تحليلات

استراتيجية الضغط الأمريكية الجديدة.. هل تدفع الملف النووي الإيراني إلى حافة الهاوية؟

طباعة

قبل أن تدفع الولايات المتحدة والترويكا الأوروبية بمشروع قرار يلزم إيران بالتعاون الفوري مع الوكالة الدولية فيما يتعلق بمنشآتها النووية ومخزونها من اليورانيوم المخصب، كانت واشنطن تطلق إشارة تصعيد من العيار الثقيل.

ففي أكتوبر 2025، أصدر برنامج السياسات الإيرانية في المعهد اليهودي للأمن القومي الأمريكي(JINSA) وثيقة استراتيجية بعنوان "البناء على أساس النصر: استراتيجية الولايات المتحدة تجاه إيران بعد حرب الـ12 يومًا"، إذ وضعت إطارًا هجوميًا صريحًا للسياسة الأمريكية تجاه الجمهورية الإسلامية، ورسمت ملامح مرحلة تتجاوز الردع إلى فرض المسار بالقوة.

ويُعد معهد(JINSA)منظمة غير ربحية يرأسها الدكتور "مايكل ماكوفسكي"، الحاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ السياسي من جامعة هارفارد، وأحد أبرز الشخصيات المؤثرة في صياغة السياسات الأمنية الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بعلاقات واشنطن بكل من إسرائيل وإيران. وغالبًا ما يُصنف المعهد ضمن تيار المحافظين الجدد، الداعي إلى اتباع سياسة أمنية شديدة الصرامة تجاه الخصوم الإقليميين لإسرائيل، وعلى رأسهم إيران.

استراتيجية الدوائر المتشددة الأمريكية تجاه إيران:

تمثل الوثيقة الاستراتيجية الأخيرة الصادرة عن معهد  (JINSA)بشأن إيران وثيقة هجومية تتجاوز منطق الردع التقليدي، وتدعو صراحة إلى استخدام القوة العسكرية كأداة للضغط الأقصى وصولًا إلى تغيير النظام. ويأتي هذا التوجه بعد سعي إيران، عقب حرب الاثني عشر يومًا، إلى إعادة بناء قدراتها الصاروخية والتحفظ على أنشطتها النووية إلى جانب تعزيز تماسكها الداخلي، الأمر الذي اعتبره واضعو الوثيقة مبررًا لتصعيد الضغوط، وتصميم إطار واضح يهدف إلى دفع النظام نحو الانهيار.

وتقترح الوثيقة استراتيجية ثلاثية للولايات المتحدة، هدفها النهائي استغلال نقاط الضعف في إيران ودفعها نحو السقوط، عبر ممارسة ضغوط مركزة في ثلاثة محاور رئيسية:

المحور الأول- الضغط العسكري والنووي لمنع إعادة بناء القدرات: تركز الاستراتيجية على ضمان الحفاظ على التفوق العسكري ومنع إيران من إعادة بناء قدراتها النووية والصاروخية. بحيث تتولى الولايات المتحدة، وفقًا للوثيقة، زمام المبادرة عبر جاهزية عسكرية عالية وإجراءات استباقية تُحبط أي محاولة إيرانية للعودة إلى المسار النووي.مع وضع شروط دبلوماسية صارمة تتجاوز القيود الزمنية، وصولًا إلى "قدرة نووية صفرية"، مع مساءلة كاملة عن كل نشاط نووي سابق وحالٍ.

المحور الثاني- الضغط الاقتصادي والجيوسياسي (العزلة الكاملة):يمتد الضغط في هذا المحور ليشمل حصارًا اقتصاديًا وجيوسياسي واسعًا، عبر تكثيف العقوبات وقطع الشرايين الاقتصادية والسياسية، التي تربط إيران بالقوى الكبرى، خاصة الصين وروسيا. ويعتبرهذا المسار ضروريًا لحرمان إيران من أي فرصة لإعادة بناء ترسانتها النووية والعسكرية بمساعدة هاتين الدولتين.

كما تدعو الوثيقة إلى تشديد العقوبات الاقتصادية، لأن خفض الموارد المالية الإيرانية سيكون عاملًا حاسمًا في إضعاف قدرة طهران على الرد في أي مواجهة مستقبلية، خاصة إذا كانت مرتبطة بعمل عسكري إسرائيلي.

