجارة الطاقة والتجارة العالمية من خلاله. وتنبع أهميته الجيوسياسية من كونه المسار الأقصر بين آسيا وأوروبا، مما يجعله غير قابل للاستبدال بمسارات بديلة دون كلفة اقتصادية وسياسية باهظة.

وتزداد أهمية البحر الأحمر بسبب طبيعته شبه المغلقة واعتماده على نقطتي اختناق بحريتين رئيسيتين: قناة السويس شمالًا ومضيق باب المندب جنوبًا. وتُمثل هاتان النقطتان ما يُعرف بـ«نقاط التحكم» في الملاحة الدولية، حيث يؤدي أي اضطراب في إحداهما إلى تأثير مباشر على حركة التجارة العالمية. وفي هذا السياق تتمتع قناة السويس بدرجة عالية من السيطرة والتأمين السيادي المصري، في حين يقع باب المندب ضمن بيئة إقليمية مضطربة تتسم بتعدد الفاعلين وتداخل النزاعات.

ويُعد جنوب البحر الأحمر أكثر خطورة على الأمن القومي المصري مقارنة بشماله، لكونه يمثل الحلقة الأضعف في منظومة تأمين الملاحة. فأي تهديد في باب المندب ينعكس مباشرة على حركة السفن المتجهة إلى قناة السويس، حتى دون المساس بها فعليًا. كما أن تصاعد الوجود العسكري الأجنبي، وانتشار القواعد والموانئ ذات الاستخدام المزدوج، يحوّل البحر الأحمر إلى ساحة تنافس على النفوذ بدلًا من كونه ممرًا دوليًا آمنًا.

وفي هذا الإطار لم يعد الصراع في البحر الأحمر صراعًا تقليديًا بين دول، بل بات نمطًا مركبًا يجمع بين الحروب بالوكالة، والتهديدات غير المتناظرة، واستخدام الجغرافيا البحرية كأداة ضغط استراتيجية. وهو ما يفرض إعادة تعريف أمن البحر الأحمر باعتباره جزءًا أصيلًا من منظومة الأمن القومي المصري الشامل، وليس مجرد قضية متعلقة بحماية الملاحة.

اليمن بين الوحدة والانقسام وإعادة تشكيل النفوذ:

يُعد اليمن أحد المفاتيح الجيوسياسية الأساسية لفهم التحولات الأمنية في جنوب البحر الأحمر، نظرًا لموقعه المشرف على مضيق باب المندب. ومن ثم فإن عدم الاستقرار المزمن في اليمن تجاوز كونه شأنًا داخليًا، ليصبح عاملًا مؤثرًا في الأمن الإقليمي والدولي.

مع اندلاع الأزمة اليمنية بعد 2011، انهارت السلطة المركزية، وبرز فاعلون مسلحون من الدولة، على رأسهم جماعة الحوثي في الشمال. وأدى التدخل اللاحق إلى تعقيد المشهد بدلًا من إعادة بناء الدولة، حيث أُعيد إنتاج الانقسامات الداخلية في صور أكثر حدة، وتحول الصراع اليمني من مواجهة ثنائية إلى صراع متعدد الأبعاد.

وقد انعكس هذا الانقسام مباشرة على أمن البحر الأحمر، إذ أضعف قدرة اليمن على تأمين سواحله وجزره، وفتح المجال أمام تدويل الصراع البحري، سواء عبر تهديد الملاحة أو إنشاء ترتيبات أمنية بديلة. وبذلك أصبح اليمن حلقة مركزية في معادلة أمن البحر الأحمر، حيث يُستخدم تفككه الداخلي كأداة لإعادة تشكيل النفوذ الإقليمي، بما ينعكس على الأمن القومي المصري.

الوجود العسكري الأجنبي في الجزر والموانئ اليمنية:

يمثل الوجود العسكري الأجنبي في الجزر والموانئ اليمنية أحد أخطر التحولات الاستراتيجية في جنوب البحر الأحمر خلال العقد الأخير، إذ يعكس انتقال الصراع من مستواه الداخلي إلى مستوى إقليمي ودولي تُدار فيه التفاعلات حول خطوط الملاحة ونقاط التحكم البحرية أكثر مما تُدار على اليابسة. وقد أسهم انهيار الدولة اليمنية وتراجع قدرتها على بسط سيادتها البحرية في تحويل السواحل والجزر إلى فراغ أمني قابل للاستثمار العسكري من قبل قوى خارجية تسعى لتعظيم نفوذها في أحد أهم الممرات الملاحية العالمية.

