سوريا تدخل مرحلة "الخطر".. تستمر ككيان قانونى لكن تدار من قوى متعددة
19-12-2025

أحمد ناجي قمحة
* رئيس تحرير مجلتى السياسة الدولية والديمقراطية

تُثير الحالة‭ ‬السورية‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬على‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬بشار‭ ‬الأسد‭ ‬سؤالاً‭ ‬نظريًا‭ ‬جوهريًا‭ ‬يتجاوز‭ ‬توصيف‭ ‬الأحداث‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬طبيعة‭ ‬الكيان‭ ‬السياسى‭ ‬نفسه؛‭ ‬هل‭ ‬ما‭ ‬نشهده‭ ‬هو‭ ‬نموذج‭ ‬لدولة‭ ‬هشة‭ ‬فى‭ ‬طور‭ ‬إعادة‭ ‬البناء؟،‭ ‬أم‭ ‬حالة‭ ‬دولة‭ ‬فقدت‭ ‬مقوماتها‭ ‬الأساسية؟،‭ ‬أم‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬نمط‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدًا‭ ‬يمكن‭ ‬وصفه‭ ‬بدولة‭ ‬تخضع‭ ‬لإدارة‭ ‬خارجية‭ ‬غير‭ ‬مباشرة؟‭. ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬ليس‭ ‬أكاديميًا‭ ‬مجردًا،‭ ‬بل‭ ‬يحدد‭ ‬زاوية‭ ‬التحليل،‭ ‬ويؤثر‭ ‬فى‭ ‬فهم‭ ‬مسارات‭ ‬الصراع،‭ ‬وإمكانيات‭ ‬التعافي،‭ ‬وحدود‭ ‬التدخل‭ ‬الإقليمى‭ ‬والدولي‭.‬
فى‭ ‬الأدبيات‭ ‬السياسية،‭ ‬تُعرَّف‭ ‬الدولة‭ ‬الهشة‭ ‬بوصفها‭ ‬كيانًا‭ ‬يحتفظ‭ ‬بالإطار‭ ‬القانونى‭ ‬والمؤسساتى‭ ‬للدولة،‭ ‬لكنه‭ ‬يعانى‭ ‬ضعفًا‭ ‬فى‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬الخدمات،‭ ‬وفرض‭ ‬القانون،‭ ‬وبسط‭ ‬السيطرة‭ ‬الكاملة‭ ‬على‭ ‬أراضيه،‭ ‬مع‭ ‬بقاء‭ ‬شرعية‭ ‬السلطة‭ ‬موضع‭ ‬نزاع‭ ‬أو‭ ‬هشاشة‭. ‬

ميراث‭ ‬معقد‭ ‬من‭ ‬الولاءات‭ ‬المسلحة‭ ‬والتدخلات‭ ‬الإقليمية‭ ‬والاقتصادات‭ ‬الموازية‭ ‬والانقسامات‭ ‬

الحالة‭ ‬السورية‭ ‬بعد‭ ‬الأسد‭ ‬لا‭ ‬تنطبق‭ ‬عليها‭ ‬هذه‭ ‬التصنيفات‭ ‬بشكل‭ ‬خطى‭ ‬أو‭ ‬كامل‭. ‬فمن‭ ‬ناحية،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬هناك‭ ‬سلطة‭ ‬مركزية‭ ‬فى‭ ‬دمشق،‭ ‬تحظى‭ ‬باعتراف‭ ‬دولى‭ ‬نسبي،‭ ‬وتمارس‭ ‬وظائف‭ ‬شكلية‭ ‬للدولة،‭ ‬وتدير‭ ‬علاقات‭ ‬دبلوماسية،‭ ‬وتوقّع‭ ‬اتفاقات،‭ ‬وتعلن‭ ‬سياسات‭ ‬عامة‭. ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخري،‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬هذه‭ ‬السلطة‭ ‬سيطرة‭ ‬فعلية‭ ‬على‭ ‬كامل‭ ‬الإقليم،‭ ‬ولا‭ ‬تحتكر‭ ‬العنف،‭ ‬ولا‭ ‬تتحكم‭ ‬فى‭ ‬مواردها‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬ولا‭ ‬تصوغ‭ ‬سياستها‭ ‬الخارجية‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬الإملاءات‭ ‬الإقليمية‭ ‬والدولية‭. ‬
الأقرب‭ ‬توصيفًا‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬سوريا‭ ‬مهددة،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬الانتهاك‭ ‬عبر‭ ‬إسقاط‭ ‬الدولة‭ ‬رسميًا،‭ ‬بل‭ ‬عبر‭ ‬تفريغها‭ ‬من‭ ‬مضمونها‭ ‬الوظيفي‭. ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬النموذج،‭ ‬تستمر‭ ‬الدولة‭ ‬ككيان‭ ‬قانوني،‭ ‬بينما‭ ‬تُدار‭ ‬الجغرافيا‭ ‬فعليًا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬قوى‭ ‬متعددة‭: ‬إسرائيل‭ ‬فى‭ ‬الجنوب،‭ ‬تركيا‭ ‬فى‭ ‬الشمال،‭ ‬وقوات‭ ‬سوريا‭ ‬الديمقراطية‭ ‬بدعم‭ ‬أمريكى‭ ‬فى‭ ‬الشرق،‭ ‬مع‭ ‬حضور‭ ‬دولى‭ ‬متراجع‭ ‬لكنه‭ ‬مؤثر‭ ‬لروسيا،‭ ‬وتحوّل‭ ‬الدولة‭ ‬المركزية‭ ‬إلى‭ ‬وسيط‭ ‬إدارى‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬سلطة‭ ‬سيادية‭.‬
هذا‭ ‬السياق‭ ‬يسمح‭ ‬بفهم‭ ‬المفارقة‭ ‬الأساسية‭ ‬فى‭ ‬سوريا‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الأسد؛‭ ‬انتقالها‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬استبدادية‭ ‬قوية‭ ‬مركزيًا‭ ‬إلى‭ ‬كيان‭ ‬سياسى‭ ‬ضعيف‭ ‬خارجيًا،‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬سلطته‭ ‬دون‭ ‬دعم‭ ‬أو‭ ‬قبول‭ ‬القوى‭ ‬المتدخلة‭. ‬كما‭ ‬يفسر‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬يؤدِّ‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭ ‬إلى‭ ‬استعادة‭ ‬الدولة،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬توزيع‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬طائفية‭ ‬ومناطقية‭ ‬وجيوسياسية،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬الصراع‭ ‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬صراعًا‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬الدولة‭ ‬نفسها‭.‬
انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬قراءة‭ ‬الاحتفالات‭ ‬بسقوط‭ ‬النظام،‭ ‬ولا‭ ‬إخفاقات‭ ‬الحكومة‭ ‬الجديدة،‭ ‬ولا‭ ‬التدخلات‭ ‬الإقليمية،‭ ‬بوصفها‭ ‬أحداثًا‭ ‬منفصلة،‭ ‬بل‭ ‬كأعراض‭ ‬لبنية‭ ‬دولة‭ ‬لم‭ ‬تُمنح‭ ‬فرصة‭ ‬إعادة‭ ‬التأسيس‭ ‬الوطني،‭ ‬بل‭ ‬جرى‭ ‬إدخالها‭ ‬سريعًا‭ ‬فى‭ ‬شبكة‭ ‬توازنات‭ ‬خارجية‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬السؤال‭ ‬الحقيقى‭ ‬ليس‭: ‬هل‭ ‬ستتعافى‭ ‬سوريا؟‭ ‬بل‭: ‬أى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬يُسمح‭ ‬لسوريا‭ ‬بأن‭ ‬تكون‭ ‬فى‭ ‬النظام‭ ‬الإقليمى‭ ‬والدولى‭ ‬الجديد؟