المحور الثالث- الضغط الداخلي وتغيير النظام: يُعد هذا المحور الأكثر حساسية وخطورة، إذ يركز على استغلال نقاط الضعف الداخلية في إيران ودفعها إلى نقطة الانهيار، عبر استهداف البنى التحتية الحيوية وعوامل السيطرة الداخلية. وتشير الوثيقة إلى أن الضربات الإسرائيلية الأخيرة ضد البنى التحتية الحساسة في إيران أثبتت فعاليتها، مما يجعلها نموذجًا يمكن البناء عليه.

ومع ذلك لابد من التمييز ضمنيًا بين الضغط لتغيير سلوك نظام ما والضغط الهادف إلى تغييره. فالأول يسعى إلى تعديل سياسات محددة، أما الثاني فيستهدف بنية النظام نفسه عبر إضعاف قدراته ومنع إعادة ترميمه اقتصاديًا وعسكريًا، وصولًا إلى "تحول سياسي جوهري". وفي المجمل تميل توصيات الوثيقة بوضوح نحو المسار الثاني، في تبنٍ صريح لنهج تغيير نظام الجمهورية الإسلامية لا مجرد تعديل سلوكه.

الاستراتيجية الأمنية الإيرانية في مواجهة سياسات الضغط:

في ظل سياسات الضغط الغربية متعددة الجوانب، تجد إيران نفسها أمام ضرورة مراجعة شاملة وصياغة مقاربة دفاعية هجومية أكثر توازنًا. وقد تناولتُ هذه الآليات في دراسة سابقة بعنوان "الاستراتيجية الأمنية الإيرانية الجديدة.. مقاربة رفع تكلفة المواجهات المحتملة".

وبحسب هذا الإطار، استطاعت إيران منذ السابع من أكتوبر، وعبر عمليات الوعد الصادق 1 و2 و3، وبالتوازي مع سياسة تحسين العلاقات الإقليمية ومساعي التقارب مع القاهرة، بلورت ما يمكن وصفه بـ استراتيجية الردع الوطني، التي أصبحت محور خطاب المؤسسة الأمنية في الجمهورية الإسلامية. إلا أن هذا الخطاب لا يزال أقرب إلى مقاربة قيد التشكل منه إلى عقيدة ردعية مكتملة الأركان.

في المقابل ظهرت مؤشرات رسمية مؤطّرة لاستراتيجية الردع الوطني، والتي تمثلت في دعوة القائد الأعلى "علي خامنئي" إلى تعزيز الردع النووي والصاروخي، مع التشديد على استمرار تخصيب اليورانيوم باعتباره حقًا سياديًا وتقنيًا، بل واعتبار الصناعة النووية جزءًا من رصيد الردع الوطني. كما أبقى خامنئي خيارات الردع الاستراتيجي مفتوحة في حال مواجهة تهديد وجودي، في مقاربة تقترب من منطق سياسة حافة الهاوية. مما يعني تعزيز الردع في صدارة أولويات الاستراتيجية الوطنية الإيرانية.

اللافت كذلك أن إيران تعتمد بوضوح سياسة حرمان الخصم من اليقين بشأن قدراتها ونواياها، عبر إخفاء المعلومات واستخدام التضليل الاستخباراتي. وقد رافق هذا الاتجاه تعزيز قدرات الردع البحري؛ إذ طورت أكثر من 19 غواصة محلية الصنع قادرة على العمل خارج نطاق الرصد التقليدي، متجاوزة وفق تقارير غربية مثل موقع (Army Recognition) القدرات العددية للغواصات الإسرائيلية السبع.

ليس هذا فقط بل يمتد هذا النهج إلى تطوير ما يُعرف بـ الردع القابل للبقاء، فقدت كشفت القوة الجوفضائية التابعة للحرس الثوري الإيراني قبل شهرعن صواريخ متوسطة المدى متطورة، مثل "عماد وقدر”، والمثبتة على ناقلات إطلاق(TELs) ومرافقة ضمن بنية تحت أرضية محمية، ومصحوبة بتدابير مضادة للحرب الإلكترونية. يهدف هذا التصعيد إلى فرض تكلفة استراتيجية مرتفعة على الخصوم، وإجبارهم على إنفاق متواصل في الاستطلاع ورفع جاهزية الاعتراض، بما يجعل أي هجوم محتمل رهانًا سياسيًا، وعسكريًا، واقتصاديًا عالي المخاطر.

إيران بين الرضوخ للغرب وخيار التصعيد المحسوم:

بعد صدور قرار مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية يوم 21 نوفمبر 2025، الذي يطالب إيران بالاستمرار في تقديم تقارير دقيقة بشأن برنامجها النووي، أعلنت الخارجية الفرنسية أن الترويكا الأوروبية تسعى لإعادة فتح باب الدبلوماسية بشأن البرنامج النووي الإيراني. في إشارة إلى رغبة أوروبية لاستعادة دورهم في إدارة الملف النووي، بعد أن فقدته لصالح واشنطن وتل أبيب.

