تُثير الحالة السورية بعد عام على سقوط نظام بشار الأسد سؤالاً نظريًا جوهريًا يتجاوز توصيف الأحداث إلى فهم طبيعة الكيان السياسى نفسه؛ هل ما نشهده هو نموذج لدولة هشة فى طور إعادة البناء؟، أم حالة دولة فقدت مقوماتها الأساسية؟، أم أننا أمام نمط أكثر تعقيدًا يمكن وصفه بدولة تخضع لإدارة خارجية غير مباشرة؟. هذا السؤال ليس أكاديميًا مجردًا، بل يحدد زاوية التحليل، ويؤثر فى فهم مسارات الصراع، وإمكانيات التعافي، وحدود التدخل الإقليمى والدولي.
فى الأدبيات السياسية، تُعرَّف الدولة الهشة بوصفها كيانًا يحتفظ بالإطار القانونى والمؤسساتى للدولة، لكنه يعانى ضعفًا فى القدرة على تقديم الخدمات، وفرض القانون، وبسط السيطرة الكاملة على أراضيه، مع بقاء شرعية السلطة موضع نزاع أو هشاشة.
ميراث معقد من الولاءات المسلحة والتدخلات الإقليمية والاقتصادات الموازية والانقسامات
الحالة السورية بعد الأسد لا تنطبق عليها هذه التصنيفات بشكل خطى أو كامل. فمن ناحية، لا تزال هناك سلطة مركزية فى دمشق، تحظى باعتراف دولى نسبي، وتمارس وظائف شكلية للدولة، وتدير علاقات دبلوماسية، وتوقّع اتفاقات، وتعلن سياسات عامة. من ناحية أخري، لا تملك هذه السلطة سيطرة فعلية على كامل الإقليم، ولا تحتكر العنف، ولا تتحكم فى مواردها الاستراتيجية، ولا تصوغ سياستها الخارجية بمعزل عن الإملاءات الإقليمية والدولية.
الأقرب توصيفًا هو أن سوريا مهددة، حيث لا يتم الانتهاك عبر إسقاط الدولة رسميًا، بل عبر تفريغها من مضمونها الوظيفي. فى هذا النموذج، تستمر الدولة ككيان قانوني، بينما تُدار الجغرافيا فعليًا من قبل قوى متعددة: إسرائيل فى الجنوب، تركيا فى الشمال، وقوات سوريا الديمقراطية بدعم أمريكى فى الشرق، مع حضور دولى متراجع لكنه مؤثر لروسيا، وتحوّل الدولة المركزية إلى وسيط إدارى أكثر منها سلطة سيادية.
هذا السياق يسمح بفهم المفارقة الأساسية فى سوريا ما بعد الأسد؛ انتقالها من دولة استبدادية قوية مركزيًا إلى كيان سياسى ضعيف خارجيًا، لا يملك القدرة على إعادة إنتاج سلطته دون دعم أو قبول القوى المتدخلة. كما يفسر لماذا لم يؤدِّ سقوط النظام إلى استعادة الدولة، بل إلى إعادة توزيع السيطرة على أسس طائفية ومناطقية وجيوسياسية، ما جعل الصراع ينتقل من كونه صراعًا على السلطة إلى صراع على شكل الدولة نفسها.
