تحول الفضاء السيبراني في منطقة الشرق الأوسط إلى ساحة تتقاطع فيها الأيديولوجيا مع العمليات التقنية المعقدة، حيث تنشط عشرات الجهات الفاعلة المتنوعة في توجيه هجمات تستهدف البنى التحتية الحيوية، بما يشمل شبكات توزيع الطاقة، وأنظمة التحكم والمراقبة الصناعية، وروابط الاتصالات الفضائية.
غير أن الطبقة الأكثر تعقيدًا في هذا المشهد لا تكمن في عدد الهجمات أو تنوع أدواتها، بل في ترسيخ استراتيجيتين محوريتين: الحرب السيبرانية بالوكالة والاستفادة المنهجية من مبدأ الإنكار المعقول. وهو ما يضاعف من مستوى التهديد السيبراني، خاصة في ظل غياب أطر قانونية دولية ملزمة وقادرة على الردع والمساءلة.
التهديدات السيبرانية بين إيران وإسرائيل:
دخلت التوترات السيبرانية بين إيران وإسرائيل مرحلة متقدمة وغير مسبوقة، وصفها مسئولون إسرائيليون بأنها تمهيد لما قد يُعد أول مواجهة سيبرانية شاملة من نوعها، وذلك وفق ما ورد في تقارير ومداولات "الأسبوع السيبراني 2025" الذي عُقد في جامعة تل أبيب. وفي هذا السياق حذر المدير العام للإدارة الوطنية للأمن السيبراني في إسرائيل، يوسي كارادي، من أن إيران تمتلك قدرات تتيح لها فرض ما يشبه الحصار الرقمي، عبر تعطيل أنظمة حيوية تشمل محطات الكهرباء، وشبكات النقل، وموارد المياه، دون اللجوء إلى أدوات عسكرية تقليدية.
غير أن التقديرات الاستخباراتية الحديثة كشفت عن معطيات تتعلق بهجمات سابقة، تشير إلى قدرة الجهات المنفذة على مراقبة البيئة التشغيلية المحيطة بأهداف حساسة. ووفق هذه التقديرات فإن بعض الهجمات الصاروخية نُفذت بالتوازي مع اختراقات سيبرانية مكنت من متابعة مجريات الضربة وتقدير آثارها بشكل شبه فوري. ويعكس هذا النمط من التنسيق بين الفعل العسكري والاختراق الرقمي انتقال السيبرانية من دور داعم إلى أداة فاعلة في توجيه العمليات وتقييم نتائجها الميدانية.
وإلى جانب التهديدات على البنية التحتية، تشير البيانات المتداولة إلى تصاعد ملحوظ في حملات الحرب النفسية وعمليات التأثير على الرأي العام، بوصفها مكملًا للهجمات التقنية، فقد نُسب إلى جهات مرتبطة بإيران كمجموعة حنظلة بتنفيذ أكثر من 1200 حملة سيبرانية، بهدف التأثير على الإعلام والرأي العام للسكان في الأراضي المحتلة. هذا العدد الكبير من العمليات يوضح أن الحرب السيبرانية لم تعد مقتصرة على التخريب المادي فحسب.
في المقابل برزت استراتيجيات الضغط القصوى، مثل الوصول إلى معلومات حساسة كبيانات التأمين لمستشفى والتهديد بالكشف عنها، باعتبارها أدوات تستهدف الأمن النفسي والاجتماعي للمجتمع.وعلى الرغم من أن الشركات السيبرانية الإسرائيلية تمكنت من جذب استثمارات بقيمة 4.4 مليار دولار، بزيادة قدرها 46%، إلا أن نقاط الضعف لا تزال قائمة، كما تجسدها تصريحات مراقب الدولة الإسرائيلي، ماتنياهو إنجلمان، الذي أعرب عن قلقه بشأن تدخل الشبكات الخارجية في انتخابات الكنيست 2026، مؤكّدًا أن سلامة الانتخابات المقبلة مهددة بسبب النشاط السيبراني. هذا مؤشر على أن نطاق الحرب قد يمتد من البنية التحتية التقنية إلى الأطر السياسية والحكومية.
العمليات الاستخباريةالإيرانية تزعزع أمن إسرائيل:
كشف موقع "تايمز أوف إسرائيل" في تقرير حديث أن الانقسامات الاجتماعية العميقة داخل الأراضي المحتلة تحولت إلى فرصة ذهبية للاختراق الاستخباراتي الإيراني، بحيث أصبحت إسرائيل عمليًا عاجزة عن مواجهته. فقد تحولت ظاهرة النفوذ في عمق المجتمع الإسرائيلي إلى تحد دائم للأجهزة الأمنية، التي أعربت عن قلقها البالغ إزاء هذا النشاط.