ويُعد الموقع الجغرافي لليمن عامل الجذب الرئيسي لهذا الوجود، إذ تمتد سواحله لأكثر من 2500 كيلومتر، ويضم عددًا من الجزر ذات القيمة الاستراتيجية، وعلى رأسها أرخبيل سقطرى. وتبرز سقطرى بوصفها نقطة جيواستراتيجية شديدة الحساسية عند ملتقى بحر العرب بالمحيط الهندي، بما يسمح بمراقبة طرق الملاحة القادمة من آسيا والمتجهة إلى خليج عدن والبحر الأحمر. وقد شهدت بعض جزر الأرخبيل، مثل عبد الكوري، إنشاء بنى تحتية ذات طابع عسكري وأمني، مما يثير مخاوف من تحويلها إلى منصة متقدمة للنفوذ العسكري خارج أي إطار سيادي واضح.

وتكتسب جزيرة بريم (ميون) أهمية استثنائية لوقوعها في قلب مضيق باب المندب، حيث تتيح السيطرة عليها قدرة مباشرة على مراقبة الممر الملاحي وربما التأثير فيه عند مستويات التصعيد المختلفة. وقد ظهرت خلال السنوات الأخيرة مؤشرات على إنشاء منشآت عسكرية في الجزيرة، في ظل غياب فعلي للدولة اليمنية، وهو ما يحوّل المضيق من ممر دولي محكوم بقواعد القانون البحري إلى مساحة نفوذ قابلة للتسييس والضغط الاستراتيجي.

ويؤدي هذا الواقع إلى تهديد مباشر لمبدأ حرية الملاحة في البحر الأحمر، إذ إن تعدد القواعد العسكرية وتضارب المصالح الإقليمية يحول الممر الملاحي إلى منطقة احتكاك دائم، ويزيد من احتمالات التصعيد غير المحسوب. كما يخلق نمطًا جديدًا من السيطرة يقوم على "التحكم من الأطراف"، بما يسمح بفرض قواعد أمنية واقتصادية غير معلنة، وهو ما ينعكس سلبًا نظرًا للارتباط العضوي بين استقرار جنوب البحر الأحمر وأمن قناة السويس.

وعليه فإن الوجود العسكري الأجنبي في الجزر والموانئ اليمنية يُعد أداة رئيسية في إعادة تشكيل توازنات القوة في البحر الأحمر، ولا يمكن التعامل معه باعتباره تطورًا منفصلًا، بل كجزء من سياق أشمل يستهدف إعادة هندسة النفوذ في أحد أهم شرايين التجارة العالمية، بما يفرض ضرورة إدراجه ضمن أي تقييم استراتيجي شامل للأمن الإقليمي المصري.

القرن الإفريقي كامتداد للصراع في البحر الأحمر:

لم يعد القرن الإفريقي مجرد نطاق جغرافي مجاور للبحر الأحمر، بل تحوّل إلى امتداد مباشر لصراعاته وعمقه الاستراتيجي، في ظل التداخل المتزايد بين الجغرافيا السياسية للمنطقة والتحولات الأمنية في جنوب البحر الأحمر. وقد أدى هذا التداخل إلى جعل القرن الإفريقي ساحة تنافس مفتوحة بين قوى إقليمية ودولية تسعى إلى ترسيخ نفوذها عبر السيطرة على السواحل والموانئ ونقاط الارتكاز القريبة من الممرات البحرية الحيوية.

ويحتل الصومال موقعًا محوريًا في هذه المعادلة، بفضل امتداده الساحلي الطويل على خليج عدن والمحيط الهندي وقربه المباشر من مضيق باب المندب. وفي هذا الإطار برز إقليم صوماليلاند كحالة خاصة، يتمتع بواقع سياسي شبه مستقل دون اعتراف دولي، مما جعله بيئة مناسبة لتغلغل فاعلين إقليميين عبر ترتيبات اقتصادية وأمنية خارج الأطر القانونية التقليدية. ويُسهم هذا النمط من التعامل في إضعاف الدولة الصومالية المركزية، ويفتح المجال لإعادة هندسة التوازنات الجيوسياسية في جنوب البحر الأحمر، بما ينعكس مباشرة على أمن الملاحة وتوازن القوى الإقليمي.

كما تمثل إريتريا عنصرًا مهمًا في معادلة القوة بحكم موقعها الممتد على الساحل الغربي للبحر الأحمر، وما يتيحه من قدرة على المراقبة والتأثير في حركة الملاحة. وقد جعل هذا الموقع الدولة محل تنافس مستمر للحصول على قواعد عسكرية أو تسهيلات لوجستية، بما يدمجها، بشكل مباشر أو غير مباشر، في ترتيبات الأمن البحري. وفي المقابل تُعد جيبوتي نموذجًا لتدويل الأمن في القرن الإفريقي، إذ تستضيف عددًا كبيرًا من القواعد العسكرية الأجنبية، مستفيدة من موقعها عند مدخل باب المندب، وهو ما يخلق توازن ردع نسبيًا، لكنه يعكس في الوقت ذاته هشاشة النظام الإقليمي واعتماده المتزايد على الوجود الخارجي.