انطلاقًا من هذا الإطار، لا يمكن قراءة الاحتفالات بسقوط النظام، ولا إخفاقات الحكومة الجديدة، ولا التدخلات الإقليمية، بوصفها أحداثًا منفصلة، بل كأعراض لبنية دولة لم تُمنح فرصة إعادة التأسيس الوطني، بل جرى إدخالها سريعًا فى شبكة توازنات خارجية. وهو ما يجعل السؤال الحقيقى ليس: هل ستتعافى سوريا؟ بل: أى نوع من الدول يُسمح لسوريا بأن تكون فى النظام الإقليمى والدولى الجديد؟
لا تُقرأ الإنجازات أو الإخفاقات بوصفها أحداثًا منفصلة.. بل كمؤشرات على طبيعة الدولة
فى هذا السياق، يصبح تقييم السنة الأولى بعد سقوط نظام بشار الأسد اختبارًا عمليًا، لا مجرد رصد لإنجازات أو إخفاقات حكومة انتقالية. فالاحتفالات الرسمية، والخطاب السياسى الجديد، ومحاولات تقديم صورة قطيعة مع الماضي، لا يمكن فصلها عن البنية العميقة التى تشكّل واقع الحكم على الأرض. ما بدا فى ديسمبر 2025 لحظة تحرر وطيّ صفحة الاستبداد، سرعان ما اصطدم بواقع دولة لم ترث فقط خراب الحرب، بل ورثت أيضًا شبكة معقدة من الولاءات المسلحة، والتدخلات الإقليمية، والاقتصادات الموازية، والانقسامات الاجتماعية التى تجعل من استعادة الدولة عملية سياسية وأمنية ممتدة، لا حدثًا آنيًا. من هنا، فإن تحليل مسارات العام الأول لا ينطلق من سؤال اماذا حققت السلطة الجديدة؟ب، بقدر ما ينطلق من سؤال أعمق يتعلق بقدرتها الفعلية على التحول من كيان حاكم إلى دولة حاكمة، ومن سلطة ناتجة عن توازنات القوة إلى مشروع سيادى جامع. هذه المقاربة هى التى تحكم قراءة الإنجازات المحدودة، والإخفاقات البنيوية، وتصاعد الصراعات الإقليمية، باعتبارها حلقات فى مسار إعادة تشكيل سوريا، لا استثناءات ظرفية فى مرحلة انتقالية قصيرة.
معدلات نمو لا تتجاوز ١٪ وتضخم يزيد على ٥٤٪ وخسارة أكثر من ٠٧٪ من قيمة العملة
من الفصيل إلى السلطة.. أزمة التحول وبناء الشرعية
أحد أبرز التحديات التى واجهت سوريا بعد سقوط النظام تمثل فى عجز القوة التى وصلت إلى الحكم عن التحول من فاعل من دون الدولة عسكريبفصائلي، إلى دولة حديثة ذات شرعية جامعة. فقد استندت السلطة الجديدة فى بدايتها إلى ما يمكن وصفه بالشرعية الثورية، أى شرعية إسقاط النظام بالقوة، وهى شرعية مؤقتة بطبيعتها، لا تكفى لإدارة مجتمع متعدد ومعقد مثل المجتمع السوري.
حتى نهاية عام 2025، لم تُجرَ انتخابات عامة، ولم يُطرح دستور دائم للاستفتاء الشعبي، ولم تُطلق عملية سياسية شاملة تتيح تمثيلاً حقيقيًا لمختلف المكونات الاجتماعية والطائفية والعرقية. ظل القرار السياسى والأمنى متمركزًا فى دائرة ضيقة مرتبطة بالرئيس الشرع، فيما غابت المؤسسات المنتخبة وآليات الرقابة والمساءلة. هذا الواقع خلق فجوة متزايدة بين السلطة الجديدة وشرائح واسعة من السوريين، خصوصًا فى المناطق التى لم تكن تاريخيًا جزءًا من الحاضنة الاجتماعية لهيئة تحرير الشام، مثل الساحل السورى ومحافظة السويداء وأجزاء واسعة من الشرق.
على المستوى المؤسسي، ورغم الإعلان عن حكومة انتقالية، بقيت مراكز القوة الفعلية ذات طابع أمنى واضح. الأجهزة التى حلت محل أجهزة النظام السابق أُعيد تشكيلها بسرعة، لكن دون إطار قانونى ناظم أو إشراف مدنى حقيقي، ما أعاد إنتاج نمط الدولة الأمنية، وإن بمرجعية مختلفة. هذا النمط انعكس فى طريقة التعامل مع الاحتجاجات المحلية والملفات الحساسة، حيث طغى منطق الضبط والقوة على منطق السياسة والتسوية وبناء الثقة.