‭ ‬لا‭ ‬تُقرأ‭ ‬الإنجازات‭ ‬أو‭ ‬الإخفاقات‭ ‬بوصفها‭ ‬أحداثًا‭ ‬منفصلة‭..‬‭ ‬بل‭ ‬كمؤشرات‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬الدولة

فى‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬يصبح‭ ‬تقييم‭ ‬السنة‭ ‬الأولى‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬بشار‭ ‬الأسد‭ ‬اختبارًا‭ ‬عمليًا،‭ ‬لا‭ ‬مجرد‭ ‬رصد‭ ‬لإنجازات‭ ‬أو‭ ‬إخفاقات‭ ‬حكومة‭ ‬انتقالية‭. ‬فالاحتفالات‭ ‬الرسمية،‭ ‬والخطاب‭ ‬السياسى‭ ‬الجديد،‭ ‬ومحاولات‭ ‬تقديم‭ ‬صورة‭ ‬قطيعة‭ ‬مع‭ ‬الماضي،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فصلها‭ ‬عن‭ ‬البنية‭ ‬العميقة‭ ‬التى‭ ‬تشكّل‭ ‬واقع‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬الأرض‭. ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬فى‭ ‬ديسمبر‭ ‬2025‭ ‬لحظة‭ ‬تحرر‭ ‬وطيّ‭ ‬صفحة‭ ‬الاستبداد،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬اصطدم‭ ‬بواقع‭ ‬دولة‭ ‬لم‭ ‬ترث‭ ‬فقط‭ ‬خراب‭ ‬الحرب،‭ ‬بل‭ ‬ورثت‭ ‬أيضًا‭ ‬شبكة‭ ‬معقدة‭ ‬من‭ ‬الولاءات‭ ‬المسلحة،‭ ‬والتدخلات‭ ‬الإقليمية،‭ ‬والاقتصادات‭ ‬الموازية،‭ ‬والانقسامات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التى‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬استعادة‭ ‬الدولة‭ ‬عملية‭ ‬سياسية‭ ‬وأمنية‭ ‬ممتدة،‭ ‬لا‭ ‬حدثًا‭ ‬آنيًا‭. ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬فإن‭ ‬تحليل‭ ‬مسارات‭ ‬العام‭ ‬الأول‭ ‬لا‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬سؤال‭ ‬اماذا‭ ‬حققت‭ ‬السلطة‭ ‬الجديدة؟ب،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬سؤال‭ ‬أعمق‭ ‬يتعلق‭ ‬بقدرتها‭ ‬الفعلية‭ ‬على‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬كيان‭ ‬حاكم‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬حاكمة،‭ ‬ومن‭ ‬سلطة‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬توازنات‭ ‬القوة‭ ‬إلى‭ ‬مشروع‭ ‬سيادى‭ ‬جامع‭. ‬هذه‭ ‬المقاربة‭ ‬هى‭ ‬التى‭ ‬تحكم‭ ‬قراءة‭ ‬الإنجازات‭ ‬المحدودة،‭ ‬والإخفاقات‭ ‬البنيوية،‭ ‬وتصاعد‭ ‬الصراعات‭ ‬الإقليمية،‭ ‬باعتبارها‭ ‬حلقات‭ ‬فى‭ ‬مسار‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬سوريا،‭ ‬لا‭ ‬استثناءات‭ ‬ظرفية‭ ‬فى‭ ‬مرحلة‭ ‬انتقالية‭ ‬قصيرة‭.‬
معدلات‭ ‬نمو‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬١٪‭ ‬وتضخم‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬٥٤٪‭ ‬وخسارة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬٠٧٪‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬العملة‭ ‬

