مقالات رأى

عمالقة التكنولوجيا السبعة.. ولادة مراكز قوة خارج منطق الدولة

طباعة

لم يعد المشهد الاقتصادي العالمي محكومًا فقط بقوانين النمو والانكماش، ولا بخطط الدول والبنوك المركزية، بل بواقع جديد تشكّل بصمت: سبع شركات خاصة -لا تملك جيوشًا ولا مقاعد في الأمم المتحدة- باتت تتمتع بنفوذ يفوق قوة دول صناعية كبرى. في زمن تُقاس فيه القوة بالبيانات، والحوسبة، والذكاء الاصطناعي، تحولت هذه الشركات إلى مراكز سيادة موازية تعمل خارج الإطار التقليدي للدولة، وتعيد رسم خرائط الاقتصاد، والسياسة، والحقوق على مستوى العالم.

هذه الكيانات هي: أبل، ومايكروسوفت، وإنفيديا، وأمازون، وألفابيت، وميتا، وجوجل.. إنها سبع شركات فقط باتت تسيطر على ثلث القيمة السوقية لمؤشرS&P 500 الذي يتجاوز 51 تريليون دولار، في سابقة تاريخية تعكس صعود كيانات عملاقة تقودها أبل وإنفيديا. هذه الشركات لم تعد مجرّد مؤسسات تكنولوجية، بل تحوّلت إلى قوى اقتصادية فوق وطنية تُعيد تشكيل الأسواق العالمية، وتفرض منطقًا جديدًا للنفوذ خارج سلطة الدول والبنوك المركزية. إنها قوى نظامية Systemic Powersتتحكم بالبنية التحتية التي يقوم عليها الاقتصاد الرقمي الحديث.

يكمن جوهر قوة هذه الشركات في أنها لم تعد مجرّد منتجة للتكنولوجيا، بل أصبحت مهندِسة للبيئات الرقمية التي نعيش ضمنها. فهي تبني منظومات مغلقة تتشابك فيها البيانات، والخوارزميات، والبنى السحابية، والعتاد الحوسبي، لتصنع فضاءً اقتصاديًا ومعرفيًا مغلقًا تتحكم بقواعده وحدها. لم يعد المستخدم أو المستهلك أو المطور مجرد طرف يتعامل مع خدماتها، بل أصبح عنصرًا مُندمجًا في شبكات مترابطة تحكمها هذه الشركات، شبكات تتجاوز فكرة السوق إلى نظام بيئي رقمي كامل تُعاد صياغة العلاقات داخله عبر الخوارزمية لا القانون.

مع توسع هذه المنظومات، بات تأثيرها يتسلل إلى مستويات كانت يومًا حكرًا على الدول: البحث العلمي، والأمن السيبراني، والتعليم، والإعلام، والخدمات الحكومية، والبنى التحتية للاتصال. إنها شكل جديد من السلطة الناعمة، لكنّه أكثر اختراقًا وعمقًا؛ سلطة لا تعمل عبر الحدود، بل تتلاشى أمامها الحدود، لأن نفوذها يتوسع مع كل تدفق للبيانات، وكل عملية حسابية، وكل اتصال عبر السحابة.

تقف إنفيديا -كما هو معروف- في قلب هذا التحول بقيمة سوقية تجاوزت 4.4 تريليون دولار -رقم يفوق اقتصاد اليابان بأكمله. ما حققته الشركة ليس نجاحًا تجاريًا بالمعنى التقليدي، بل ثورة في بنية الحوسبة العالمية. فقد أصبحت شرائحها الحاسوبية بمثابة "محرّك التشغيل" للذكاء الاصطناعي الحديث، وهو ما يجعلها أقرب إلى مزوّد للطاقة الفكرية للعالم. إن قوة إنفيديا اليوم تشبه قوة من يتحكم بالكهرباء في القرن العشرين أو بالنفط في السبعينيات، إنها تتحكم في البنية التحتية للمعرفة والحوسبة، أي الأساس الذي تقوم عليه الصناعة، والبحث العلمي، والاقتصاد الرقمي معًا.

ثورة تكنولوجية أم فقاعة تتخفّى خلف بريق التقدم؟

العالم اليوم يقف أمام صعود غير مسبوق في تقييمات شركات التكنولوجيا، صعود يحوّل آلاف الدولارات إلى ثروات هائلة خلال سنوات قليلة؛ فاستثمار بسيط بقيمة 7000 دولار عام 2015 كان سيبلغ قرابة470ألف دولار اليوم. ولكن خلف هذه القفزة المذهلة يكمن سؤال أشد تعقيدًا:هل يعكس هذا الارتفاع تحوّلًا تاريخيًا تقوده ثورة الذكاء الاصطناعي، أم إننا نعيد إنتاج منطق الفقاعة؛ حيث تغدو السرديات التقنية بديلا عن الحقائق الاقتصادية، وتصبح التقييمات انعكاسًا للتوقعات أكثر من الواقع؟

إن ما يحدث لا يتعلق بالنمو وحده، بل بهندسة جديدة للسوق تقوم على تركيز غير صحي للثروة والقيمة في عدد محدود من الشركات. لقد تحولت الأسواق الأمريكية إلى بنية معتمدة بشكل مفرط على بضعة كيانات فقط، بحيث أصبح وزن هذه الشركات ضخمًا إلى درجة تجعلها أشبه بـ"أعمدة تحمل سقف السوق". وأي خلل في أحد هذه الأعمدة لا يسبب تراجعًا في قطاع واحد، بل هزة نظاميةSystemic Shock  قد تتردد أصداؤها عبر أسواق العالم.