العام الأول للحكم الجديد يمثّل اختبارًا مباشرًا لقدرة هذه الدولة على استعادة وظائفها الأساسية، لا مجرد تبديل الواجهة السياسية. فالدولة، وفق هذا الفهم، لا تُقاس بخطابات النصر ولا بمشاهد الاحتفال، بل بقدرتها على فرض القانون، وضبط العنف، وإدارة الموارد، وصياغة سياسة خارجية مستقلة نسبيًا، وبناء عقد اجتماعى يعيد دمج مجتمع مُنهك بفعل الحرب والانقسام.
انطلاقًا من هذا المنظور، تبدو مظاهر االتحررب التى شهدتها المدن السورية فى الذكرى الأولى لسقوط النظام السابق تعبيرًا عن قطيعة رمزية أكثر منها تحولاً بنيويًا. ليظل السؤال الجوهرى معلقًا: هل انتقلت سوريا من حكم استبدادى مركزى إلى دولة قادرة على احتواء تنوعها وضبط جغرافيتها، أم انتقلت فقط من سلطة إلى سلطات متعددة تتقاسم المجال العام؟
هذا السؤال يكتسب أهميته من التناقض بين الشكل والمضمون فى التجربة الجديدة. فمن حيث الشكل، توجد حكومة مركزية، ومؤسسات اسمية، واعتراف دولى نسبي، وحراك دبلوماسى نشط. أما من حيث المضمون، فتتوزع السيطرة الفعلية على الأرض، وتُدار قطاعات اقتصادية كاملة خارج سلطة الدولة، ويُمارَس العنف من قبل فاعلين غير خاضعين لمساءلة مركزية، فيما تُتخذ قرارات سيادية كبرى فى ظل قيود إقليمية واضحة. بهذا المعني، فإن العام الأول لم يشهد استعادة الدولة، بل كشف حدودها الفعلية، وحدود قدرتها على التحول من كيان سياسى معترف به إلى سلطة سيادية مكتملة.
ومن هنا، لا تُقرأ الإنجازات المعلنة أو الإخفاقات الظاهرة بوصفها أحداثًا منفصلة، بل كمؤشرات على طبيعة الدولة التى تتشكل. فبطء المصالحة، وهشاشة الأمن، وتعثر الاقتصاد، وتنامى التدخلات الإقليمية، ليست عثرات انتقالية عادية، بل نتائج منطقية لدولة لم تُحسم علاقتها بالأرض والسلاح والقرار.
حصيلة عام.. إنجازات رمزية وحدود الواقع الصلب
لا يمكن إنكار أن السنة الأولى بعد سقوط الأسد شهدت بعض الخطوات ذات الدلالة الإنسانية والسياسية، لكنها بقيت محدودة فى أثرها، وهشة فى بنيتها، وغير قادرة على إحداث تحول بنيوي. أبرز هذه الخطوات تمثل فى الإفراج عن نحو ثمانية عشر ألف معتقل، معظمهم من معتقلى النظام السابق، وإغلاق عدد من السجون سيئة السمعة. هذه الإجراءات شكّلت لحظة إنسانية مؤثرة لعائلات كثيرة، لكنها لم تترافق مع مسار عدالة انتقالية شامل، إذ لم تُفتح ملفات المفقودين على نحو جدي، ولم يُكشف أرشيف الأجهزة الأمنية، ولم تُنشأ هيئة مستقلة للحقيقة والمساءلة. بذلك، بقيت العدالة انتقائية، ومحصورة فى مرحلة دون أخري، ما أضعف الثقة فى جدية القطيعة مع الماضي.