وبحسب صحيفة "كيهان" المقربة من القائد الإيراني الأعلى، تمكنت إيران من استقطاب مواطنين إسرائيليين، بل وحتى جنود أثناء خدمتهم، عبر شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال البسيطة، ودفعهم إلى التعاون الاستخباراتي. وتصف وسائل الإعلام العبرية هذا النشاط بأنه دليل على هشاشة البنية الأمنية الداخلية لإسرائيل.
وللحق تستفيد طهران بشكل خاص من الانقسامات الاجتماعية العميقة بين اليهود والعرب، والمتدينين والعلمانيين، وبين اليمين واليسار، لاستقطاب شرائح مختلفة من المجتمع. لكن اللافت أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لا تزال غير قادرة على التعرف الكامل على هذه الشبكات والعملاء، وهذا يدفعها إلى المطالبة بفرض عقوبات أشد، في اعتراف ضمني بحالة الارتباك والضعف البنيوي الذي تعانيه تل أبيب.
يزيد على ذلك اعتماد إيران بشكل كبير على التجنيد الجماعي عن بُعد عبر تطبيقات المراسلة ومواقع العمل من المنزل. إلى جانب استخدامتطبيقات، مثل تلجرام، وواتس آب، وفيسبوك، وإنستجرام، إضافة إلى مواقع إعلانات الوظائف ذات الأجور المرتفعة، لاستقطاب إسرائيليين من مختلف فئات المجتمع، بمن فيهم العرب، واليهود، والعمال الأجانب، والمهاجرون الجدد.
بالتوازي ذكرت "تايمز أوف إسرائيل" أن بعض عمليات التعريف والإحالة تتم عبر شخصيات تجارية، أو منظمات قانونية، أو صحفيين، وأحيانًا من خلال الجاليات اليهودية أو الإسرائيليين المقيمين في الخارج. وبعد تحديد هوية الشخص المجند وتنفيذه مهام أمنية، تُجمع بحقه أدلة تُستخدم لاحقًا في ابتزازه، وإذا حاول التوقف عن التعاون، يُهدد بإبلاغ جهاز الشاباك الإسرائيلي عنه.
انعكاسات الحرب السيبرانية بين طهران وتل أبيب:
بات مفهوم الحصار الرقمي هاجسًا متصاعدًا لدى صناع القرار في تل أبيب، بوصفه انتقالًا نوعيًا يتجاوز التحديات التقنية البحتة إلى التعبير عن معادلة جديدة في توازن الرعب.ففي هذا السياق تتحول الشرايين الحيوية والبنى التحتية الوطنية للخصم إلى نقاط ضعف حرجة، يمكن استهدافها وتعطيلها بفعالية، دون الانزلاق إلى مواجهة عسكرية مباشرة أو تحمّل كلفها التقليدية.
من هذا المنطلق، وقبيل تنفيذ عملية "الأسد الصاعد" ضد إيران في 13 يونيو 2025، نُسب إلى وحدات سيبرانية إسرائيلية تنفيذ هجمات رقمية واسعة استهدفت بنك "سِپَه" الإيراني، إلى جانب منصات عملات رقمية يُعتقد أنها داعمة له. يكشف هذا التوازي بين الضربات الصاروخية والاختراقات السيبرانية للأنظمة الرقابية عن مستوى غير مسبوق من التكامل العملياتي، بما يؤكد أن الفضاء الرقمي لم يعد مجرد بيئة داعمة للعمليات العسكرية، بل تحول إلى ذراع فاعلة في التوجيه، والمراقبة، والتقييم ضمن صلب الحرب التقليدية.
في المقابل يبرز تناقض لافت بين حجم الاستثمارات الإسرائيلية الضخمة في قطاع الأمن السيبراني، وبين قدرة إيران على اختراق العمق الإسرائيلي عبر شبكات استخباراتية وعمليات تأثير معرفي، فضلًا عن تصاعد المخاوف الإسرائيلية من محاولات التلاعب بالتصويت وإثارة الاضطراب خلال الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. ويعكس هذا الواقع خطورة استراتيجية العمليات المعرفية والضغط النفسي، بوصفها أدوات قادرة على فتح فجوات بنيوية يصعب احتواؤها داخل هيكل الحكومة الإسرائيلية.