هذا النوع من التركّز لا يشير فقط إلى مخاطرة مالية، بل إلى اختلال هيكلي يجعل التقييمات عرضة للمبالغة، ويحوّل السوق إلى بيئة يغذيها التفاؤل المفرط بقدر ما يهددها التشاؤم المفاجئ. وفي هذا السياق تبدو مقولة د. ريان ليمند، الرئيس التنفيذي لشركة "نيوفيجن لإدارة الثروات" أشبه ببوصلة لفهم اللحظة:"استفد من الفقاعة طالما استمرت… لكن تذكّر أنها ستنفجر."
فهو لا يتحدث عن احتمال، بل عن قانونٍ من قوانين الأسواق: كل موجة صعود متطرفة تحمل في داخلها بذور التصحيح، مهما ارتدى هذا الصعود ثياب الثورة التكنولوجية أو استند إلى سرديات الذكاء الاصطناعي.

نفوذ يتجاوز الاقتصاد.. المخاوف من سلطة بلا ضوابط:

أبعاد القصة لا تقف عند حدود المؤشرات المالية ولا عند هيمنة الشركات على أرباح وادي السيليكون. فالنمو الهائل الذي حققته هذه الكيانات خلق طبقة جديدة من السلطة تتجاوز الاقتصاد التقليدي إلى فضاءات أكثر حساسية: تشكيل الوعي، وصناعة السلوك البشري، والتحكم بالبنية التحتية الرقمية التي باتت شريان الحياة للدول والشعوب. ولهذا بدأت المخاوف تنتقل من غرف التحليل الاقتصادي إلى قاعات الأمم المتحدة. إذ حذّر المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، من أن تركّز القوة الاقتصادية والبيانية في يد سبع شركات فقط يشكّل تهديدًا بنيويًا للديمقراطية وحقوق الإنسان، ويخلق وضعًا غير مسبوق في التاريخ الحديث.

فاليوم لم يعد نفوذ هذه الشركات مقتصرًا على الأسواق، بل امتد ليطال:

· بيانات مليارات البشر التي أصبحت الوقود الرئيسي لإنتاج الخوارزميات وتطوير النماذج الذكية.

· أدوات الذكاء الاصطناعي القادرة على التأثير في الإدراك والاختيارات الفردية، بل وإعادة صياغة السلوك الجماعي.

· المنصات الاجتماعية التي تُعتبر المختبر الأول لصناعة الرأي العام وتوجيه النقاشات السياسية والاجتماعية.

· البنية السحابية والحوسبية التي تعتمد عليها الحكومات والمؤسسات المالية، والإعلامية، والصحية.

إنها منظومة سيطرة تتجاوز نموذج الربح والخسارة. صارت هذه الشركات تمتلك القدرة على توجيه المعلومات، والتأثير في نتائج الانتخابات، وترجيح كفة طرف سياسي على آخر، وحتى تعطيل شبكات وطنية أو شلّ قطاعات اقتصادية بقرار تقني واحد. إن ما كان في السابق شأن سيادي للدول -مثل الأمن المعلوماتي، والرقابة على تدفق البيانات، وتنظيم المحتوى- أصبح اليوم فعليًا تحت سيطرة كيانات خاصة لا تخضع إلا جزئيًا للحكومات أو للمعايير الدولية.

لهذا وصف بعض الاقتصاديين والمفكرين هذه الظاهرة بأنها لحظة ولادة لـ قوى فوق–سيادية؛ فهذه الشركات لا تُقيّدها حدود جغرافية، ولا سلطات تنظيمية فعّالة، وتعمل في إطار عالمي يسمح لها بتجاوز محاسبة الدول، وتغيير قواعد اللعبة أسرع من قدرة التشريعات على اللحاق بها. إن التوازن بين القوة التكنولوجية والسلطة السياسية بات يميل بشكل خطير لصالح الشركات، مما يثير قلقًا حقيقيًا من أن يتحول الاقتصاد الرقمي إلى نموذج حكم جديد لا يقوم على العقد الاجتماعي، بل على العقد الخوارزمي.

خلاصة القول: ثمة ثنائية دقيقة تقف البشرية أمامها: من جهة أحدثت هذه الشركات ثورة تكنولوجية هائلة تقود إنتاجية جديدة وتحولات صناعية ومجتمعية إيجابية.ومن جهة أخرى أدّت هيمنتها المطلقة إلى اختلالات في الأسواق، وقلق سياسي عالمي، وتخوف متزايد من أن يتحول الذكاء الاصطناعي من نعمة الابتكار إلى أداة للهيمنة.ويبقى السؤال: هل يستطيع النظام الدولي تطوير حوكمة عالمية توقف الانفلات التكنولوجي وتحمي الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ أم إننا نتجه إلى مستقبل تصنعه شركات أصبحت بالفعل أكبر من دول، وأكثر تأثيرًا من حكومات، وأكثر حضورًا من المؤسسات التقليدية؟

ففي المحصلة يشكّل السبعة الكبار ظاهرة اقتصادية-سياسية جديدة: قوى عابرة للدولة، تصنع المستقبل، لكنها قد تهدد أساس النظام العالمي إذا لم تُخضع لضوابط تحمي الإنسان قبل التكنولوجيا، والحق قبل الخوارزمية.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. خالد وليد محمود

    د. خالد وليد محمود

    باحث متخصص في السياسة السيبرانية