ملف عودة اللاجئين شكّل بدوره محورًا أساسيًا فى خطاب السلطة الجديدة. فبحسب تقديرات أممية، عاد خلال عام 2025 نحو 1.2 مليون لاجئ من الخارج، إضافة إلى قرابة 1.9 مليون نازح داخلي. غير أن هذه الأرقام الكبيرة تخفى واقعًا بالغ الصعوبة، إذ وجد معظم العائدين أنفسهم أمام مدن مدمرة، وبنية تحتية شبه منهارة، ونقص حاد فى الخدمات الأساسية. أقل من ثلث العائدين تمكنوا من السكن فى منازل صالحة، وأكثر من ستين فى المئة منهم يفتقرون إلى مصدر دخل ثابت، فيما عجزت الخدمات الصحية والتعليمية عن تغطية سوى أقل من نصف الاحتياجات الفعلية.
المجتمع السورى.. جراح الحرب وفشل المصالحة الوطنية
عودة اللاجئين خلال السنة الأولى كشفت الواقع المظلم.. مدن مدمرة وبنية تحتية منهارة ونقص حاد فى الخدمات الاساسية
على المستوى الاجتماعي، كشفت السنة الأولى بعد سقوط النظام عن فشل خطير فى إدارة التنوع السورى وتحويل مرحلة ما بعد الحرب إلى مشروع وطنى جامع. مثّلت أحداث الساحل السورى فى مارس 2025 أخطر اختبار لهذا الفشل، حين تحولت حالة الانفلات الأمنى إلى موجات عنف انتقامى أودت بحياة ما بين ستة وتسعة آلاف مدني، معظمهم من الطائفة العلوية، وتسببت فى تهجير عشرات القري. غياب تحقيق مستقل وشفاف، وتأخر المحاسبة، عززا شعورًا عميقًا لدى قطاعات واسعة من السوريين بأن الدولة الجديدة غير قادرة، أو غير راغبة، فى حماية جميع مواطنيها على قدم المساواة.
فى محافظة السويداء، اتخذت الأزمة طابعًا مختلفًا لكنه لا يقل خطورة. خلال صيف 2025، قُتل أكثر من ثمانمائة شخص فى اشتباكات متفرقة، وسط شعور متزايد لدى الدروز بالتهميش وغياب الحماية. التدخل الإسرائيلى المباشر تحت شعار حماية الدروز شكّل سابقة خطيرة، إذ فتح الباب أمام تدويل الحماية الطائفية، وأضعف مفهوم الدولة المركزية، ورسّخ منطق اللجوء إلى الخارج بدل الثقة بالمؤسسات الوطنية.
هذا إلى جانب، تصاعد خطاب دينى محافظ فى بعض المناطق، دفع كثيرين إلى مواصلة الهجرة، فى ظل شعور بأن الدولة الجديدة لم تقدّم تصورًا جادًا لسوريا بوصفها دولة مواطنة متساوية.
الاقتصاد.. دولة بلا تعافٍ واقتصاد يعيش على الإغاثة
اقتصاديًا، ورثت الحكومة الجديدة بلدًا مدمّرًا، لكنها لم تتمكن خلال عامها الأول من الانتقال من إدارة الانهيار إلى مسار التعافي. تقديرات تكلفة إعادة الإعمار، التى تتراوح بين 216 و400 مليار دولار، تكشف حجم الفجوة بين الاحتياجات والقدرات. الاستثمارات التى دخلت البلاد خلال عام 2025 بقيت محدودة، ومتركزة فى قطاعات خدمية سريعة العائد، أو مرتبطة بنفوذ خارجى مباشر، دون أثر تنموى واسع.
تعكس المؤشرات الكلية حالة اختناق مزمنة. معدل النمو لم يتجاوز واحدًا فى المئة، فى حين تجاوز التضخم خمسة وأربعين فى المئة، وفقدت العملة المحلية أكثر من سبعين فى المئة من قيمتها خلال عام واحد. متوسط الدخل الشهرى فى كثير من المناطق لا يتجاوز ما يعادل خمسين دولارًا، فى وقت ارتفعت فيه أسعار الغذاء والطاقة بشكل حاد. البطالة، التى تتراوح بين خمسين وخمسة وخمسين فى المئة، وترتفع بين الشباب إلى مستويات أعلي، جعلت من عودة الملايين من اللاجئين والنازحين عبئًا إضافيًا على سوق العمل والخدمات.