من‭ ‬الفصيل‭ ‬إلى‭ ‬السلطة‭.. ‬أزمة‭ ‬التحول‭ ‬وبناء‭ ‬الشرعية
أحد‭ ‬أبرز‭ ‬التحديات‭ ‬التى‭ ‬واجهت‭ ‬سوريا‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭ ‬تمثل‭ ‬فى‭ ‬عجز‭ ‬القوة‭ ‬التى‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬عن‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬فاعل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الدولة‭ ‬عسكريبفصائلي،‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬حديثة‭ ‬ذات‭ ‬شرعية‭ ‬جامعة‭. ‬فقد‭ ‬استندت‭ ‬السلطة‭ ‬الجديدة‭ ‬فى‭ ‬بدايتها‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬وصفه‭ ‬بالشرعية‭ ‬الثورية،‭ ‬أى‭ ‬شرعية‭ ‬إسقاط‭ ‬النظام‭ ‬بالقوة،‭ ‬وهى‭ ‬شرعية‭ ‬مؤقتة‭ ‬بطبيعتها،‭ ‬لا‭ ‬تكفى‭ ‬لإدارة‭ ‬مجتمع‭ ‬متعدد‭ ‬ومعقد‭ ‬مثل‭ ‬المجتمع‭ ‬السوري‭.‬
حتى‭ ‬نهاية‭ ‬عام‭ ‬2025،‭ ‬لم‭ ‬تُجرَ‭ ‬انتخابات‭ ‬عامة،‭ ‬ولم‭ ‬يُطرح‭ ‬دستور‭ ‬دائم‭ ‬للاستفتاء‭ ‬الشعبي،‭ ‬ولم‭ ‬تُطلق‭ ‬عملية‭ ‬سياسية‭ ‬شاملة‭ ‬تتيح‭ ‬تمثيلاً‭ ‬حقيقيًا‭ ‬لمختلف‭ ‬المكونات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والطائفية‭ ‬والعرقية‭. ‬ظل‭ ‬القرار‭ ‬السياسى‭ ‬والأمنى‭ ‬متمركزًا‭ ‬فى‭ ‬دائرة‭ ‬ضيقة‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالرئيس‭ ‬الشرع،‭ ‬فيما‭ ‬غابت‭ ‬المؤسسات‭ ‬المنتخبة‭ ‬وآليات‭ ‬الرقابة‭ ‬والمساءلة‭. ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬خلق‭ ‬فجوة‭ ‬متزايدة‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬الجديدة‭ ‬وشرائح‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬السوريين،‭ ‬خصوصًا‭ ‬فى‭ ‬المناطق‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تاريخيًا‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الحاضنة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬لهيئة‭ ‬تحرير‭ ‬الشام،‭ ‬مثل‭ ‬الساحل‭ ‬السورى‭ ‬ومحافظة‭ ‬السويداء‭ ‬وأجزاء‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬الشرق‭.‬
على‭ ‬المستوى‭ ‬المؤسسي،‭ ‬ورغم‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬حكومة‭ ‬انتقالية،‭ ‬بقيت‭ ‬مراكز‭ ‬القوة‭ ‬الفعلية‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬أمنى‭ ‬واضح‭. ‬الأجهزة‭ ‬التى‭ ‬حلت‭ ‬محل‭ ‬أجهزة‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬أُعيد‭ ‬تشكيلها‭ ‬بسرعة،‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬إطار‭ ‬قانونى‭ ‬ناظم‭ ‬أو‭ ‬إشراف‭ ‬مدنى‭ ‬حقيقي،‭ ‬ما‭ ‬أعاد‭ ‬إنتاج‭ ‬نمط‭ ‬الدولة‭ ‬الأمنية،‭ ‬وإن‭ ‬بمرجعية‭ ‬مختلفة‭. ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬انعكس‭ ‬فى‭ ‬طريقة‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬المحلية‭ ‬والملفات‭ ‬الحساسة،‭ ‬حيث‭ ‬طغى‭ ‬منطق‭ ‬الضبط‭ ‬والقوة‭ ‬على‭ ‬منطق‭ ‬السياسة‭ ‬والتسوية‭ ‬وبناء‭ ‬الثقة‭.‬
العام‭ ‬الأول‭ ‬للحكم‭ ‬الجديد‭ ‬يمثّل‭ ‬اختبارًا‭ ‬مباشرًا‭ ‬لقدرة‭ ‬هذه‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬استعادة‭ ‬وظائفها‭ ‬الأساسية،‭ ‬لا‭ ‬مجرد‭ ‬تبديل‭ ‬الواجهة‭ ‬السياسية‭. ‬فالدولة،‭ ‬وفق‭ ‬هذا‭ ‬الفهم،‭ ‬لا‭ ‬تُقاس‭ ‬بخطابات‭ ‬النصر‭ ‬ولا‭ ‬بمشاهد‭ ‬الاحتفال،‭ ‬بل‭ ‬بقدرتها‭ ‬على‭ ‬فرض‭ ‬القانون،‭ ‬وضبط‭ ‬العنف،‭ ‬وإدارة‭ ‬الموارد،‭ ‬وصياغة‭ ‬سياسة‭ ‬خارجية‭ ‬مستقلة‭ ‬نسبيًا،‭ ‬وبناء‭ ‬عقد‭ ‬اجتماعى‭ ‬يعيد‭ ‬دمج‭ ‬مجتمع‭ ‬مُنهك‭ ‬بفعل‭ ‬الحرب‭ ‬والانقسام‭.‬
انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنظور،‭ ‬تبدو‭ ‬مظاهر‭ ‬االتحررب‭ ‬التى‭ ‬شهدتها‭ ‬المدن‭ ‬السورية‭ ‬فى‭ ‬الذكرى‭ ‬الأولى‭ ‬لسقوط‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬قطيعة‭ ‬رمزية‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬تحولاً‭ ‬بنيويًا‭. ‬ليظل‭ ‬السؤال‭ ‬الجوهرى‭ ‬معلقًا‭: ‬هل‭ ‬انتقلت‭ ‬سوريا‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬استبدادى‭ ‬مركزى‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬احتواء‭ ‬تنوعها‭ ‬وضبط‭ ‬جغرافيتها،‭ ‬أم‭ ‬انتقلت‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬إلى‭ ‬سلطات‭ ‬متعددة‭ ‬تتقاسم‭ ‬المجال‭ ‬العام؟
هذا‭ ‬السؤال‭ ‬يكتسب‭ ‬أهميته‭ ‬من‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬الشكل‭ ‬والمضمون‭ ‬فى‭ ‬التجربة‭ ‬الجديدة‭. ‬فمن‭ ‬حيث‭ ‬الشكل،‭ ‬توجد‭ ‬حكومة‭ ‬مركزية،‭ ‬ومؤسسات‭ ‬اسمية،‭ ‬واعتراف‭ ‬دولى‭ ‬نسبي،‭ ‬وحراك‭ ‬دبلوماسى‭ ‬نشط‭. ‬أما‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المضمون،‭ ‬فتتوزع‭ ‬السيطرة‭ ‬الفعلية‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬وتُدار‭ ‬قطاعات‭ ‬اقتصادية‭ ‬كاملة‭ ‬خارج‭ ‬سلطة‭ ‬الدولة،‭ ‬ويُمارَس‭ ‬العنف‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬فاعلين‭ ‬غير‭ ‬خاضعين‭ ‬لمساءلة‭ ‬مركزية،‭ ‬فيما‭ ‬تُتخذ‭ ‬قرارات‭ ‬سيادية‭ ‬كبرى‭ ‬فى‭ ‬ظل‭ ‬قيود‭ ‬إقليمية‭ ‬واضحة‭. ‬بهذا‭ ‬المعني،‭ ‬فإن‭ ‬العام‭ ‬الأول‭ ‬لم‭ ‬يشهد‭ ‬استعادة‭ ‬الدولة،‭ ‬بل‭ ‬كشف‭ ‬حدودها‭ ‬الفعلية،‭ ‬وحدود‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬كيان‭ ‬سياسى‭ ‬معترف‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬سلطة‭ ‬سيادية‭ ‬مكتملة‭.‬
ومن‭ ‬هنا،‭ ‬لا‭ ‬تُقرأ‭ ‬الإنجازات‭ ‬المعلنة‭ ‬أو‭ ‬الإخفاقات‭ ‬الظاهرة‭ ‬بوصفها‭ ‬أحداثًا‭ ‬منفصلة،‭ ‬بل‭ ‬كمؤشرات‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬الدولة‭ ‬التى‭ ‬تتشكل‭. ‬فبطء‭ ‬المصالحة،‭ ‬وهشاشة‭ ‬الأمن،‭ ‬وتعثر‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬وتنامى‭ ‬التدخلات‭ ‬الإقليمية،‭ ‬ليست‭ ‬عثرات‭ ‬انتقالية‭ ‬عادية،‭ ‬بل‭ ‬نتائج‭ ‬منطقية‭ ‬لدولة‭ ‬لم‭ ‬تُحسم‭ ‬علاقتها‭ ‬بالأرض‭ ‬والسلاح‭ ‬والقرار‭.‬

