مثلت العقود الأربعة السابقة تداخل وتفاعل مطرد بين مختلف وحدات الإقليم، تخلله الدفع بأهمية استدعاء "منهاجية" تتسم بالكثير من المرونة لتحليل مستقبل "الظاهرة الإقليمية" خاصة فى ظل زخم وتشابك المشهد التفاعلى القائم، والذى أوجد الحاجة إلى التمييز بين منظورين للنظام الإقليمي: الأول يُعرف بالمنظور الاختزالى؛ حيث يرى السياق الإقليمي عبارة عن وحدات مستقلة ومتباينة لكنها مترابطة بشبكة من التفاعلات ذات الصياغات التكتيكية العابرة والنفعية.
بينما المنظور الثانى يُعرف بالمنظور الشمولى، إذ يرى السياق الإقليمي عبارة عن "نسق" واحد تنطوى بداخله وحدات تتباين فى بعض السمات، لكنها تتسق بتفاعلاتها المكثفة والمطردة. لتصبح تلك التفاعلات بين الوحدات بمثابة الأساس الذى يبنى عليه التحليل للظاهرة الإقليمية، بينما تُصنف "تباينات الوحدات" تنوعا وإثراءً لبنية النظام الإقليمي.
وعليه فثمة إنتقال بالتحليل السياسي تدريجيا من نموذج "كرة البلياردو –Billiard Ball Model" الذى لا يولى العوامل الداخلية أهمية فى تحليل التفاعلات الإقليمية، إلى نموذج "بيت العنكبوت- Cobweb"، حيث إنتقال الحركة من مكان إلى آخر بفعل الترابط بين الوحدات، وذلك وفقا لما يُعرف بـ "تماهى الحدود –Blurring Boundaries"، أى تعقد وصعوبة تحديد ما هو متغير داخلى (يدخل فى نطاق السيادة)، وما هو متغير خارجى (يدخل فى نطاق البيئة الاقليمية). على نحو ما يُعيد تقييم المشهد التفاعلى الحالى، ويفرض عددا من التساؤلات حول ترجيحات "المأسسة الأمنية" فى إطار ما بات يُعرف بـ "الإقليمية الجديدة – الهندسة الإقليمية"؟! .
تحولات الإقليمية:
تؤسس فكرة الإقليمية إلى وصف صورة من صور العمل الجماعى فى إطار عدد من الدعائم، أبرزها: الأسباب السياسية الكامنة برغبة الدول فى بلوغ مكانة سياسية كبرى/ أو إنجاز مصالح مشتركة لا يمكن تحقيقها دون تجمع مشترك، سواء عن طريق اتحاد اقتصادى، أو تكتل سياسي إقليمي، أو لأسباب أمنية تتجسد فى الحاجة إلى تأمين الترتيبات الأمنية المشتركة فى ظل تعاظم الاضطرابات، فضلا عن عدم الثقة بقدرات المؤسسات الأممية وفى مقدمتها "الأمم المتحدة" فى تحقيق الأمن والسلم المنشود.
بالمقابل نجد أن الترتيبات الإقليمية باتت تأخذ أنماطا تفاعلية عدة، منها أولا- تفاعلات منضبطة: تكون ضمن إطار هيكل قيادى "للمنظومة الإقليمية" حيث تتركز القوة ومواردها فى دولة واحدة أو عدد من الدول، كما أن تفاعلاتهم تقوم على المشاركة، وتنتشر القوة بين عدد كبير نسبيا بين أطراف النظام ليقوم بين الأعضاء توازن قوى مبنى على مصالح مشتركة بالتعاون فيما بينها. وثانيا- تفاعلات تنافسية: تتسم بانتشار القوة بين عدد كبير من أطراف "المنظومة الإقليمية" فيسود التنافس بدل التعاون، كما أن التوازن النسبى للقوى بين الأطراف يظل ضامنا لعدم تطور التنافس لصراع قد يهدد استقرار ونمطية المنظومة الإقليمية برمتها. وعليه أفرزت مُجمل التفاعلات القائمة أهمية الانتقال بالمستوى الإستشرافى لاختبارات "الإقليمية الجديدة - الهندسة الإقليمية"، وتحديدا التساؤل حول مدى إمكانية أن تفضى الترتيبات السياسية القائمة للتعاون بين مختلف وحدات الإقليم نحو بناء "مأسسة أمنية" أم لا، وهو ما يقتضى عددا من الخطوات:
Ø الخطوة الأولى: تتطلب عملية إنجاز تلك الخطوة أهمية توافر شرط التقارب الجغرافى، والثقافى، والأيديولوجى ووحدة التحديات ى بين الأطراف المتفاعلة فى الإقليم الواحد. كما أن هذه الخطوة تبدأ الأطراف خلالها بمناقشة القضايا والتهديدات المشتركة فقط، وتكثيف التفاعلات ذات الصياغات المتعددة "العمل الجماعى"، إذ إن تلك الخطوة تُعد أولى خطوات "المأسسة الأمنية" ويكون فيها التنسيق على مستوى ثانوى/ محدود.