أكثر من ستة عشر مليون سورى يعتمدون اليوم على المساعدات الإنسانية لتلبية احتياجاتهم الأساسية، ما يحوّل الدولة عمليًا إلى كيان يدير الإغاثة بدل التنمية. غياب إصلاحات هيكلية فى النظام الضريبى والمصرفى والإداري، واستمرار شبكات الفساد والمحسوبية، يبددان أى أمل فى تعافٍ اقتصادى مستقل فى المدى المنظور.
تعميق الصراع الإقليمي.. سوريا كساحة مفتوحة لإعادة ترسيم النفوذ
ما يميز المرحلة التى تلت سقوط نظام بشار الأسد ليس فقط تعدد الفاعلين الإقليميين والدوليين على الأرض السورية، بل غياب أى إطار سيادى جامع قادر على ضبط هذا التعدد أو تحويله إلى علاقات دولة بدولة. سوريا فى عامها الأول بعد الأسد لم تتحول إلى دولة خارجة من نزاع، بل إلى ساحة مفتوحة لإعادة توزيع النفوذ، حيث يتعامل كل طرف خارجى مع جزء من الجغرافيا السورية بوصفه مجالاً حيويًا خاصًا، لا جزءًا من دولة ذات سيادة.
هذا الواقع لا يمكن فهمه بوصفه نتيجة ضعف الحكومة الجديدة فقط، بل بوصفه تعبيرًا عن طبيعة النظام الإقليمى نفسه، الذى ينظر إلى سوريا باعتبارها فراغًا استراتيجيًا يجب ملؤه، لا دولة يجب دعمها لاستعادة تماسكها.
بعد سقوط نظام بشار الأسد، دخلت إسرائيل مرحلة جديدة كليًا فى تعاملها مع الساحة السورية، تجاوزت فيها منطق الضربات الجوية الوقائية إلى فرض حضور ميدانى مباشر، مستفيدة من انهيار الدولة المركزية، وضعف السلطة الجديدة، وغياب أى قدرة سورية فعلية على الردع أو المبادرة. خلال عام 2025، كثّفت إسرائيل عملياتها العسكرية فى الجنوب السوري، ولم تعد هذه العمليات محصورة فى استهداف مواقع أو شحنات سلاح، بل امتدت لتشمل توغلات برية، وإنشاء نقاط مراقبة ثابتة، وفرض ترتيبات أمنية دائمة فى مناطق من القنيطرة وريف درعا الغربي.
هذا التمدد الميدانى شكّل فى جوهره احتلالاً فعليًا لأجزاء من الأراضى السورية، حتى وإن لم يُعلن رسميًا. الاحتلال هنا لم يتخذ الشكل الكلاسيكى لوجود عسكرى واسع، بل جاء فى صورة سيطرة أمنية متدرجة، تفرض أمرًا واقعًا جديدًا، وتمنع عودة الدولة السورية إلى هذه المناطق. إسرائيل برّرت هذا السلوك بخطاب مزدوج، بدأ بمنع تهديدات محتملة على حدودها الشمالية، ثم تطور إلى خطاب احماية الأقلياتب، خاصة بعد أحداث السويداء، حيث قُدّم التدخل الإسرائيلى بوصفه ضرورة أخلاقية وأمنية فى آن واحد.
الأخطر فى هذا المسار فقدان الدولة السورية السيطرة على جزء من أراضيها، فقد شرعت إسرائيل فى بناء قنوات اتصال مباشرة مع فاعلين محليين فى الجنوب، من قيادات اجتماعية إلى مجموعات مسلحة، متجاوزة الدولة السورية كليًا. هذا النمط من التعامل أعاد إنتاج نموذج االحزام الأمنيب الذى استخدمته إسرائيل سابقًا فى جنوب لبنان، حيث يُدار الأمن المحلى عبر وكلاء محليين مقابل خدمات اقتصادية وطبية وغذائية.