حصيلة‭ ‬عام‭.. ‬إنجازات‭ ‬رمزية‭ ‬وحدود‭ ‬الواقع‭ ‬الصلب
لا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكار‭ ‬أن‭ ‬السنة‭ ‬الأولى‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬الأسد‭ ‬شهدت‭ ‬بعض‭ ‬الخطوات‭ ‬ذات‭ ‬الدلالة‭ ‬الإنسانية‭ ‬والسياسية،‭ ‬لكنها‭ ‬بقيت‭ ‬محدودة‭ ‬فى‭ ‬أثرها،‭ ‬وهشة‭ ‬فى‭ ‬بنيتها،‭ ‬وغير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬تحول‭ ‬بنيوي‭. ‬أبرز‭ ‬هذه‭ ‬الخطوات‭ ‬تمثل‭ ‬فى‭ ‬الإفراج‭ ‬عن‭ ‬نحو‭ ‬ثمانية‭ ‬عشر‭ ‬ألف‭ ‬معتقل،‭ ‬معظمهم‭ ‬من‭ ‬معتقلى‭ ‬النظام‭ ‬السابق،‭ ‬وإغلاق‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬السجون‭ ‬سيئة‭ ‬السمعة‭. ‬هذه‭ ‬الإجراءات‭ ‬شكّلت‭ ‬لحظة‭ ‬إنسانية‭ ‬مؤثرة‭ ‬لعائلات‭ ‬كثيرة،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تترافق‭ ‬مع‭ ‬مسار‭ ‬عدالة‭ ‬انتقالية‭ ‬شامل،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تُفتح‭ ‬ملفات‭ ‬المفقودين‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬جدي،‭ ‬ولم‭ ‬يُكشف‭ ‬أرشيف‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية،‭ ‬ولم‭ ‬تُنشأ‭ ‬هيئة‭ ‬مستقلة‭ ‬للحقيقة‭ ‬والمساءلة‭. ‬بذلك،‭ ‬بقيت‭ ‬العدالة‭ ‬انتقائية،‭ ‬ومحصورة‭ ‬فى‭ ‬مرحلة‭ ‬دون‭ ‬أخري،‭ ‬ما‭ ‬أضعف‭ ‬الثقة‭ ‬فى‭ ‬جدية‭ ‬القطيعة‭ ‬مع‭ ‬الماضي‭.‬
ملف‭ ‬عودة‭ ‬اللاجئين‭ ‬شكّل‭ ‬بدوره‭ ‬محورًا‭ ‬أساسيًا‭ ‬فى‭ ‬خطاب‭ ‬السلطة‭ ‬الجديدة‭. ‬فبحسب‭ ‬تقديرات‭ ‬أممية،‭ ‬عاد‭ ‬خلال‭ ‬عام‭ ‬2025‭ ‬نحو‭ ‬1.2‭ ‬مليون‭ ‬لاجئ‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬قرابة‭ ‬1.9‭ ‬مليون‭ ‬نازح‭ ‬داخلي‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأرقام‭ ‬الكبيرة‭ ‬تخفى‭ ‬واقعًا‭ ‬بالغ‭ ‬الصعوبة،‭ ‬إذ‭ ‬وجد‭ ‬معظم‭ ‬العائدين‭ ‬أنفسهم‭ ‬أمام‭ ‬مدن‭ ‬مدمرة،‭ ‬وبنية‭ ‬تحتية‭ ‬شبه‭ ‬منهارة،‭ ‬ونقص‭ ‬حاد‭ ‬فى‭ ‬الخدمات‭ ‬الأساسية‭. ‬أقل‭ ‬من‭ ‬ثلث‭ ‬العائدين‭ ‬تمكنوا‭ ‬من‭ ‬السكن‭ ‬فى‭ ‬منازل‭ ‬صالحة،‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬ستين‭ ‬فى‭ ‬المئة‭ ‬منهم‭ ‬يفتقرون‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬دخل‭ ‬ثابت،‭ ‬فيما‭ ‬عجزت‭ ‬الخدمات‭ ‬الصحية‭ ‬والتعليمية‭ ‬عن‭ ‬تغطية‭ ‬سوى‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬الاحتياجات‭ ‬الفعلية‭.‬

المجتمع‭ ‬السورى‭.. ‬جراح‭ ‬الحرب‭ ‬وفشل‭ ‬المصالحة‭ ‬الوطنية

عودة‭ ‬اللاجئين‭ ‬خلال‭ ‬السنة‭ ‬الأولى‭ ‬كشفت‭ ‬الواقع‭ ‬المظلم‭.. ‬مدن‭ ‬مدمرة‭ ‬وبنية‭ ‬تحتية‭ ‬منهارة‭ ‬ونقص‭ ‬حاد‭ ‬فى‭ ‬الخدمات‭ ‬الاساسية‭

على‭ ‬المستوى‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬كشفت‭ ‬السنة‭ ‬الأولى‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭ ‬عن‭ ‬فشل‭ ‬خطير‭ ‬فى‭ ‬إدارة‭ ‬التنوع‭ ‬السورى‭ ‬وتحويل‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬إلى‭ ‬مشروع‭ ‬وطنى‭ ‬جامع‭. ‬مثّلت‭ ‬أحداث‭ ‬الساحل‭ ‬السورى‭ ‬فى‭ ‬مارس‭ ‬2025‭ ‬أخطر‭ ‬اختبار‭ ‬لهذا‭ ‬الفشل،‭ ‬حين‭ ‬تحولت‭ ‬حالة‭ ‬الانفلات‭ ‬الأمنى‭ ‬إلى‭ ‬موجات‭ ‬عنف‭ ‬انتقامى‭ ‬أودت‭ ‬بحياة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬ستة‭ ‬وتسعة‭ ‬آلاف‭ ‬مدني،‭ ‬معظمهم‭ ‬من‭ ‬الطائفة‭ ‬العلوية،‭ ‬وتسببت‭ ‬فى‭ ‬تهجير‭ ‬عشرات‭ ‬القري‭. ‬غياب‭ ‬تحقيق‭ ‬مستقل‭ ‬وشفاف،‭ ‬وتأخر‭ ‬المحاسبة،‭ ‬عززا‭ ‬شعورًا‭ ‬عميقًا‭ ‬لدى‭ ‬قطاعات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬السوريين‭ ‬بأن‭ ‬الدولة‭ ‬الجديدة‭ ‬غير‭ ‬قادرة،‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬راغبة،‭ ‬فى‭ ‬حماية‭ ‬جميع‭ ‬مواطنيها‭ ‬على‭ ‬قدم‭ ‬المساواة‭.‬
فى‭ ‬محافظة‭ ‬السويداء،‭ ‬اتخذت‭ ‬الأزمة‭ ‬طابعًا‭ ‬مختلفًا‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬خطورة‭. ‬خلال‭ ‬صيف‭ ‬2025،‭ ‬قُتل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثمانمائة‭ ‬شخص‭ ‬فى‭ ‬اشتباكات‭ ‬متفرقة،‭ ‬وسط‭ ‬شعور‭ ‬متزايد‭ ‬لدى‭ ‬الدروز‭ ‬بالتهميش‭ ‬وغياب‭ ‬الحماية‭. ‬التدخل‭ ‬الإسرائيلى‭ ‬المباشر‭ ‬تحت‭ ‬شعار‭ ‬حماية‭ ‬الدروز‭ ‬شكّل‭ ‬سابقة‭ ‬خطيرة،‭ ‬إذ‭ ‬فتح‭ ‬الباب‭ ‬أمام‭ ‬تدويل‭ ‬الحماية‭ ‬الطائفية،‭ ‬وأضعف‭ ‬مفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬المركزية،‭ ‬ورسّخ‭ ‬منطق‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭ ‬بدل‭ ‬الثقة‭ ‬بالمؤسسات‭ ‬الوطنية‭.‬
هذا‭ ‬إلى‭ ‬جانب،‭ ‬تصاعد‭ ‬خطاب‭ ‬دينى‭ ‬محافظ‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬المناطق،‭ ‬دفع‭ ‬كثيرين‭ ‬إلى‭ ‬مواصلة‭ ‬الهجرة،‭ ‬فى‭ ‬ظل‭ ‬شعور‭ ‬بأن‭ ‬الدولة‭ ‬الجديدة‭ ‬لم‭ ‬تقدّم‭ ‬تصورًا‭ ‬جادًا‭ ‬لسوريا‭ ‬بوصفها‭ ‬دولة‭ ‬مواطنة‭ ‬متساوية‭.‬