وعليه تشير هذه التطورات إلى أن إيران، من خلال ترسيخ موقعها كفاعل سيبراني مؤثر، لم تكتفِ بتحقيق مستوى متقدم من الردع النشط، بل نجحت في تجاوز طبقات الحماية المتعددة، ونقلت ميدان الصراع من الحدود الجغرافية إلى غرف التحكم ووعي الجمهور داخل المجتمع الإسرائيلي. وهو تحول لا يعني تفوقًا مطلقًا بقدر ما يعكس كسرًا نسبيًا لاحتكار التفوق الإسرائيلي، وفتحًا لساحة صراع جديدة تتجاوز المعايير العسكرية التقليدية.
ردع شبكة الاستخبارات الإيرانية بالعقوبات:
في إطار برنامج "مكافآت من أجل العدالة" المستخدم تاريخيًا ضد شبكات إرهابية عابرة للحدود، وعناصر استخباراتية معادية، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن تخصيص مكافأة تصل إلى عشرة ملايين دولار مقابل معلومات تؤدي إلى تحديد هوية أو مكان وجود إيرانيين اثنين، تتهمهما واشنطن بالضلوع في هجمات سيبرانية استهدفت بنى تحتية حيوية داخل الولايات المتحدة.
جاء هذا الإعلان في توقيت يتزامن مع تقديرات غربية تشير إلى تطوير إيران لقدراتها السيبرانية الهجومية، من خلال تعزيز وحدات متخصصة ضمن البنية الرسمية لأجهزتها الاستخباراتية. بينما يعكس هذا التحرك الأمريكي إدراكًا متزايدًا بأن المواجهة مع طهران لم تعد محصورة في ساحات الصراع التقليدية أو في أدوات الضغط الاقتصادي، بل امتدت بوضوح إلى الفضاء الرقمي، لا سيما بعد تحول البنى التحتية الحيوية -مثل الطاقة، والاتصالات، والقطاع المالي، والنقل، ووسائل الإعلام- إلى أهداف محتملة في حرب غير معلنة لكنها عالية التأثير.
في هذا السياق أكدت الولايات المتحدة في أكثر من مناسبة أن القراصنة المرتبطين بإيران يمتلكون قدرات متقدمة تتيح لهم تنفيذ هجمات سيبرانية قد تُلحق أضرارًا جسيمة بالمنشآت الحيوية الأمريكية وبحلفائها، وفي مقدمتهم إسرائيل. لهذا يُنظر إلى إعلان هذه المكافأة باعتباره إقرارًا أمريكيًا بأن النشاط السيبراني الإيراني تجاوز إطار الاختراقات المحدودة أو الأعطال التقنية، ليُصنف كتهديد مباشر للأمن القومي الأمريكي ولمنظومة الأمن الغربي الأوسع.
خاتمة:
في المحصلة لا شك أن إنشاء إيران وحدة متخصصة للهجوم السيبراني ضمن الهياكل الرسمية لأجهزتها الأمنية، يعني أن طهران لم تعد تتعامل مع الفضاء السيبراني بوصفه مساحة إنكار محتملة فحسب، بل باتت تنظر إليه كجزء أصيل من عقيدتها الدفاعية-الهجومية، على غرار الصواريخ الباليستية والحرب غير المتكافئة.
وتهدف هذه الخطوة إلى ترسيخ حالة دائمة من عدم اليقين، عبر تعطيل متقطع للبنى الحيوية، وممارسة ضغط نفسي متواصل، وبث الشك في قدرة الدولة المستهدفة على الحماية، فضلًا عن إرباك دوائر صنع القرار السياسي. وهذه هي تحديدًا المنطقة الرمادية التي تمنح الحرب السيبرانية فاعليتها العالية وكلفتها المنخفضة مقارنة بأدوات الصراع التقليدي.
في المقابل تحمل الخطوات الأمريكية العقابية ضد إيران رسائل استراتيجية تتجاوز طهران ذاتها، لتشكل دروسًا مباشرة وموجهة إلى الحكومات والدول العربية، أبرزها ضرورة إعادة النظر في مفاهيم حروب المستقبل الذكية، وإعادة ترتيب أولويات السياسات الدفاعية والخارجية، في ظل التحولات العميقة التي تشهدها موازين القوى الإقليمية والدولية.
فالمواجهة لم تعد محصورة في الفولاذ، أو طائرات B-2، أو السفن الحربية، أو الصواريخ الباليستية، أو حتى الأسلحة النووية -على الرغم من استمرار أهميتها- بل باتت تتمحور بصورة متزايدة حول البيانات، والخوارزميات، والبرمجيات، وتدفّقات المعلومات. وبذلك أصبحت مفاتيح النصر أو التعطيل، أكثر من أي وقت مضى، في أيدي المهندسين، وخبراء الأمن الرقمي، والقراصنة.