بهذا الشكل، تحوّل الجنوب السورى إلى منطقة عازلة غير معلنة، تُدار بمنطق الاستقرار الأمنى الإسرائيلي، لا بمنطق السيادة السورية.ت
من جهة أخري، نجد أن النفوذ التركى فى الشمال السورى قد اتخذ مسارًا مختلفًا فى الشكل، لكنه لا يقل خطورة فتركيا.
خلال العام الأول بعد سقوط الأسد، أصبحت المناطق الشمالية السورية مرتبطة عضويًا بتركيا. الليرة التركية تحولت إلى العملة الرئيسية، النظام التعليمى خضع لمناهج معدّلة بإشراف تركي، القطاع الصحى بات يعتمد على دعم وإدارة من الولايات الحدودية التركية، والمعابر الحدودية أُديرت بما يخدم المصالح الاقتصادية التركية بالدرجة الأولي. هذا الواقع أسس لاقتصاد موازٍ، منفصل فعليًا عن بقية الاقتصاد السوري، وأضعف أى إمكانية لبناء سوق وطنية موحدة.
إلى جانب النفوذين الإسرائيلى والتركي، تمثل قوات سوريا الديمقراطية أحد أهم عناصر تعقيد المشهد السورى بعد سقوط نظام الأسد، ليس فقط بوصفها قوة عسكرية مسيطرة على مساحة واسعة من شرق وشمال شرق البلاد، بل بوصفها مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا موازياً للدولة المركزية. فخلال العام الأول بعد سقوط النظام، لم تتجه اقسدب إلى الاندماج الفعلى فى بنية الدولة الجديدة، بل عززت من مؤسساتها الذاتية، مستندة إلى دعم أمريكى مباشر، وشرعية الأمر الواقع، وسيطرتها على أهم موارد سوريا الاستراتيجية.
اقسدب تسيطر على مناطق تحتوى على ما يزيد على 70 فى المائة من الثروات النفطية والغازية، إضافة إلى مساحات زراعية تمثل سلة غذاء رئيسية للبلاد. هذا الواقع منحها قوة تفاوضية كبيرة فى مواجهة دمشق، لكنه فى الوقت ذاته عمّق الانقسام الاقتصادي، حيث بقيت الحكومة المركزية محرومة من موارد حيوية، واضطرت إلى الاعتماد على المساعدات الخارجية لتأمين احتياجات أساسية.
سياسيًا، طرحت اقسدب نموذج االإدارة الذاتيةب بوصفه بديلاً عن الدولة المركزية، مؤكدة التزامها بوحدة سوريا شكليًا، لكنها عمليًا تصرفت ككيان شبه مستقل، يمتلك قواته الأمنية، ونظامه الإداري، وعلاقاته الخارجية غير المباشرة. المفاوضات بينها وبين حكومة أحمد الشرع تعثرت مرارًا خلال 2025، نتيجة خلافات حول تقاسم السلطة والثروة، وطبيعة النظام السياسي، ومستقبل القوات المسلحة.
الدور الأمريكى كان حاسمًا فى تثبيت هذا الواقع. فالوجود العسكرى الأمريكى فى شرق سوريا، بحجة مكافحة الإرهاب وضمان الاستقرار، وفّر مظلة حماية لـ اقسدب، ومنع أى محاولة جدية لفرض حل عسكرى أو سياسى سريع. هذا الوجود، وإن لم يُترجم إلى اعتراف بدولة مستقلة، إلا أنه جعل من مشروع الحكم الذاتى أمرًا واقعًا يصعب تجاوزه.