الاقتصاد‭.. ‬دولة‭ ‬بلا‭ ‬تعافٍ‭ ‬واقتصاد‭ ‬يعيش‭ ‬على‭ ‬الإغاثة
اقتصاديًا،‭ ‬ورثت‭ ‬الحكومة‭ ‬الجديدة‭ ‬بلدًا‭ ‬مدمّرًا،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تتمكن‭ ‬خلال‭ ‬عامها‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬إدارة‭ ‬الانهيار‭ ‬إلى‭ ‬مسار‭ ‬التعافي‭. ‬تقديرات‭ ‬تكلفة‭ ‬إعادة‭ ‬الإعمار،‭ ‬التى‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬216‭ ‬و400‭ ‬مليار‭ ‬دولار،‭ ‬تكشف‭ ‬حجم‭ ‬الفجوة‭ ‬بين‭ ‬الاحتياجات‭ ‬والقدرات‭. ‬الاستثمارات‭ ‬التى‭ ‬دخلت‭ ‬البلاد‭ ‬خلال‭ ‬عام‭ ‬2025‭ ‬بقيت‭ ‬محدودة،‭ ‬ومتركزة‭ ‬فى‭ ‬قطاعات‭ ‬خدمية‭ ‬سريعة‭ ‬العائد،‭ ‬أو‭ ‬مرتبطة‭ ‬بنفوذ‭ ‬خارجى‭ ‬مباشر،‭ ‬دون‭ ‬أثر‭ ‬تنموى‭ ‬واسع‭.‬
تعكس‭ ‬المؤشرات‭ ‬الكلية‭ ‬حالة‭ ‬اختناق‭ ‬مزمنة‭. ‬معدل‭ ‬النمو‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬واحدًا‭ ‬فى‭ ‬المئة،‭ ‬فى‭ ‬حين‭ ‬تجاوز‭ ‬التضخم‭ ‬خمسة‭ ‬وأربعين‭ ‬فى‭ ‬المئة،‭ ‬وفقدت‭ ‬العملة‭ ‬المحلية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعين‭ ‬فى‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬قيمتها‭ ‬خلال‭ ‬عام‭ ‬واحد‭. ‬متوسط‭ ‬الدخل‭ ‬الشهرى‭ ‬فى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المناطق‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬ما‭ ‬يعادل‭ ‬خمسين‭ ‬دولارًا،‭ ‬فى‭ ‬وقت‭ ‬ارتفعت‭ ‬فيه‭ ‬أسعار‭ ‬الغذاء‭ ‬والطاقة‭ ‬بشكل‭ ‬حاد‭. ‬البطالة،‭ ‬التى‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬خمسين‭ ‬وخمسة‭ ‬وخمسين‭ ‬فى‭ ‬المئة،‭ ‬وترتفع‭ ‬بين‭ ‬الشباب‭ ‬إلى‭ ‬مستويات‭ ‬أعلي،‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬عودة‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬اللاجئين‭ ‬والنازحين‭ ‬عبئًا‭ ‬إضافيًا‭ ‬على‭ ‬سوق‭ ‬العمل‭ ‬والخدمات‭.‬
أكثر‭ ‬من‭ ‬ستة‭ ‬عشر‭ ‬مليون‭ ‬سورى‭ ‬يعتمدون‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬المساعدات‭ ‬الإنسانية‭ ‬لتلبية‭ ‬احتياجاتهم‭ ‬الأساسية،‭ ‬ما‭ ‬يحوّل‭ ‬الدولة‭ ‬عمليًا‭ ‬إلى‭ ‬كيان‭ ‬يدير‭ ‬الإغاثة‭ ‬بدل‭ ‬التنمية‭. ‬غياب‭ ‬إصلاحات‭ ‬هيكلية‭ ‬فى‭ ‬النظام‭ ‬الضريبى‭ ‬والمصرفى‭ ‬والإداري،‭ ‬واستمرار‭ ‬شبكات‭ ‬الفساد‭ ‬والمحسوبية،‭ ‬يبددان‭ ‬أى‭ ‬أمل‭ ‬فى‭ ‬تعافٍ‭ ‬اقتصادى‭ ‬مستقل‭ ‬فى‭ ‬المدى‭ ‬المنظور.