ولا يمكن فصل هذه التطورات عن الأمن القومي العربي والمصري، نظرًا للارتباط العضوي بين استقرار جنوب البحر الأحمر وسلامة الملاحة المتجهة إلى قناة السويس. فأي اختلال في موازين القوة أو انتشار غير منضبط للنفوذ العسكري الأجنبي في القرن الإفريقي ينعكس مباشرة على المصالح المصرية الحيوية. ومن ثم يفرض هذا الواقع على مصر تبني مقاربة شاملة تتجاوز البعد البحري إلى الأبعاد السياسية، والأمنية، والإفريقية الأوسع، بما يؤكد أن القرن الإفريقي أصبح ساحة مركزية في معادلة الأمن القومي المصري، لا هامشًا جغرافيًا بعيدًا عنه.

السودان وساحل البحر الأحمر:

يمثل السودان أحد الفواعل المحورية في معادلة الأمن البحري للبحر الأحمر، نظرًا لامتداده الساحلي الذي يربط بين شمال البحر الأحمر وجنوبه، ويمنحه موقعًا استراتيجيًا مؤثرًا في حركة الملاحة المتجهة نحو قناة السويس. ويُعد هذا الموقع عامل جذب دائم للقوى الإقليمية والدولية الساعية إلى توسيع نفوذها في الممرات البحرية الحيوية.

ويكتسب الساحل السوداني أهمية خاصة لاحتوائه على موانئ حيوية، وفي مقدمتها ميناء بورتسودان، الذي يمثل بوابة رئيسية للتجارة السودانية، ونقطة ارتكاز محتملة للتأثير في حركة السفن العابرة للبحر الأحمر. ومن ثم فإن أي وجود أجنبي فاعل أو ترتيبات أمنية خارج الإطار الوطني على هذا الساحل تمنح الأطراف المنخرطة قدرة غير مباشرة على التأثير في الملاحة الإقليمية.

غير أن حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني التي يشهدها السودان أضعفت قدرة الدولة على فرض سيادتها البحرية وتأمين سواحلها، مما أوجد فراغًا استراتيجيًا استغلته قوى إقليمية لتعزيز حضورها عبر أدوات عسكرية أو تجارية. وقد أسهم هذا الواقع في إدخال الساحل السوداني ضمن دائرة التنافس الإقليمي، وربطه بصورة مباشرة بصراعات البحر الأحمر الأوسع.

وتتضاعف خطورة هذا المسار بالنسبة للأمن القومي المصري، إذ إن تحوّل الساحل السوداني إلى ساحة نفوذ متنازع عليها يفتح المجال أمام تهديدات مباشرة أو غير مباشرة للممرات المؤدية إلى قناة السويس. كما أن تآكل الدور العربي في هذه المنطقة لصالح قوى خارج الإقليم يحدّ من قدرة مصر على الحفاظ على توازنات جنوب البحر الأحمر، ما لم يُقابل بتحرك استراتيجي يعزز التنسيق الإقليمي ويعيد ضبط معادلة الأمن البحري.

وعليه فإن السودان يُمثل حلقة مركزية في منظومة أمن البحر الأحمر، وأي تحول في أوضاعه الساحلية لا يظل حبيس الإطار المحلي، بل ينعكس مباشرة على موازين القوى الإقليمية، وعلى الأمن القومي المصري باعتباره متأثرًا باستقرار هذا الممر الملاحي الحيوي.

الأمن القومي المصري بين البحر والنيل:

يمثل الأمن القومي المصري منظومة متشابكة من الأبعاد البحرية والنهرية، حيث يشكل كل من البحر الأحمر ونهر النيل ركيزتين أساسيتين لاستقرار الدولة واستدامة اقتصادها. ويؤدي أي اختلال متزامن في هذين البعدين إلى مضاعفة حجم التهديدات، بما ينعكس مباشرة على السيادة الوطنية والقدرة على إدارة الموارد الحيوية.

ويُعد البحر الأحمر العمق الاستراتيجي البحري لمصر، والمسار الرئيسي المؤدي إلى قناة السويس، التي تُعد أحد أهم شرايين التجارة العالمية ومصدرًا محوريًا للعملة الصعبة. ومن ثم فإن أي تهديد لأمن الملاحة في جنوب البحر الأحمر، سواء عبر السيطرة على الموانئ أو الجزر أو فرض ترتيبات أمنية موازية، يمنح الأطراف المعادية قدرة غير مباشرة على التأثير في حركة السفن المتجهة إلى القناة، وما يترتب على ذلك من ضغوط اقتصادية متصاعدة على الدولة المصرية.

