تحليلات

البحر الأحمر بين الوظيفة والسيادة.. صوماليلاند واختبار الأمن القومي المصري

طباعة

لم يكن اعتراف إسرائيل بصوماليلاند في ديسمبر 2025، مجرد خطوة دبلوماسية مثيرة للجدل، بل شكّل لحظة كاشفة عن تحوّل أعمق في منطق إدارة الأمن والصراع في البحر الأحمر، فالقرار لا يتصل فقط بكيان غير معترف به دوليًا، بقدر ما يعكس انتقالًا متدرجًا من منطق السيادة والدولة الوطنية إلى منطق الوظيفة الأمنية، حيث تُعاد صياغة الشرعية على أساس القدرة على ضبط الساحل، وتأمين الموانئ، وخدمة ترتيبات أمنية بعينها، لا على أساس وحدة الدولة أو الإجماع الإقليمي.

ولتجنّب أي التباس في قراءة هذا التطور، يجدر التذكير بأن صوماليلاند لا تمثّل حالة انفصال طارئة أو نتاجًا لانهيار حديث، بل إقليمًا كان يتمتع بوضع قانوني مستقل عقب الاستعمار البريطاني عام 1960، قبل اندماجه الطوعي مع الصومال الإيطالي، غير أن مسار الدولة الصومالية لاحقًا، وما شهده من تهميش سياسي وصراعات دامية، ولا سيما خلال حقبة نظام سياد بري، دفع الإقليم إلى إعلان انفصاله من طرف واحد عام 1991، والدخول في مسار حكم ذاتي مستقر نسبيًا دون اعتراف دولي، ولا يُستدعى هذا السياق هنا لتبرير الانفصال، بل لتفسير الكيفية التي جرى من خلالها تحويل حالة خاصة تاريخيًا إلى أصل وظيفي قابل للتوظيف الجيوسياسي في معادلات الأمن الإقليمي الراهنة.

في هذا الإطار لم يعد البحر الأحمر مجرد ممر ملاحي استراتيجي، بل تحوّل إلى فضاء رمادي للصراع، تتداخل فيه الحرب والسلم، والردع والابتزاز، والدولة والفاعل من غير الدولة، وقد كشفت هجمات الحوثيين منذ أواخر عام 2023، حدود أدوات الردع التقليدي، ودَفعت قوى إقليمية ودولية إلى البحث عن ترتيبات أمنية أكثر مرونة، تقوم على تعدد نقاط الارتكاز، وتوزيع القواعد والمنصات اللوجستية والاستخباراتية، والالتفاف على القيود التي تفرضها السيادة الوطنية.

ضمن هذا السياق، برزت صوماليلاند بوصفها منصة جيوسياسية جاهزة للتوظيف في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن، غير أن خطورة هذا المسار لا تكمن في الحالة الصوماليلاندية بذاتها، بل في تعميم النموذج، بما يحوّل الكيانات الهشّة إلى أصول استراتيجية قابلة للتأجير، ويُضفي شرعية عملية على الأمر الواقع، على حساب بنية الدولة الوطنية في القرن الإفريقي.

وقد أعاد هذا الاعتراف بالفعل ترتيب موازين القوة في القرن الإفريقي على مستويات متداخلة، فعلى المستوى الداخلي، يفاقم القرار هشاشة الدولة الصومالية عبر تدويل ملف الانفصال، ويقوّض ما تبقى من مركزية الحكومة الفيدرالية في مقديشو، في لحظة لا تزال فيها الدولة تكافح لاستعادة الحد الأدنى من السيطرة والسيادة، وعلى المستوى الإقليمي، يعمّق الاعتراف حالة الاستقطاب ويدفع بالتنافس بين المحاور إلى مستوى أكثر حدّة، لا سيما بين إسرائيل من جهة، وتركيا وقطر من جهة أخرى، في صراع مفتوح على النفوذ، والموانئ، ونقاط الارتكاز البحرية على سواحل البحر الأحمر وخليج عدن.

أما استراتيجيًا فيمنح هذا التطور إثيوبيا منفذًا بحريًا بديلًا يعزّز طموحاتها الإقليمية ويغذّي سعيها للتحرر من قيود الجغرافيا، لكنه في الوقت ذاته يُضعف الأهمية النسبية لبعض الموانئ التقليدية في الإقليم، ويضغط على موقع جيبوتي بوصفها مركزًا شبه احتكاري للقواعد العسكرية الأجنبية، كما يُقلّص من هامش المناورة الذي تمتعت به إريتريا طويلًا بوصفها منصة ارتكاز أمنية خارج الأطر الرسمية، وبهذا يُفتح الباب أمام إعادة توزيع النفوذ البحري على نحو قد يُربك التوازنات القائمة ويعيد رسم خريطة المصالح في القرن الإفريقي برمّته.