تعميق‭ ‬الصراع‭ ‬الإقليمي‭.. ‬سوريا‭ ‬كساحة‭ ‬مفتوحة‭ ‬لإعادة‭ ‬ترسيم‭ ‬النفوذ
ما‭ ‬يميز‭ ‬المرحلة‭ ‬التى‭ ‬تلت‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬بشار‭ ‬الأسد‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬تعدد‭ ‬الفاعلين‭ ‬الإقليميين‭ ‬والدوليين‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬السورية،‭ ‬بل‭ ‬غياب‭ ‬أى‭ ‬إطار‭ ‬سيادى‭ ‬جامع‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬ضبط‭ ‬هذا‭ ‬التعدد‭ ‬أو‭ ‬تحويله‭ ‬إلى‭ ‬علاقات‭ ‬دولة‭ ‬بدولة‭. ‬سوريا‭ ‬فى‭ ‬عامها‭ ‬الأول‭ ‬بعد‭ ‬الأسد‭ ‬لم‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬خارجة‭ ‬من‭ ‬نزاع،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬مفتوحة‭ ‬لإعادة‭ ‬توزيع‭ ‬النفوذ،‭ ‬حيث‭ ‬يتعامل‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬خارجى‭ ‬مع‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الجغرافيا‭ ‬السورية‭ ‬بوصفه‭ ‬مجالاً‭ ‬حيويًا‭ ‬خاصًا،‭ ‬لا‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬ذات‭ ‬سيادة‭.‬
هذا‭ ‬الواقع‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فهمه‭ ‬بوصفه‭ ‬نتيجة‭ ‬ضعف‭ ‬الحكومة‭ ‬الجديدة‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬بوصفه‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬النظام‭ ‬الإقليمى‭ ‬نفسه،‭ ‬الذى‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬سوريا‭ ‬باعتبارها‭ ‬فراغًا‭ ‬استراتيجيًا‭ ‬يجب‭ ‬ملؤه،‭ ‬لا‭ ‬دولة‭ ‬يجب‭ ‬دعمها‭ ‬لاستعادة‭ ‬تماسكها‭.‬
بعد‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬بشار‭ ‬الأسد،‭ ‬دخلت‭ ‬إسرائيل‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬كليًا‭ ‬فى‭ ‬تعاملها‭ ‬مع‭ ‬الساحة‭ ‬السورية،‭ ‬تجاوزت‭ ‬فيها‭ ‬منطق‭ ‬الضربات‭ ‬الجوية‭ ‬الوقائية‭ ‬إلى‭ ‬فرض‭ ‬حضور‭ ‬ميدانى‭ ‬مباشر،‭ ‬مستفيدة‭ ‬من‭ ‬انهيار‭ ‬الدولة‭ ‬المركزية،‭ ‬وضعف‭ ‬السلطة‭ ‬الجديدة،‭ ‬وغياب‭ ‬أى‭ ‬قدرة‭ ‬سورية‭ ‬فعلية‭ ‬على‭ ‬الردع‭ ‬أو‭ ‬المبادرة‭. ‬خلال‭ ‬عام‭ ‬2025،‭ ‬كثّفت‭ ‬إسرائيل‭ ‬عملياتها‭ ‬العسكرية‭ ‬فى‭ ‬الجنوب‭ ‬السوري،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬هذه‭ ‬العمليات‭ ‬محصورة‭ ‬فى‭ ‬استهداف‭ ‬مواقع‭ ‬أو‭ ‬شحنات‭ ‬سلاح،‭ ‬بل‭ ‬امتدت‭ ‬لتشمل‭ ‬توغلات‭ ‬برية،‭ ‬وإنشاء‭ ‬نقاط‭ ‬مراقبة‭ ‬ثابتة،‭ ‬وفرض‭ ‬ترتيبات‭ ‬أمنية‭ ‬دائمة‭ ‬فى‭ ‬مناطق‭ ‬من‭ ‬القنيطرة‭ ‬وريف‭ ‬درعا‭ ‬الغربي‭.‬
هذا‭ ‬التمدد‭ ‬الميدانى‭ ‬شكّل‭ ‬فى‭ ‬جوهره‭ ‬احتلالاً‭ ‬فعليًا‭ ‬لأجزاء‭ ‬من‭ ‬الأراضى‭ ‬السورية،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يُعلن‭ ‬رسميًا‭. ‬الاحتلال‭ ‬هنا‭ ‬لم‭ ‬يتخذ‭ ‬الشكل‭ ‬الكلاسيكى‭ ‬لوجود‭ ‬عسكرى‭ ‬واسع،‭ ‬بل‭ ‬جاء‭ ‬فى‭ ‬صورة‭ ‬سيطرة‭ ‬أمنية‭ ‬متدرجة،‭ ‬تفرض‭ ‬أمرًا‭ ‬واقعًا‭ ‬جديدًا،‭ ‬وتمنع‭ ‬عودة‭ ‬الدولة‭ ‬السورية‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المناطق‭. ‬إسرائيل‭ ‬برّرت‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬بخطاب‭ ‬مزدوج،‭ ‬بدأ‭ ‬بمنع‭ ‬تهديدات‭ ‬محتملة‭ ‬على‭ ‬حدودها‭ ‬الشمالية،‭ ‬ثم‭ ‬تطور‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬احماية‭ ‬الأقلياتب،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬أحداث‭ ‬السويداء،‭ ‬حيث‭ ‬قُدّم‭ ‬التدخل‭ ‬الإسرائيلى‭ ‬بوصفه‭ ‬ضرورة‭ ‬أخلاقية‭ ‬وأمنية‭ ‬فى‭ ‬آن‭ ‬واحد‭.‬
الأخطر‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬فقدان‭ ‬الدولة‭ ‬السورية‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬أراضيها،‭ ‬فقد‭ ‬شرعت‭ ‬إسرائيل‭ ‬فى‭ ‬بناء‭ ‬قنوات‭ ‬اتصال‭ ‬مباشرة‭ ‬مع‭ ‬فاعلين‭ ‬محليين‭ ‬فى‭ ‬الجنوب،‭ ‬من‭ ‬قيادات‭ ‬اجتماعية‭ ‬إلى‭ ‬مجموعات‭ ‬مسلحة،‭ ‬متجاوزة‭ ‬الدولة‭ ‬السورية‭ ‬كليًا‭. ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬التعامل‭ ‬أعاد‭ ‬إنتاج‭ ‬نموذج‭ ‬االحزام‭ ‬الأمنيب‭ ‬الذى‭ ‬استخدمته‭ ‬إسرائيل‭ ‬سابقًا‭ ‬فى‭ ‬جنوب‭ ‬لبنان،‭ ‬حيث‭ ‬يُدار‭ ‬الأمن‭ ‬المحلى‭ ‬عبر‭ ‬وكلاء‭ ‬محليين‭ ‬مقابل‭ ‬خدمات‭ ‬اقتصادية‭ ‬وطبية‭ ‬وغذائية‭.‬
بهذا‭ ‬الشكل،‭ ‬تحوّل‭ ‬الجنوب‭ ‬السورى‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬عازلة‭ ‬غير‭ ‬معلنة،‭ ‬تُدار‭ ‬بمنطق‭ ‬الاستقرار‭ ‬الأمنى‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬لا‭ ‬بمنطق‭ ‬السيادة‭ ‬السورية‭.‬ت
من‭ ‬جهة‭ ‬أخري،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬النفوذ‭ ‬التركى‭ ‬فى‭ ‬الشمال‭ ‬السورى‭ ‬قد‭ ‬اتخذ‭ ‬مسارًا‭ ‬مختلفًا‭ ‬فى‭ ‬الشكل،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬خطورة‭  ‬فتركيا‭.‬