إشكالية اقسدب لا تتوقف عند علاقتها بدمشق، بل تمتد إلى صراعها المفتوح مع تركيا، التى تنظر إليها بوصفها تهديدًا وجوديًا لأمنها القومي. هذا الصراع جعل مناطق شرق الفرات ساحة لتوازنات دقيقة بين واشنطن وأنقرة، على حساب السيادة السورية، حيث تُدار المنطقة وفق تفاهمات دولية، لا وفق قرار وطنى جامع.
عجز القانون الدولي، وسيناريوهات المستقبل
من منظور القانون الدولي، تبدو الحالة السورية مثالاً صارخًا على الفجوة بين النص القانونى والواقع السياسي. ميثاق الأمم المتحدة يجرّم بوضوح احتلال أراضى الغير بالقوة، ويرفض أى مساس بوحدة الدول وسلامة أراضيها. بناءً على ذلك، فإن الاحتلال الإسرائيلى لأراضٍ سورية يظل غير مشروع قانونًا، مهما اختلفت الذرائع الأمنية أو الإنسانية، ولا تسقط عدم شرعيته بتغير النظام أو ضعف الدولة. كذلك، فإن الوجود العسكرى الأجنبى طويل الأمد، سواء كان تركيًا أو أمريكيًا، دون تفويض أممى صريح أو موافقة سيادية مكتملة، يضع سوريا فى حالة اسيادة منقوصةب، تتحكم فيها موازين القوة لا قواعد القانون.
غير أن الأزمة لا تكمن فى غياب القواعد، بل فى غياب الإرادة الدولية لتطبيقها. فالنظام الدولي، المنهمك بصراعات كبري، اكتفى بإدارة الأزمة السورية إنسانيًا، وترك جوهرها السياسى والسيادى رهينة لتوازنات إقليمية. وبهذا، تحولت سوريا من دولة عضو فى المجتمع الدولى إلى ساحة اختبار لانهيار النظام الدولى نفسه، حيث تُفرض الوقائع بالقوة، ثم يُبحث لها عن تبريرات لاحقة.
فى ضوء هذا الواقع، يمكن استشراف أربعة سيناريوهات محتملة لمستقبل سوريا. السيناريو الأول يتمثل فى تثبيت واقع التقسيم غير المعلن، مع بقاء سوريا موحدة شكليًا، لكنها مجزأة فعليًا إلى مناطق نفوذ: جنوب خاضع لترتيبات إسرائيلية، شمال مرتبط بتركيا، شرق تحت إدارة قسد بحماية أمريكية، ووسط ضعيف بيد حكومة محدودة الصلاحيات. هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا على المدى القصير.
السيناريو الثانى يقوم على انفجار داخلى جديد، نتيجة تراكم المظالم الطائفية والاجتماعية، وفشل العدالة الانتقالية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، ما قد يعيد البلاد إلى دائرة العنف والفوضي، لكن فى سياق أكثر تعقيدًا وخطورة.
السيناريو الثالث يفترض إعادة تفاهم إقليميبدولى شامل، يفرض تسوية سياسية تُعيد توحيد الدولة تدريجيًا، مقابل ضمانات أمنية للقوى المتدخلة، وهو سيناريو ممكن نظريًا، لكنه يصطدم بتضارب المصالح الإقليمية، وغياب مشروع وطنى سورى جامع قادر على التفاوض من موقع قوة.
أما السيناريو الرابع، وهو الأكثر طموحًا والأقل احتمالاً فى المدى المنظور، فيتمثل فى نشوء عقد اجتماعى سورى جديد، يعيد تعريف الدولة على أساس المواطنة، ويكسر منطق الطائفية والفصائل، ويستعيد السيادة تدريجيًا عبر بناء مؤسسات شرعية، واقتصاد إنتاجي، وعدالة انتقالية شاملة. هذا السيناريو يتطلب تحولاً جذريًا فى بنية السلطة الحالية، وفى وعى النخب، وفى مقاربة المجتمع الدولى للأزمة السورية.
نقلا عن جريدة الجمهورية، الجمعة 19 ديسمبر 2025.