ويتكامل هذا التهديد البحري مع البعد النهري للأمن القومي المصري، حيث يمثل نهر النيل مصدر الحياة الرئيسي للدولة، وترتبط استدامته بتوازنات معقدة في القرن الإفريقي. وفي هذا السياق تكتسب قضايا مثل سد النهضة أبعادًا تتجاوز الإطار الفني أو التنموي، لتصبح جزءًا من معادلة الضغط الاستراتيجي، خاصة إذا ما تزامنت التحديات المائية مع محاولات التأثير في أمن البحر الأحمر، بما يخلق بيئة تطويق مزدوجة للمصالح المصرية.

كما أن تنامي التنسيق بين بعض القوى الإقليمية، واستغلال حالات عدم الاستقرار في اليمن، والصومال، والسودان، يفتح المجال أمام سيناريوهات لتقييد الدور المصري إقليميًا، سواء عبر التأثير على الملاحة وسلاسل الإمداد، أو من خلال الضغط السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية. ويؤدي هذا الواقع إلى رفع كلفة الحفاظ على التوازن الإقليمي، ويجعل التحرك المصري أكثر تعقيدًا وحساسية.

وعليه فإن التعامل مع الأمن القومي المصري يفرض تبني رؤية شاملة تدمج بين حماية البحر الأحمر وتأمين نهر النيل، باعتبارهما مسارين متكاملين في معادلة واحدة. وتظل قدرة مصر على إدارة هذا التشابك بفاعلية عاملًا حاسمًا في الحفاظ على استقرار الدولة ومنع أي محاولات لإعادة رسم موازين النفوذ على حساب مصالحها الحيوية.

السيناريوهات المستقبلية وتقدير الموقف:

مع تصاعد تداخل القوى الإقليمية والدولية في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، تواجه مصر مجموعة من السيناريوهات التي تفرض تقدير موقف دقيقًا ومرنًا. ويتمثل السيناريو الأكثر خطورة في احتمالات التصعيد الإقليمي، حيث قد يؤدي استمرار التفاعلات بين قوى إقليمية فاعلة، مدعومة بترتيبات محلية في اليمن، والصومال، والسودان، إلى رفع مستويات التوتر العسكري في جنوب البحر الأحمر، بما يهدد أمن الملاحة وقناة السويس بصورة غير مباشرة، خاصة مع احتمالات تدخل قوى دولية عبر أطر أمنية محدودة تزيد من تعقيد المشهد الاستراتيجي.

في المقابل يبرز سيناريو الاحتواء وإعادة التوازن، القائم على قدرة مصر على توظيف أدواتها الدبلوماسية والتحالفية لإعادة ضبط موازين القوة في البحر الأحمر والقرن الإفريقي. ويعتمد هذا المسار على تنشيط التحالفات الإقليمية، وتعزيز الشراكات مع الدول المطلة على الممرات البحرية، إلى جانب تطوير القدرات الدفاعية، بما يسمح بردع محاولات فرض أمر واقع جديد يمس المصالح المصرية الحيوية.

وتتحرك مصر على مسارات متعددة عربيًا، وإفريقيًا، ودوليًا، من خلال تعميق التعاون مع دول القرن الإفريقي في مجال الأمن البحري، وتفعيل أطر العمل العربي-الإفريقي المشترك، فضلًا عن استخدام المنابر الدولية للتأكيد على خطورة تسييس الممرات البحرية وتهديد حرية الملاحة، بما يعزز حماية قواعد القانون الدولي الداعمة للمصالح المصرية.

وتكشف التطورات الجارية عن مساعٍ لإعادة رسم خريطة النفوذ في البحر الأحمر، عبر الاعتراف بكيانات انفصالية، والتوسع في شبكات الموانئ والقواعد، واستغلال هشاشة الأوضاع في دول الجوار. وتكمن خطورة هذه التهديدات في طبيعتها المركبة، إذ لا تقتصر على البعد العسكري، بل تمتد إلى دعم الفاعلين من غير الدول وتعميق الانقسامات الداخلية، بما يرفع احتمالات التصعيد والاستنزاف طويل الأمد. وهو ما يجعل إدارة الصراع بحسابات دقيقة، وليس الانجرار إليه، عنصرًا حاسمًا في الحفاظ على الأمن القومي المصري. وعليه تدار حماية المصالح المصرية من خلال وعى استراتيجي شامل يوازن بين أدوات القوة الصلبة والناعمة، ويستثمر في التحالفات المرنة، والدبلوماسية الوقائية، والقانون الدولي، بما يعزز قدرة مصر على حماية عمقها الاستراتيجي دون الوقوع في مسارات استنزاف مفتوحة، حيث تظل قدرة الدولة على تبني سياسات استباقية عاملاً حاسمًا في ضمان استقرار الأمن القومي المصري على المديين المتوسط والطويل.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. محمد إبراهيم حسن فرج

    د. محمد إبراهيم حسن فرج

    دكتوراه العلوم السياسية- كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،جامعة القاهرة