من جانبه قال مندوب إيران لدى الوكالة، رضا نجفي، إن رد طهران سيكون مشابهًا للإجراءات السابقة، ولن تبقى مكتوفة الأيدي، وسيتم الإعلان عن تفاصيل الرد لاحقًا. وفي الوقت نفسه، صرح المتحدث باسم الحرس الثوري: "نفترض في كل لحظة أن الحرب قد تندلع، وكقوة مسلحة نفكر دائمًا بالسيناريو الأسوأ". ويعكس هذا التصريح، من جهة، حشد الاستعداد داخليًا، ومن جهة أخرى، توجيه رسالة إلى واشنطن وتل أبيب بأن أي مغامرة ستكون مكلفة، وأن الرد سيكون حتميًا لا رمزيًا.

غير أن أولى ردود الفعل الإيرانية كانت تصعيدية ولا تطرح خيار التهدئة أو الاستجابة، فجاء على لسان وزير الخارجية عباس عراقجي إلغاء اتفاق القاهرة رسميًا. ولا يقتصر هذا القرار على كونه ردًا قانونيًا، بل يمثل رسالة مزدوجة للوكالة بأنها لم تعد وسيطًا محايدًا، وللغرب بأن أي محاولة لفرض مسار تفاوضي ستكون مكلفة. بمعنى آخر، ترسم إيران قواعد اللعبة قبل أن تُفرض عليهم.

وفي إطار الهندسة النفسية، أذاعت قناةi24 الإسرائيلية ووكالة أنباء رويترز أن الولايات المتحدة وإسرائيل تجريان مشاورات حول الظروف الدفاعية في إيران تمهيدًا لهجوم محتمل. تأتي هذه التسريبات ضمن استراتيجية لخلق بيئة تجعل طهران تشعر بأن الضربة وشيكة، حتى في غياب قرار فعلي.

بناء على ما سبق تشير ردود الفعل الإيرانية إلى أن القيادة في طهران واثقة من أن المعايير القديمة لن تحقق مكسبًا، وأن خيار التصعيد محسوم. فحتى لو رضخت إيران للتهدئة والجلوس إلى طاولة التفاوض كما حدث في المفاوضات غير المباشرة، فلن يحميها ذلك من ضربة عسكرية محتملة، كما أثبتت تجربة "عملية الأسد الصاعد" قبل الجولة الخامسة من المفاوضات.

الفرق هنا أن إيران قبل يونيو 2025، وحرب الاثني عشر يومًا، كانت تشكك في جدية الأطراف الغربية وانصياعها لنتنياهو في توجيه ضربة عسكرية، لكنها اليوم متيقنة من خيار الحرب، وتتمتع بجاهزية عالية لصد أي عدوان أمريكي-إسرائيلي. ومع ذلك يبدو أن قرار الحرب في واشنطن لن يكون عسكريًا فقط، بل سياسيًا-انتخابيًا وتحالفيًا. إذ إن التخوف الأمريكي من انزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية شاملة عامل أقوى من مجرد تقدير قوة الرد الإيراني.

خاتمة:

في المحصلة، وعلى الرغم من أن استراتيجية الضغط الأمريكية الجديدة، المستلهمة من دوائر المحافظين الجدد، نجحت في وضع الملف النووي على حافة الهاوية، فإنها لم تنجح في تحييد الرد الإيراني المحسوب، الذي استثمر هذا التهديد في بناء ردع وطني قابل للبقاء، ومعزز بتحالفات إقليمية ودولية.

وهكذا يدرك صانع القرار الأمريكي أن الجمع بين سياسة الضغط القصوى والنزوع إلى الردع بالحرب لن يحقق أهدافه، بل سيرتد سياسيًا عليه عبر تسريع العزلة الإقليمية لواشنطن ودفع إيران ودول المنطقة نحو تعميق الشراكات مع موسكو وبكين. هذا الاحتمال وحده يرفع فاتورة الحرب السياسية لتتجاوز التكلفة العسكرية، ويجعل أي خيار تصعيد ضد الجمهورية الإسلامية يعد رهانًا سياسيًا محفوفًا بالمخاطر، ويُهدد بتضاؤل قدرة واشنطن على إدارة معادلات القوة في قلب آسيا.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. شيماء المرسي

    د. شيماء المرسي

    الخبيرة فى الدراسات البينية الإيرانية