Ø الخطوة الثانية: فى تلك الخطوة يُجرى العمل على زيادة حجم التفاعلات والانتقال من المستوي الثانوى/ المحدود إلى المستوى المؤسسى، إذ يتم نقل عملية إدارة هذه التفاعلات إلى مؤسسات "فوق قومية"، لتعمل هذه المؤسسة على احتواء التهديدات بشكل جماعى وتقليص المخاوف الأمنية من خلال العمل على التنسيق متعدد الأطراف بالإقليم.
Ø الخطوة الثالثة: تُبنى على فكرة العمل حول ترسيخ "الهوية الأمنية المشتركة" لمجتمعات الإقليم، إضافة إلى العمل على ترسيخ الثقة المتبادلة بين الأطراف وتحول الولاءات الأمنية للأطراف إلى "نسق فوق قومى" يتم من خلال توحيد لغة التعبير عن المصالح والمواقف إزاء القضايا الأمنية بالإقليم وآليات إدارتها.
الجدير بالذكر، على الرغم من كم التحديات السياسية والأمنية التى تعصف بمنطقة الشرق الأوسط خاصة فيما بعد أحداث 7 أكتوبر2023، وتنامى سيناريوهات اتساع الجبهات الصراعية بالمنطقة. لكن لا يزال الإقليم يحظى بـ "ميزة تفضيلية" قد تدفع برهاناتنا نحو نجاح فرص "المأسسة الأمنية"، وذلك بالنظر إلى المحددات التالية:
· التوازن المرن/ والمقبول بين القوى التقليدية ذات الثقل والصاعدة حول المرئيات النوعية لإدارة كافة القضايا الحيوية بالإقليم.
· التأكيد على أولويات الآليات الدبلوماسية من جانب الدول ذات الثقل -خاصة مصر- فى إنهاء كافة الترتيبات العالقة لملفات التسوية السلمية بالدول المأزومة بالإقليم.
· انتهاء الاستقطاب الخليجي-الخليجي وعودة قطر للحاضنة العربية.
· تطابق قنوات الاتصال واتساع مساحات الحوار، خاصة مع استئناف العلاقات السعودية-الإيرانية، ورأب الصدع العربى-التركى، وذلك فى ظل تنامى اتجاه عربى نحو بناء علاقات متوازنة مع القوى الصاعدة بالإقليم.
وعليه.. تنقسم الرهانات التى لا تزال قيد الاختبار وتحيط بالمشهد النوعى لفرص البناء المؤسسى؛ إلى سيناريوهين، السيناريو الأول: الانتقال بالإقليم استنادا لحجم الزخم القائم والتهديدات المتلاحقة (التقليدية + غير التقليدية) نحو بناء نظام تعاونى فى شتى المجالات الأمنية، والسياسية، والاقتصادية، والنوعية يبنى على معادلات متسقة أقل ميلا لاستعمال القوة وأكثر ميلا للتعاون، ومن ثم إنجاز التصورات الحيوية ذات الأولية بشأن تحقيق الأمن والاستقرار، بينما السيناريو الثانى: والمتمثل فى أن تَعلق المنطقة فى فوضى ممتدة وفصول متتالية من محاولات القوى الفاعلة ذات الثقل فى إيجاد مخرج آمن لإعادة توطئة استقرار الإقليم خاصة فى ظل التداعيات المتباينة والمستمرة المصاحبة لأحداث 7 أكتوبر2023 (طوفان الأقصى)، والمسارات المتلاحقة نحو احتمالات تعثر ملفات التسوية السياسية بالمنطقة على النحو المشكك فى فرص نجاح فرضية "المأسسة الأمنية" فى إقليم الشرق الأوسط.