خلال‭ ‬العام‭ ‬الأول‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬الأسد،‭ ‬أصبحت‭ ‬المناطق‭ ‬الشمالية‭ ‬السورية‭ ‬مرتبطة‭ ‬عضويًا‭ ‬بتركيا‭. ‬الليرة‭ ‬التركية‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬العملة‭ ‬الرئيسية،‭ ‬النظام‭ ‬التعليمى‭ ‬خضع‭ ‬لمناهج‭ ‬معدّلة‭ ‬بإشراف‭ ‬تركي،‭ ‬القطاع‭ ‬الصحى‭ ‬بات‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬دعم‭ ‬وإدارة‭ ‬من‭ ‬الولايات‭ ‬الحدودية‭ ‬التركية،‭ ‬والمعابر‭ ‬الحدودية‭ ‬أُديرت‭ ‬بما‭ ‬يخدم‭ ‬المصالح‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التركية‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولي‭. ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬أسس‭ ‬لاقتصاد‭ ‬موازٍ،‭ ‬منفصل‭ ‬فعليًا‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬الاقتصاد‭ ‬السوري،‭ ‬وأضعف‭ ‬أى‭ ‬إمكانية‭ ‬لبناء‭ ‬سوق‭ ‬وطنية‭ ‬موحدة‭.‬
إلى‭ ‬جانب‭ ‬النفوذين‭ ‬الإسرائيلى‭ ‬والتركي،‭ ‬تمثل‭ ‬قوات‭ ‬سوريا‭ ‬الديمقراطية‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬عناصر‭ ‬تعقيد‭ ‬المشهد‭ ‬السورى‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬الأسد،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬بوصفها‭ ‬قوة‭ ‬عسكرية‭ ‬مسيطرة‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬شرق‭ ‬وشمال‭ ‬شرق‭ ‬البلاد،‭ ‬بل‭ ‬بوصفها‭ ‬مشروعًا‭ ‬سياسيًا‭ ‬واقتصاديًا‭ ‬واجتماعيًا‭ ‬موازياً‭ ‬للدولة‭ ‬المركزية‭. ‬فخلال‭ ‬العام‭ ‬الأول‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬النظام،‭ ‬لم‭ ‬تتجه‭ ‬اقسدب‭ ‬إلى‭ ‬الاندماج‭ ‬الفعلى‭ ‬فى‭ ‬بنية‭ ‬الدولة‭ ‬الجديدة،‭ ‬بل‭ ‬عززت‭ ‬من‭ ‬مؤسساتها‭ ‬الذاتية،‭ ‬مستندة‭ ‬إلى‭ ‬دعم‭ ‬أمريكى‭ ‬مباشر،‭ ‬وشرعية‭ ‬الأمر‭ ‬الواقع،‭ ‬وسيطرتها‭ ‬على‭ ‬أهم‭ ‬موارد‭ ‬سوريا‭ ‬الاستراتيجية‭.‬
اقسدب‭ ‬تسيطر‭ ‬على‭ ‬مناطق‭ ‬تحتوى‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬70‭ ‬فى‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬الثروات‭ ‬النفطية‭ ‬والغازية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬مساحات‭ ‬زراعية‭ ‬تمثل‭ ‬سلة‭ ‬غذاء‭ ‬رئيسية‭ ‬للبلاد‭. ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬منحها‭ ‬قوة‭ ‬تفاوضية‭ ‬كبيرة‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬دمشق،‭ ‬لكنه‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬عمّق‭ ‬الانقسام‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬حيث‭ ‬بقيت‭ ‬الحكومة‭ ‬المركزية‭ ‬محرومة‭ ‬من‭ ‬موارد‭ ‬حيوية،‭ ‬واضطرت‭ ‬إلى‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬المساعدات‭ ‬الخارجية‭ ‬لتأمين‭ ‬احتياجات‭ ‬أساسية‭.‬
سياسيًا،‭ ‬طرحت‭ ‬اقسدب‭ ‬نموذج‭ ‬االإدارة‭ ‬الذاتيةب‭ ‬بوصفه‭ ‬بديلاً‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬المركزية،‭ ‬مؤكدة‭ ‬التزامها‭ ‬بوحدة‭ ‬سوريا‭ ‬شكليًا،‭ ‬لكنها‭ ‬عمليًا‭ ‬تصرفت‭ ‬ككيان‭ ‬شبه‭ ‬مستقل،‭ ‬يمتلك‭ ‬قواته‭ ‬الأمنية،‭ ‬ونظامه‭ ‬الإداري،‭ ‬وعلاقاته‭ ‬الخارجية‭ ‬غير‭ ‬المباشرة‭. ‬المفاوضات‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬حكومة‭ ‬أحمد‭ ‬الشرع‭ ‬تعثرت‭ ‬مرارًا‭ ‬خلال‭ ‬2025،‭ ‬نتيجة‭ ‬خلافات‭ ‬حول‭ ‬تقاسم‭ ‬السلطة‭ ‬والثروة،‭ ‬وطبيعة‭ ‬النظام‭ ‬السياسي،‭ ‬ومستقبل‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭.‬
الدور‭ ‬الأمريكى‭ ‬كان‭ ‬حاسمًا‭ ‬فى‭ ‬تثبيت‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭. ‬فالوجود‭ ‬العسكرى‭ ‬الأمريكى‭ ‬فى‭ ‬شرق‭ ‬سوريا،‭ ‬بحجة‭ ‬مكافحة‭ ‬الإرهاب‭ ‬وضمان‭ ‬الاستقرار،‭ ‬وفّر‭ ‬مظلة‭ ‬حماية‭ ‬لـ‭ ‬اقسدب،‭ ‬ومنع‭ ‬أى‭ ‬محاولة‭ ‬جدية‭ ‬لفرض‭ ‬حل‭ ‬عسكرى‭ ‬أو‭ ‬سياسى‭ ‬سريع‭. ‬هذا‭ ‬الوجود،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يُترجم‭ ‬إلى‭ ‬اعتراف‭ ‬بدولة‭ ‬مستقلة،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬مشروع‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتى‭ ‬أمرًا‭ ‬واقعًا‭ ‬يصعب‭ ‬تجاوزه‭.‬
إشكالية‭ ‬اقسدب‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عند‭ ‬علاقتها‭ ‬بدمشق،‭ ‬بل‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬صراعها‭ ‬المفتوح‭ ‬مع‭ ‬تركيا،‭ ‬التى‭ ‬تنظر‭ ‬إليها‭ ‬بوصفها‭ ‬تهديدًا‭ ‬وجوديًا‭ ‬لأمنها‭ ‬القومي‭. ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬جعل‭ ‬مناطق‭ ‬شرق‭ ‬الفرات‭ ‬ساحة‭ ‬لتوازنات‭ ‬دقيقة‭ ‬بين‭ ‬واشنطن‭ ‬وأنقرة،‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬السيادة‭ ‬السورية،‭ ‬حيث‭ ‬تُدار‭ ‬المنطقة‭ ‬وفق‭ ‬تفاهمات‭ ‬دولية،‭ ‬لا‭ ‬وفق‭ ‬قرار‭ ‬وطنى‭ ‬جامع‭.