ويُلفت الانتباه في هذا السياق الصمت النسبي للاتحاد الإفريقي وعدد من القوى الدولية الكبرى إزاء هذا التحول، في انعكاس واضح لتراجع مركزية المبادئ القانونية التقليدية لصالح حسابات الأمن والمصالح، فهذا الصمت لا يعكس قبولًا صريحًا بقدر ما يكشف عن مرحلة انتقالية يُعاد فيها ترتيب الأولويات، حيث تُغلب الوظيفة على الشرعية حين تتقاطع الجغرافيا مع الأمن، وحيث تُدار الأزمات بالمنطق الوقائي لا بالحلول القانونية الشاملة.

في هذا المشهد المتحوّل تصبح تداعيات الاعتراف على مصر مسألة أمن قومي مباشر، فمصر ليست مجرد دولة مطلة على البحر الأحمر، بل تمثّل قلب معادلته الاستراتيجية، وقناة السويس ليست ممرًا قابلًا للاستبدال، بل ركيزة أساسية في النظام التجاري والأمني العالمي، وأي تحوّل طويل الأمد ينقل مركز الثقل الأمني من الشمال إلى الجنوب، ومن قناة السويس إلى باب المندب، هو تحوّل يعيد تعريف مكانة مصر الجيوسياسية، ويؤثر مباشرة في قدرتها على التأثير وصناعة التوازن.

الأخطر من ذلك أن تعدد نقاط الارتكاز الأمنية خارج أي إطار عربي أو إفريقي جامع يُنذر بتآكل مفهوم الأمن البحري المشترك، وتحويل البحر الأحمر إلى فسيفساء قواعد ومصالح متعارضة تُدار من الخارج أكثر مما تُدار من داخله، وإذا تُرك هذا المسار دون تصحيح، فقد تجد مصر نفسها في موقع المتفاعل مع وقائع مفروضة، بدل أن تكون صانعة لقواعد النظام الإقليمي.

ومن ثمّ لا يمكن للرؤية المصرية أن تظل حبيسة ردّ الفعل أو مقتصرة على تحصين الشمال وحده. فتعظيم القيمة اللوجستية لقناة السويس ضرورة استراتيجية، لكنه غير كافٍ. التحدي الحقيقي يكمن في استعادة المبادرة على مستوى البحر الأحمر بأكمله، عبر انخراط متوازن في القرن الإفريقي يقوم على التنمية والأمن الوقائي، وإعادة الاعتبار لمفهوم الأمن البحري الجماعي بدلًا من منطق تأجير الجغرافيا وتدويل الهشاشة.

البعد الإنساني والاقتصادي غير المرئي:

إلى جانب ذلك يبرز بُعد غالبًا ما يغيب عن الحسابات الأمنية المباشرة، يتمثل في التأثيرات الإنسانية والاقتصادية لعسكرة البحر الأحمر، فدول القرن الإفريقي تعتمد بدرجات متفاوتة على هذا الممر في وارداتها الغذائية والسلعية الأساسية، مما يجعل أي تصعيد طويل الأمد مولّدًا لأزمات معيشية حادة، تتقاطع مع الهجرة غير النظامية، وتنامي الجماعات المسلحة، وتفاقم هشاشة الدول، وهذه التداعيات، وإن بدت بعيدة في ظاهرها، تعود في النهاية لترتد على الأمن القومي المصري من بوابة الجنوب.

في المحصلة لا يكشف اعتراف إسرائيل بصوماليلاند عن دولة جديدة بقدر ما يكشف عن اختبار حقيقي لمفهوم السيادة ذاته في البحر الأحمر، فالمعادلة لم تعد تُحسم بعدد القواعد أو كثافة الوجود العسكري، بل بامتلاك رؤية شاملة تعيد التوازن بين الوظيفة والسيادة، وبين الأمن والتنمية، ومصر، بحكم موقعها وتاريخها وخبرتها المؤسسية، تظل الطرف الأقدر على لعب هذا الدور، شرط أن تنتقل من إدارة التداعيات إلى صناعة القواعد، ومن ردّ الفعل إلى المبادرة.

ويبقى السؤال الأعمق الذي يفرض نفسه في هذا السياق: هل يمثّل الاعتراف بصوماليلاند بداية انتقال القرن الإفريقي من كونه ساحة تنافس إقليمي إلى كونه مختبرًا دوليًا لإعادة تعريف السيادة والأمن، أم إن كلفة هذا التحوّل ستدفع الإقليم والبحر الأحمر معًا نحو دورة جديدة من عدم الاستقرار طويل الأمد؟

طباعة

    تعريف الكاتب

    لواء دكتور/ أحمد الجيزاوي

    لواء دكتور/ أحمد الجيزاوي

    باحث في العلوم السياسية والأمن القومي