عجز‭ ‬القانون‭ ‬الدولي،‭ ‬وسيناريوهات‭ ‬المستقبل
من‭ ‬منظور‭ ‬القانون‭ ‬الدولي،‭ ‬تبدو‭ ‬الحالة‭ ‬السورية‭ ‬مثالاً‭ ‬صارخًا‭ ‬على‭ ‬الفجوة‭ ‬بين‭ ‬النص‭ ‬القانونى‭ ‬والواقع‭ ‬السياسي‭. ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬يجرّم‭ ‬بوضوح‭ ‬احتلال‭ ‬أراضى‭ ‬الغير‭ ‬بالقوة،‭ ‬ويرفض‭ ‬أى‭ ‬مساس‭ ‬بوحدة‭ ‬الدول‭ ‬وسلامة‭ ‬أراضيها‭. ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإسرائيلى‭ ‬لأراضٍ‭ ‬سورية‭ ‬يظل‭ ‬غير‭ ‬مشروع‭ ‬قانونًا،‭ ‬مهما‭ ‬اختلفت‭ ‬الذرائع‭ ‬الأمنية‭ ‬أو‭ ‬الإنسانية،‭ ‬ولا‭ ‬تسقط‭ ‬عدم‭ ‬شرعيته‭ ‬بتغير‭ ‬النظام‭ ‬أو‭ ‬ضعف‭ ‬الدولة‭. ‬كذلك،‭ ‬فإن‭ ‬الوجود‭ ‬العسكرى‭ ‬الأجنبى‭ ‬طويل‭ ‬الأمد،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬تركيًا‭ ‬أو‭ ‬أمريكيًا،‭ ‬دون‭ ‬تفويض‭ ‬أممى‭ ‬صريح‭ ‬أو‭ ‬موافقة‭ ‬سيادية‭ ‬مكتملة،‭ ‬يضع‭ ‬سوريا‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬اسيادة‭ ‬منقوصةب،‭ ‬تتحكم‭ ‬فيها‭ ‬موازين‭ ‬القوة‭ ‬لا‭ ‬قواعد‭ ‬القانون‭.‬
غير‭ ‬أن‭ ‬الأزمة‭ ‬لا‭ ‬تكمن‭ ‬فى‭ ‬غياب‭ ‬القواعد،‭ ‬بل‭ ‬فى‭ ‬غياب‭ ‬الإرادة‭ ‬الدولية‭ ‬لتطبيقها‭. ‬فالنظام‭ ‬الدولي،‭ ‬المنهمك‭ ‬بصراعات‭ ‬كبري،‭ ‬اكتفى‭ ‬بإدارة‭ ‬الأزمة‭ ‬السورية‭ ‬إنسانيًا،‭ ‬وترك‭ ‬جوهرها‭ ‬السياسى‭ ‬والسيادى‭ ‬رهينة‭ ‬لتوازنات‭ ‬إقليمية‭. ‬وبهذا،‭ ‬تحولت‭ ‬سوريا‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬عضو‭ ‬فى‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولى‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬اختبار‭ ‬لانهيار‭ ‬النظام‭ ‬الدولى‭ ‬نفسه،‭ ‬حيث‭ ‬تُفرض‭ ‬الوقائع‭ ‬بالقوة،‭ ‬ثم‭ ‬يُبحث‭ ‬لها‭ ‬عن‭ ‬تبريرات‭ ‬لاحقة‭.‬
فى‭ ‬ضوء‭ ‬هذا‭ ‬الواقع،‭ ‬يمكن‭ ‬استشراف‭ ‬أربعة‭ ‬سيناريوهات‭ ‬محتملة‭ ‬لمستقبل‭ ‬سوريا‭. ‬السيناريو‭ ‬الأول‭ ‬يتمثل‭ ‬فى‭ ‬تثبيت‭ ‬واقع‭ ‬التقسيم‭ ‬غير‭ ‬المعلن،‭ ‬مع‭ ‬بقاء‭ ‬سوريا‭ ‬موحدة‭ ‬شكليًا،‭ ‬لكنها‭ ‬مجزأة‭ ‬فعليًا‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬نفوذ‭: ‬جنوب‭ ‬خاضع‭ ‬لترتيبات‭ ‬إسرائيلية،‭ ‬شمال‭ ‬مرتبط‭ ‬بتركيا،‭ ‬شرق‭ ‬تحت‭ ‬إدارة‭ ‬قسد‭ ‬بحماية‭ ‬أمريكية،‭ ‬ووسط‭ ‬ضعيف‭ ‬بيد‭ ‬حكومة‭ ‬محدودة‭ ‬الصلاحيات‭. ‬هذا‭ ‬السيناريو‭ ‬هو‭ ‬الأكثر‭ ‬ترجيحًا‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬القصير‭.‬
السيناريو‭ ‬الثانى‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬انفجار‭ ‬داخلى‭ ‬جديد،‭ ‬نتيجة‭ ‬تراكم‭ ‬المظالم‭ ‬الطائفية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬وفشل‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية،‭ ‬وتدهور‭ ‬الأوضاع‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يعيد‭ ‬البلاد‭ ‬إلى‭ ‬دائرة‭ ‬العنف‭ ‬والفوضي،‭ ‬لكن‭ ‬فى‭ ‬سياق‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدًا‭ ‬وخطورة‭.‬
السيناريو‭ ‬الثالث‭ ‬يفترض‭ ‬إعادة‭ ‬تفاهم‭ ‬إقليميبدولى‭ ‬شامل،‭ ‬يفرض‭ ‬تسوية‭ ‬سياسية‭ ‬تُعيد‭ ‬توحيد‭ ‬الدولة‭ ‬تدريجيًا،‭ ‬مقابل‭ ‬ضمانات‭ ‬أمنية‭ ‬للقوى‭ ‬المتدخلة،‭ ‬وهو‭ ‬سيناريو‭ ‬ممكن‭ ‬نظريًا،‭ ‬لكنه‭ ‬يصطدم‭ ‬بتضارب‭ ‬المصالح‭ ‬الإقليمية،‭ ‬وغياب‭ ‬مشروع‭ ‬وطنى‭ ‬سورى‭ ‬جامع‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬التفاوض‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬قوة‭.‬
أما‭ ‬السيناريو‭ ‬الرابع،‭ ‬وهو‭ ‬الأكثر‭ ‬طموحًا‭ ‬والأقل‭ ‬احتمالاً‭ ‬فى‭ ‬المدى‭ ‬المنظور،‭ ‬فيتمثل‭ ‬فى‭ ‬نشوء‭ ‬عقد‭ ‬اجتماعى‭ ‬سورى‭ ‬جديد،‭ ‬يعيد‭ ‬تعريف‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬المواطنة،‭ ‬ويكسر‭ ‬منطق‭ ‬الطائفية‭ ‬والفصائل،‭ ‬ويستعيد‭ ‬السيادة‭ ‬تدريجيًا‭ ‬عبر‭ ‬بناء‭ ‬مؤسسات‭ ‬شرعية،‭ ‬واقتصاد‭ ‬إنتاجي،‭ ‬وعدالة‭ ‬انتقالية‭ ‬شاملة‭. ‬هذا‭ ‬السيناريو‭ ‬يتطلب‭ ‬تحولاً‭ ‬جذريًا‭ ‬فى‭ ‬بنية‭ ‬السلطة‭ ‬الحالية،‭ ‬وفى‭ ‬وعى‭ ‬النخب،‭ ‬وفى‭ ‬مقاربة‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولى‭ ‬للأزمة‭ ‬السورية‭.‬

 

نقلا عن جريدة الجمهورية، الجمعة 19 ديسمبر 2025.

 


رابط دائم: